فصل: تفسير الآيات (29- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (29- 33):

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}
التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت ب {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم: 26] وإنما ورد انها {أشارت إليه} فيقوى بهذا القول من قال إن أمرها بـ قولي إنما أريد به الإشارة، ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير {كيف نكلم من كان في المهد صبياً} وإنما هي في معنى هو ويحتمل أن تكون الناقصة والأظهر أنها التامة وقد قال أبو عبيدة {كان} هنا لغو، وقال الزجاج والفراء {مَنْ} شرطية في قوله: {من كان} ع ونظير كان هذه قول رؤية: [الرجز]
أبعد ان لاح بك القتير ** والرأس قد كان له شكير

و{صبياً} إما خبر {كان} على تجوز وتخيل في كونها ناقصة، وإما حال يعمل فيه الاستقرار المقدر في الكلام. وروي أن {المهد} يراد به حجر أمه قال لهم عيسى من مرقده {إني عبد الله} الآية وروي أنه قام متكئاً على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و{الكتاب} هو الإنجيل ويحتمل أن يريد التوراة والإنجيل، ويكون الإيتاء فيهما مختلفاً، و{آتاني} معناه قضي بذلك وأنفذه في سابق حكمه وهذا نحو قوله تعالى {أتى أمر الله} [النحل: 1]، وغير هذا. وأمال الكسائي آتاني وأوصاني والباقون لا يميلون، قال أبو علي الأمالة في {آتاني} أحسن لأن في {أوصاني} مستعلياً. و{مباركاً} قال مجاهد معناه نفاعاً، وقال سفيان معلم خير وقيل آمراً بمعروف ناهياً عن منكر، وقال رجل لبعض العلماء ما الذي أعلن من علمي قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه. وأسند النقاش عن الضحاك أنه قال: {مباركاً} معناه قضاء للحوائج _ع وقوله: {مباركاً} يعم هذه الوجوه وغيرها. و{الصلاة والزكاة} قيل هما المشروعتان في البدن والمال، وقيل زكاة الرؤوس في الفطر، وقيل {الصلاة} الدعاء {والزكاة} التطهير من كل عيب ونقص ومعصية. وقرأ {دُمت} بضم الدال عاصم وجماعة، وقرأ {دِمت} بكسرها أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وجماعة، وقرأ الجمهور {وَبَراً} بفتح الباء وهو الكثير البر ونصبه على قوله: {مباركاً}، وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز وجماعة {بِراً} بكسر الباء فقال بعضها نصبه على العطف على قوله: {مباركاً} فكأنه قال وذا بر فاتصف بالمصدر كعدل ونحوه، وقال بعضهما نصبه بقوله: {وأوصاني} أي وأوصاني براً بوالدتي حذف الجار كأنه يريد وأوصاني ببر والدتي. وحكى الزهراوي هذه القراءة {وبرٍّ} بالخفض عطفاً على {الزكاة}، وقوله: {بوالدتي} بيان لنه لا والد له، وبهذا القول برأها قومها.
والجبار المتعظم وهي خلق مقرونة بالشقاء لأنها مناقضة لجميع الناس فلا يلقى صاحبها من أحد إلا مكروهاً، وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع، يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ويأوي حيث جنة الليل لا مسكن له. قال قتادة وكان يقول: سلوني فإن لين القلب صغير في نفسي. وقد تقدم ذكر تسليمه على نفسه وإذلاله في ذلك، وذكر المواطن التي خصها لأنها أوقات حاجة الإنسان إلى رحمة الله. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر أخبر عيسى بما قضي من أمره وبما هو كائن إلى أن يموت. وفي قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا إن هذا الأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية ثم عاد الى حالة الأطفال حتى مشى على عادة البشر. وقالت فرقة: إن عيسى كان أوتي الكتاب وهو في ذلك السن وكان يصوم ويصلي وهذا في غاية الضعف مصرح بجهالة قائلة.

