فصل: تفسير الآيات (107- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (107- 111):

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)}
قوله: {ذلك} إشارة إلى الغضب والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية، والضمير في {أنهم} ل {من شرح بالكفر صدراً} [النحل: 106]، ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك وإن كانوا مصدقين بآخرة لكن الأمر في نفسه بين، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره، وهذه الآية علق فيها العقاب بتكسبهم وذلك أن استحبابهم زينة الدنيا ولذات الكفر هو التكسب، وقوله: {وأن الله لا يهدي} إشارة إلى اختراع الله تعالى الكفر في قلوبهم، ولا شك أن كفر الكافر الذي يتعلق به العقاب إنما هو باختراع من الله تعالى وتكسب من الكافر، فجمعت الآية بين الأمرين، وعلى هذا مرت عقيدة أهل السنة، وقوله: {لا يهدي القوم الكافرين} عموم على أنه لا يهديهم من حيث إنهم كفار في نفس كفرهم، أو عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي، وقوله: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} الآية، عبارة عن صرف الله لهم عن طريق الهدى، واختراع الكفر المظلم في قلوبهم، وتغليب الإعراض على نظرهم، فكأنه سد بذلك طرق هذه الحواس حتى لا ينتفع بها في اعتبار وتأمل، وقد تقدم القول وذكر الاختلاف في الطبع والختم في سورة البقرة، وهل هو حقيقة أو مجاز؟ والسمع اسم جنس وهو مصدر في الأصل، فلذلك وحد، ونبه على تكسبهم الإعراض عن النظر، فوصفهم ب الغفلة، وقد تقدم شرح {لا جرم} في هذه السورة، وقوله: {ثم إن ربك للذين هاجروا} الآية، قال ابن عباس: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} [النساء: 97] إلى آخر الآية قال: وكتب بها إلى من بقي بمكة من المسلمين وأن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت {ومن الناس من يقول آمنا بالله} [البقرة: 8 العنكبوت: 10] إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: {ثم إن ربك للذين هاجروا} الآية، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل.
قال القاضي أبو محمد: جاءت هذه الرواية هكذا أن بعد نزول الآية خرجوا فجيء الجهاد الذي ذكر في الآية جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروت طائفة أنهم خرجوا وأتبعوا، وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجا من نجا فنزلت الآية حينئذ، فعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم، وقال ابن إسحاق: ونزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد.
قال القاضي أبو محمد: وذكر عمار في هذا عندي غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من شرح بالكفر صدراً فتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية، وقال عكرمة والحسن: نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه، فكأنه يقول من بعد ما فتنهم الشيطان وهذه الآية مدَنية، ولا أعلم في ذلك خلافاً، وإن وجد فهو ضعيف، وقرأ الجمهور {من بعد ما فُتِنوا} بضم الفاء وكسر التاء، وقرأ ابن عامر وحده {فَتَنوا} بفتح الفاء والتاء، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول، كما فعل عمار، وإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم المشركون، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم الشيطان، والضمير في {بعدها} عائد على الفتنة، أو على الفعلة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها، وإن لم يجر لها ذكر صريح، وقوله: {يوم تأتي كل نفس} المعنى لغفور رحيم يوم، وقوله: {كل نفس} أي كل ذي نفس، ثم أجري الفعل على المضاف إليه المذكور، فأتت العلامة، و{نفس} الأولى هي النفس المعروفة، والثانية هي بمعنى الذات، كما تقول نفس الشيء وعينه أي ذاته، {وتوفى كل نفس} أي يجازى كل من أحسن بإحسانه وكل من أساء بإساءته.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أن كل نفس {تجادل} كانت مؤمنة أو كافرة، فإذا جادل الكفار بكذبهم وجحدهم للكفر شهدت عليهم الجوارح والرسل وغير ذلك بحسب الطوائف، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، فتجتمع آيات القرآن باختلاف المواطن، وقالت فرقة: الجدال قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم: نفسي نفسي، وهذا ليس بجدال ولا احتجاج إنما هو مجرد رغبة.

