فصل: تفسير الآيات (3- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (3- 4):

{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)}
قوله تعالى: {لاهية} حال بعد الحال، واختلف النحاة في إعراب قوله: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} فذهب سيبويه رحمه الله إلى أن الضمير في {أسروا} فاعل وأن {الذين} بدل منه وقال رحمه الله لغة أكلوني البراغيث ليست في القرآن، وقال أبو عبيدة وغيره الواو والألف علامة أن الفاعل مجموع كالتاء في قولك قامت هند و{الذين} فاعل ب {أسروا} وهذا على لغة من قال أكلوني البراغيث، وقالت فرقة الضمير فاعل و{الذين} مرتفع بفعل مقدر تقديره أسرها الذين أو قال الذين ع والوقوف على {النجوى} في هذا القول وفي الأول أحسن ولا يحسن في الثاني، وقالت فرقة {الذين} مرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هم الذين ظلموا، والوقف مع هذا حسن، وقالت فرقة {الذين} في موضع نصب بفعل تقديره أعني الذين، وقالت فرقة {الذين} في موضع خفض بدل من {الناس} [الانبياء: 1] ع وهذه أقوال ضعيفة ومعنى {أسروا النجوى} تكلموا بينهم في السر والمناجاة بعضهم لبعض، وقال ابو عبيدة {أسروا} أظهروا وهو من الأضداد، ثم بين تعالى الأمر الذي يتناجون به وهو قول بعضهم لبعض {هل هذا إلا بشر مثلكم}، ثم قال بعضهم لبعض على جهة التوبيخ في الجهالة {أفتأتون السحر} أي ما يقول شبهوه بالسحر، المعنى أفتتبعون السحر {وأنتم تبصرون} أي تدركون أنه سحر وتعلمون ذلك، كأنهم قالوا تضلون على بينة ومعرفة، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم وللناس جميعاً {قل ربي يعلم القول في السماء والأرض} أي يعلم أقوالكم هذه وهو بالمرصاد في المجازاة عليها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {قل ربي} وقرأ حمزة والكسائي {قال ربي يعلم} على معنى الخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واختلف عن عاصم، قال الطبري رحمه الله وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الإهماز.

.تفسير الآيات (5- 8):

{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)}
لما اقتضت الآية التي قبل هذه أنهم قالوا إن ما عنده سحر، عدد الله في هذه جميع ما قالته طوائفهم ووقع الإضراب بكل مقالة عن المقدمة لها ليتبين اضطراب أمرهم، فهو إضراب عن جحد متقدم لأن الثاني ليس بحقيقة في نفسه، والأضغاث الأخلاط وأصل الضغث القبضة المختلطة من العشب والحشيش، فشبه تخليط الحلم بذلك، وهو ما لا يتفسر ولا يتحصل، ثم حكى من قال قول شاعر وهي مقالة فرقة عامية منهم لأن نبلاء العرب لم يخف عليهم بالبديهة أن مباني القرآن ليست مباني شعر ثم حكى اقتراحهم وتمنيهم آية تضطرهم وتكون في غاية الوضوح كناقة صالح وغيرها، وقولهم {كما ارسل الأولون} دال على معرفتهم بإيتان الرسل الأمم المتقدمة. وقوله تعالى: {ما آمنت قبلهم} مقدراً كلام يدل عليه المعنى، تقديره والآية التي طلبوا عادتنا أن القوم إن كفروا بها عاجلناهم. وما آمنت قرية من القرى التي نزلت بها هذه النازلة أفهذه كانت تؤمن وقوله تعالى: {أهلكناها} جملة في موضع الصفة ل {قرية} والجملة إذا اتبعت النكرات فهي صفة لها وإذا اتبعت المعارف فهي أحوال منها، {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً} رد على فرقة منهم كانوا يستبعدون أن يبعث الله من البشر رسولاً يشف على نوعه من البشر بهذا القدر من الفضل، فمثل الله تعالى في الرد عليهم بمن سبق من الرسل من البشر، وقرأ الجمهور {يوحى} على بناء الفعل للمفعول، وقرأ حفص عن عاصم {نوحي} بالنون، ثم أحالهم على سؤال {أهل الذكر} من حيث لم يكن عند قريش كتاب ولا إثارة من علم، واختلف الناس في {أهل الذكر} من هم، فروى عبدالله بن سلام أنه قال أنا من أهل الذكر، وقالت فرقة هم أهل القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا موضع ينبغي أن يتأمل، وذلك أن الذكر هو كل ما يأتي من تذكير الله تعالى عباده فأهل القرآن أهل ذكر، وهذا ما أراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأما المحال على سؤالهم في هذه الآية فلا يصح أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خصومهم، وإنما أُحيلوا على سؤال أحبار أهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لهم على ترك الإيمان بمحمد عليه السلام فتجيء شهادتهم بأن الرسل قديماً من البشر لا مطعن فيها لازمة لكفار قريش وقوله تعالى: {وما جعلناهم جسداً} قيل الجسد من الأشياء يقع على ما لا يتغذى، ومنه قوله تعالى: {عجلاً جسداً} [الأعراف: 148]. فمعنى هذا ما جعلناهم أجساداً لا تتغذى، وقيل الجسد يعم المتغذي وغير المتغذي. والمعنى ما جعلناهم أجساداً وجعلناهم مع ذلك لا يأكلون الطعام كالجمادات أو الملائكة، ف {جعلناهم جسداً} على التأويل الأول منفي، وعلى الثاني موجب، والنفي واقع على صفته. وقوله تعالى: {لا يأكلون الطعام} كناية عن الحدث، ثم نفى عنهم الخلد لأنه من صفات القديم وكل محدث فغير خالد في دار الدنيا.