.تفسير الآيات (34- 36):

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)}
المعنى قل يا محمد لمعاصريك من اليهود والنصارى {ذلك} الذي منه قصة {عيسى بن مريم} وإنما قدرنا في الكلام قل يا محمد لأنه يجيء في الآية بعد، {وأن الله ربي وربكم} هذه مقالة بشر وليس يقتضي ظاهر الآية قائلاً من البشر سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يتحمل أن يكون قوله: {ذلك عيسى} الى قوله: {فيكون} إخباراً لمحمد إعتراضاً أثناء كلام عيسى، ويكون قوله: {وأن} بفتح الألف عطفاً على قوله: {الكتاب} [مريم: 30]. وقد قال وهب بن منبه: عهد عيسى إليهم أن ربي وربكم، ومن كسر الألف عطف على قوله: {إني عبد الله} [مريم: 30] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي وعامة الناس {قولُ الحق} برفع القول على معنى هذا قول الحق. وقرأ عاصم وابن عامر وابن أبي إسحاق {قولَ الحق} بنصب القول على المصدر. قال أبو عبدالرحمن المقري: كان يجالسني ضرير ثقة فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقرأ {قولَ الحق} نصباً، قال أبو عبدالرحمن: وكنت أقرأ بالرفع فجنبت فصرت أقرأ بهما جميعاً. وقرأ عبد الله بن مسعود {قال الله} بمعنى كلمة الله، وقرأ عيسى {قال الحق} وقرأ نافع والجمهور {يمترون} بالياء على الكناية عنهم، وقرأ نافع أيضاً وأبو عبد الرحمن وداود بن أبي هند {تمترون} بالتاء على الخطاب لهم، والمعنى تختلفون أيها اليهود والنصارى فيقول بعضهم هو لزنية ونحو هذا وهم اليهود، ويقول بعضهم هو الله تعالى فهذا هو امتراؤهم، وسيأتي شرح ذلك من بعد هذا. وقوله: {ما كان لله أن يتخذ} معناه النفي وهذا هو معنى هذه الألفاظ حيث وقعت ثم يضاف الى ذلك بحسب حال المذكور فيها إما نهي وزجر كقوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا} [التوبة: 120] وإما تعجيز كقوله تعالى {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} [النمل: 60]، وإما تنزيه كهذه الآية. و{من ولد}، دخلت {من} مؤكدة للجحد لنفي الواحد فما فوقه مما يحتله نظير هذه العبارة إذا لم تدخل {من}، وقوله، {قضى أمراً}، أي واحداً من الأمور وليس بمصدر أمر يأمر، فمعنى {قضى} أوجد أو أخرج من العدم، وهذه التصاريف في هذه الأفعال من مضي واستقبال هي بحسب تجوز العرب واتساعها، وقد تقدم القول في {كن فيكون}. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع {وأن الله} بفتح الألف وذلك عطف على قوله هذا {قول الحق}، {وإن الله ربي}، كذلك وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {وإن} بكسر الألف وذلك بين على الاستئناف وقرأ أبي بن كعب {إن الله} بكسر الألف دون واو. وقوله: {فاعبدوه} وقف ثم ابتداء {هذا صراط} أي ما أعلمتكم به عن الله تعالى من وحدانيته ونفي الولد عنه وغير ذلك مما يتنزه عنه طريق واضح مفض إلى النجاة ورحمته.

.تفسير الآيات (37- 40):

