فصل: تفسير الآيات (18- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 22):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)}
{ألم تر} تنبيه رؤية القلب، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جمع لله وخضوعها، وذكر في الآية كل ما عبد الناس إذ في المخلوقات أعظم مما قد ذكر كالرياح والهواء ف {من في السماوات} الملائكة، {ومن في الأرض} من عبد من الشر، {والشمس} كانت تعبدها حمير وهو قوم بلقيس، والقمر كانت كنانة تعبده قاله ابن عباس، وكانت تميم تعبد الدبران، وكانت لخم تعبد المشتري، وكانت طيِّئ تعبد الثريا وكانت قريش تعبد الشعري، وكانت أسد تعبد عطارد، وكانت ربيعة تعبد المرزم، {والجبال والشجر} منها النار وأصنام الحجارة والخشب، {والدواب} فيها البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه، والسجود في هذه الآية هو بالخضوع والانقياد للأمر قال الشاعر:
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر

وهذا مما يتعذر فيه السجود والمتعارف، وقال مجاهد: سجود هذه الأشياء هو بظلالها، وقال بعضهم سجودها هو بظهور الصنعة فيها. ع: هذا وهو وإنما خلط هذه الآية بآية التسبيح وهناك يحتمل أن يقال هي بآثار الصنعة، وقوله تعالى: {وكثير حق عليه العذاب} يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم، أي {وكثير حق عليه العذاب} يسجد، أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكارة ونحو ذلك، قاله مجاهد، وقال: سجوده بظله ويحتمل أن يكون رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله وكأن الجملة معادلة لقوله: {وكثير من الناس} لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم ويؤيد هذا قوله تعالى بعد ذلك {ومن يهن الله} الآية وقرأ جمهور الناس {من مكرِم} بكسر الراء، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على معنى من موضع كرامة أو على أنه مصدر كمدخل، وقرأ الجمهور {والدوابّ} مشددة الباء، وقرأ الزهري وحده بتخفيف الباء وهي قليلة ضعيفة وهي تخفيف على غير قياس كما قالوا ظلت وأحست وكما قال علقمة: [البسيط]
كأن إبريقهم ظبي على شرف ** مفدم بسبا الكتان ملثوم

أراد بسبائب الكتان وأنشد أبو علي في مثله: [الكامل]
حتى إذا ما لم أجد غير الشر ** كنت أمرأً من مالك بن جعفر

وهذا باب إنما يستعمل في الشعر فلذلك ضعفت هذه القراءة وقوله تعالى: {هذان خصمان} الآية، اختلف الناس في المشار إليه بقوله: {هذان} فقال قيس بن عباد وهلال بن يساف: نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر وهو ستة: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، برزوا لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى، وأقسم أبو ذر على هذا القول ع ووقع أن الآية فيهم في صحيح البخاري، وقال ابن عباس: الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم ديناً منكم ونحو هذا، فنزلت الآية، وقال عكرمة: المخاصمة بين الجنة والنار، وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي: الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ع وهذا قول تعضده الآية، وذلك أنه تقدم قوله: {وكثير من الناس} المعنى هم مؤمنون ساجدون، ثم قال: {وكثير حق عليه العذاب} ثم أشار الى هذين الصنفين بقوله: {هذان خضمان} والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعدواة والجدال والحرب، وقوله تعالى: {خصمان} يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله: {اختصموا} فإنها قراءة الجمهور، وقرأ ابن أبي عبلة {اختصما في ربهم} وقوله: {في ربهم} معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم، و{قطعت} معناه جعلت لهم بتقدير، كما يفصل الثوب، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي، وروي في صب {الحميم} وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب المقامع فتنكشف أدمغتهم فيصب {الحميم} حينئذ، وقيل بل يصب أولاً فيفعل ما وصف، ثم تضرب ب المقامع بعد ذلك، و{الحميم} الماء المغلي، و{يصهر} معناه يذاب، وقيل معناه يعصر وهذه العبارة قلقة، وقيل معناه ينضج ومنه قول الشاعر:
تصهره الشمس ولا ينصهر

وإنما يشبه فيمن قال يعصر أنه أراد الحميم يهبط كل ما يلقى في الجوف ويكشطه ويسلته، وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسلته ويبلغ به قدميه ويذيبه، ثم يعاد كما كان، وقرأ الجمهور {يصهر} وقرأت فرقة {يصَهّر} بفتح الضاد وشد الهاء، و{المِقمعة} بكسر الميم مقرعة من حديد يقمع بها المضروب، وقوله: {أرادوا} روي فيه أن لهب النار إذا ارتفع رفعهم فيصلون إلى أبواب النار فيريدون الخروج فيضربون ب المقامع وتردهم الزبانية ومن في قوله: {منها} الابتداء الغاية، وفي قوله: {من غم} يحتمل أن تكون لبيان الجنس ويحتمل أن تكون لابتداء غاية أيضاً وهي بدل من الأولى. وقوله: {وذوقوا} هنا محذوف تقديره ويقال لهم: {ذوقوا} و{الحريق} فعيل بمعنى مفعل أي محرق، وقرأ الجمهور {هذان} بتخفيض النون وقرأ ابن كثير وحده {هذانّ} بتشديد النون، وقرأها شبل وهي لغة لبعض العرب في المبهمات، كاللذان، وهذان وقد ذكر ذلك أبو علي.

