فصل: تفسير الآيات (99- 102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (99- 102):

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)}
{حتى} في هذا الموضع حرف ابتداء ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف، والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنيّ به المقصود ذكره، والضمير في قوله: {أحدهم} للكفار، وقوله: {ارجعون} معناه إلى الحياة الدنيا، وجمع الضمير يتخرج على معنيين إما أن يخاطبه مخاطبة الجمع تعظيماً على نحو إخباره تعالى عن نفسه بنون الجماعة في غير موضع، وإما أن تكون استغاثة بربه اولاً ثم خاطب ملائكة العذاب بقوله: {ارجعون}، وقال الضحاك هي من المشرك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، لعائشة «إذا عاين المؤمن قالت الملائكة نرجعك فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدماً إلى الله وأما الكافر فيقول {ارجعون لعلي أعمل صالحاً}»، وقرأ الحسن والجمهور {لعلي} بسكون الياء، وقرأ طلحة بن مصرف {لعليَ} بفتح الياء، و{كلا} رد وزجر وهي من كلام الله تعالى، وقوله: {إنها كلمة هو قائلها} يحتمل ثلاثة معان: أحدهما الإخبار المؤكد بأن هذا الشيء يقع ويقول هذه الكلمة، والآخر أن يكون المعنى إنها كلمة لا تغني أكثر من أن يقولها ولا نفع له فيها ولا غوث، والثالث أن تكون إشارة إلى أنه لو رد لعاد فتكون آية ذم لهم، والضمير في {ورائهم} للكفار أي يأتي بعد موتهم حاجز من المدة والبرزخ، في كلام العرب الحاجز بين المسافتين، ثم يستعار لما عدا ذلك فهو هنا للمدة التي بين موت الإنسان وبين بعثه، هذا إجماع من المفسرين، وقرأ الجمهور {في الصور} وهو القرن، وقرأ ابن عباس {الصوَر} بفتح الواو جمع صورة، و{يوم} مضاف إلى {يبعثون} وقوله: {فى أنساب بينهم يومئذ} اختلف المتأولون في صفة ارتفاع الأنساب فقال ابن عباس وغيره: هذا في النفخة الأولى وذلك أن الناس بأجمعهم يموتون فلا يكون بينهم نسب في ذلك الوقت وهم أموات.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التأويل يزيل ما في الآية من ذكر هول الحشر، وقال ابن مسعود وغيره: إنما المعنى أنه عند النفخة الثانية وقيام الناس من القبور فهم حينئذ لهول المطلع واشتغال كل امرئ بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائل وزال انتفاع الأنساب فلذلك نفاها المعنى {فلا أنساب} وروي عن قتادة أنه قال: ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممن يعرف لأنه يخاف أن تكون له عنده مظلمة وفي وذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ويفرح كل أحد يومئذ أن يكون له حق على ابنه وأبيه، وقد ورد بهذا الحديث، وكذلك ارتفاع التساؤل والتعارف لهذه الوجوه التي ذكرناها ثم تأتي في القيامة مواطن يكون فيها السؤال والتعارف.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا التأويل حسن وهو مروي المعنى عن ابن عباس وثقل الموازين هو الحسنات، والثقل والخفة إنما يتعلق بأجرام يخترع الله فيها ذلك وهي فيما روي براءات.

.تفسير الآيات (103- 108):

