فصل: تفسير الآيات (55- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (55- 62):

{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)}
المرية: الشك، والضمير في قوله: {منه} قالت فرقة هو عائد على القرآن، وقالت فرقة: على محمد عليه السلام، وقالت فرقة: على ما {ألقى الشيطان} [الحج: 52]، وقال سعيد بن جبير أيضاً على سجود النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم، و{الساعة}، قالت فرقة: أراد يوم القيامة، واليوم العقيم، يوم بدر، وقالت فرقة: {الساعة}، موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ونحوه، واليوم العقيم، يوم القيامة، ع وهذان القولان جيدان لأنهما أحرزا التقسيم ب {أو} ومن جعل {الساعة} واليوم العقيم، يوم القيامة، فقد أفسد رتبة {أو}، وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقمياً لأنه لا ليلة بعده ولا يوم، والأيام كأنها نتائج لمجيء وأحد إثر واحد، فكأن أخر يوم قد عقم وهذه استعارة، وجملة هذه الآية توعد، وقوله: {الملك يومئذ لله}، السابق منه أنه في يوم القيامة من حيث لا ملك فيه لأحد من ملوك الدنيا، ويجوز أن يريد به يوم بدر ونحوه من حيث ينفذ فيه قضاء الله وحده ويبطل ما سواه ويمضي حكمه فيمن أراد تعذيبه، فأما من تأوله في يوم القيامة فاتسق له قوله: {فالذين آمنوا} إلى قوله: {مهين}، ومن تأوله في يوم بدر ونحوه جعل قوله: {فالذين آمنوا}، ابتداء خبر عن حالهم المتركبة على حالهم في ذلك اليوم العقيم من الإيمان والكفر. وقوله: {والذين هاجروا في سبيل الله} الآية ابتداء معنى آخر وذلك أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفة فنزلت هذه الآية مسوية بينهم في أن الله تعالى يرزق جميعهم {رزقاً حسناً} وليس هذا بقاض بتساويهم في الفضل، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل، وقال بعض الناس: المقتول والميت في سبيل الله شهيدان، ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله، والرزق الحسن، يحتمل أن يريد به رزق الشهداء عند ربهم في البرزخ ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة، وقرأت فرقة، {مُدخلاً}، بضم الميم من أدخل فهو محمول على الفعل المذكور، وقرأت فرقة {مَدخلاً} بفتح الميم من دخل فهو محمول على فعل مقدر تقديره فيدخلون مدخلاً، وأسند الطبري عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميراً على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفى فرأى ميل الناس على جنازة القتيل، فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اقرؤوا قول الله تعالى {والذين هاجروا في سبيل الله} الآية، إلى قوله: {حليم} وقوله تعالى: {ذلك}، إلى قوله: {الكبير} المعنى الأمر ذلك، ثم أخبر تعالى عمن عاقب من المؤمنين من ظلمه من الكفرة ووعد المبغي عليه بأنه ينصره وسمي الذنب في هذه الآية باسم العقوبة كما تسمى العقوبة كثيراً الذنب وهذا كله تجوز واتساع، وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في أشهر الحرم فأبى المؤمنون من قتالهم وأبى المشركون إلا القتال فلما اقتتلوا جد المؤمنون ونصرهم الله، فنزلت هذه الاية فيهم، وقوله: {ذلك بأن الله يولج الليل في النهار}، معناها نصر الله أولياءه ومن بغي عليه بأنه القادر على العظائم الذي لا تضاهى قدرته فأوجزت العبارة بأن أشار ب {ذلك} إلى النصر وعبر عن القدرة بتفصيلها فذكر منها مثلاً لا يدعى لغير الله تعالى، وجعل تقصير الليل وزيادة النهار وعكسهما إيلاجاً تجوزاً وتشبيهاً، وقوله: {ذلك بأن الله هو الحق} معناه نحو ما ذكرناه، وقرأت فرقة {وأن} بفتح الألف، وقرأت فرقة {وإن} بكسر الألف، وقرأت فرقة {تدعون} بالتاء من فوق، وقرأت فرقة {يدعون} والإشارة بما يدعى من دونه، قالت فرقة هي إلى الشيطان، وقالت فرقة هي إلى الأصنام والعموم هنا حسن.

