فصل: تفسير الآيات (65- 69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (65- 69):

{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)}
خير السحرة موسى عليه السلام في أن يبتدئ بالإلقاء أو يتأخر بعدهم، وروي أنهم كانوا سبعين ألف ساحر، وروي أنهم كانوا ثلاثين ألف ساحر، وروي أنهم كانوا خمسة عشر ألف، وروي أنهم كانوا تسعمائة، ثلاثمائة من الفيوم وثلاثمائة من الفرما وثلاثمائة من الإسكندرية وكان مع كل رجل منهم حبل وعصى قد استعمل فيها السحر، وقوله: {فإذا} هي للمفاجأة كما تقول خرجت فإذا زيد، وهي التي تليها الأسماء، وقرأت فرقة {عِصيهم} بكسر العين، وقرأت فرقة {عُصيهم} بضمها، وقرأت فرقة {يُخيل} على بناء الفعل للمفعول فقوله: {أنها} في موضع رفع على ما لم يسم فاعله، وقرأ الحسن والثقفي {تُخِيل} بضم التاء المنقوطة وكسر الياء وإسناد الفعل إلى الحبال والعصي، فقوله: {أنها} مفعول من أجله والظاهر من الآيات والقصص في كتب المفسرين أن الحبال والعصي كانت تنتقل بحبل السحر وبدس الأجسام الثقيلة المياعة فيها وكان تحركها يشبه تحرك الذي له إرادة كالحيوان، وهو السعي فإنه لا يوصف بالسعي إلا من يمشي من الحيوان، وذهب قوم إلى أنها ما لم تكن تتحرك لكنهم سحروا أعين الناس وكان الناظر يخيل إليه أنها تتحرك وتنتقل ع وهذا يحتمل والله أعلم أي ذلك كان، وقوله تعالى: {فأوجس} عبارة عما يعتري نفس الإنسان إذا وقع ظنه في أمر على شيء يسوءه، وظاهر الأمر كله الصلاح، فهذا العمل من أفعال النفس يسمى الوجيس وعبر المفسرون عن أوجس بأضمر وهذه العبارة أعم من الوجيس بكثير. و{خفية} يصح أن يكون أصلها خوفة قبلت الواو ياء للتناسب، وخوف موسى عليه السلام إنما كان على الناس أن يضلوا لهول ما رأى والأول أصوب أنه أوجس على الجملة وبقي ينتظر الفرج، وقوله: {أنت الأعلى} أي الغالب لمن ناوأك في هذا المقام، وقرأ جمهور القراء {تلقّفْ} بالجزم على جواب الأمر وبشد القاف، وقرأ ابن عامر وحده {تلقف} وهو في موضع الحال ويصح أن يكون من الملقى على اتساع ويصح أن يكون من المقلى وهي العصا وهذه حال، وإن كانت لم تقع بعد كقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95] وهذا كثير. وقرأ حفص عن عاصم {تلْقف} بسكون اللام وتخفيف القاف وأنث الفعل وهو مسند الى ما في اليمين من حيث كانت العصا مرادة بذلك، وروى البزي عن ابن كثير أنه كان يشدد التاء من {تلقف} كأنه أراد تتلقف فأدغم، وأنكر أبو علي هذه القراءة ع ويشبه أن قارئها إنما يلتزمها في الوصل حيث يستغنى عن جلب ألف، وقرأ الجمهور {كيدُ ساحر} برفع الكيد، وقرأ حمزة والكسائي {كيد السحر}، وقرأت فرقة {كيدَ} بالنصب {سحر} وهذا على أن {ما} كافة و{كيدَ} منصوب ب {صنعوا}، ورفع {كيدُ} على أن {ما} بمعنى الذي.
و{يفلح} معناه يبقى ويظفر ببغيته، وقالت فرقة معناه أن الساحر يقتل حيث ثقف ع وهذا جزاء من عدم الفلاح، وقرأت فرقة {أين أتى} والمعنى بهما متقارب، وروي من قصص هذه الآية أن فرعون، لعنه الله، جلس في علية له طولها ثمانون ذراعاً والناس تحته في بسيط وجاء سبعون ألف ساحر فألقوا من حبالهم وعصيهم ما فيه وقر ثلاثمائة بعير فهال الأمر.
ثم إن موسى عليه السلام ألقى عصاه من يده فاستحالت ثعباناً وجعلت تنمو حتى روي أنها عبرت النهر بذنبها، وقيل البحر، وفرعون في هذا يضحك ويرى أن الاستواء حاصل، ثم أقبلت تأكل الحبال والعصي حتى أفنتها ففرت نحو فرعون ففزع عند ذلك وقال يا موسى فمد موسى يده إليها فرجعت عصى كما كانت فنظر السحرة وعلموا الحق ورأوا الحبال والعصي فآمنوا رضي الله عنهم.