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)}
جمع الموازين من حيث الموزون جمع وهي الأعمال ع ومعنى الوزن إقامة الحجة على الناس بالمحسوس على عادتهم وعرفهم، ووزن الكافر على أحد وجهين: إما أن يوضع كفره في كفه فلا يجد شيئاً يعادله في الكفة الأخرى، وإما أن توضع أعماله من صلة رحم ووجه بر في كفة الحسنات ثم يوضع كفره في الكفة الأخرى فتخف أعماله، ولفح النار إصابتها بالوهج والإحراق، وقرأ أبو حيوة {كلحون} بغير ألف والكلوح انكشاف الشفتين عن الاسنان، وهذا يعتري الإنسان عن المباطشة مع الغضب، ويعتري الرؤوس عند النار، وقد شبه عبد الله بن مسعود في هذه الآية مما يعتري رؤوس الكباش إذا شيطت بالنار فإنها تكلح ومعه كلوح الكلب والأسد ويستعار للزمن والخطوب. وقوله: {ألم تكن آياتي} قبله محذوف تقديره يقال لهم، والآيات هنا القرآن وأخبر عنهم تعالى أنهم إذا سمعوا هذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم وسلموا بقولهم {غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين} وقرأ الجمهور {شِقوتنا} بكسر الشين دون ألف بعد القاف وهي قراءة الحرميين، وقرأ الحمزة والكسائي {شَقاوتنا} بفتح الشين وألف بعد القاف وهي قراءة ابن مسعود، وخير عاصم في الوجهين وهما مصدران من شقي يشقى، ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم ذلوا لأن الإقرار بالذنب اعتذار وتنصل، فوقع جواب رغبتهم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله تعالى: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} وجاء {ولا تكلمون} بلفظ نهي وهم لا يستطيعون الكلام على ما روي فهذا مبالغة في المنع، ويقال إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا، وحكى الطبري حديثاً طويلاً في مقاولة تكون بين الكفار وبين مالك خازن النار، ثم بينهم وبين ربهم وآخرها هذه الكلمة {اخسؤوا فيها} قال فتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض.
قال الفقيه الإمام القاضي: واختصرت هذا الحديث لعدم صحته لكن معناه صحيح عافانا الله من ناره بمنه، وقوله: {اخسؤوا} زجر يستعمل في زجر الكلاب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد اخسأ فلن تعدو قدرك.

.تفسير الآيات (109- 111):

{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)}
قرأ هارون {أنه كان} بفتح الألف وهي قراءة أبي ابن كعب، وروي أن في مصحف أبي بن كعب {أن كان} وهذا كله متعاضد، وفي قراءة ابن مسعود {تكلمون كان فريق} بغير إنه وهذه تعضد كسر الألف من إنه لأنها استئناف، وهذه الهاء هي مبهمة ضمير للأمر، والكوفيون يسمونها المجهولة وهي عبارة فاسدة، وهذه الآية كلها مما يقال للكفار على جهة التوبيخ، والفريق المشار إليه كل مستضعف من المؤمنين يتفق أن تكون حاله مع كفار في مثل هذه الحال، ونزلت الآية في كفار قريش مع صهيب وبلال وعمار ونظرائهم ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديماً وبقية الدهر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي {سُخرياً} بضم السين، وقرأ الباقون {سِخرياً} بكسرها، فقالت طائفة هما بمعنى واحد وذكر ذلك الطبري، وقال ذلك أبو زيد الأنصاري إنهما بمعنى الهزء، وقال أبو عبيدة وغيره: إن ضم السين من السخرة والتخديم وكسر السين من السخر وهو الاستهزاء ومنه قول الأعشى: [البسيط]
إني أتاني حديث لا أسرُّ به ** من علو لا كذب ولا سخر

قال أبو علي قراءة كسر السين أوجه لأنه بمعنى الاستهزاء والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية ألا ترى إلى قوله: {وكنتم منهم تضحكون}..
قال القاضي أبو محمد: ألا ترى إلى إجماع القراء على ضم السين في قوله: {لتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} [الزخرف: 32] لما تخلص الأمر للتخديم، قال يونس إذا أريد التخديم فضم السين لا غير، وإذا أريد تخلص الاستهزاء فالضم والكسر، وقرأ أصحاب عبد الله والأعرج وابن أبي إسحاق كل ما في القرآن بضم السين، وقرأ الحسن وأبو عمرو كل ما في القرآن بالكسر إلا التي في الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس لأنها من التخديم، وأضاف الإنسان إلى الفريق من حيث كان بسببهم والمعنى أن اشتغالهم بالهزء بهؤلاء أنساهم ما ينفعهم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر {أنهم هم الفائزون} بفتح الألف، ف {جزيتهم} عامل في أن، ويجوز أن يعمل في مفعول محذوف ويكون التقدير لأنهم، وقرأ حمزة والكسائي وخارجة عن نافع {إنهم} بكسر الألف فالمفعول الثاني ل جزية مقدر تقديره الجنة أو الرضوان، و{الفائزون} المنتهون إلى غايتهم التي كانت أملهم، ومعنى الفوز النجاة من هلكة إلى نعمة.