{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}
هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام بأن بني اسرائيل اختلفوا أحزاباً أي فرقاً، وقوله: {من بينهم} معناه أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا المختلفين. وروي في هذا عن قتادة أن بني اسرائيل جمعوا من أنفسهم اربعة أحبار غاية في المكانة والجلالة عندهم وطلبوهم بأن يبينوا أمر عيسى فقال احدهم: عيسى هو الله نزل إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات ثم صعد، فقال له الثلاثة كذبت واتبعه اليعقوبية، ثم قيل للثلاثة فقال أحدهم: عيسى ابن الله فقال له الاثنان كذبت واتبعه النسطورية، ثم قيل للاثنين فقال أحدهم عيسى أحد ثلاثة الله إله، ومريم إله، وعيسى إله، فقال له الرابع كذبت واتبعه الإسرائيلية، فقيل للرابع فقال عيسى عبد الله وكلمته ألقاها الى مريم فاتبع كل واحد من الأربعة فريقاً من بني اسرائيل ثم اقتتلوا فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع. وروي أن في ذلك نزلت {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21]. والويل الحزن والثبور، وقيل ويل واد في جهنم، و{مشهد يوم عظيم} هو مشهد يوم القيامة ويحتمل أن يراد ب {مشهد يوم عظيم} يوم قتل المؤمنون حين اختلف الأحزاب، وقد أشار إلى هذا المعنى قتادة وقوله: {أسمع بهم وأبصر}، أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم يرجعون إلينا ويرون ما نصنع بهم من العذاب، فإن إعراضهم حينئذ يزول ويقبلون على الحقيقة حين لا ينفعهم الإقبال عليها وهم في الدنيا صم عمي إذ لا ينفعهم النظر مع إعراضهم، ثم قال: لكنهم اليوم في الدنيا {في ضلال} وهو جهل المسلك، والمبين في نفسه وإن لم يبين لهم، وحكى الطبري عن أبي العالية أنه قال: {أسمع بهم وأبصر}، هي بمعنى الأمر لمحمد عليه السلام أي أسمع الناس اليوم وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذ أتوا محشورين مغلوبين، وقوله: {وأنذرهم يوم الحسرة}، الآية، الخطاب أيضاً في هذه الآية لمحمد عليه السلام والضمير في {أنذرهم} لجميع الناس، واختلف في {يوم الحسرة} فقال الجمهور وهو يوم ذبح الموت، وفي هذا حديث صحيح، وقع في البخاري وغيره، أن الموت يجاء به في صورة كبش أملح، وفي بعض الطرق كأنه كبش أملح، وقال عبيد بن عمير كأنه دابة فيذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادى: يا أهل الجنة خلود لا موت فيها ويا أهل النار خلود لا موت، ويروى أن أهل النار يشرئبون خوفاً على ما هم فيه. والأمر المقضي، هو ذبح الكبش الذي هو مثال الموت وهذا عند حذاق العلماء، كما يقال: تدفن الغوائل وتجعل التراب تحت القدم، ونحو ذلك، وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها، وقال ابن زيد وغيره {يوم الحسرة} هو يوم القيامة، وذلك أن أهل النار قد حصلوا من أول أمرهم في سخط الله وأمارته فهم في حال حسرة، والأمر المقضي على هذا هو الحتم عليهم بالعذاب وظهور إنفاذ ذلك عليهم، وقال ابن مسعود {يوم الحسرة} حين يرى الكفار مقاعدهم التي فاتتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين، ويحتمل ان يكون {يوم الحسرة} اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة، ومنها يوم الموت ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك.
وقوله: {وهم في غفلة}، يريد في الدنيا الآن {وهم لا يؤمنون} كذلك. وقوله: {نرث}، تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة، وقرأ عاصم ونافع وأبو عمرو والحسن والأعمش {يرجعون} بالياء، وقرأ الأعرج {ترجعون} بالتاء من فوق، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن أبي إسحاق وعيسى {يرجِعون} بالياء من تحت مفتوحة وكسر الجيم، وحكى عنهم أبو عمرو والداني {ترجعون} بالتاء.

