فصل: تفسير الآيات (71- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (71- 74):

{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)}
أكد بهذه الألفاظ أمر التوبة والمعنى {ومن تاب} فإنه قد تمسك بأمر وثيق وهكذا، كما تقول لمن تستحسن قوله في أمره لقد قلت يا فلان قولاً، فكذلك الآية معناها مدح المتاب كأنه قال فإنه يجد باباً للفرج والمغفرة عظيماً، ثم استمرت الآيات في وصف عباد الله المؤمنين بأن نفى عنهم شهادة الزور، و{يشهدون} في هذا الموضع ظاهر معناها يشاهدون ويحضرون، و{الزور} كل باطل زور وزخرف فأعظمه الشرك وبه فسر الضحاك وابن زيد، ومنه الغناء، وبه فسر مجاهد، ومنه الكذب، وبه فسر ابن جريج، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي المعنى لا يشهدون بالزور فهو من الشهادة لا من المشاهدة والزور الكذب.
قال الفقيه الإمام القاضي: والشاهد بالزور حاضره ومؤديه جرأة، فالمعنى الأول أعم لكن المعنى الثاني أغرق في المعاصي وأنكى، واللغو كل سقط من فعل أو قول يدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك، ويدخل في ذلك سفه المشركين وأذاهم للمؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر، و{كراماً} معناه معرضين مستحين يتجافون عن ذلك ويصبرون على الأذى فيه، وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع في مشيه وذهب فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «لقد أصبح ابن أم عبد كريماً»، وقرأ الأية.
قال الفقيه الإمام القاضي: وأما إذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغير، وحدود التغيير معروفة وقوله تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم} ذكروا بالقرآن آخرتهم ومعادهم وقوله: {لم يخروا عليها صماً وعمياناً} يحتمل تأويلين: أحدهما أن يكون المعنى لم يكن خرورهم بهذه الصفة بل يكون سجداً وبكياً، وهذا كما تقول لم يخرج زيد للحرب جزعاً أي إنما خرج جريئاً مقدماً. وكأن الذي يخر أصم وأعمى هو المنافق، أو الشاك، والتأويل الثاني ذهب إليه الطبري وهو أن يخروا صماً وعمياناً هي صفة للكافر وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك. وقرن ذلك بقوله قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وكان المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض وضل كان ذلك خروراً وهو السقوط على غير نظام ولا ترتيب وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجداً، ولكن أصله أنه على غير ترتيب، ثم مدح المؤمنين حال الدعاء إليه في أن يقر العيون بالأهل والذرية، وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر، وهو الأشهر لأن دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال أقر الله عينك وأسخن الله عين العدو، وقرة العين في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين لله تعالى قاله ابن عباس والحسن وحضرمي، وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة فكانت قرت عيونهم في إيمانهم أحبابهم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن {ذرياتنا}، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى {ذريتنا} بالإفراد.
وقوله تعالى: {للمتقين إماماً} قيل هو جمع، آم مثل قائم وقيام وقيل هو مفرد اسم جنس أي اجعلنا يأتم بنا المتقون، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقياً قدوة وهذا هو قصد الداعي، قال إبراهيم النخعي لم يطلبوا الرياسة بل أن يكونوا قدوة في الدين وهذا حسن أن يطلب ويسعى له.

.تفسير الآيات (75- 77):

{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}
قرأ أبي كعب {يجازون} بألف، و{الغرفة} من منازل الجنة وهي الغرفة فوق الغرف وهو اسم الجنة كما قال: [الهزج]
ولولا الحبة السمراء ** لم نحلل بواديكم