.تفسير الآيات (112- 114):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)}
قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة والقرية المضروب بها المثل مكة كانت بهذه الصفة التي ذكر الله لأنها كانت لا تغزى ولا يغير عليها أحد. وكانت الأرزاق تجلب إليها، وأنعم الله عليها رسوله والمراد بهذه الضمائر كلها أهل القرية، فكفروا بأنعم الله في ذلك وفي جملة الشرع والهداية، فأصابتهم السنون والخوف، وسرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته، هذا إن كانت الآية مدنية وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب من الله بحسب التكذيب.
قال القاضي أبو محمد: وإن كانت هي التي ضربت مثلاً فإنما ضربت لغيرها مما يأتي بعدها ليحذر أن يقع فيما وقعت هي فيه، وحكى الطبري عن حفصة أم المؤمنين أنها كانت تسأل في وقت حصر عثمان بن عفان رضي الله عنه ما صنع الناس وهي صادرة من الحج من مكة، فقيل لها قتل فقالت: والذي نفسي بيده، إنها القرية تعني المدينة التي قال الله لها، {وضرب الله مثلاً} الآية.
قال القاضي أبو محمد: فأدخل الطبري هذا على أن حفصة قالت: إن الآية نزلت في المدينة وإنها هي التي ضربت مثلاً، والأمر عندي ليس كذلك وإنما أرادت أن المدينة قد حصلت في محذور المثل وحل بها ما حل بالتي جعلت مثلاً، وكذلك يتوجه عندي في الآية أنها قصد بها قرية غير معينة، جعلت مثلاً لكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة، و{رغداً} نصب على الحال و{أنعم} جمع نعمة كشدة وأشد كذا قال سيبويه وقال قطرب {أنعم} جمع نعم وهي التنعيم، يقال هذه أيام طعم ونعم وقوله: {فأذاقها الله لباس الجوع} استعارات أي لما باشرهم ذلك صار كاللباس وهذا كقول الأعشى: [المتقارب]
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ** تثنّتْ عليه فصارت لباسا

ونحوه قوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187]، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وقد لبست بعد الزبير مجاشع ** ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما

كأن العار لما باشرهم وألصق بهم جعلهم لبسوه، قوله: {أذاقها} نظير قوله تعالى {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49] ونظير قول الشاعر:
دونك ما جنيته فأحسن وذق

وقرأ الجمهور:{والخوفِ} عطفاً على {الجوع} وقرأ أبو عمرو: بخلاف عنه {والخوفَ} عطفاً على قوله: {لباس}، وفي مصحف أبي بن كعب {لباس الخوف والجوع}، وقرأ ابن مسعود، {فأذاقها الله الخوف والجوع} ولا بذكر {لباس}، والضمير في {جاءهم} لأهل مكة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، و{العذاب} الجوع وأمر بدر ونحو ذلك إن كان التمثيل بمكة وكانت الآية مدنية، وإن كانت مكية فهو الجوع فقط، وذكر الطبري أنه القتل ببدر، وهذا يقتضي أن الآية نزلت بالمدينة، وإن كان التمثيل بمدينة قديمة غير معينة، فيحتمل أن يكون الضمير في {جاءهم} لأهل تلك المدينة، ويكون هذا مما جرى فيها كمدينة شعيب وغيره ويحتمل أن يكون الضمير المذكور لأهل مكة وتأمل.
وقوله: {فكلوا مما رزقكم الله} الآية، هذا ابتداء كلام آخر، ومعنى حكم، والفاء في قوله: {فكلوا} الصلة الكلام واتساق الجمل خرج من ذكر الكافرين والميل عليهم إلى أمر المؤمنين بشرع ما فوصل الكلام بالفاء وليست المعاني موصولة، هذا قول، والذي عندي أن الكلام متصل المعنى، أي وأنتم المؤمنون لستم كهذه القرية، {فكلوا} واشكروا الله على تباين حالكم من حال الكفرة وهذه الآية هي بسبب أن الكفار كانوا سنوا في الأنعام سنناً وحرموا بعضاً وأحلوا بعضاً فأمر الله تعالى المؤمنين بأكل جميع الأنعام التي رزقها الله عباده وقوله: {حلالاً} حال، وقوله: {طيباً} أي مستلذاً، ووقع النص في هذا على المستلذات ففيه ظهور النعمة وهو عظم النعم وإن كان الحلال قد يكون غير مستلذ، ويحتمل أن يكون الطيب بمعنى الحلال وكرره مبالغة وتوكيداً وباقي الآية بين، قوله: {إن كنتم إياه تعبدون} إقامة للنفوس كما تقول الرجل: إن كنت من الرجال فافعل كذا، على معنى إقامة نفسه، وذكر الطبري: أن بعض الناس قال نزلت هذه الآية خطاباً للكافر عن طعام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم في جوعهم، وأنحى الطبري على هذا القول وكذلك هو فاسد من غير وجه.