.تفسير الآيات (9- 12):

{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)}
هذا وعيد في ضمن وصفه تعالى سيرته في الأنبياء من أنه يصدق مواعيدهم فكذلك يصدق لمحمد عليه السلام ولأصحابه ما وعدهم من النصر وظهور الكلمة وقوله تعالى: {ومن نشاء} معناه من المؤمنين بهم، والمسرفون الكفار المفرطون في غيهم وكفرهم وكل من ترك الإيمان مفرط مسرف، ثم وبخهم تعالى بقوله: {لقد أنزلنا} الآية والكتاب القرآن. وقوله تعالى: {فيه ذكركم} يحتمل أن يكون في الذكر الذي أنزله الله تعالى إليكم بأمر دينكم وآخرتكم ونجاتكم من عذابه، فأضاف الذكر إليهم حيث هو في أمرهم ويحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الآية. كما تذكر عظام الأُمور، وفي هذا تحريض ثم تأكد التحريض بقوله: {أفلا تعقلون} وحركهم ذلك إلى النصر، ثم مثل لهم على جهة التوعد بمن سلف من الأُمم المعذبة، و{كم} للتكثير وهي في موضع نصب ب {قصمنا} ومعناه أهلكنا، وأصل القصم الكسر في الأجرام فإذا استعير للقوم أو القرية ونحوه فهو ما يشبه الكسر وهو إهلاكهم وأوقع هذه الأمور على {القرية} والمراد أهلها وهذا مهيع كثير، ومنه {ما آمنت قبلهم من قرية} [الأنبياء: 6] وغيره وقوله تعالى: {وأنشأنا} أي خلقنا وبثثنا أُمة أُخرى غير المهلكة، وقوله تعالى: {فلما أحسوا} وصف عن قرية من القرى المجملة أولاً قيل كانت باليمن تسمى حصورا بعث الله تعالى إلى أهلها رسولاً فقتلوه، فأرسل الله تعالى بخت نصر صاحب بني إسرائيل فهزموا جيشه مرتين، فنهض في الثالثة بنفسه فلما مزقهم وأخذ القتل فيهم ركضوا هاربين، ويحتمل أن لا يريد بالآية قرية بعينها وأنه واصف حال كل قرية من القرى المعذبة وأن أهل كل قرية كانوا إذا أحسوا العذاب من أي نوع كان أخذوا في الفرار. و{أحسوا} باشروه بالحواس، والركض تحريك القدم على الصفة المعهودة، فالفار والجاري بالجملة راكض إما دابة وإما الأرض تشبيهاً بالدابة.