.تفسير الآيات (63- 65):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)}
{ألم تر} تنبيه وبعده خبر {أن الله} تعالى {أنزل من السماء ماء} فظلت {الأرض} تخضرعنه، وقوله: {فتصبح الأرض} بمنزلة قوله فتضحي أو فتصير عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة، ورفع قوله: {فتصبحُ} من حيث الآية خبر والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جواباً لقوله: {ألم تر} فاسد المعنى، وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة ومعنى هذا أنه أخذ قوله: {فتصبح} مقصوداً به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار في سائر البلاد يتأخر.
قال القاضي أبو محمد: وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر بعد قحط وأصبحت تلك الأرض التي تسقيها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف دقيق، وقرأ الجمهور {مخضرة} و{اللطيف} المحكم للأمور برفق، واللام في {له ما في السماوات} لام الملك والمعنى الذي لا حاجة به إلى شيء هكذا هو على الإطلاق، وقوله: {سخر لكم ما في الأرض} يريد من الحيوان والمعادن وسائر المرافق، وقرأ الجمهور {والفلكَ} بالنصب، وذلك يحتمل وجهين من الإعراب أحدهما أن يكون عطفاً على {ما} بتقدير وسخر الفلك، والآخر أن يكون عطفاً على المكتوبة بتقدير وإن الفلك وقوله، {تجري} على الإعراب الأول. في موضع الحال، وعلى الإعراب الثاني في موضع الخبر. وقرأت فرقة {والفلكُ} بالرفع فتجري خبر على هذه القراءة. قوله: {بإذنه} يحتمل أن يريد يوم القيامة كأن طيّ السماء ونقض هذه الهيئة كوقوعها، ويحتمل أن يريد بذلك الوعيد لهم في أنه إن أذن في سقوط لكسفها عليهم سقطت، ويحتمل أن يعود قوله: {إلا بإذنه} على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه، فكأنه أراد إلا بإذنه فيه يمسكها، وباقي الاية بين.

.تفسير الآيات (66- 69):

{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)}
الإحياء والإماتة في هذه الآيات ثلاث مراتب وسقط منها الموت الأول الذي نص عليه في غيرها إلا أنه بالمعنى في هذه، والمنسك المصدر فهو بمعنى العبادة والشرعة، وهو أيضاً موضع النسك، وقرأت فرقة بفتح السين وفرقة بكسرها وقد تقدم القول فيه في هذه السورة، وقوله: {هم ناسكوه} يعطي أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقيل هم ناسكون فيه، وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، وقولهم للمؤمنين تأكلون ما ذبحتم فهو من قتلكم ولا تأكلون ما قتل الله من الميتة فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة، وقوله: {فلا ينازعنك} هذه البينة من الفعل والنهي تحتمل معنى التخويف، وتحتمل معنى احتقار الفاعل وأنه أقل من أَن يفاعل وهذا هو المعنى في هذه الآية، وقال أبو إسحاق: المعنى فلا تنازعهم فينازعوك ع وهذا التقدير الذي قدر إنما يحسن مع معنى التخويف، وإنما يحسن أن يقدر هنا فلا يد لهم بمنازعتك، فالنهي إنما يراد به معنى من غير اللفظ، كما يراد في قولهم لا أرينك هاهنا أي لا تكن ها هنا، وقرأت فرقة {فلا ينزعنَّك}، وقوله: {في الأمر} معناه على التأويل أَن المنسك الشرعة لا ينازعنك في الدين والكتاب ونحوه، وعلى أَن المنسك موضع الذبح على ما روت الفرقة المذكورة من أن الآية نزلت في الذبائح يكون الأمر الذبح، والهدى في هذه الآية الإرشاد، وقوله: {وإن جادلوك} الآية موادعة محضة نسختها آية السيف، وباقي الآية وعيد.

.تفسير الآيات (70- 72):

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}
لما أخبر تعالى في الآية قبلها أنه يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه أتبع ذلك الخير بأن عنده علم كل شيء ليقع الحكم في معلوم، فخرجت العبارة على طريق التنبيه على علم الله تعالى وإحاطته و{إن ذلك} كله {في كتاب} وهو اللوح المحفوظ وقوله: {إن ذلك على الله يسير}، يحتمل أَن تكون الإشارة إلى كون ذلك في كتاب وكونه معلوماً، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى الحكم في الاختلاف. ثم ذكر تعالى على جهة التوبيخ فعل الكفرة في أنهم {يعبدون} من الأصنام {من دون الله ما لم ينزل} الله فيه حجة ولا برهاناً. والسلطان، الحجة حيث وقع في القرآن، وقوله: {وما للظالمين من نصير}، توعد، والضمير في {عليهم} عائد على كفار قريش، والمعنى أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن من النبي عليه السلام أو من أحد من أصحابه وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم والدعاء إلى التوحيد عرفت المساءة في وجوههم والمنكر من معتقدهم وعداوتهم وأنهم يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتالي، والمعنى أنهم {يكادون يسطون} دهرهم أجمع، وأما في الشاذ من الأوقات فقد سطا بالتالين نحو ما فعل بعبد الله بن مسعود وبالنبي عليه السلام حين أغاثه، وحل الأمر أبو بكر، وبعمر حين أجاره العاصي بن وائل وأبي ذر وغير ذلك، والسطو إيقاع بمباطشة أو أمر بها، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع {أأنبئكم} أي أخبركم {بشر من ذلكم} والإشارة ب {ذلك} إلى السطو ثم ابتدأ ينبئ كأن قائلاً قال له وما هو قال: {النار} أي نار جهنم، وقوله: {وعدها الله الذين كفروا}، يحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعدهم بالنار فيكون الوعد في الشر ونحو ذلك لما نص عليه، ولم يجئ مطلقاً، ويحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعد النار بأن يطعمها الكفار فيكون الوعد على بابه إذ الذي يقتضيه تسرعها إلى الكفار وقولها هل من مزيد ونحوه أن ذلك من مسارها، و{المصير} مفعل من صار إذا تحول من حال إلى حال ع، ويقتضي كلام الطبري في هذه الآية أن الإشارة ب {بذلكم} هي إلى أصحاب محمد التالين ثم قال: ألا أخبركم بأكره إليكم من هؤلاء أنتم الذين وعدتم النار وأسند نحو هذا القول إلى قائل لم يسمه وهذا كله ضعيف.