.تفسير الآيات (70- 71):

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)}
في خلال هذه الآيات تقدير وحذف يدل عليه ظاهر القول فالمقدر من ذلك هنا فألقى موسى عصاه فالتقمت كل ما جاؤوا به او نحو هذا، وروي أن السحرة لما رأوا العصا لا أثر فيها للسحر ثم رأت انقلابها حية وأكلها للحبال والعصي ثم رجوعها إلى حالها وعدم الحبال والعصي أيقنوا بنبوءة موسى وأن الأمر من عند الله تعالى وقدم {هارون} قبل {موسى} لتستوي رؤوس آي السور فنقل معنى السحرة وهذا كقوله عز وجل: {أزواجاً من نبات شتى} [طه: 53] تأخر شتى إنما هو لتستوي رؤوس الآي، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وورش عن نافع {آمنتم} على الخبر، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر {ءامنتم} بهمزة بعدها مدة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {أأمنتم} بهمزتين، وقوله: {قبل أن آذن لكم} مقاربة منه وبعض إذعان. وقوله: {من خلاف} يريد قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، قوله: {في جذوع النخل} اتساع من حيث هو مربوط في الجذع وليست على حد قولك ركبت على الفرس، وقوله: {أينا} يريد نفسه ورب موسى عليه السلام، وقال الطبري يريد نفسه وموسى عليه السلام والأول أذهب مع مخرفة فرعون.

.تفسير الآيات (72- 73):

{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)}
قال السحرة لفرعون لما تدعوهم {لن نؤثرك} أي نفضلك ونفضل السلامة منك على ما رأينا من حجة الله تعالى وآياته {البينات} وعلى {الذي فطرنا} هذا على قول جماعة أن الواو في قوله: {والذي فطرنا} عاطفة، وقالت فرقة هي واو القسم، و{فطرنا} معناه خلقنا واخترعنا فافعل يا فرعون ما شئت وإنما قضاؤك في هذه الحياة الدنيا والآخرة من وراء ذلك لنا بالنعيم ولك بالعذاب وهؤلاء السحرة اختلف الناس هل نفذ فيهم وعيد فرعون فقالت طائفة صلبهم على الجذوع كما قال فأصبح القوم سحرة وأمسوا شهداء بلطف الله لهم وبرحمته، وقالت فرقة إن فرعون لم يفعل ذلك وقد كان الله تعالى وعد موسى أنه ومن معه الغالبون.
قال القاضي ابو محمد: وهذا كله محتمل وصلب السحرة وقطعهم لا يدفع في أن موسى ومن معه غلب إلا بظاهر العموم والانفصال عن ذلك بين وقوله: {وما أكرهتنا عليه من السحر} قالت فرقة أرادوا ما ضمهم اليه من معارضة موسى وحملهم عليه من ذلك، وقالت فرقة بل كان فرعون قديماً يأخذ ولدان الناس بتعليم السحر ويجبرهم على ذلك فأشار السحرة إلى ذلك. وقولهم {خير وأبقى} رد على قوله: {أينا أشد عذاباً وأبقى} [طه: 71].