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {ويُلَقّون} بضم الياء وفتح اللام وشد القاف وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم وطلحة ومحمد اليماني ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم {ويلْقون} بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، واختلف عن عاصم وقوله: {حسنت مستقراً ومقاماً} معادل لقوله في جهنم {ساءت} وقوله: {قل ما يعبؤوا بكم} الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بذلك، و{ما} تحتمل النفي وتحتمل التقرير والكلام في نفسه يحتمل تأويلات أحدها أن تكون الآية إلى قوله: {لولا دعاؤكم} خطاباً لجميع الناس فكأنه قال لقريش منهم أي ما يبالي الله بكم ولا ينظر إليكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. وقال النقاش وغيره المعنى لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك فذلك هو عرف الناس المرعي فيهم، وقرأ ابن الزبير وغيره {فقد كذب الكافرون} وهذا يؤيد أن الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس، ثم يقول لقريش فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب والتكذيب الذي هو سبب العذاب لزاماً، والثاني أن يكون الخطاب بالآيتين لقريش خاصة أي {ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} الأصنام آلهة دونه فإن ذلك يوجب تعذيبكم، والثالثة وهو قول مجاهد أي ما يعبأ ربكم بكم لولا أن دعاكم إلى شرعه فوقع منكم الكفر والإعراض.
قال القاضي أبو محمد: والمصدر في هذا التأويل مضاف إلى المفعول وفي الأولين مضاف إلى الفاعل و{يعبأ} مشتق من العبء، وهو الثقل الذي يعبأ ويرتب كما يعبأ الجيش، وقرأ ابن الزبير {وقد كذبت الكافرون فسوف}، قال ابن جني قرأ ابن الزبير وابن عباس الخ... {فقد كذب الكافرون}، قال الزهراوي وهي قراءة ابن مسعود قال وهي على التفسير وأكثر الناس على أن اللزام المشار إليه في هذا الموضع هو يوم بدر وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود، والمعنى فسوف يكون جزاء التكذيب، وقالت فرقة هو تعوذ بعذاب الآخرة، وقال ابن مسعود اللزام التكذيب نفسه أي لا تعطون توبة ذكره الزهراوي، وقال ابن عباس أيضاً اللزام الموت وهذا نحو القول ببدر وإن أراد به متأول الموت المعتاد في الناس عرفاً فهو ضعيف، وقرأ جمهور الناس {لِزاماً} بكسر اللام من لوزم وأنشد أبو عبيدة لصخر الغي: [الوافر]
فإمّا ينجوا من حتف أرض ** فقد لقيا حتوفهما لزاما

وقرأ أبو السمال {لَزاماً} لفتح اللام من لزم والله المعين.

.سورة الشعراء:

.تفسير الآيات (1- 9):

{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)}
تقدم القول في الحروف التي في أوائل السور مستوعباً، و{تلك} رفع بالابتداء وهو وخبره ساد مسد الخبر عن {طسم} في بعض التأويلات، والإشارة ب {تلك} هي بحسب الخلاف في {طسم} وعلى بعض الأقوال تكون {تلك} إشارة إلى حاضر وذلك موجود في الكلام، كما أن هذه قد تكون الإشارة بها إلى غائب معهود كأنه حاضر، و{الكتاب المبين} القرآن، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {طِسم} بكسر الطاء، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر فتحها وبإدغام النون من سين في الميم، وقرأ حمزة وحده بإظهارها وهي قراءة أبي جعفر، ورويت عن نافع، وروى يعقوب عن أبي جعفر ونافع قطع كل حرف منها على حدة، قال أبو حاتم الاختيار فتح الطاء وإدغام آخر سين في أول ميم، فتصير الميم متعلقة، وقوله: {لعلك} الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم لما كان من القلق والحرص على إيمانهم فكان من شغل البال في حيز الخوف على نفسه، والباخع القاتل والمهلك بالهم قاله ابن عباس والناس ومن ذلك قول ذي الرمة [الطويل]
ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه ** لشيء نحته عن يديه المقادير

وخوطب ب {لعل} على ما في نفوس البشر من توقع الهلاك في مثل تلك الحال، ومعنى الآية أي لا تهتم يا محمد بهم وبلغ رسالتك وما عليك من إيمانهم فإن ذلك بيد الله. لو شاء لآمنوا، وقوله أن لا مفعول من أجله. وقوله تعالى: {إن شاء} شرط وما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار وإنما جعل الله تعالى آية الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ليهتدي من سبق في علمه هداه ويضل من سبق ضلاله وليكون للنظر تكسب به يتعلق الثواب والعقاب، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا أن لو كانت، وقرأ {تنَزّل} بفتح النون وشد الزاي أبو جعفر ونافع وشيبة والأعرج وعاصم والحسن، وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة بسكون النون وتخفيف الزاي، وروى هارون عن أبي عمرو {يشأ ينزل} بالياء فيهما والخضوع للآية المنزلة كان يترتب بأحد وجهين إما بخوف هلاك في مخالفة الأمر المقترن بها كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإما أن تكون من الوضوح وبهر العقول، بحيث يقع الإذعان لها وانقياد النفوس، وكل هذين لم يأت به نبي، ووجه ذلك ما ذكرناه، وهو توجيه منصوص للعلماء. وقرأ طلحة {فتظل أعناقهم} وهو المراد في قراءة الجمهور وجعل الماضي موضع المستقبل إشارة إلى تقوية وقوع الفعل، وقوله تعالى: {أعناقهم} يحتمل تأويلين أحدهما: وهو قول مجاهد وأبي زيد الأخفش، أي يريد جماعاتهم، يقال جاءني عنق من الناس أي جماعة، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
إن العراق وأهله ** عنق إليك فهيت هيتا

