فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (3):

{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}
في هذه الآية أربعة أوجه من التأويل: أحدها أن يكون مقصد الآية تشنيع وتبشيع أمره وأنه محرم على المؤمنين واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ، ويريد بقوله: {لا ينكح} أي لا يطأ فيكون النكاح بمعنى الجماع وردد القصة مبالغة وآخذاً من كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشرك والمشركة من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنا، فالمعنى {الزاني} لا يطأ في وقت زناه {إلا زانية} من المسلمين أو من هي أخس منها من المشركات، وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء، وأنكر ذلك الزجاج وقال لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج، وليس كما قال، وفي القرآن {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230] وقد بينه النبي عليه السلام أنه بمعنى الوطء، وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة ولكن غير ملخص ولا مكمل. والثاني أن تكون الآية نزلت في قوم مخصوصين وهذا قول روي معناه عن عبدالله بن عمر وعن ابن عباس وأصحابه قالوا وهم قوم كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا، فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كان من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن فنزلت الآية بسببهن، والإشارة ب {الزاني} إلى أحد أولئك حمل عليه اسم الزنى الذي كان في الجاهلية، وقوله: {لا ينكح} أي لا يتزوج، وفي الآية على هذا التأويل معنى التفرغ عليهم وفي ذلك توبيخ كأنه يقول أي مصاب الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم، ويرد على هذا التأويل الإجماع على أن {الزانية} لا يجوز أن يتزوجها مشرك، ثم قوله: {وحرم ذلك على المؤمنين} أي نكاح أولئك البغايا، فيزعم أهل هذا التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله على أمة محمد عليه السلام ومن أشهرهن عناق البغي وكان الذي هم بتزويجها يلقب دولدل كان يستخرج ضعفة المسلمين من مكة سراً ففطنت له ودعته إلى نفسها فأبى الزنى وأراد التزويج، واستأذن في ذلك النبي عليه السلام، فنزلت الآية ولما دعته وأبى قالت له: أي تبور والله لأفضحنك، وذكر الطبري أن من البغايا المذكورات أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، ويقال فيها أم مهزم وأم غليظ جارية صفوان بن أمية، وحنة القبطية، جارية العاصي بن وائل، ومزنة جارية مالك بن عميلة بن سباق، وخلالة جارية سهيل بن عمرو، وأم سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي، وشريفة جارية زمعة بن الأسود، وفرسة جارية هشام بن ربيعة، وفرنتا جارية هلال بن أنس، وغيرهن ممن كانت لهن رايات تعرف منازلهن بها، وكذلك كان بالمدينة إماء عبد الله بن أَبي وغيره مشهورات، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال في سياق هذا التأويل كانت بيوت في الجاهلية تسمى المواخير، كانوا يؤجرون فيها فتياتهم وكانت بيوتاً معلومة للزنى، فحرم الله {ذلك على المؤمنين}، ويحتمل أَن يكون هذا الكلام في التأويل الذي ذكرته قبل هذا، وواحد المواخير ماخور ومنه قول بعض المحدثين في كل واد هبطن فيه دسكرة في كل نشز صعدن فيه ماخور.
والتأويل الثالث تأويل ذكره الزجاج وغيره عن الحسن وذلك أَنه قال المراد {الزاني} المحدود {والزانية} المحدودة قال وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أَن يتزوج إلا زانية محدودة، وروي أن محدوداً تزوج غير محدودة فرد علي بن أبي طالب نكاحهما، وقوله: {حرم ذلك} يريد الزنى، وحكى الزهراوي في هذا حديثاً من طريق أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» وهذا حديث لا يصح، وقول فيه نظر، وإدخال المشرك في الآية يرده، وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك، ورابع قول روي عن سعيد بن المسيب وذلك أنه قال: هذا حكم كان في الزنى عامة أن لا يتزوج زان إلا زانية جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] وروي ترتيب هذا النسخ أيضاً عن مجاهد، إلا أنه قال أن التحريم إنما كان في أولئك النفر خاصة لا في الزناة عامة، ذكر ذلك عنهما أبو عبيدة في ناسخه وذكر عن مجاهد أنه قال: حرم نكاح أولئك البغايا على أولئك النفر.
