فصل: تفسير الآيات (38- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (38- 40):

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}
روي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر فنزلت هذه الآية إلى قوله: {كفور}، ووكد فيها بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر، وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر {يدافع} {ولولا دفاع}، وقرأ أبو عمرو وابن كثير {يدفع} {ولولا دفع}، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {يدافع} {ولولا دفع} قال أبو علي أجريت {دافع} في هذه القراءة مجرى {دفع} كعاقبت اللص وطابقت النعل فجاء المصدر دفعاً، قال أبو الحسن والأخفش: أكثر الكلام أن الله {يدفع} ويقولون دافع الله عنك إلا أن دفع أكثر.
قال القاضي أبو محمد: فحسن في الآية {يدفع} لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء معارضته ودفعه مدافعة عنهم، وحكى الزهراوي أن دفاعاً مصدر دفع كحسبت حساباً، ثم أذن الله تعالى في قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار بقوله: {أذن} وصورة الإذن مختلفة بحسب القراءات فبعضها أقوى من بعض، فقرأ نافع وحفص عن عاصم {أُذن} بضم الألف {يقاتَلون} بفتح التاء، أي في أن يقاتلهم فالإذن في هذه القراءة ظاهر أنه في مجازات، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والحسن والزهري {أَذن} بفتح الألف {يقاتِلون} بكسر التاء، فالإذن في هذه القراءة في ابتداء القتال، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {أَذن} بفتح الألف {يقاتِلون} بكسر التاء، وقرأ ابن عامر بفتح الألف والتاء جميعاً، وهي في مصحف ابن مسعود {أذن للذين يقاتِلون في سبيل الله} بكسر التاء، وفي مصحف أبي {أُذن} بضم الهمزة {للذين قاتلوا} وكذلك قرأ طلحة والأعمش إلا أنهما فتحا همزة {أَذن} وقوله: {بأنهم ظلموا} معناه كان الإذن بسبب أنهم ظلموا، قال ابن جريج: وهذه الآية أول ما نقص الموادعة، قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقال أبو بكر الصديق لما سمعتها علمت أن سيكون قتال، وقال مجاهد الآية في مؤمنين بمكة أرادوا الهجرة إلى المدينة فمنعوا وما بعد هذا في الآية يرد هذا القول لأن هؤلاء منعوا الخروج لا أخرجوا، ثم وعد تعالى بالنصر في قوله: {وإن الله على نصرهم لقدير}، وقوله: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} يريد كل من نبت به مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوا بإذايتهم طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة، ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض تقرير الذنب وإلزامه، وقوله: {إلا أن يقولوا ربنا الله} استثناء منقطع ليس من الأول هذا قول سيبويه ولا يجوز عنده فيه البدل وجوزه أبو اسحاق، والأول أصوب، وقوله: {ولولا دفاع الله} الآية تقوية للأمر بالقتال وذكر الحجة بالمصلحة فيه وذكر أنه متقدم في الاسم وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال أذن في القتال فليقاتل المؤمنون ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة، هذا أصوب تأويلات الآية، ثم ما قيل بعد من مثل الدفاع تبع للجهاد، وقال مجاهد {ولولا دفاع الله} ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا، ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعد الولاة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المعنى ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم وهذا كله فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق بما تقدم من الآية، وقالت فرقة {ولولا دفاع الله} العذاب بدعاء الفضلاء ونحوه وهذا وما شاكله مفسد لمعنى الآية وذلك أن الآية تقتضي ولابد مدفوعاً من الناس ومدفوعاً عنه فتأمله، وقرأ نافع وابن كثير {لهدمت} مخففة الدال، وقرأ الباقون {لهدّمت} مشددة وهذ تحسن من حيث هي صوامع كثيرة ففي هدمها تكرار وكثرة كما قال: {بروج مشيدة} [النساء: 78] فثقل الياء وقال {قصر مشيد} [الحج: 45] فخفف لكونه فرداً {وغلقت الأبواب} [يوسف: 43] و{مفتحة لهم الأبواب} [ص: 50] والصومعة موضع العبادة وزنها فوعلة وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى، والأصمع، من الرجال الحديد القول وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين، قاله قتادة، ثم استعمل في مئذنة المسلمين والبيع كنائس النصارى واحدتها بيعة قال الطبري: وقيل هي كنائس اليهود ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك، والصلوات مشتركة لكل ملة واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد وموضع صلوات، وذهبت فرقة إلى أن الصلوات اسم لشنائع اليهود وأن اللفظة عبرانية عربت وليست بجميع صلاة، وقال أبو العالية الصلوات مساجد الصابئين، واختلفت القراءة فيها فقرأ جمهور الناس {صَلَوات} بفتح الصاد واللام وبالتاء بنقطتين وذلك إما بتقدير ومواضع صلوات وإما على أن تعطيل الصلاة هدمها، وقرأ جعفر بن محمد {صَلْوات} بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة بكسر الصاد وسكون اللام حكاها ابن جني، وقرأ الجحدري فيما روي عنه {وصُلُوات} بتاء بنقطتين من فوق وبضم الصاد واللام على وزن فعول قال وهي مساجد النصارى، وقرأ الجحدري والحجاج بن يوسف {وصُلُوب} بضم الصاد واللام والباء على أنه جمع صليب، وقرأ الضحاك والكلبي {وصُلُوث} بضم الصاد واللام وبالثاء منقوطة ثلاثاً قالوا وهي مساجد اليهود، وقرأت فرقة {صَلْوات} بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة {صُلُوات} بضم الصاد واللام حكاها ابن جني، وقرأت فرقة {صلوثا} بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء، وحكى ابن جني أن خارج باب الموصل بيوتاً يدفن فيها النصارى يقال لها {صلوات}، وقرأ عكرمة ومجاهد {صلويثا} بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء قال القاضي: وذهب خصيف إلى أن هذه الأسماء قصد بها متعبدات الأمم، والصوامع للرهبان ع وقيل للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود والمساجد للمسلمين والأظهر أنها قصد بها المبالغة بذكر المتعبدات وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة العرب، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر ولم يذكر في هذه المجوس ولا أهل الاشتراك لأن هؤلاء ليس لهم ما تجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع، وقوله: {يذكر فيها} الضمير عائد على جميع ما تقدم ثم وعد الله تعالى بنصره نصرة دينه وشرعه، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه ثم الآية تعم كل من نصر حقاً إلى يوم القيامة.