.تفسير الآيات (74- 76):

{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}
قالت فرقة هذه الآية بجملتها من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له والبيان فيما فعلوه، وقالت فرقة بل هي من كلام الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة وتحذيراً قد ضمنت القصة المذكورة مثاله. والمجرم الذي اكتسب الخطايا والجرائم، وقوله: {لا يموت فيها ولا يحيى} مختص بالكافر فإنه معذب عذاباً ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح، بل يعاد جلده ويجدد عذابه، فهو لا يحيى حياة هنية، وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة في غمرة قد قاربوا الموت، إلا أنهم لا يجهز عليهم ولا يجدد عذابهم فهذا فرق ما بينهم وبين الكفار. وفي الحديث الصحيح «أنهم يماتون إماتة» وهذا هو معناه لأنه لا يموت في الآخرة. و{الدرجات العلى} هي القرب من الله تعالى و{تزكى} معناه أطاع الله تعالى وأخذ بأزكى الأمور وتأتل التكسب في لفظة {تزكى} فأنه بين.

.تفسير الآيات (77- 79):

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)}
هذا استئناف إخبار عن موسى من أمر موسى وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان حدثت فيها لموسى وفرعون حوادث، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقوي أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه، فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات الجراد والقمل إلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف القول فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى، فلما كانت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى أن يخرج بني إسرائيل من مصر في الليل هارباً، والسرى سير الليل، و{أن} في قوله: {أن أسر} يجوز أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب كقوله عز وجل: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} [ص: 10] ويجوز أن تكون الناصبة للأفعال وتكون في موضع نصب ب {أوحينا} وقوله تعالى {بعبادي} إضافة تشريف لبني إسرائيل، وكل الخلق عباد الله، ولكن هذا كقوله تعالى: {ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29]، وروي من قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أشعرهم موسى عليه السلام بليلة الخروج استعاروا من معارفهم من القبط حلياً وثياباً وكل أحد ما اتفق له.
ويروى أن موسى أذن لهم في ذلك وقال لهم: إن الله سينفلكموها، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون إذنه عليه السلام وهو الأشبه به وسيأتي في جمع الحلي ما يؤيد ذلك، ويروى أن بني إسرائيل عجنوا زادهم ليلة سراهم ووضعوه ليختمر فأعجلهم موسى عليه السلام في الخروج فطبخوه فطيراً في سنتهم في ذلك العام إلى هلم، ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهو ستمائة ألف إنسان فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم واتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحي إلى موسى أن يقصد {البحر} فخرج بنو إسرائيل فرأوا أن العذاب من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع الله تعالى فلما رآهم فرعون قد هبطوا نحو البحر طمع فيهم، وكان مقصدهم إلى موضع منقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة، واختلف الناس في عدد جند فرعون فقيل كان في خيله سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان، وقيل أكثر من هذا مما اختصرته لقلة صحته، فلما وصل موسى البحر وقارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل أوحى الله تعالى إلى موسى {أن اضرب بعصاك البحر} [الشعراء: 63]، ويروى أن الوحي إليه بذلك كان متقدماً وهو ظاهر الآية، ويروى أنه إنما أوحي إليه في موطن وقوعه واتصل الكلام في هذه الآية على جهة وصف الحال وضم بعض الأمور إلى بعض فضرب موسى عليه السلام البحر فانفلق اثنتي عشرة فرقة، طرقاً واسعة بينها حيطان ماء واقف فدخل موسى عليه السلام بعد أن بعث الله تعالى ريح الصبا، فجففت تلك الطرق حتى يبست، ودخل بنو إسرائيل ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر، فقال لهم إنما انفلق لي من هيبتي، وهاهنا كمل إضلاله لهم وحمله الله تعالى على الدخول وجاء جبريل عليه السلام راكباً على فرس أنثى فدخل، فأتبعها فرس فرعون وتتابع الناس حتى تكاملوا في البحر فانطبق عليهم، فسمع بنو إسرائيل انطباق البحر وهم قد خرجوا بأجمعهم من البحر فعجبوا وأخبرهم موسى أن فرعون وقومه قد هلكوا فيه، فطلبوا مصداق ذلك، فلفظ البحر الناس وألقى الله تعالى فرعون على فجوة من الأرض بدرعه المعروفة له.
قال القاضي أبو محمد: فهذا اختصار قصص هذه الآية بحسب ألفاظها وقد مضى أمر غرق فرعون بأوعب من هذا في موضع اقتضاه. وقوله تعالى: {يبساً} مصدر وصف به، وقرأ بعض الناس {يابساً} وأشار إلى ذكره الزجاج، وقرأ حمزة وحده {لا تخف دركاً} وذلك إما على جواب الأمر وإما على نهي مستأنف، وقرأ الجمهور {لا تخاف} وذلك على أن يكون {لا تخاف} حالاً من {موسى} عليه السلام، ويحتمل أن يكون صفة الطريق بتقدير لا يخاف فيه أي يكون بهذه الصفة ومعنى هذا القول {لا تخاف دركاً} من فرعون وجنوده {ولا تخشى} غرقاً من البحر، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه {فاتّبعهم} بتشديد التاء وتبع، واتبع إنما يتعدى إلى مفعول واحد كقوله شويت واشتويت وحفرت واحتفرت وفديت وافتديت فقوله: {بجنوده} إما أن تكون الباء مع ما جرته في موضع الحال كما تقول خرج زيد بسلاحه وإما أن تكون لتعدي الفعل إلى مفعول ثان إذ لا يتعدى دون حرف جر إلا إلى واحد. وقرأ الجمهور {فأتْبعهم} بسكون التاء وهذا يتعدى إلى مفعولين، فالباء على هذا إما زائدة والتقدير {فأتبعهم فرعون جنده} وإما أن تكون بالحال ويكون المفعول الثاني مقدراً كأنك قلت رؤساءه أو عزمه ويجوز هذا، والأول أظهر، وقرأت فرقة {فغشيهم}، وقرأت فرقة {فغشاهم الله}، وقوله: {ما غشيهم} إبهام أهول من النص على قدر {ما}، وهذا كقوله: {إذا يغشى السدرة ما يغشى} [النجم: 16] {وأضل فرعون قومه} يعني من أول أمره إلى هذه النهاية، ثم أكد تعالى بقوله: {وما هدى} [طه: 79] مقابلة لقول فرعون {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}.

