فصل: تفسير الآيات (15- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (15- 18):

{إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18)}
في قوله: {إن الساعة آتية} تحذير ووعيد، أي اعبدني فإن عقابي وثوابي بالمرصاد، و{الساعة} في هذه الآية القيامة بلا خلاف، وقرأ ابن كثير والحسن وعاصم {أكاد أخفيها} بفتح الهمزة بمعنى أظهرها أي أنها من صحة وقوعها وتيقن كونه تكاد تظهر لكن تنحجب إلى الأجل المعلوم، والعرب تقول خفيت الشيء بمعنى أظهرته ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
خفاهن من أنفاقهن كأنما ** خفاهن ودق من سحاب مجلّب

ومنه قوله أيضاً: [المتقارب]
فإن تدفنوا الداء لا نخفه ** وإن توقدوا الحرب لا نقعد

قال أبو علي: المعنى أزيل خفاءها، وهو ما تلف به القربة ونحوها، وقرأ الجمهور {أُخفيها} بضم الهمزة، واختلف المتأولون في معنى الآية فقالت فرقة: معناه أظهرها وأخفيت من الأضداد، وهذا قول مختل، وقالت فرقة معناه، {أكاد أخفيها} من نفسي على معنى العبارة من شدة غموضها على المخلوقين، فقالت فرقة: المعنى {إن الساعة آتية أكاد} وتم الكلام بمعنى {أكاد} أنفذها لقربها وصحة وقوعها ثم استأنف الإخبار بأن يخفيها، وهذا قلق، وقالت فرقة {أكاد} زائدة لا دخول لها في المعنى بل تضمنت الآية الإخبار بأن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها عن الناس، وقالت فرقة {أكاد} بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها عنكم {لتجزى كل نفس بما تسعى} واستشهد قائل هذه المقالة بقول الشاعر: [الكامل]
كادت وكدت وتلك خير إرادة

وقد تقدم هذا المعنى، وقالت فرقة {أكاد} على بابها بمعنى أنها متقاربة ما لم يقع، لكن الكلام جار على استعارة العرب ومجازها، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ قوله تعالى في إبهام وقتها فقال {أكاد أخفيها} حتى لا تظهر البتة ولكن ذلك لا يقع ولابد من ظهورها، هذا تلخيص هذا المعنى الذي أشار إليه بعض المفسرين وهو الأقوى عندي، ورأى بعض القائلين بأن المعنى {أكاد أخفيها} من نفسي ما في القول من القلق فقالوا معنى من نفسي من تلقائي ومن عندي ع وهذا رفض للمعنى الأول ورجوع إلى هذا القول الذي اخترناه أخيراً فتأمله، واللام في قوله: {لتجزى} متعلقة ب {آتية} وهكذا يترتب الوعيد. و{تسعى} معناه تكسب وتجترح، والضمير في قوله: {عنها} يريد الإيمان بالساعة فأوقع الضمير عليها، ويحتمل أن يعود على {الصلاة} [طه: 14] وقالت فرقة المراد عن لا إله الا الله ع: وهذا متجه، والأولان أبين وجهاً. وقوله: {فتردى} معناه تهلك والردى الهلاك ومنه قوله دريد بن الصمة: [الطويل]
تنادوا فقالوا أدرت الخيل فارساً ** فقلت أعبد الله ذلكمُ الردي

وهذا الخطاب كله لموسى عليه السلام وكذلك ما بعده، وقال النقاش: الخطاب ب {فلا يصدنك} لمحمد عليه السلام وهذا بعيد، وفي مصحف عبدالله بن مسعود {أكاد أخفيها من نفسي} وعلى هذه القراءة تركب ذلك القول المتقدم، وقوله عز وجل {وما تلك بيمينك يا موسى} تقرير مضمنه التنبيه وجمع النفس لتلقي ما يورد عليها وإلا فقد علم ما هي في الأزل، وقوله: {بيمينك} من صلة تلك وهذا نظير قول الشاعر يزيد بن ربيعة: [الطويل]
عدسْ ما لعباد عليك إمارة ** نجوت وهذا تحملين طليق

قال ابن الجوهري: وروي في بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن فقيل له {ألقها} [طه: 19] ليرى منها العجب فيعلم أنه لا ملك له عليها ولا تضاف إليه، وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه {عصاي} بكسر الياء مثل غلامي، وقرأت فرقة {عصى} وهي لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل]
سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهم

وقرأ الجمهور {عصايَ} بفتح الياء، وقرأ ابن أبي إسحاق {عصايْ} بياء ساكنة، ثم ذكر موسى عليه السلام من منافع عصاه عظمها وجمهورها، وأجمل سائر ذلك، وقرأ الجمهور {وأهُشُّ} بضم الهاء والشين المنقوطة ومعناه أخبط بها الشجر حتى ينتثر بها الورق للغنم، وقرأ إبراهيم النخعي {وأهِش} بكسر والمعنى كالذي تقدم، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس {وأهُسُّ} بضم الهاء والسين غير المنقوطة ومعناه أزجر بها وأخوف، وقرأت فرقة {علي غنمي} بالجر، وقرأت {غنمي} فأوقع الفعل على الغنم، وقرأت {غنْمي} بسكون النون ولا أعرف لها وجهاً، وقوله: {أخرى} فوحد مع تقدم الجمع وهو المهيع في توابع جمع ما لا يعقل والكناية عنه فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة كقوله تعالى: {الأسماء الحسنى} [طه: 8] وكقوله: {يا جبال أوبي معه} [سبأ: 10] وقد تقدم القول في هذا المعنى غير مرة، وعصا موسى عليه السلام هي التي كان أخذها من بيت عصا الأنبياء التي كان عند شعيب حين اتفقا على الرعية، وكانت عصا آدم هبط بها من الجنة وكانت من العير الذي في ورق الريحان وهو الجسم المستطيل في وسطها وقد تقدم شرح أمرها فيما مضى.

.تفسير الآيات (19- 35):

{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)}
لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوءة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا {فألقاها} موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها، وكانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان لها فماً وصارت {حية تسعى} أي تنتقل وتمشي وتلتقم الحجارة، فلما رآها موسى رأى عبرة فولى مدبراً ولم يعقب، فقال الله تعالى له: {خذها ولا تخف} وذلك أنه أوجس في نفسه خفية أي لحقه ما يلحق بالبشر، وروي أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهي {سيرتها الأولى} ثم أمره الله عز وجل أن يضم يده إلى جنبه وهو الجناح استعارة ومجازاً ومنه قول الراجز: [الرجز]
أضمه للصدر والجناح

وبعض الناس يقولون الجناح اليد وهذا كله صحيح على طريق الاستعارة، ألا ترى أن جعفر بن أبي طالب يسمى ذا الجناحين بسبب يديه حين أقيمت له الجناحان مقام اليدين بجناح طائر وكل مرعوب من ظلمة أو نحوها فإنه إذا ضم يده إلى جناحه فتر رعبه وربط جأشه فجمع الله لموسى عليه السلام تفتير الرعب مع الآية في اليد، وروي أن يد موسى خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها الشمس. وقوله: {من غير سوء}، أي من غير برص ولا مثله بل هو أمر ينحسر ويعود لحكم الحاجة إليه. وقوله: {لنريك من آياتنا الكبرى} يحتمل أن يريد وصف الآيات بالكبر على ما تقدم من قوله: {الأسماء الحسنى} [طه: 8]، و{مآرب أخرى} [طه: 18] ونحوه، ويحتمل أن يريد تخصيص هاتين الآيتين فإنهما أكبر الآيات كأنه قال لنريك الكبرى فهما معنيان، ثم أمره تبارك وتعالى بالذهاب إلى فرعون وهو مصعب بن الريان في بعض ما قيل، وقيل غير هذا، ولا صحة لشيء من ذلك. و{طغى} معناه تجاوز الحد في فساد، قوله: {قال رب اشرح لي صدري} الآية، لما أمره الله تعالى بالذهاب الى فرعون علم أنها الرسالة وفهم قدر التكاليف فدعا الله في المعونة إذ لا حول له إلا به. و{اشرح لي صدري} معناه لفهم ما يرد علي من الأمور والعقدة التي دعا في حلها هي التي اعترته بالجمرة التي جعلها في فيه حين جربه فرعون. وروي في ذلك أن فرعون أراد قتل موسى وهو طفل حين مد يده إلى لحية فرعون، فقالت له امرأته إنه لا يعقل، فقال بل هو يعقل وهو عدو لي، فقالت له نجربه، قال أفعل، فدعت بجمرات من نار وبطبق فيه ياقوت فقالا إن أخذ الياقوت علمنا أن يعقل وإن أخذ النار عذرناه فمد موسى يده إلى جمرة فأخذها فلم تعد على يده، فجعلها في فمه فأحرقته وأورث لسانه عقدة في كبرة أي حبسة ملبسة في بعض الحروف قال ابن الجوهري كف الله تعالى النار عن يده لئلا يقول النار طبعي واحترق لسانه لئلا يقول موسى مكانتي وموسى عيله السلام إنما طلب من حل العقدة قدر أن يفقه قوله، فجائزاً أن يكون ذلك كله زال، وجائزاً أن يكون بقي منه القليل، فيجتمع أن يؤتى هو سؤله وأن يقول فرعون، ولا يكاد يبين، ولو فرضناه زال جملة لكان قول فرعون سبأ لموسى بحالته القديمة.
والوزير المعين القائم بوزر الأمور وهو ثقلها ويحتمل الكلام أن طلب الوزير من أهله على الجملة ثم أبدل {هارون} من الوزير المطلوب، ويحتمل أن يريد واجعل هارون وزيراً، فإنما ابتدأ الطلب فيه فيكون على هذا مفعولاً أولاً ب {اجعل}. وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى بأربعة أعوام، وقرأ ابن عامر وحده {أَشدد} بفتح الهمزة و{أُشركه} بضمها على أن موسى أسند هذه الأفعال إلى نفسه، ويكون الأمر هنا لا يريد به النبوءة بل يريد تدبيره ومساعيه لأن النبوة لا يكون لموسى أن يشرك فيها بشراً، وقرأ الباقون {أُشدد} بضم الهمزة وأشرك على معنى الدعاء في شد الأزر وتشريك هارون في النبوءة وهذه في الوجه لأنها تناسب ما تقدم من الدعاء وتعضدها آيات غير هذه بطلبه تصديق هارون إياه. والأزر بمعنى الظهر قال أبو عبيدة كأنه قال شد به عوني واجعله مقاومي فيما أحاوله وقال امرؤ القيس: [الطويل]
بمحنية قد آزر الضال نبتها ** فجر جيوش غانمين وخيب