.تفسير الآيات (41- 44):

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)}
قالت فرقة: هذه الآية في الخلفاء الأربعة ومعنى هذا التخصيص أن هؤلاء خاصة مكنوا في الأرض من جملة الذين يقاتلون المذكورين في صدر الآية، والعموم في هذا كله أبين وبه يتجه الأمر في جميع الناس، وإنما الآية آخذة عهداً على كل من مكنه الله، كل على قدر ما مكن، فأما {الصلاة} و{الزكاة} فكل مأخوذ بإقامتها وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكل بحسب قوته والآية أمكن ما هي في الملوك، و{المعروف} و{المنكر} يعمان الإيمان والكفر دونهما، وقالت فرقة: نزلت هذه الاية في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة من الناس وهذا على أن {الذين} بدل من قوله: {يقاتلون} [الحج: 39] أو على أن {الذين} تابع ل {من} في قوله: {من ينصره} [الحج: 40]، وقوله: {ولله عاقبة الأمور} توعد للمخالف عن هذه الأوامر التي تقتضيها الآية لمن مكن، وقوله: {وإن يكذبوك} يعني قريشاً وهذه آية تسلية للنبي عليه السلام ووعيد قريش، وذلك أنه مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند فعلاً فيه علامة التأنيث إلى قوم من حيث أراد الأمة والقبيلة ليطرد القول في {عاد وثمود} و{قوم نوح} هم أول أمة كذبت نبيها ثم أسند التكذيب في موسى عليه السلام إلى من لم يسم من حيث لم يكذبه قومه بل كذبه القبط وقومه به مؤمنون، و{أمليت}، معناه فأمهلت وكأن الإمهال أن تمهل من تنوي فيه المعاقبة، وأنت في حين إمهالك عالم بفعله. والنكير، مصدر كالعذير بمعنى الإنكار والأعذار وهو في هذه المصادر بناء مبالغة فمعنى هذه الآية فكما فعلت بهذه الأمم كذلك أفعل بقومك.

.تفسير الآيات (45- 48):

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}
{كأين} هي كاف التشبيه دخلت على أي قال سيبويه وقد أوعبت القول في هذه اللفظة وقراءتها في سورة آل عمران في قوله: {وكأين من نبي قاتل} [آل عمران: 146]، وهي لفظة إخبار وقد تجيء استفهاماً، وحكى الفراء كأين ما لك، وقرأت فرقة {أهلكناها}، وقرأت فرقة {أهلكتها}، بالإفراد والمراد أهل القرية و{ظالمة} معناه بالكفر، و{خاوية}، معناه خالية ومنه خوى النجم اذا خلا من النور، ونحوه ساقطة {على عروشها}، والعرش السقوف والمعنى أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها فهي على العروش، {وبئر}، قيل هو معطوف على العروش وقيل على القرية وهو أصوب، وقرأت فرقة {وبيئر} بهمزة وسهلها الجمهور، وقرأت فرقة {مَعْطَلة} بفتح الميم وسكون العين وفتح الطاء وتخفيفها، والجمهور على {مُعَطّلة} بضم الميم وفتح العين وشد الطاء، والمشيد المبني بالشيد وهو الجص، وقيل المشيد المعلى بالآجر ونحو: فمن الشيد قول عدي بن زيد:
شاده مرمراً وجلله كلساً ** فللطير في ذراه وكور