.تفسير الآيات (13- 16):

{لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)}
يحتمل قوله تعالى: {لا تركضوا} إلى آخر الآية أن يكون من قول رجال بخت نصر على الرواية المتقدمة فالمعنى على هذا أنهم خدعوهم واستهزؤوا بهم بأن قالوا للهاربين منهم لا تفروا {وارجعوا} إلى مواضعكم {لعلكم تسألون} صلحاً أو جزية أو أمراً يتفق عليه، فلما انصرفوا أمر بخت نصر أن ينادي فيهم يا لثارات النبي المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم ع، هذا كله مروي، ويحتمل أن يكون {لا تركضوا} إلى آخر الآية من كلام ملائكة العذاب، على التأويل الآخر أن الآيات وصف قصة كل قرية وأنه لم يرد تعيين حصورا ولا غيرها، فالمعنى على هذا أن أهل هذه القرية كانوا باغترارهم يرون أنهم من الله تعالى بمكان وأنه لو جاءهم عذاب أو أمر لم ينزل بهم حتى يخاصموا أو يسألوا عن وجع تكذيبهم لنبيهم فيحتجون هم عند ذلك بحجج تنفعهم في ظنهم، فلما نزل العذاب دون هذا الذي أملوه وركضوا فارين نادتهم الملائكة على وجه الهزء بهم {لا تركضوا وارجعوا} {لعلكم تسألون} كما كنتم تطمعون بسفه آرائكم، ثم يكون قوله: {حصيداً} أي بالعذاب تركضوا كالحصيد، والإتراف التنعيم، و{دعواهم} معناه دعاؤهم وكلامهم أي لم ينطقوا بغير التأسف، والحصيد يشبه بحصيد الزرع المنجل الذي ردهم الهلاك كذلك، و{خامدين} أي موتى دون أزواج مشبهين بالنار إذا طفيت، ولما فرغ وصف هذا الحال وضع الله تعالى السامعين بقوله: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} أي ظن هؤلاء الذين نزل بهم ما نزل كما تظنون أنتم أيها الكفرة الآن ففي الآية وعيد بهذا الوجه والمعنى إنما خلقنا هذا كله ليعتبر به وينظر فيه ويؤمن بالله بحسبه، قال بعض الناس {تسألون} معناه تفهمون وتفقهون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ، وقال فرقة {تسألون} معناه شيئاً من أموالكم وعرض دنياكم على وجه الهزء.

.تفسير الآيات (17- 18):

{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)}
ظاهر هذه الآية الرد على من قال من الكفار أمر مريم وما ضارعه من الكفر تعالى الله عن قول المبطلين، واللهو في هذه الآية المرأة وروي أنها في بعض لغات العرب تقع على الزوجة، و{إن} في قوله: {إن كنا فاعلين} يحتمل أن تكون الشرطية بمعنى لو كنا أي ولسنا كذلك، وللمتكلمين هنا اعتراض وانفصال ويحتمل أن تكون نافية بمعنى ما وكل هذا قد قيل، والحق عام في القرأن والرسالة والشرع وكل ما هو حق، و{الباطل} أيضاً عام كذلك ويدمغه معناه يصيب دماغه وذلك مهلك في البشر فكذلك الحق يهلك الباطل. و{الويل} الخزي والهم وقيل هو اسم واد في جهنم فهو المراد في هذه الآية وهذه مخاطبة للكفار الذين وصفوا الله تعالى بما لا يجوز عليه ولا يليق به تعالى الله عن قولهم.

.تفسير الآيات (19- 20):

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)}
قوله تعالى: {وله} يحتمل أن يكون ابتداء كلام يحتمل أن يكون معادلاً لقوله: {ولكم الويل} [الأنبياء: 18] كأنه تقسيم الأمر في نفسه أي للمختلقين هذه المقالة الويل ولله تعالى {من في السموات والأرض} واللام في {له} لام الملك، وقوله تعالى: {من في السماوات} يعم الملائكة والنبيين وغيرهم، ثم خصص من هذا العموم من أراد تشريفه من الملائكة بقوله تعالى: {ومن عنده} لأن عند هنا ليست في المسافات إنما هي تشريف في المنزلة فوصفهم تعالى بأنهم {لا يستكبرون} عن عبادة الله ولا يسأمونها ولا يكلون فيها. والحسير من الإبل المعيي ومنه قول الشاعر: [الطويل]
لهن الوجى لم يكن عوناً على النوى ** ولا كان منها طالع وحسير

وحسر واستحسر بمعنى واحد، وهذا موجود في كثير من الأفعال وإن كان الباب في استفعل أن يكون لطلب الشيء، وقوله تعالى: {لا يفترون}، روي عن كعب الأحبار أنه قال جعل الله التسبيح كالنفس وطرف العين للبشر منهم دائباً دون أن يلحقهم فيه سآمة، وقال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ قال «أتسمعون ما أسمع» قالوا: ما نسمع من شيء يا رسول الله، قال «إني لأسمع أطيط السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع راحة إلا وفيه ملك ساجد أو قائم».