.تفسير الآيات (80- 82):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)}
ظاهر هذه الآية أن هذا القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول هذه النعم التي عدد الله تعالى عليهم، وبين خروجهم من البحر وبين هذه المقالة مدة وحوادث ولكن يخص الله تعالى بالذكر ما يشاء من ذلك. ويحتمل أن تكون هذه المقالة خوطب بها معاصرو رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعنى هذا فعلنا بأسلافكم ويكون قوله تعالى: {كلوا} بتقدير قيل لهم كلوا، وتكون الآية على هذا اعتراضاً في أثناء قصة موسى المقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى، والمعنى الأول أظهر وأبين. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {نجينا وواعدنا ونزلنا ورزقناكم} إلا أن أبا عمرو قرأ {وعدناكم} بغير ألف في كل القرآن، وقرأ حمزة والكسائي {أنجيت وواعدت ونزلنا ورزقتكم}. وقوله: {وواعدناكم} قيل هي لغة في وعد لا تقتضي فعل اثنين ع وإن حملت على المعهود فلأن التلقي والعزم على ذلك كالمواعدة، وقصص هذه الآية أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل وغرق فرعون وعد بني إسرائيل وموسى أن يصيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه موسى ويناجيه بما فيه صلاحهم بأوامرهم ونواهيم، فلما أخذوا في السير تعجل موسى عليه السلام للقاء ربه حسبما يأتي ذكره، وقالت فرقة هذا {الطور} هو الذي كلم فيه موسى اولاً حيث رأى النار وكان في طريقه من الشام إلى مصر، وقالت فرقة ليس به و{الطور} الجبل الذي لا شعرا فيه وقوله: {الأيمن} إما أن يريد اليمن وإما ان يريد اليمين بالإضافة إلى ذي يمين إنسان أو غيره. و{المن والسلوى} طعامهم، وقد مضى في البقرة استيعاب تفسيرهما، وقوله تعالى: {من طيبات} يريد الحلال الملذ لأن المعنى في هذا الموضع قد جمعهما واختلف الناس ما القصد الأول بلفظة الطيب في القرآن، فقال مالك رحمه الله الحلال، وقال الشافعي ما يطيب للنفوس، وساق إلى هذا الخلاف تفقههم في الخشاش والمستقذر من الحيوان. و{تطغوا} معناه تتعدون الحد وتتعسفون كالذي فعلوا ع. وقرأ جمهور الناس {فيحِل} بكسر الحاء {ومن يحلِل} بكسر اللام، وقرأ الكسائي وحده {فيحُل} بضم الحاء {ومن يحلُل} بضم اللام فمعنى الأول فيجب ومعنى الثاني فيقع وينزل، و{هوى} معناه سقط من علو إلى أسفل ومنه قول خنافر:
فهوى هوي العقاب