.تفسير الآية رقم (115):

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)}
حصرت {إنما} هذه المحرمات وقت نزول الآية، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك وقرأ جمهور الناس: {الميْتة}، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {الميّتة} وهذا هو الأصل وتخفيف الياء طارئ عليه، والعامل في نصبها {حرم}، وقرأت فرقة {الميتةُ} بالرفع على أن تكون {ما} بمعنى الذي.
قال القاضي أبو محمد: وكون {ما} متصلة ب {إن} يضعف هذا ويحكم بأنها حاصرة و{ما} كافة، وإذا كانت بمعنى الذي فيجب أن تكون منفصلة، وذلك خلاف خط المصحف، وقرأ الجمهور {حرم} على معنى حرم الله، وقرأت فرقة {حُرِّم} على ما لم يسم فاعله، وهذا برفع {الميتةُ} ولا بد.
قال القاضي أبو محمد: و{الميتة} المحرمة هي ما مات من حيوان البر الذي له نفس سائلة حتف أنفه، وأما ما ليس له نفس سائلة كالجراد والبراغيث والذباب ودود التين وحيوان الفول وما مات من الحوت حتف أنفه وطفا على الماء ففيه قولان في المذهب، وما مات حتف أنفه من الحيوان الذي يعيش في الماء وفي البر كالسلاحف ونحوها ففيه قولان والمنع هنا أظهر إلا أن يكون الغالب عليه العيش في الماء {والدم} المحرم هو المنسفح الذي يسيل إن ترك مفرداً وأما ما خالط اللحم وسكن فيه فحلال طبخ ذلك اللحم فيه، ولا يكلف أحد تتبعه، ودم الحوت مختلف فيه وإن كان ينسفح لو ترك، {ولحم الخنزير} هو معظمه والمقصود الأظهر فيه، فلذلك خصه بالذكر، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه وغضاريفه ومن تخصيصه استدلت فرقة على جواز الانتفاع بجلده إذا دبغ ولبسه، والأولى تحريمه جملة، وأما شعره فالانتفاع به مباح، وقالت فرقة ذلك غير جائز، والأول أرجح، وقوله: {وما أهل لغير الله به} يريد كل ما نوي بذبحه غير التقرب إلى الله والقرب إلى سواه، وسواء تكلم بذلك على الذبيحة أو لم يتكلم، لكن خَرجت العبارة عن ذلك ب {أهلّ} ومعناه صحيح على عادة العرب وقصد الغض منها وذلك أنها كانت إذا ساقت ذبيحة إلى صنم جهرت باسم ذلك الصنم وصاحت به، وقوله: {فمن اضطر} قالت فرقة: معناه أكره وقال الجمهور: معناه اضطره جوع واحتياج، وقرأت فرقة {فمنُ} بضم النون {اضطُر} بضم الطاء، وقرأت فرقة {فمنِ} بكسر النون {اضطِر} بكسر الطاء، على أن الأصل اضطرت، فنقلت حركة الراء إلى الطاء وأدغمت الراء في الراء، وقالت فرقة: الباغي صاحب البغي على الإمام، أو في قطع الطريق وبالجملة في سفر المعاصي، والعادي بمعناه في أنه ينوي المعصية، وقال الجمهور: {غير باغ} معناه غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها، {ولا عاد} معناه لا يعدو حدود الله في هذا، وهذا القول أرجح وأعم في الرخصة، وقالت فرقة: {باغ} و{عاد} في الشبع والتزود، واختلف الناس في صورة الأكل من الميتة، فقالت فرقة: الجائز من ذلك ما يمسك الرمق فقط، وقالت فرقة: بل يجوز الشبع التام، وقالت فرقة منهم مالك رحمه الله: يجوز الشبع والتزود، وقال بعض النحويين في قوله: {عاد} إنه مقلوب من عائد، فهو كشاكي السلاح وكيوم راح وكقول الشاعر: لأن بها الأشياء والعنبري، وقوله: {فإن الله غفور رحيم}، لفظ يقتضي منه الإباحة للمضطر، وخرجت الإباحة في هذه الألفاظ تحرجاً وتضييقاً في أمرها ليدل الكلام على عظم الخطر في هذه المحرمات، فغاية هذا المرخص له غفران الله له وحطه عنه ما كان يلحقه من الإثم لولا ضرورته. قال القاضي أبو محمد: وهذا التحريم الذي ذكرناه يفهمه الفصحاء من اللفظ وليس في المعنى منه شيء وإنما هو إيماء، وكذلك جعل في موضع آخر غايته أن لا إثم عليه، وإن كان لا إثم عليه وقوله هو له مباح يرجعان إلى معنى واحد فإن في هيئة اللفظين خلافاً.