.تفسير الآيات (73- 74):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}
الخطاب بقوله: {يا أيها الناس} قيل هو خطاب يعم العالم، وقيل هو خطاب للمؤمنين حينئذ الذين أراد الله تعالى أن يبين عندهم خطأ الكافرين ولا شك أن المخاطب هم ولكنه خطاب يعم جميع الناس.
متى نظره أحد في عبادة الأوثان توجه له الخطاب واختلف المتأولون في فاعل، {ضرب}، من هو فقالت فرقة: المعنى {ضرب} أهل الكفر مثلاً لله أصنامهم وأوثانهم فاستمعوا أنتم أيها الناس لأمر هذه الآلهة، وقالت فرقة: {ضرب} الله مثلاً لهذه الأصنام وهو كذا وكذا، فالمثال والمثل في القول الأول هي الأصنام والذي جعل له المثال الله تعالى، والمثال في التأويل الثاني هو في الذباب وأمره والذي جعل له هي الأصنام، ومعنى {ضرب} أثبت وألزم وهذا كقوله: {ضربت عليهم الذلة} [آل عمران: 112]، وكقولك ضربت الجزية، وضرب البعث، ويحتمل أن يكون ضرب المثل من الضريب الذي هو المثل ومن قولك هذا ضرب هذا فكأنه قال مثل مثل، وقرأت فرقة {يدعون} بالياء من تحت والضمير للكفار، وقرأت فرقة {يُدعون} بالياء على ما لم يسم فاعله والضمير للأصنام، وبدأ تعالى ينفي الخلق والاختراع عنهم من حيث هي صفة ثابتة له مختصة به، فكأنه قال ليس لهم صفتي ثم ثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز، وذكر تعالى أمر سلب الذباب لأنه كان كثيراً محسوساً عند العرب، وذلك أنهم كانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك وكانوا متألمين من هذه الجهة فجعلت مثلاً، والذباب جمعه أذبة في القليل وذبان في الكثير كغراب وأغربة وغربان ولا يقال ذبابات إلا في الديون لا في الحيوان، واختلف المتأولون في قوله تعالى، {ضعف الطالب والمطلوب}، فقالت فرقة أراد ب {الطالب} الأصنام وب {المطلوب} الذباب، أي أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة من الحيوان، وقالت فرقة معناه ضعف الكفار في طلبهم الصواب والفضيلة من جهة الأصنام، وضعف الأصنام في إعطاء ذلك وإنالته ع ويحتمل أن يريد {ضعف الطالب} وهو الذباب في استلابه ما على الأصنام وضعف الأصنام في أن لا منفعة لهم وعلى كل قول، فدل ضعف الذباب الذي هو محسوس مجمع عليه وضعف الأصنام عن هذا المجمع على ضعفه على أن الأصنام في أحط رتبة واخس منزلة، وقوله: {ما قدروا الله حق قدره}، خطاب للناس المذكورين، والضمير في {قدروا} للكفار والمعنى ماوفوه حقه من التعظيم والتوحيد ثم أخبر بقوة الله وعزته وهما صفتان مناقضتان لعجز الأصنام.

.تفسير الآيات (75- 77):

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)}
روي أن هذه الآية إلى قوله: {الأمور} نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة أأنزل عليه الذكر من بيننا الآية فأخبر {الله} تعالى أنه {يصطفي} أي يختار {من الملائكة رسلاً} إلى الأنبياء وغيرهم حسبما ورد في الأحاديث {ومن الناس} وهم الأنبياء المبعثون لإصلاح الخلق الذين اجتمعت لهم النبوءة والرسالة. وقوله: {ما بين أيديهم وما خلفهم} عبارة عن إحاطة بهم وحقيقتها ما قبلهم من الحوادث وما بعدهم، و{الأمور}، جمع أمر ليس يراد به المصدر ثم أمر الله تعالى المؤمنين بعبادته وخص الركوع والسجود بالذكر تشريفاً للصلاة، واختلف الناس هل في هذه الآية سجدة؟ ومذهب مالك أنه لا يسجد هنا، وقوله: {وافعلوا الخير}، ندب، فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع، وقوله: {لعلكم} ترجٍّ في حق المؤمنين كقوله: {لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44] والفلاح في هذه الآية نيل البغية وبلوغ الأمل.