قال الفقيه الإمام القاضي: وذكر الإشتراك في الآية يضعف هذه المناحي، وقرأ أبو البرهسم {وحرم الله ذلك على المؤمنين}، واختلف فيمن زنا بأمرأة ثم أراد نكاحها فأجاز ذلك أبو بكر الصديق وابن عمر وجابر بن عبد الله وطاوس وابن الحسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة وابن عباس ومالك والثوري والشافعي ومنعه ابن مسعود والبراء بن عازب وعائشة وقالوا لا يزالان زانيين ما اجتمعا.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
هذه الآية نزلت في القاذفين، فقال سعيد بن جبير كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقيل نزلت بسبب القذفة عاماً لا في تلك النازلة، وذكر الله تعالى في الآية قذف النساء من حيث هواهم، ورميهن بالفاحشة أبشع وأنكى للنفوس، وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك وهذا نحو نصه تعالى على لحم الخنزير ودخول شحمه وغضاريفه ونحو ذلك بالمعنى وبالإجماع، وحكى الزهراوي أن في المعنى الأنفس {المحصنات} فهي بلفظها الرجال والنساء ويدل على ذلك قوله تعالى: {والمحصنات من النساء} [النساء: 24]، والجمهور على فتح الصاد من {المحصَنات}، وكسرها يحيى بن وثاب. و{المحصنات} العفائف في هذا الموضع لأن هذا هو الذي يجب به جلد القاذف، والعفة أعلى معاني الإحصان إذ في طيه الإسلام، وفي هذه النازلة الحرية ومنه قول حسان: حصان رزان، البيت، ومنه قوله تعالى: {والتي أحصنت فرجها} [الأنبياء: 91]، وذكر الله من صفات النساء المنافية للرمي بالزنا ولتخرج من ذلك من ثبت عليها الزنى وغير ذلك ممن لم تبلغ الوطء من النساء حسب الخلاف في ذلك وعبر عن القذف ب الرمي، من حيث معتاد الرمي أَنه مؤذ كالرمي بالحجر والسهم فلما كان قول القاذف مؤذياً جعل رمياً، وهذا كما قيل وجرح اللسان كجرح اليد، والقذف والرمي معنى واحد، وشدد الله تعالى على القاذف {بأربعة شهداء} رحمة بعباده وستراً لهم، وقرأ جمهور الناس {بأربعةِ شهداء} على إضافة الأربعة إلى الشهداء، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة وابن جريج {بأربعةٍ} بالتنوين و{شهداء} على هذا، إما بدل وإما صفة للأربعة وإما حال وإما تمييز وفي هذين نظر إذ الحال من نكرة والتمييز مجموع، وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر، وقد حسن أبو الفتح هذه القراءة ورجحها على قراءة الجمهور، وحكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة مبالغة كالمرود في المكحلة في موطن واحد فإن اضطراب منهم واحد جلد الثلاثة والقاذف كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمر المغيرة بن شعبة وذلك أَنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع، وقال الزهراوي عبدالله بن الحارث وزياد أخوهما لأم، وهو مستلحق معاوية وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة توقف زياد ولم يؤدها كاملة، فجلد عمر الثلاثة المذكورين، والجلد الضرب والمجالدة المضاربة في الجلود، أو بالجلود، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف وغيره ومنه قول قيس بن الخطيم: [الطويل]
أجالدهم يوم الحديقة حاسراً ** كأن يدي بالسيف مخراق لاعب