شاد بنى، بالشيد والأظهر في البيت أنه أراد علاه بالمرمر، وقالت فرقة في هذه الآية إن {مشيد} معناه معلى محصناً، وجملة معنى الآية تقتضي أنه كان كذلك قبل خرابه ثم وبخهم على الغفلة وترك الاعتبار بقوله، {أفلم يسيروا في الأرض} أي في البلاد فينظروا في أحوال الأمم المكذبة المعذبة، وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالاً بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ، {فتكون}، نصب بالفاء في جواب الاستفهام صرف الفعل من الجزم إلى النصب، وقوله: {فإنها لا تعمى الأبصار}، لفظ مبالغة كأنه قال: ليس العمى عمى العين وإنما العمى حق العمى عمى القلب، ومعلوم أن الأبصار تعمى ولكن المقصد ما ذكرناه، وهذا كقوله عليه السلام، «ليس الشديد بالصرعة وليس المسكين بهذا الطواف» والضمير في {فإنها} للقصة ونحوها من التقدير وقوله: {التي في الصدور}، مبالغة كقوله: {يقولون بأفواههم} [آل عمران: 167] كما تقول: نظرت إليه بعيني ونحو هذا، والضمير في {يستعجلونك} لقريش، وقوله: {ولن يخلف الله وعده}، وعد ووعيد وإخبار بأن كل شيء إلى وقت محدود، والوعد هنا مقيد بالعذاب فلذلك، ورد في مكروه، وقوله: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة}، قالت فرقة: معناه {وإن يوماً} من أيام عذاب الله {كألف سنة} مما تعدون من هذه لطول العذاب وبؤسه، فكأن المعنى فما أجهل من يستعجل هذا وقالت فرقة معناه {وإن يوماً} عند الله لإحاطته فيه وعلمه وإنفاذه قدرته {كألف سنة} عندكم ع وهذا التأويل يقتضي أن عشرة آلاف سنة وإلى مالا نهاية له من العدد في حكم الألف ولكنهم قالوا ذكر الألف لأنه منتهى العدد كون تكرار فاقتصر عليه ع وهذا التأويل لا يناسب الآية، وقالت فرقة: أن المعنى أن اليوم عند الله كألف سنة من هذا العدد، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تؤخر أمتي نصف يوم»، وقوله «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم» ذلك خمسمائة سنة، ومنه قول ابن عباس: مقدار الحساب يوم القيامة ألف سنة فكأن المعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله وكرر قوله: {وكأين} لأنه جلب معنى آخر ذكر أولاً القرى المهلكة دون إملاء بل بعقب التكذيب ثم ثنى بالمهملة لئلا يفرح هؤلاء بتأخير العذاب عنهم، وقرأت فرقة {تعدون بالتاء}، وقرأت فرقة {يعدون} بالياء على الغائب.