أي قاومه وصار في طوله، وفتح أبو عمرو وابن كثير الياء من {أخي} وسكنها الباقون وروي عن نافع {وأشركهو} بزيادة واو في اللفظ بعد الهاء ثم جعل موسى عليه السلام ما طلب من نعم الله تعالى سبباً يلزم كثرة العبادة والاجتهاد في أمر الله، وقوله: {كثيراً} نعت لمصدر محذوف تقديره تسبيحاً كثيراً.

.تفسير الآيات (36- 39):

{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)}
المعنى قال الله تعالى: قد أعطيت يا موسى طلبتك في شرح الصدر وتيسير الامر وحل العقدة إما بالكل وإما على قدر الحاجة في الإفقاه. وإتيان هذا السؤال منه من الله عز وجل فقرن إليها عز وجل قديم منته عنده على جهة التوقيف عليها ليعظم اجتهاده وتقوى بصيرته. وكان من قصة موسى فيما روي أن فرعون ذكر له أن خراب ملكه على يدي غلام من بني إسرائيل فأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل، ثم إنه رأى مع أهل مملكته أن فناء بني إسرائيل يعود على القبط بالضرر إذ هم كانوا عملة الأرض والصناع ونحو هذا، فعزم على أن يقتل الوالدان سنة ويستحييهم سنة، فولد هارون في سنة الاستحياء فكانت أمه آمنة، ثم ولد موسى في العام الرابع سنة القتل فخافت أمه عليه من الذبح فبقيت مهتمة فأوحى الله إليها، قيل بملك جاء لها وأخبرها وأمرها، قال بعض من روى هذا لم تكن نبية لأنا نجد في الشرع ورواياته أن الملائكة قد كلمت من لم يكن نبياً، وقال بعضهم بل كانت أم موسى نبية بهذا الوحي، وقالت فرقة بل كان هذا الوحي رؤيا رأتها في النوم، وقالت فرقة بل هو وحي إلهام وتسديد كوحي الله إلى النحل وغير ذلك فأهمها الله إلى أن اتخذت تابوتاً فقذقت فيه موسى راقداً في فراش، ثم قذفته في يم النيل، وكان فرعون جالساً في موضع يشرف على النيل اذا رأى تابوتاً فأمر به، فسيق اليه وامرأته معه ففتح فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه أبناً فأباح لها ذلك وروي أن {التابوت} جاء في الماء إلى المشرعة التي كان جواري امرأة فرعون يستقين فيها الماء فأخذن التابوت وجلبنه إليها فأخرجته وأعلمت فرعون وطلبته منه ثم إنها عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف يعرض للمراضع، فكلما عرضت عليه امرأة أباها. وكانت أمه حين ذهب عنها في النيل بقيت مغمومة فؤادها فارغ إلا من همه فقالت لأخته اطلبي أمره في المدينة عسى أن يقع لنا منه خبر، فبينما الأخت تطوف إذ بصرت به وفهمت أمره قالت لهم أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فتعلقوا بها وقالوا أنت تعرفين هذا الصبي، فقالت لا، غير أني أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب الى الملكة والجد في خدمتها ورضاها، فتركوها، وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها، فسرت آسية أمراة فرعون وقالت لها كوني معي في القصر، فقالت لها ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي، قالت نعم فأحسنت إلى ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنوا إسرائيل