ونصب {ثمانينَ} على المصدر و{جلدةً} على التمييز، ثم أمر تعالى أن لا تقبل للقذفة المحدودين {شهادة أبداً} وهذا يقتضي مدة أَعمارهم، ثم حكم عليهم بأنهم {فاسقون} أي خارجون عن طاعة الله عز وجل، ثم استثنى عز وجل من تاب وأصلح بعد القذف فإِنه وعدهم بالرحمة والمغفرة، فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف: جلده، ورد شهادته أبداً، وفسقه، فالاستثناء، غير عامل في جلده بإجماع وعامل في فسقه بإجماع، واختلف الناس في عمله في رد الشهادة، فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن الثوري وأبو حنيفة لا يعمل الاستثناء في رد شهادته وإنما يزول فسقه عند الله تعالى، وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال، وقال جمهور الناس الاستثناء عامل في رد الشهادة فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، ثم اختلفوا في صورة فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره أن توبته لا تكون إلا بأَن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه، وهكذا فعل شبل بن معبد ونافع تابا عن القول في المغيرة وأكذبا أنفسهما فقبل عمر شهادتهما، وأَبى أبو بكرة من إكذاب نفسه فرد عمر شهادته حتى مات، وقال مالك رحمه الله وغيره توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب، واختلف فقهاء المالكيين متى تسقط شهادة القاذف، فقال ابن الماجشون بنفس قذفه، وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون لا تسقط حتى يجلد فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي شهادته في مدة الأَجل في الإثبات موقوفة، ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته. و{تابوا} معناه رجعوا وهذا ترجيح، وقد رجح الطبري وغيره قول مالك واختلف أيضاً على القول بجواز شهادته بعد التوبة في أي شيء تجوز شهادته، فقال مالك رحمه الله تجوز في كل شيء بإطلاق وكذلك كل من حد في شيء من الأَشياء، وقال سحنون رحمه الله من حد في شيء من الأَشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه، وقال مطرف وابن الماجشون من حد في قذف أو زنى فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى ولا في قذف ولا في لعان، وإن كان عدلاً، ورويا هذا القول عن مالك واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أَن شهادته لا تجوز في الزنا.

.تفسير الآيات (6- 10):

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}
لما نزلت الآية المتقدمة في {الذين يرمون} [النور: 4] تناول ظاهرها الأَزواج وغيرهن، فقال سعد بن عبادة يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني»، وفي الفاظ سعد روايات مختلفة هذا نحو معناها، ثم جاء بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك ابن سحماء البلوي، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف، فنزلت هذه الآية عند ذلك فجمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وتلاعنا فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت، وقيل إنها موجبة ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم ولجت، وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وولدت غلاماً كأنه جمل أورق ثم كان بعد ذلك الغلام أميراً بمصر وهو لا يعرف لنفسه أباً. ثم جاءه أيضاً عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن. والمشهور أن نازلة هلال قبل وأنها سبب الآية، وقيل نازلة عويمر قبل وهو الذي وسط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي، والأزواج في هذا الحكم يعم المسلمات والكافرات والإماء، فكلهن يلاعنهن الزوج للانتفاء من الحمل، وتختص الحرة بدفع حد القذف عن نفسه، وقرأ الجمهور {أربعَ شهادات} بالنصب وهو كانتصاب المصدر والعامل في ذلك قوله: {فشهادة} ورفع الشهادة على خبر ابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب، أو على الابتداء بتقدير فعليهم أن يشهدوا وبتقدير