.تفسير الآيات (49- 54):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)}
المعنى {قل} يا محمد {إنما أنا نذير} عذاب ليس إلي أن أعجل عذاباً ولا أن أؤخره عن وقته، ثم قسم حالة المؤمنين والكافرين بأن للمؤمنين سترة ذنوبهم ورزقه إياهم في الجنة، والكريم صفة نفي المذام، كما تقول ثوب كريم، وأن للكافرين المعاجزين عذاب {الجحيم} وهذا كله مما أمره أن يقوله، أي هذا معنى رسالتي لا ما تتمنون أنتم، وقوله: {سعوا} معناه تحيلوا وكادوا من السعاية، والآيات: القرآن، أو كادوه بالتكذيب وسائر أقوالهم، وقرأت فرقة، {معاجزين}، ومعناه مغالبين كأنهم طلبوا عجز صاحب الآيات والآيات تقتضي تعجيزهم فصارت مفاعله، وعبر بعض الناس في تفسير {معاجزين} بظانين أنهم يفلتون الله وهذا تفسير خارج عن اللفظة، وقرأت فرقة {معجّزين} بغير ألف وبشد الجيم ومعناه معجزين الناس أي جاعلوهم بالتثبيط عجزة عن الإيمان وقال أبو علي: {معجزين} ناسبين أصحاب النبي إلى العجز كما تقول فسّقت فلاناً وزنيته إذا نسبته إلى ذلك، وقوله: {وما أرسلنا} الآية تسليه للنبي عليه السلام عن النازلة التي ألقى الشيطان فيها في أُمنية النبي عليه السلام، و{تمنى} معناه المشهور أراد وأحب، وقالت فرقة هو معناها في الآية، والمراد أن الشيطان ألقى ألفاظه بسبب ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقاربة قومه وكونهم متبعين له قالوا: فلما تمنى رسول الله من ذلك ما لم يقضه الله وجد الشيطان السبيل، فحين قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم في مسجد مكة وقد حضر المسلمون والمشركون بلغ إلى قوله: {أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 20] القى الشيطان تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترجى قال الكفار هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد وفرحوا بذلك، فلما انتهى إلى السجدة سجد الناس أجمعون إلا أمية بن حلف فإنه أخذ قبضة من تراب ثم رفعها إلى جبهته وقال يكفيني هذا، قال البخاري: هو أمية بن خلف، وقال بعض الناس: هو الوليد بن المغيرة، وقال بعض الناس: هو أبو أحيحة سعيد بن العاصي ثم اتصل بمهاجرة الحبشة أن أهل مكة اتبعوا محمداً ففرحوا بذلك وأقبل بعضهم فوجد ألقية الشيطان قد نسخت وأهل مكة قد ارتبكوا وافتتنوا، وقالت فرقة {تمنى} معناه تلا والأمنية التلاوة ومنه قول الشاعر: [الطويل]
تمنى كتاب الله أول ليلة ** وآخرها لاقى حمام المقادر

ومنه قول الآخر: [الطويل]
***تمنى داود الزبور على رسل ** وتأولوا قوله تعالى {إلا أماني} أي إلا تلاوة، وقالت هذه الفرقة في معنى سبب {إلقاء الشيطان} في تلاوة النبي عليه السلام ما تقدم آنفاً من ذكر الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الحديث الذي فيه هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها ولم يدخله البخاري ولا مسلم ولا ذكره في علمي مصنف مشهور بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى ولا يعينون هذا السبب ولا غيره، ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو الألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء فالذي في التفاسير وهو مشهور القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بتلك الألفاظ وأن الشطيان أوهمه ووسوس في قلبه حتى خرجت تلك الألفاظ على لسانه، ورووا أنه نزل إليه جبريل بعد ذلك فدارسه سورة النجم فلما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له جبريل لم آتك بهذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «افتريت على الله وقلت ما لم يقل لي» وجعل يتفجع ويغتم فنزلت هذه الآية {وما أرسلنا من قبلك من رسول}، ع وحدثني أبي رضي الله عنه أنه لقي بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ وإنما الأمر أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 20] وصوب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التَبس الأمر على المشركين وقالوا محمد قرأها ع و{تمنى} على هذا التأويل بمعنى تلا ولا بد، وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي ع والرسول أخص من النبي وكثير من الأنبياء لم يرسلوا وكل رسول نبي، والنسخ في هذه الآية الإذهاب، كما تقول نسخت الشمس الظل وليس يرفع ما استقر من الحكم، ع وطرق الطبري وأشبع الإسناد في أن إلقاء الشيطان كان على لسان النبي عليه السلام واختلفت الروايات في الألفاظ ففي بعضها تلك الغرانقة، وفي بعضها تلك الغرانيق، وفي بعضها وإن شفاعتهن وفي بعضها منها الشفاعة ترتجى ع والغرانيق معناه السادة العظام الأقدار، ومنه قول الشاعر:
أهلا بصائدة الغرانق

وقوله: {ليجعل ما يلقي الشيطان} الآية، اللام في قوله: {ليجعل} متعلقة بقوله: {فينسخ الله} والفتنة الامتحان والاختبار، و{الذين في قلوبهم مرض} هم، عامة الكفار، والقاسية قلوبهم خواص منهم عتاة كأبي جهل والنضر وعقبة، والشقاق البعد عن الخير، والضلال والكون في شق الصلاح، و{بعيد}، معناه أنه انتهى بهم وتعمق فرجعتهم منه غير مرجوة، و{الذين أوتوا العلم} هم أصحاب محمد رسول الله عليه السلام، والضمير في {أنه} عائد على القرآن و{تخبت} معناه تتطامن وتخضع وهو مأخوذ من الخبث وهو المطمئن من الأرض، وقرأت فرقة {لهاد} بغير ياء بعد الدال، وقرأت فرقة: {لهادي} بياء، وقرأت فرقة {لهادٍ} بالتنوين وترك الإضافة وهذه الآية معادلة لقوله، قبل {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد}.