.تفسير الآيات (112- 115):

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}
قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر {قال كم لبثتم} و{قل إن لبثتم}، وقرأ حمزة والكسائي فيهما {قل لكم لبثتم} و{قل إن لبثتم}، وروى البزي عن ابن كثير {قل كم} على الأمر {قال إن} على الخبر، وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي التاء، والباقون لا يدغمون. فمعنى الأول إخبار عن الله بوقفهم بالسؤال عن المدة ثم يعلمهم آخراً بلبثهم قليلاً، ومعنى الثانية الأمر لواحد منهم مشار إليه بمعنى يقال لأحدهم قل كذا فإذا غير القويم قيل له {قل إن لبثتم}، ومعنى رواية البزي التوقيف ثم الإخبار وفي المصاحف قال فيهما إلا في مصحف الكوفة فإن فيه {قل} بغير الألف، وقوله: {في الأرض} قال الطبري معناه في الدنيا أحياء وعن هذا وقع السؤال ونسوا لفرط هول العذاب حتى قالوا {يوماً أو بعض يوم}.
قال الفقيه الإمام القاضي: والغرض من هذا توقيفهم على أن أعمارهم قصيرة أداهم الكفر فيها إلى عذاب طويل، وقال جمهور المتأولين معناه في جوف التراب أمواتاً.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا هو الأصوب من حيث أنكروا البعث، وكان قوله إنهم لا يقومون من التراب قيل لهم لما قدموا {كم لبثتم}؟ وقوله آخراً {وأنكم إلينا لا ترجعون} يقتضي ما قلناه، و{عدد} نصب ب {كم} على التمييز، وقرأ الأعمش {عدداً سنين} بتنوين عدداً وقال مجاهد أرادوا ب {العادين} الملائكة، وقال قتادة أرادوا أهل الحساب.
قال الفقيه الإمام القاضي: وظاهر اللفظ أنهم أرادوا سل من يتصف بهذه الصفة، ولم يعينوا ملائكة ولا غيرها لأن النائم والميت لا يعد الحركة فيقدر له الزمن، وقوله: {إن لبثتم إلا قليلاً} مقصده على القول بأن اللبث في الدنيا، أي قليل القدر في جنب ما تعذبون، على القول بأن اللبث في القبور معناه أنه قليل إذ كل آت قريب ولكنكم كذبتم به إذ كنتم لا تعلمون إذ لم ترغبوا في العلم والهدى، و{عبثاً} معناه باطلاً لغير غاية مرادة، وقرأ الجمهور {تُرجعون} بضم التاء وفتح الجيم، وقرأ حمزة والكسائي {تَرجِعون} بفتح التاء وكسر الجيم والمعنى فيهما بين.

.تفسير الآيات (116- 118):

{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}
المعنى {فتعالى الله} عن مقالتهم في جهته من الصاحبة والولد ومن حسابهم أنهم لا يرجعون، أي تنزه الله عن تلك الأمور وتعالى عنها، وقرأ ابن محيصن {الكريمُ} برفع صفة للرب، ثم توعد جلت قدرته عبدة الأصنام بقوله: {ومن يدع مع الله} الآية والوعيد قوله: {فإنما حسابه عند ربه} والبرهان الحجة وظاهر الكلام أن {من} شرط وجوابه في قوله: {فإنما حسابه عند ربه} وقوله: {لا برهان له به} في موضع الصفة وذهب قوم إلى أن الجواب في قوله: {لا برهان} وهذا هروب من دليل الخطاب من أن يكون ثم داع له البرهان.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا تحفظ مما لا يلزم ويلحقه حذف الفاء من جواب الشرط وهو غير فصيح قال سيبويه، وفي حرف عبد الله عند ربك وفي حرف أبي عند الله وروي أن فيه على الله، ثم حتم وأكد أن الكافر لا يبلغ أمنيته ولا ينجح سعيه، وقرا الجمهور {إنه} بكسر الألف، وقرأ الحسن وقتادة {أنه} بفتحها، والمعنى أنه إذ لا يذكر و{لا يفلح} يؤخر حسابه وعذابه حتى يلقى ربه. وقرأ الحسن {يَفلَح} بفتح الياء واللام، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء في المغفرة والرحمة والذكر له تعالى بأنه {خير الراحمين} لأن كل راحم فمتصرف على إرادة الله وتوفيقه وتقديره لمقدار هذه الرحمة، ورحمته تعالى لا مشاركة لأحد فيها، وأيضاً فرحمة كل راحم في أشياء وبأشياء حقيرات بالإضافة إلى المعاني التي تقع فيها رحمة الله تعالى من الاستنقاذ من النار، وهيئة نعيم الجنة وعلى ما في الحديث فرحمة كل راحم بمجموعها كلها جزء من مائة رحمة الله جلت قدرته: إذ بث في العالم واحدة وأمسك عنده تسعة وتسعين، وقرأ ابن محيصن {ربُّ اغفر} بضم الباء.