قال القاضي أبو محمد: وإن لم يكن سقوطاً فهو شبيه بالساقط والسقوط حقيقة قول الآخر: [الوافر]
هويّ الدلْو أسلمه الرشاء

ويشبه الذي وقع في طامة أو ورطة بعد أن كان بنجوة منها بالساقط فالآية من هذا أي هوي في جهنم وفي سخط الله، وقيل أخذ الفعل من لفظ الهاوية وهو قعر جهنم، ولما حذر لله تعالى غضبه والطغيان في نعمه فتح باب الرجاء للتائبين، والتوبة فرض على جميع الناس بقوله تعالى في سورة النور: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون} [النور: 31]. والناس فيه على مراتب إما مواقع الذنب وقدرته على ذلك باقية فتوبته الندم على ما مضى والإقلاع التام عن مثله في المستقبل، وإما الذي واقع الذنب ثم زالت قدرته عن مواقعته لشيخ أو آفة فتوبته الندم واعتقاد الترك أن لو كانت قدوة، وأما لم يواقع ذنباً فتوبته العزم على ترك كل ذنب والتوبة من ذنب تصح مع الإقامة على غيره وهي توبة مقيدة، وإذا تاب المرء ثم عاود الذنب بعد مدة فيحتمل عند حذاق أهل السنة أن لا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول لأن التوبة قد كانت مجبة، ويحتمل أن يعيده لأنها توبة لم يواف بها، واضطرب الناس في قوله: {ثم اهتدى} من حيث وجدوا الهدى ضمن الإيمان والعمل، فقالت فرقة معناه لم يشك في إيمانه، وقالت فرقة معناه ثم استقام، وقالت فرقة معناه ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه، وقالت فرقة ثم اخذ بسنة نبيه، وقالت فرقة معناه أمر بسنته، وقالت فرقة معناه والى أهل البيت ع وهذه كلها تخصيص واحد منها دون ما هو من نوعه بعيد ليس بالقوي، والذي يقوى في معنى {ثم اهتدى} أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن يخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل، ورب مؤمن عمل صالحاً قد أوبقه عدم الاهتداء كالقدرية والمرجئة وسائر أهل البدع والخوارج فمعنى {ثم اهتدى} ثم مشى في عقائد الشرع على طريق قويم جعلنا الله منهم بمنه ع وفي حفظ المعتقدات ينحصر عظم أمر الشرع.