.تفسير الآيات (23- 25):

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)}
هذه الآية معادلة لقوله: {فالذين كفروا} [الحج: 19] وقرأ الجمهور {يُحلون} بضم الياء وشد اللام من الحلي، وقرأ ابن عباس {يَحلَون} بفتح الياء واللام وتخفيفها، يقال حلي الرجال وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي وقيل هي من قولهم لم يحل فلان بطائل، و{من} في قوله: {من أساور} هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض، و{الأساور} جمع سوار وإسوار بكسر الهمزة، وقيل {أساور} جمع أسورة وأسورة جمع سوار، وقرأ ابن عباس من {أسورة من ذهب}، واللؤلؤ الجوهر وقيل صغاره وقيل كباره وألأشهر أنه اسم للجوهر، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر {ولؤلؤاً} بالنصب عطفاً على موضع الأساور لأن التقدير يحلون أساور، وهي قراءة الحسن والجحدري وسلام ويعقوب والأعرج وأبي جعفر وعيسى بن عمر، وحمل أبو الفتح نصبه على إضمار فعل، وقرأ الباقون من السبعة و{لؤلؤٍ} بالخفض عطفاً إما على لفظ الأساور ويكون اللؤلؤ في غير الأساور، وإما على الذهب لأن الأساور أيضاً تكون {من ذهب} و{لؤلؤ} قد جمع بعضه إلى بعض، ورويت هذه القراءة عن الحسن بن أبي الحسن وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة، وثبتت في الإمام ألف بعد الواو قاله الجحدري، وقال الأصمعي: ليس فيها ألف، وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم همز الواو الثانية دون الأولى، وروى المعلى بن منصور عن أبي عن عاصم ضد ذلك، قال أبو علي: همزهما وتخفيفهما وهمز إحداهما دون الأخرى جائز كله، وقرأ ابن عباس {ولئلئاً} بكسر اللامين، وأخبر عنهم بلباس الحرير لأنها من أكمل حالات الآخرة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» وقال ابن عباس: لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا إلا في الأسماء فقط وإما الصفات فمتباينة، و{الطيب من القول} لا إله إلاَّ الله وما جرى معها من ذكر الله تعالى وتسبيحه وتقديسه وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث طيب فإنها لا تسمع فيها لاغية، و{صراط الحميد} هو طريق الله تعالى الذي دعا عباده إليه، ويحتمل أن يريد ب {الحميد} نفس الطريق فأضاف إليه على حد إضافته في قوله: {دار الآخرة} [الأنعام: 32، يوسف: 109، النحل: 30] وقوله تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون} الآية، قوله: {ويصدون} تقديره وهم يصدون وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي وقالت فرقة الواو زائدة {ويصدون} خبر {إن} وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله: {والبادي} تقديره خسروا أو هلكوا، وجاء {يصدون} مستقبلاً إذ فعل يديمونه كما جاء قوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم} [الرعد: 28] ونحوه، وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صُدَّ رسولُ الله صلى عليه وسلم عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجميع إلا أن يراد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث، وقالت فرقة {المسجد الحرام} أرادوا به مكة كلها ع وهذا صحيح لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من ذلك، وقرأ جمهور الناس {سواء} بالرفع وهو على الابتداء و{العاكف} خبره، وقيل الخبر {سواء} وهو مقدم وهو قول أبي علي والمعنى الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبداً، وقرأ حفص عن عاصم {سواء} بالنصب وهي قراءة الأعمش وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفعولاً ثانياً ل جعل ويرتفع العاكفُ به لأنه مصدر في معنى مستوٍ أُعْمِلَ عمل اسم الفاعل، والوجه الثاني ان يكون حالاً من الضمير في {جعلنا} وقرأت فرقة {سواءً} بالنصب {العاكفِ} بالخفض عطفاً على الناس، و{العاكف}، المقيم في البلد، و{البادي}، القادم عليه من غيره، وقرأ ابن كثير في الوصل والوقف {البادي} بالياء. ووقف أبو عمرو بغير ياء، ووصل بالياء، وقرأ نافع {البادِ} بغير ياء في الوصل والوقف في رواية المسيبي، وأبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس، وروى ورش الوصل بالياء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء وصلاً ووقفاً، وهي في الإمام بغير ياء، وأجمع الناس على الاستواء في نفس {المسجد الحرام} واختلفوا في مكة، فذهب عمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد وجماعة معهم إلى الأمر كذلك في دور مكة وأن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وقال: سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، قال ابن سابط: وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق باباً في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب، وقال جمهور من الأمة منهم مالك: ليست الدور كالمسجد ولأهلها الأمتناع بها والاستبداد، وعلى هذا هو العمل اليوم، وهذا الاختلاف الأول متركب على الاختلاف في مكة هل هي عنوة كما روي عن مالك والأوزاعي، أو صلح كما روي عن الشافعي، فمن رآها صلحاً فإن الاستواء في المنازل عنده بعيد، ومن رآها عنوة أمكنه أن يقول الاستواء فيها، قرره الأئمة الذين لم يقطعوها أحداً وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم «وهل ترك لنا عقيل منزلاً» يقتضي ان لا استواء وأنها متملكة ممنوعة على التأويلين في قوله تعالى عليه السلام لأنه تؤول بمعنى أنه ورث جميع منازل أبي طالب وغيره، وتؤول بمعنى أنه باع منازل بني هاشم حين هاجروا ومن الحجة لتملك أهلها دورهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً للسجن بأربعة آلاف، ويصح مع ذلك أن يكون الاستواء في وقت الموسم للضرورة والحاجة فيخرج الأمر حينئذ عن الاعتبار بالعنوة والصلح، وقوله تعالى: {بإلحاد} قال أبو عبيدة الباء زائدة ومنه قول الشاعر:
بواد يمان ينبت الشت صدره ** وأسلفه بالمرخ والشهبان