.سورة النور:

.تفسير الآيات (1- 2):

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}
قوله: {سورة} قرأ الجمهور، {سورةٌ} بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر ومجاهد {سورةً} بالنصب، وروي ذلك أيضاً عن عمر بن عبد العزيز وعن أبي الدرداء، فوجه الرفع خبر ابتداء مضمر تقديره هذه سورة، أو ابتداء وخبره مقدم تقديره فيما يتلى عليكم، ويحتمل أن يكون قوله: {سورة} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة، فحسن الابتداء لذلك ويكون الخبر في قول: {الزانية} وفيما بعد ذلك، والمعنى السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم ولكن يلحق هذا القول: إن كون الابتداء هو الخبر ليس بالبين إلا أن نقدر الخبر في السورة بأسرها وهذا بعيد في القياس، وقول الشاعر فارس ما تركوه، ووجه النصب إضمار فعل قدره بعضهم اتلوا سورة أو نحوه، وجعله بعضهم أنزلنا {سورة أنزلناها}، وقال الفراء هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه، وقرأ جمهور الناس {وفرضناها} بتخفيف الراء، ومعناه الإثبات والإيجاب بأبلغ وجوهه إذ هو مشبه بالفرض في الأجرام، وقرأ مجاهد وغيره وأبو عمرو وابن كثير وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود {وفرّضناها} بشد الراء ومعناه جعلناها فرائض فرائض، فمن حيث تردد ذلك ضعّف الفعل للمبالغة والتكثير، وقرأ الأعمش {وفرضناها لكم}، وحكى الزهراوي عن بعض العلماء أنه قال كل ما السورة من أمر ونهي فرض لا حض بهذه اللفظة، والآيات البينات أمثالها ومواعظها وأحكامها، وقال الزهراوي المعنى ليس فيها مشكل تأويلها موافق لظاهرها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تحكم، وقوله: {لعلكم} أي على توقع البشر ورجائهم، وقرأ الجمهور الناس {الزانيةُ} بالرفع، وقرأ عيسى الثقفي {الزانيةَ} بالنصب وهو أوجه عن سيبويه لأنه عنده كقولك زيداً أضرب، ووجه الرفع عنده خبر ابتداء تقديره فيما يتلى عليكم {الزانية والزاني}، وأجمع الناس على الرفع، وإن كان القياس عند سيبويه النصب، وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه والخبر في قوله: {فاجلدوا} لأن المعنى {الزانية والزاني} مجلودان بحكم الله تعالى وهذا قول جيد وهو قول أكثر النحاة، وان شئت قدرت الخبر ينبغي أن يجلدا، وقرأ ابن مسعود {والزان} بغير ياء، وقدمت {الزانية} في اللفظ من حيث كان في ذلك الزمن زنى النساء أفشى وكان لأمراء العرب وبغايا الوقت رايات وكن مجاهرات بذلك وإذا العار بالنساء ألحق إذ موضعهن الحجبة والصيانة، فقدم ذكرهن تغليظاً واهتماماً، والألف واللام في قوله: {الزانية والزاني} للجنس وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة وهذه الآية باتفاق ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء، وجماعة العلماء على عموم هذه الآية وأن حكم المحصنين منسوخ منها، واختلفوا في الناسخ فقالت فرقة الناسخ السنة المتواترة في الرجم، وقالت فرقة بل القرآن الذي ارتفع لفظه وبقي حكمه وهو الذي قرأه عمر في المنبر بمحضر الصحابة: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وقال إنا قرأناه في كتاب الله، واتفق الجميع على أن لفظه رفع وبقي حكمه، وقال الحسن بن أبي الحسن وابن راهويه ليس في هذه الآية نسخ بل سنة الرجم جاءت بزيادة، فالمحصن، على رأي هذه الفرقة يجلد ثم يرجم، وهو قول علي بن أبي طالب وفعله بشراحة ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم «والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»، ويرد عليهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث يرجم ولم يجلد، وبه قال جمهور الأمة إذ فعله كقوله رفع الجلد عن المحصن وقال ابن سلام وغيره هذه الآية خاصة في البكرين.