حذف الخبر وتقديره في آخر الآية كافية أو واجبة، وقوله: {بالله} من صلة {شهادات}، ويجوز أن يكون من صلة {فشهادة}، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {أربعُ} بالرفع وذلك على خبر قوله: {فشهادة} قال أبو حاتم لا وجه للرفع لأن الشهادة ليست ب {أربع شهادات} و{بالله} على هذه القراءة من صلة {شهادات}، ولا يجوز أن يكون من صلة شهادة لأنك كنت تفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو {أربع شهادات}، وقوله: {إنه لمن الكاذبين} في قول من نصب {أربعَ شهادات} يجوز أن تكون من صلة شهادة وهي جملة في موضع نصب، لأن الشهادة أوقعتها موقع المفعول به، ومن رفع {أربعُ شهادات} فقوله: {إنه لمن الكاذبين} من صلة {شهادات} لعلة الفصل المتقدمة في قوله: {بالله}، وقرأ حفص عن عاصم {والخامسةَ} بالنصب في الثانية، وقرأها بالنصب فيهما طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن والحسن والأعمش، وقرأ الجمهور فيهما {والخامسةُ} بالرفع، فأما من نصب فإن كان من قراءته نصب قوله: {أربعَ شهدات} فإنه عطف الخامسة على ذلك لأنها من الشهادات، وأن كان يقرأ {أربعُ} بالرفع، فإنه جعل نصب قوله، والخامسة على فعل يدل عليه متقدم الكلام تقديره وتشهد الخامسة، وأما من رفع قوله: {والخامسةُ} فإن كان يقرأ {أربعُ} بالرفع فقوله والخامسةُ عطف على ذلك، وإن كان يقرأ {أربعَ} بالنصب فإنه حمل قوله والخامسةُ على المعنى لأن معنى قوله شهادة أحدهم عليهم أربع شهادات والخامسة واستشهد أبو علي لهذا بحمل الشاعر: [الكامل]
ومشجج أما سواد قذاله

***البيت على قوله: إلا رواكد جمرهن هباء لأن المعنى ثم رواكد ولا خلاف في السبع في رفع قوله والخامسةُ في الأولى، وإنما خلاف السبع في الثانية فقط فنصبه حمل على قوله: {أن تشهد أربع} {والخامسة} على القطع والحمل على المعنى، وقرأ نافع وحده {أن لعنة} و{أنَّ غضب}، وقرأ الأعرج والحسن وقتادة وأبو رجاء وعيسى {أَن لعنة} و{أن غضب الله} وهذا على إضمار الأمر وهي المخففة كما هي في قول الشاعر: في فتية كسيوف الهند
البيت وقرأ باقي السبعة {أنّ لعنة الله} {وأنّ غضب الله} بتشديد النون فيهما ونصب اللعنة والغضب ورجح الأخفش القراءة بتثقيل النون لأن الخفيفة إنما يراد بها التثقيل ويضمر معها الأمر والشأن وما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى.
قال الفقيه الإمام القاضي: لاسيما وأن الخفيفة على قراءة نافع في قوله: {أن غضب} قد وليها الفعل، قال أبو علي وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلا أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله تعالى {علم أن سيكون} [المزمل: 20] وقوله: {أَفلا يرون ألا يرجع} [طه: 89] وأما قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39] فذلك لقلة تمكن ليس في الأفعال وأما قوله: {أن بورك من في النار} [النمل: 8] ف {بورك} على معنى الدعاء فلم يجز دخول الفاصل لئلا يفسد المعنى، والعذاب المدرأ في قول جمهور العلماء الحد وحكى الطبري عن آخرين أنه الحبس وهو قول أصحاب الرأي وأَنه لا حد عليها إن لم تلاعن وليس يوجبه عليها قول الزوج.
قال الفقيه الإمام القاضي: وظاهر حديث الموفقه في الخامسة حين تلكأت ثم مرت في لعانها أَنها كانت تحد لقول النبي عليه السلام لها فعذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة وجعلت اللعنة للرجل الكاذب لأنه مفتر مباهت بالقول فأبعد باللعنة وجعل الغضب الذي هو أشد على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول فهذا معنى هذه الألفاظ والله أَعلم.