ومنه قول الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

وهذا كثير ويجوز أن يكون التقدير {ومن يرد فيه} الناس {بإلحاد} والإلحاد الميل، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السئية فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقال ابن عباس: الإلحاد في هذه الآية الشرك، وقال أيضاً: هو استحلال الحرام وحرمته، وقال مجاهد: هو العمل السيئ فيه، وقال عبدالله بن عمرو: قول لا والله وبلى والله بمكة من الإلحاد، وقال حبيب بن أبي ثابت: الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم. ع. والعموم يأتي على هذا كله، وقرأت فرقة {ومن يرد} من الورود حكاه الفراء، والأول أبين وأعم وأمدح للبقعة، و{من} شرط جازمة للفعل وذلك منع من عطفها على {الذين} والله المستعان.

.تفسير الآيات (26- 28):

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)}
المعنى واذكر {إذ بوأنا}، وبوأ هي تعدية باء بالتضعيف، وباء معناه رجع فكأن المبوِّئ يرد المبوأ إلى المكان، واستعملت اللفظة بمعنى سكن، ومنه قوله تعالى: {نتبوأ من الجنة حيث نشاء} [الرمز: 74] وقال الشاعر:
كم من أخ لي صالح ** بوأته بيديَّ لحدا

واللام في قوله تعالى: {لإبراهيم} قالت فرقة هي زائدة، وقالت فرقة {بوأنا} نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا ع والأظهر أن يكون المفعول الأول ب {بوأنا} محذوفاً تقديره الناس أو العالمين، ثم قال: {لإبراهيم} بمعنى له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوؤا، و{البيت} هو الكعبة، وكان فيما روي قد جعله الله تعالى متعبداً لآدم عليه السلام، ثم درس بالطوفان، وغيره فلما جاءت مدة إبراهيم أمره الله تعالى ببنائه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثراً، فبعث الله ريحاً فكشف له عن أساس آدم، فرفع قواعده عليه. وقوله: {أن لا تشرك} هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام، في قول الجمهور حكيت لنا بمعنى قيل له لا تشرك، وقرأ عكرمة {ألا يشرك} بالياء على نقل معنى القول الذي قيل له، قال أبو حاتم: ولابد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى لأن لا يشرك ع يحتمل أن تكون أن في قراءة الجمهور مفسرة، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة، وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد، وأنتم لم تفوا بل أشركتم، وقالت فرقة: الخطاب من قوله: {أن لا تشرك} لمحمد صلى عليه وسلم وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج ع والجمهور على أن ذلك إبراهيم وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك، والقائمون، هم المصلون، وذكر تعالى من أركان الصلاة: أعظمها. وهي القيام والركوع والسجود، وقرأ جمهور الناس {وأذّن} بشد الذال، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيص {وآذن} بمدة وتخفيف الذال وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنها {وأذن} فعل ماض وأعرب عن ذلك بان جعله عطفاً على {بوأنا}، وروي أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالأذان بالحج قال يا رب وإذا ناديت فمن يسمعني؟ فقيل له ناد يا إبراهيم فعليك النداء وعلينا البلاغ فصعد على أبي قبيس وقيل على حجر المقام ونادى: أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا واختلفت الروايات في ألفاظه عليه السلام واللازم أن يكون فيها ذكر البيت والحج، وروي أنه يوم نادى أسمع كل من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال وأجابه كل شيء في ذلك الوقت من جماد وغيره لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك، قاله ابن عباس وابن جبير، وقرأ جمهور الناس {بالحَج} بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها، و{رجالاً}، جمع راجل كتاجر وتجار، وقرأ عكرمة وابن عباس وأبو مجلز وجعفر بن محمد {رُجّالاً} بضم الراء وشد الجيم ككاتب وكتاب، وقرأ عكرمة أيضاً وابن أبي إسحاق {رُجالاً} بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع ورويت عن مجاهد، وقرأ مجاهد {رُجالى} على وزن فعالى فهو كمثل كسالى، والضامر، قالت فرقة أراد بها الناقة ع وذلك أنه يقال ناقة ضامر.
ومنه قول الأعشى:
عهدي بها في الحي قد ذرعت ** هيفاء مثل المهرة الضامر