بهذا الرضاع، والسبب من الملكة، وأقام موسى حتى كمل رضاعه فأرسلت إليها آسية أن جيئي بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل ثياب فسرت به ودخلت على فرعون ليراه ويهبه فرآه وأعجبه وقربه فأخذ موسى عليه السلام بلحية فرعون وجذبها، فاستشاط فرعون وقال هذا عدو لي وأمر بذبحه، فناشدته فيه امرأته وقالت إنه لا يعقل، فقال فرعون بل يعقل فاتفقا على تجربته بالجمر والياقوت حسبما ذكرناه آنفاً في حل العقدة، فنجاه الله من فرعون ورجع إلى أمه فشب عندها فاعتز به بنو إسرائيل إلى أن ترعرع، وكان فتى جلداً فاضلاً كاملاً فاعتزت به بنوا اسرائيل بظاهر ذلك الرضاع وكان يحميهم ويكون ضلعه معهم وهو يعلم من نفسه أنه منهم ومن صميمهم، فكانت بصيرته في حمايتهم وكيدة، وكان يعرف ذلك أعيان بني إسرائيل.
ثم إن قصة القبطي المتقاتل مع الإسرائيلي نزلت وذكرها في موضعها مستوعب، فخرج موسى عليه السلام من مصر حتى وصل إلى مدين، فكان من أمره مع شعيب ما هو في موضعه مستوعب يختص منه بهذا الموضع أنه تزوج ابنته الصغرى على رعية الغنم عشر سنين، ثم إنه اعتزم الرحيل بزوجته إلى بلاد مصر فجاء في طريقه فضل في ليلة مظلمة فرأى النار حسبما تقدم ذكره، فعدد الله تعالى على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القصة من لطف الله تعالى به في كل فصل وتخليصه له من قصة إلى أخرى، وهذه الفتون التي فتنه بها أي اختبره وخلصه حتى صلح للنبوءة وسلم لها. وقوله: {ما يوحى} إبهام يتضمن عظم الأمر وجلالته في النعم وهذا نحو قوله تعالى {إذ يغشى السدرة ما يغشى} [النجم: 16] وهو كثير في القرآن والكلام، و{أن} في قوله: {أن اقذفيه} بدل من {ما} والضمير الأول في {اقذفيه} عائد على موسى وفي الثاني على {التابوت}، ويجوز أن يعود على {موسى}. وقوله: {فليلقه اليم} خبر خرج في صيغة الأمر إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها، ومنه قول النبي عليه السلام «قوموا فلأصل لكم» فأخبر الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة وهذا كثير، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك، والعدو الذي هو لله ولموسى كان فرعون ولكن أم موسى أخبرت به على الإبهام وذلك قالت لأخته قصيه وهي لا تدري أين. ثم أخبر تعالى موسى أنه {ألقى عليه محبة} منه فقال بعض الناس أراد محبة آسية لأنها كانت من الله وكانت سبب حياته. وقالت فرقة: أراد القبول الذي يضعه الله في الأرض لخيار عباده، وكان حظ موسى منه في غاية الوفر. وقالت فرقة: أعطاء جمالاً يحبه به كل من رآه، وقالت فرقة: أعطاء ملاحة العينين، وهذان قولان فيهما ضعف وأقوى الأقوال أنه القبول. وقرأ الجمهور و{لِتُصنع} بكسر اللام وضم التاء على معنى ولتغذى وتطعم وتربى، وقرأ أبو نهيك {ولَتصنع} بفتح التاء، قال ثعلب معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {ولْتصنع} بسكون اللام على الأمر للغالب وذلك متجه. وقوله: {على عيني} معناه بمرأى مني وأمر مدرك مبصر مراعى.