قال الفقيه الإمام القاضي: ولابد أَن نذكر في تفسير هذه الآية ما يتعلق بها من مسائل اللعان إذ لا يستغنى عنها في معرفة حكمه وحيث يجب، أجمع مالك وأَصحابه على وجوب اللعان بادعاء رؤية زنى لا وطء من الزوج بعده، وكذلك مشهور المذهب، وقول مالك إن اللعان يحب بنفي حمل يدعى قبله استبراء، وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة: لا ينفى الولد بالاستبراء لأَن الحيض يأتي على الحمل، وقاله أشهب في كتاب ابن المواز، وقاله المغيرة، وقال لا ينفى الولد إلا بخمس سنين، واختلف المذهب في أن يقذف الرجل أو ينفي حملاً ولا يعلل ذلك لا برؤية ولا باستبراء، فجل رواة مالك لا يوجب لعاناً بل يحد الزوج، وقاله ابن القاسم وروي عنه أيضاً أنه قال يلاعن ولا يسأل عن شيء، واختلف بعد القول بالاسبتراء في قدر الاستبراء، فقال مالك والمغيرة في أحد قوليه يجزئ في ذلك حيضة. وقال أيضاً مالك لا ينفعه إلا ثلاث حيض، وأما موضع اللعان ففي المسجد وعند الحاكم والمستحب أن يكون في المسجد بحضرة الحاكم، وكذلك يستحب بعد العصر تغليظاً بالوقت وكل وقت مجز، ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا هو لدفع الحد وهي لدرء العذاب، وأن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأَنها لو أقرت لم يلزمها شيء، وقال ابن الماجشون لا حد على قاذف من لم يبلغ، قال اللخمي فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل، والمستحب من ألفاظ اللعان أَن يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه فيقول الزوج أشهد بالله لرأيت هذه المرأة تزني وإني في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة لعنة الله علي أن كنت من الكاذبين، وقال أصبغ لابد أَن يقول كالمرود في المكحلة، وقيل لا يلزمه ذلك وكذلك يقول أشهب لابد أن يقول بالله الذي لا إله إلا هو، وأَما في لعان نفي الحمل فقيل يقول الرجل ما هذا الولد مني ولزنت، وقال ابن القاسم في الموازنة، لا يقول وزنت من حيث يمكن أَن تغضب، وتقول المرأة أشهد بالله ما زنيت وأنه في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول غضب الله علي إن كان من الصادقين فإِن منع جهلهما من ترتيب هذه الأَلفاظ وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك، وحكى اللخمي عن محمد بن أَبي صفرة أَنه قال اللعان لا يرفع العصمة لقول عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها قال: فأحدث طلاقاً، ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة لا يحتاج معها إلى تفريق حاكم وابن أَبي صفرة هذا ليس بعيد يزاحم به الجمهور.
ومذهب الشافعي أن الفرقة حاصلة إثر لعان الزوج وحده، وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تفريق إلا بحكم السلطان بعد لعانهما، فإن مات أحدهما بعد تمام لعانهما وقبل حكم القاضي ورثه الآخر، ومذهب المدونة أن اللعان حكم تفريقه حكم الطلاق ويعطى لغير المدخول بها نفس الصداق، وفي مختصر ابن الجلاب لا شيء لها وهذا على أن تفريق اللعان فسخ، وقال ابن القصار تفريق اللعان عندنا فسخ وتحريم اللعان أبدي بإجماع فيما أحفظ من مذهب مالك رحمه الله، ومن فقهاء الكوفة وغيرهم من لا يراه متأبداً، وإن أكذب نفسه بعد اللعان لم ينتفع بذلك، وروي عن عبد العزيز بن أَبي سلمة أنه إن أكذب نفسه بعد اللعان كان خاطباً من الخطاب، وإن تقدمت المرأة في اللعان فقال ابن القاسم لا تعيد، وقال أشهب تعيد، والجواب في قوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} الآية محذوف تقديره لكشف الزناة بأيسر من هذا، ولأخذهم بعذاب من عنده، أو نحو هذا من المعاني التي أوجب تقديرها إبهام الجواب.