فيجيء قوله: {يأتين} مستقيماً على هذا التأويل، وقالت فرقة الضامر هو كل ما اتصف بذلك من جمل أو ناقة وغير ذلك ع وهذا هو الأظهر يتضمن معنى الجماعات أو الرفاق فيحسن لذلك قوله: {يأتين} وقرأ أصحاب ابن مسعود {يأتون} وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، وفي تقديم {رجالاً} تفضيل للمشاة في الحج، قال ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني إلا أن أكون حججت ماشياً فإني سمعت الله تعالى يقول: {يأتونك رجالاً} وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل ماشين، واستدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط ع قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكراً ع وهذا تأسيس لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه، وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس بالسفن ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إيتان مكة إما راجلاً وإما على {ضامر} فإنما ذكرت حالتا الوصول، وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا القوي، فأما إذا اقترن به عدو أو خوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصاً ما، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع، وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاماً ظاهره أن الوجوب لا يسقطه شيء من هذه الأعذار ع وهذا ضعيف والفج الطريق الواسعة، والعميق معناه البعيد. وقال الشاعر: [الطويل]
إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة ** يمد بها في السير أشعث شاحب

والمنافع في هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين ابن عباس وغيره، وقال أبو جعفر محمد بن علي: أراد الأجر و{منافع} الآخرة، وقال مجاهد بعموم الوجهين وقوله تعالى: {اسم الله}، يصح أن يريد بالاسم هاهنا المسمى بمعنى ويذكروا الله على تجوز في هذه العبارة إلا أن يقصد ذكر القلوب، ويحتمل أن يريد بالاسم التسميات وذكر الله تعالى إنما هو بذكر أسمائه ثم بذكر القلب السلطان والصفات، وهذا كله على أن يكون الذكر بمعنى حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام: «إنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى»، وذهب قوم إلى أن المراد ذكر اسم الله تعالى على النحو والذبح، وقالوا إن في ذكر الأيام دليلاً على أن الذبح في الليل لا يجوز، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي، وقال ابن عباس الأيام المعلومات هي أيام العشر ويوم النحر وأيام التشريق، وقال ابن سيرين: بل أيام العشر فقط، وقالت فرقة: أيام التشريق، ذكره القتبي، وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه: بل المعلومات يوم النحر ويومان بعده وأيام التشريق الثلاثة هي معدودات فيكون يوم النحر معلوماً لا معدوداً واليومان بعده معلومان معدودان والرابع معدود لا معلوم ع وحمل هؤلاء على هذا التفصيل أنهم أخذوا ذكر {اسم الله} هنا على الذبح للأضاحي والهدي وغيره، فاليوم الرابع لا يضحى فيه عند مالك وجماعة وأخذوا التعجل والتأخر بالنفر في الأيام المعدودات فتأمل هذا، يبين لك قصدهم، ويظهر أن تكون المعدودات والمعلومات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا بمعلوم وتكون فائدة قوله: {معلومات} و{معدودات} [البقرة: 184، آل عمران: 24] التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال: هي مخصوصات فلتغتنم. وقوله، {فكلوا} ندب، واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بأكثرها مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل، و{البائس} الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها، يقال: بأس الرجل يبؤس وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم تكن فقراً، ومنه قوله عليه السلام، «لكن البائس سعد بن خولة»، والمراد في هذه الآية أهل الحاجة.