وعليه حمل قول أبي محجن:
واكتم السر فيه ضرب العنق

ولهذا قيل عتق رقبة ولم يقل عتق عنق فراراً من الاشتراك قاله الزهراوي، فعلى هذا التأويل ليس في قوله: {خاضعين} موضع قول، والتأويل الآخر أن يريد الأعناق الجارحة المعلمة وذلك أن خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد ومنه قول الشاعر: [الكامل]
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ** خضع الرقاب نواكس الأبصار

فعلى هذا التأويل يتكلم على قوله: {خاضعين} كيف جمعه جمع من يعقل، وذلك متخرج على نحوين من كلام العرب: أحدهما أن الإضافة إلى من يعقل أفادت حكم من يعقل كما تفيد الإضافة إلى المؤنث تأنيث علامة المذكر، ومنه قول الأعشى:
كما شرقت صدر القناة من الدم

وهذا كثير، والنحو الآخر أن الأعناق لما وصفت بفعل لا يكون إلا مقصوداً للبشر وهو الخضوع، إذ هو فعل يتبع أمراً في النفس، جمعها فيه جمع من يعقل وهذا نظير قوله تعالى: {أتينا طائعين} [فصلت: 11]. وقوله: {رأيتهم لي ساجدين} [يوسف: 4]. وقرأ ابن أبي عبلة {لها خاضعة} ثم عنف الكفار ونبه على سوء فعلهم بقوله: {وما يأتيهم} الآية، وقوله: {ومحدث} يريد محدث الإتيان، أي مجيء القرآن للبشر كان شيئاً بعد شيء. وقالت فرقة يحتمل أن يريد بـ الذكر محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى في آية أخرى: {قد أنزل الله إليكم ذكراً} [الطلاق: 10]. فيكون وصفه بالمحدث متمكناً.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أفصح.
وقوله تعالى: {فقد كذبوا فسيأتيهم}. الآية وعيد بعذاب الدنيا والآخرة. ويقوى أنه وعيد بعذاب الدنيا لأن ذلك قد نزل بهم كبدر وغيرها، ولما كان إعراضهم عن النظر في الصانع والإله من أعظم كفرهم وكانوا يجعلون الأصنام آلهة ويعرضون عن الذكر في ذلك، نبه على قدرة الله وأنه الخالق المنشئ الذي يستحق العبادة بقوله: {أو لم يروا إلى الأرض} الآية، والزوج النوع والصنف، والكريم الحسن المتقن قاله مجاهد وقتادة، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور والأغذية والنباتات، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن إنبات ومنه قوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} [نوح: 17]. قال الشعبي الناس من نبات الأرض فمن صار إلى الجنة فهو كريم ومن صار إلى النار فبضد ذلك وقوله تعالى: {وما كان أكثرهم مؤمنين}. حتم على أكثرهم بالكفر ثم توعد تعالى بقوله: {وإن ربك لهو العزيز الرحيم}. يريد عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة، وقال نحو هذا ابن جريج، وفي لفظة {الرحيم} وعد.

.تفسير الآيات (10- 19):