قال الفقيه الإمام القاضي: لإنه لم يبق من هذا حكمه إلا البكران واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام»، وبقوله «على ابنك جلد مائة»، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج الإماء والعبيد وغيرهم منها، وقد تقدم بسط كثير من هذه المعاني في سورة النساء، والجلد يكون والمجلود قاعد، عند مالك ولا يجزئ عنده إلا في الظهر، وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف وهو قول علي بن أبي طالب ويفرق الضرب على كل الأعضاء، وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل، ويترجح قول مالك رحمه الله بقول النبي صلى الله عليه وسلم «البينة أو حد في ظهرك»، وقول عمر: أو لأوجعن مثناك، ويعرى الرجل عند مالك والنخعي وأبي عبيدة بن الجراح وابن مسعود وعمر بن عبدالعزيز والحسن والشعبي وغيرهم يرون أن يضرب على قميص وهو قول عثمان بن مسعود أيضاً، وأما المرأة فتستر قولاً واحداً، وقرأ الجمهور {رأْفة} همزة ساكنة على وزن فعلة، وقرأ ابن كثير {رأَفة} على وزن فعَله بفتح العين، وقرأ عاصم أيضاً {رآفة} على وزن فعالة كسآمة وكآبة، وهذه مصادر أشهرها الأولى من رأف إذا أرق ورحم، وقرأ الجمهور {تأخذكم} بالتاء من فوق، وقرأ أبو عبد الرحمن {يأخذكم} بالياء من تحت واختلف الناس في الرأفة المنهي عنها فيم هي فقال أبو مجلز ولاحق بن حميد ومجاهد وعكرمة وعطاء هي في إسقاط الحد أي أقيموه، ولابد وهذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما ومن رأيهم أن الضرب في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد، وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما الرأفة المنهي عنها في تخفيف الضرب عن الزناة، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الخمر والفرية، ويشتد ضرب الزنا، وقال سليمان بي يسار نهي عن الرأفة في الوجهين، وقال أبو مجلز إنا لنرجم المحدود ولكن لا نسقط الحد.
قال الفقيه الإمام القاضي: وقول النبي عليه السلام في السوط دون هذا، ضرب من الرأفة وقال عمر اضرب ولا تبدين إبطك، واتفق الناس على أن الضرب سوط بين سوطين، وقال الزهري ضرب الزنا والفرية مشدد لأَنهما بمعنى واحد وضرب الخمر مخفف، وقوله: {في دين الله} بمعنى في الإخلال بدين الله أَي بشرعه، ويحتمل أن يكون الدين هنا بمعنى الحكم، ثم قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله: {إن كنتم تؤمنون بالله} وهذا كما تقول لرجل تحضه إن كنت رجلاً فافعل كذا أي هذه أفعال الرجال وقوله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}، المقصد بالآية الإغلاظ على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس، فلا خلاف أن الطائفة كلما كثرت فهو أليق بامتثال الأمر، واختلف الناس في أَقل ما يجزئ فقال الحسن بن أبي الحسن لابد من حضور عشرة رأى أن هذا العدد عقد خارج عن الآحاد وهي أقل الكثرة.
وقال ابن زيد وغيره ولابد من حضور أربعة، ورأوا أن شهادة الزنا كذلك وأن هذا باب منه، وقال الزهري الطائفة ثلاثة فصاعداً، وقال عطاء وعكرمة لابد من اثنين وهذا مشهور قول مالك فرآها موضع شهادة، وقال مجاهد: يجزئ الواحد ويسمى طائفة إلى الألف، وقاله ابن عباس ونزعا بقوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} [التوبة: 122]، وقوله: {وإن طائفتان} [الحجرات: 9] ونزلت في تقاتل رجلين، واختلف العلماء في التغريب، وقد غرب الصديق إلى فدك وهو رأي عمر وعثمان وعلي وأبي ذر وابن مسعود وأَبي بن كعب ولكن عمر بعد نفى رجلاً فلحق بالروم فقال لا أنفي أحداً بعدها، وفيه عن مالك قولان، ولا يرى تغريب النساء والعبيد واحتج بقوله عليه السلام «لا تسافر المرأة مسيرة يوم إلا مع ذي محرم»، وممن أبى التغريب جملة أصحاب الرأي، وقال الشافعي ينفى البكر رجلاً كان أو امرأة ونفى علي امرأة إلى البصرة.