.تفسير الآيات (41- 46):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}
قوله: {واذكر} بمعنى واتل وشهر، لان الله تعالى هو الذكر، و{الكتاب} هو القرآن وهذا وشبهه من لسان الصدق الذي أبقاه الله عليهم، والصديق، فعيل بناء مبالغة من الصدق، وقرأ أبو البرهسم {إنه كان صادقاً}، والصدق عرفه في اللسان وهو مطرد في الأفعال والخلق، ألا ترى أنه يستعار لما لا يعقل فيقال صدقني الطعام كذا وكذا قفيزاً، ويقال عود صدق للصلب الجيد، فكان إبراهيم عليه السلام يوصف بالصدق على العموم في أفعاله وأقواله وذلك يغترق صدق اللسان الذي يضاد الكذب، وأبو بكر رضي الله عنه وصف بـ صدّيق لكثرة ما صدق في تصديقه بالحقائق وصدق في مبادرته الى الإيمان وما يقرب من الله تعالى، والصديق مراتب ألا ترى أن المؤمنين صديقون لقوله تعالى: {الذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون} [الحديد: 19]. وقوله: {يا أبت}، اختلف النحاة في التاء من {أبت}، فمذهب سيبويه أنها عوض عن ياء الإضافة والوقوف عنده عليها بالهاء، ومذهب الفراء أن يوقف عليها بالتاء، لان الياء التي للإضافة عنده منوية وجمهور القراء على كسر التاء، وفي مصحف ابن مسعود {واأبت} بواو للنداء، وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر. {يا أبتَ} بفتح التاء، ووجهها أنه أراد يا أبتا فحذف الألف وترك الفتحة دالة عليها، ووجه آخر أن تكون التاء المقحمة كالتي في قوله يا طلحة وفي هذا نظر وقد لحن هارون هذه القراءة، والذي {لا يسمع ولا يبصر}، هو الصنم ولو سمع وأبصر كما هي حالة الملائكة وغيرهم ممن عبد لم يحسن عبادتها، لكن بين إبراهيم عليه السلام بنفي السمع والبصر شنعة الرأي في عبادتها وفساده. وقوله: {قد جاءني} يدل على أن هذه المقاولة هي بعد أن نبئ، والصراط السوي، معناه الطريق المستقيم، وهو طريق الإيمان، وقوله: {يا أبت لا تعبد الشيطان}، مخاطبة بر واستعطاف على حالة كفره. وقوله: {لا تعبد الشيطان} يحتمل أن يكون أبوه ممن عبد الجن ويحتمل أن يجعل طاعة الشيطان المعنوي في عبادة الأوثان والكفر بالله عبادة له. والعصى، فعيل من عصى يعصي اذا خالف الأمر، وقوله: {أخاف أن يمسك} قال الطبري وغيره {أخاف} بمعنى أعلم.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر عندي أنه خوف على بابه، وذلك أن إبراهيم عليه السلام لم يكن في وقت هذه المقاولة يائساً من إيمان أبيه، فكان يرجو ذلك وكان يخاف أن لا يؤمن ويتمادى على كفره الى الموت فيمسه العذاب، والولي الخالص المصاحب القريب بنسب أو مودة، قال آزر وهو تارخ {أراغب أنت عن آلهتي}، والرغبة ميل النفس، فقد تكون الرغبة في الشيء وقد تكون عنه، وقوله: {أراغب} رفع بالابتداء و{أنت} فاعل به يسد مسد الخبر وحسن ذلك وقربه اعتماد راغب على ألف الاستفهام، ويجوز أن يكون راغب خبراً مقدماً و{أنت} ابتداء والأول أصوب وهو مذهب سيبويه.
وقوله: {عن آلهتي}، يريد الأصنام وكان فيما روي ينحتها وينجرها بيده ويبيعها ويحض عليها فقرر ابنه إبراهيم على رغبته عنها على جهة الإنكار عليه ثم أخذ يتوعده، وقوله: {لأرجمنك} اختلف فيه المتأولون، فقال السدي وابن جريج والضحاك: معناه بالقول، أي لأشتمنك {واهجرني} أنت إذا شئت مدة من الدهر، أو سالماً حسب الخلاف الذي سنذكره. وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه {لأرجمنك} بالحجارة، وقالت فرقة: معناه لأقتلنك، وهذان القولان بمعنى واحد، وقوله: {واهجرني} على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله كأنه قال: إن لم تنته لأقتلنك بالرجم، ثم قال له {واهجرني} أي مع انتهائك كأنه جزم له الأمر بالهجرة وإلا فمع الرجم لا تترتب الهجرة و{ملياً} معناه دهراً طويلاً مأخوذ من الملوين وهما الليل والنهار وهذا قول الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما فهو ظرف، وقال ابن عباس وغيره {ملياً} معناه سليماً منا سوياً فهو حال من {إبراهيم} عليه السلام، وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستبداً بحالك غنياً عني ملياً بالاكتفاء.