{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)}
التقدير واذكر {إذ نادى ربك موسى} وسوق هذه القصة تمثيل لكفار قريش لتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وقوله: {أن ائت} يجوز في {أن} أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب بمنزلة أي، ويجوز أن تكون غيرها وهي في موضع نصب بتقدير بأن ائت، وقوله: {ألا يتقون} معناه قل لهم فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى، وقرأ الجمهور {يتقون} بالياء من تحت، وقرأ عبد الله بن مسلم وحماد بن سلمة وأبو قلابة {تتقون} بالتاء من فوق على معنى قل لهم، ولعظيم نخوة فرعون وتألهه وطول مدته وما أشربت القلوب من مهابته قال عليه السلام {إني أخاف أن يكذبون}. وقرأ جمهور الناس {ويضيقُ} بالرفع و{ينطلقُ} كذلك، وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى ذلك بالنصب فيهما، فقراءة الرفع هي إخبار من موسى بوقوع ضيق صدره وعدم انطلاق لسانه، وبهذا رجح أبو علي هذه القراءة، وقراءة النصب تقتضي أن ذلك داخل تحت خوفه وهو عطف على {يكذبون}، وكان في خلق موسى عليه السلام حد وكان في لسانه حبسة بسبب الجمرة في طفولته، وحكى أبو عمرو عن الأعرج أنه قرأ بنصب {ويضيقَ} وبرفع {ينطلقُ} وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذا في وقت ضيق صدر ولم ينطلق اللسان، وقد قال موسى عليه السلام {واحلل عقدة من لساني} [طه: 27] فالراجح قراءة الرفع، وقوله تعالى: {فأرسل إلى هارون} معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول إذ باقيه دال عليه، ثم ذكر موسى خوفه القبط من أجل ذنبه، وهو قتله الرجل الذي وكزه، قاله قتادة ومجاهد والناس، فخشي أن يستقاد منه لذلك فقال الله عز وجل له {كلا} رداً لقوله: {إني أخاف} أي لا تخف ذلك فإني لم أحملك ما حملتك إلا وقد قضيت بنصرك وظهورك وأمر موسى وهارون بخطاب لموسى فقط، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع، ولكن قال لموسى {اذهبا} أي أنت وأخوك، والآيات تعم جميع ما بعثهما الله به وأعظم ذلك العصا بها وقع العجز، وبالآيتين تحدى موسى عليه السلام، ولا خلاف في أن موسى عليه السلام هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلها، وأن هارون كان نبياً رسولاً معيناً له وزيراً، وقوله: {إنا معكم} إما على أن يجعل الاثنين جماعة، وإما أن يريدهما، والمبعوث إليهم وبني إسرائيل، وقوله: {مستمعون} على نحو التعظيم والجبروت التي لله تعالى، وصيغة قوله: {مستمعون} تعطي اهتبالاً بالأمر ليس في صيغة قوله: {سامعون}، وإلا فليس يصف الله تعالى بطلب الاستماع، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى أو تكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع، وقوله تعالى: {إنا رسول رب العالمين} هو على أن العرب أجرت الرسول مجرى المصدر في أن وصفت به الجمع والواحد والمؤنث، ومن ذلك قول الهذلي:
ألكني إليها وخير الرسو ** ل أعلمهم بنواحي الخبر

ومنه قول الشاعر: وإن كان مولداً.
إن التي أبصرتها ** سحراً تكلمني رسول

وقوله: {أن أرسل معنا بني إسرائيل} معناه سرح، فهو من الإرسال الذي هو بمعنى الإطلاق، وكما تقول أرسلت الحجر من يدي، وكان موسى مبعوثاً إلى فرعون في أمرين: أحدهما أن يرسل بني إسرائيل ويزيل عنهم ذل العبودية والغلبة، والثاني أن يؤمن ويهتدي وأمر بمكافحته ومقاومته في الأول، ولم يؤمر بذلك في الثاني على ما بلغ من أمره، وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل فقط، هذا قول بعض العلماء، وقول فرعون لموسى {ألم نُربّك} هو على جهة المن عليه والاحتقار، أي ربيناك صغيراً ولم نقتلك في جملة من قتلنا، {ولبثت فينا سنين}، فمتى كان هذا الذي تدعيه، وقرأ جمهور القراء {من عمُرك} بضم الميم، وقرأ أبو عمرو {عمْرك} بسكونها، ثم قرره على قتل القبطي بقوله: {وفعلت فعلتك} والفَعلة بفتح الفاء المرة من الفعل، وقرأ الشعبي {فِعلتك} بكسر الفاء وهي هيئة الفعل، وقوله: {وأنت من الكافرين}، يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أن يريد وقتلت القبطي {وأنت} في قتلك إياه {من الكافرين} إذ هو نفس لا يحل قتله قاله الضحاك، أو يريد {وأنت من الكافرين} بنعمتي في قتلك إياه قاله ابن زيد، وهذان بمعنى واحد في حق لفظ الكفر، وإنما اختلفا باشتراك لفظ الكفر والثاني أن يكون بمعنى الهزء على هذا الدين فأنت من الكافرين بزعمك قاله السدي، والثالث هو قول الحسن أن يريد {وأنت من الكافرين} الآن يعني فرعون بالعقيدة التي كان يبثها فيكون الكلام مقطوعاً من قوله: {وفعلت فعلتك} وإنما هو إخبار مبتدأ كان من الكافرين وهذا الثاني أيضاً يحتمل أن يريد به كفر النعمة.
قال القاضي أبو محمد: وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبياً إلى فرعون إحدى عشر سنة غير أشهر.