.تفسير الآيات (21- 24):

{أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)}
هذه {أم} التي هي بمنزلة ألف الاستفهام، وهي هاهنا تقرير وتوقيف، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة بل مع ألف الاستفهام، كأن في القول إضراباً عن الأول ووقفهم الله تعالى هل {اتخذوا آلهة} يحيون ويخترعون، أي ليست آلهتكم كذلك فهي آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة. وقرأت فرقة {يُنشرون} بضم الياء بمعنى يحيون غيرهم، وقرأت فرقة {يَنشرون} بمعنى يحيونهم وتدوم حياتهم يقال نشر الميت وأنشره الله تعالى، ثم بين تعالى أمر التمانع بقوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدنا} وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض ويذهب بما خلق، واقتضاب القول في هذا أن الإلهين لو فرضنا فوقع بينهما الاختلاف في تحريك جرم وتسكينه فمحال أن تتم الإرادتان ومحال أن لا تتم جميعاً، وإذا تمت الواحدة كان صاحب الأخرى عاجزاً، وهذا ليس بإله، وجواز الاختلاف عليهما بمنزلة وقوعه منهما ونظر آخر وذلك أن كل جزء يخرج من العدم إلى الوجود فمحال أن يتعلق به قدرتان، فإذا كانت قدرة أحدهما موجدة بقي الآخر فضلاً لا معنى له في ذلك الجزء، ثم يتمادى النظر هكذا جزءاً جزءاً ثم نزه تعالى نفسه عما وصفه أهل الجهالة والكفر، ثم وصف نفسه تعالى بأنه {لا يسأل عما يفعل} وهذا وصف يحتمل معنيين: إما أن يريد أنه بحق ملكه وسلطانه لا يعارض ولا يسأل عن شيء يفعله إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء، وإما أن يريد أنه محكم الأفعال واضع كل شيء موضعه فليس في أفعاله موضع سؤال ولا اعتراض، وهؤلاء من البشر يسألون لهاتين العلتين لأنهم ليسوا مالكين ولأنهم في أفعالهم خلل كثير، ثم قررهم تعالى ثانية على اتخاذ الآلهة، وفي تكرار هذا التقرير مبالغة في نكره وبيان فساده، وفي هذا التقرير زيادة على الأول وهي قوله تعالى: {من دونه} فكأنهم قررهم هنا على قصد الكفر بالله عز وجل، ثم دعاهم إلى الحجة والإيتان بالبرهان. وقوله تعالى: {هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} يحتمل ان يريد به هذا جميع الكتب المنزلة قديمها وحديثها، أي ليس فيها برهان على اتخاذ آلهة من دون الله، بل فيها ضد ذلك، ويحتمل أن يريد هذا القرآن والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين، فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم وردهم على طريق النجاة، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم، ومعنى الكلام على هذا التأويل عرض القرآن في معرض البرهان أي {هاتوا برهانكم} فهذا برهاني أنا ظاهر في {ذكر من معي وذكر من قبلي} وقرأت فرقة {هذا ذكرُ من} {وذكرُ من} بالإضافة فيهما، وقرأت فرقة {هذا ذكرُ من} بالإضافة {وذكرٌ مِن قبلي} بتنوين ذكر الثاني وكسر الميم من قوله تعالى: {مِن قبلي} وقرأ يحيى بن سعيد وابن مصرف بالتنوين في {ذكرٌ مِن} في الموضعين وكسر الميم من قوله: {مِن} في الموضعين، وضعف أبو حاتم هذه القراءة كسر الميم في الأولى ولم يرلها وجهاً، ثم حكم عليهم تعالى بأن {أكثرهم لا يعلمون الحق} لإعراضهم عنه وليس المعنى {فهم معرضون} لأنهم لا يعلمون بل المعنى {فهم معرضون} ولذلك {لا يعلمون الحق} وقرأ الحسن وابن محيصن الحقُ بالرفع على معنى هذا القول هو الحق والوقف على هذه القراءة على {لا يعلمون}.