.تفسير الآيات (116- 119):

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}
هذه الآية مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كانت ميتة يدل على ذلك قوله حكاية عنهم {وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء} [الأنعام: 139] والآية تقتضي كل ما كان لهم من تحليل وتحريم فإنه كله افتراء منهم، ومنه ما جعلوه في الشهور، وقرأ السبعة وجمهور الناس {الكَذِبَ} بفتح الكاف وكسر الذال وفتح الباء، وما مصدرية فكأنه قال لوصف ألسنتكم الكذب، وقرأ الأعرج وأبو طلحة وأبو معمر والحسن، {الكذبِ} بخفض الباء على البدل من ما، وقرأ بعض أهل الشام ومعَاذ بن جبل وابن أبي عبلة {الكُذُبُ} بضم الكاف والذال والباء على صفحة الألسنة، وقرأ مسلمة بن محارب {الكذبَ} بفتح الباء {الكُذُبَ} بفتح الباء على أنه جمع كذاب ككتب في جمع كتاب، وقوله: {هذا حلال} إشارة إلى ميتة بطون الأنعام وكل ما أحلوا، وقوله: {وهذا حرام} إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموا، وقوله: {لتفتروا على الله الكذب}، إشارة إلى قولهم في فواحشهم التي هذه إحداها، وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سنناً لا يرضاها الله افتراء عليه، لأن من شرع أمراً فكأنه قال لأتباعه هذا هو الحق، وهذا مراد الله، ثم أخبرهم الله {إن الذين يفترون على الله الكذب} لا يبلغون الأمل، والفلاح بلوغ الأمل، فطوراً يكون في البقاء كما قال الشاعر، والصبح والمسى لافلاح معه، ويشبه أن هذه الآية من هذا المعنى، يقوي ذلك قوله: {متاع قليل}، وقد يكون في المساعي ومنه قول عبيد: [الرجز]
أفلح بما شئت فقد يبلغ ** بالضعف وقد يخدع الأريب

وقوله: {متاع قليل} إشارة إلى عيشهم في الدنيا، {ولهم عذاب أليم} بعد ذلك في الآخرة. وقوله: {وعلى الذين هادوا} الآية، لما قص تعالى على المؤمنين ما حرم عليهم أعلم أيضاً بما حرم على اليهود ليبين تبديلهم الشرع فيما استحلوا من ذلك وفيما حرموا من تلقاء أنفسهم، وقولهم {ما قصصنا عليك}، إشارة إلى ما في سورة الأنعام من ذي الظفر والشحوم الآية: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146] وقوله: {وما ظلمناهم} أي لم نضع العقوبة بتحريم تلك الأشياء عليهم في غير موضعها، بل هم طرقوا إلى ذلك وجاء من تسبيبهم بالمعاصي ما أوجب ذلك. وقوله: {ثم إن ربك للذين عملوا السوء} هذه آية تأنيس لجميع العالم، أخبر الله تعالى فيها أنه يغفر للتائب، والآية إشارة إلى الكفار الذين افتروا على الله وفعلوا الأفاعيل المذكورة، فهم إذا تابوا من كفرهم بالإيمان وأصلحوا من أعمال الإسلام غفر الله لهم، وتناولت هذه الآية بعد ذلك كل واقع تحت لفظها من كافر وعاص.
وقالت فرقة الجهالة العمد، والجهالة عندي في هذا الموضع ليست ضد العلم بل هي تعدي الطور وركوب الرأس، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «أو أجهل أو يجهل علي» وهي التي في قول الشاعر: [الوافر]
ألا لا يجهلنْ أحد علينا ** فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا

والجهالة التي هي ضد العلم تصحب هذه الأخرى كثيراً، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر، وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع. والضمير في {بعدها} عائد على التوبة.