فصل: تفسير الآيات (15- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (15- 17):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)}
هذا ابتداء قصص في غيوب وعبر وليس بمثال لقريش، و{داود} من بني إسرائيل وكان ملكاً {وورث سليمان} ملكه ومنزلته من النبوءة بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثاً تجوزاً، وهذا نحن قولهم العلماء ورثة الأنبياء، وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا تورث أموالهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة»، ويحتمل قوله عليه السلام «إنا معشر الأنبياء لا نورث» أن يريد به أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وإن كان فيهم من ورث ماله كزكرياء على أشهر الأقوال فيه، وهذا كما تقول: إنا معشر المسلمين إنما شغلنا العبادة، فالمراد أن ذلك فيه فعل الأكثر، ومنه ما حكى سيبويه أنا معشر العرب أقرى الناس لضيف. وقوله: {علمنا منطق الطير} إخبار بنعمة الله عندهما في أن فهمهما من أصوات الطير المعاني التي نفوسها، وهذا نحو ما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يسمع أصوات الحجارة بالسلام وسليمان عليه السلام حكى عن البلبل أنه قال: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء إلى كثير من هذا النوع وقال قتادة والشعبي وغيره: إنما كان هذا الأمر في الطير خاصة والنملة طائر قد يوجد له الأجنحة، قال الشعبي: وكذلك كانت هذه القائلة ذات جناحين، وقالت فرقة: بل كان في جميع الحيوان وإنما ذكر الطير لأنه كان جنداً من جنود سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص لكثرة مداخلته ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد أمْر الطير، والنمل حيوان فطن قويّ شمام جداً يدخر القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت ويشق الكزبرة بأربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت شقين ويأكل في عامه نصف ما جمع، ويستبقي سائره عُدَّه، وقوله: {وأوتينا من كل شيء} معناه يصلح لنا ونتمناه وليست على العموم، ثم ردد شكر فضل الله تعالى، ثم قص تعالى حال سليمان فقال: {وحشر لسليمان} أيْ جمع واختلف الناس في مقدار جند سلمان عليه السلام اختلافاً شديداً لم أر ذكره لعدم صحة التحديد، غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيماً ملأ الأرض وانقادت له المعمورة وكان كرسيه يحمل أجناده من الإنس والجن، وكانت الطير تظله من الشمس ويبعثها في الأمور، وكان له في الكرسي الأعظم موضع يخصه، و{يوزعون} معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويُكَفُّون، وقال قتادة فكان لكل صنف وزعة في رتبهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها فرب وقت كان يسير فيه في الأرض، ومنه قول الحسن الصبري حين ولي قضاء البصرة: لابد للحاكم من وزعة، ومنه قول أبي قحافة حين وصفت له الجارية في يوم الفتح أنها ترى سواداً أمامه فارس قد نهد من الصف فقال لها: ذلك الوازع، ومنه قول الشاعر [النابغة الذبياني]: [الطويل]
على حين عاتبت المشيب على الصبا ** وقلت ألمّا أصح والشيب وازع

أي كافٍ.

.تفسير الآيات (18- 19):

{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}
ظاهر هذه الآية أن سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض، وبذلك يتفق حطم النمل، ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح وأحست النمل بنزولهم في {واد النمل}، وأمال أبو عمرو الواو من {واد}، والجميع فخم، وبالإمالة قرأ ابن إسحاق، وقرأ المعتمر بن سليمان عن أبيه {النمُل} بضم الميم كالسمر، و{قالت نَمُلة} بالضم كسمرة، وروي عنه ضم النون والميم من {النُّمُل}، وقال نوف البكالي: كانت تلك النملة على قدر الذئاب وقالت فرقة: بل كانت صغاراً.
قال القاضي أبو محمد: والذي يقال في هذا أن النمل كانت نسبتها من ذلك الخلق نسبة هذا النمل منا فيحتمل أن كان الخلق كله أكمل، وهذه النملة قالت هذا المعنى الذي لا يصلح له إلا هذه العبارة قولاً فهمه عنها النمل، فسمعها سليمان على بعده، وجاءت المخاطبة كمن يعقل، لأنها أمرتهم بما يؤمر به من يعقل، وروي أنه كان على ثلاثة أميال {فتبسم} من قولها، والتبسم ضحك الأنبياء في غالب أمرهم لا يليق بهم سواه، وكان تبسمه سروراً، واختلف بما كان، فقالت فرقة بنعمة الله في إسماعه وإفهامه ونحو ذلك، وقالت فرقة بثناء النملة عليه وعلى جنوده في أن نفت عنهم تعمد القبيح من الفعل فجعلت الحطم {وهم لا يشعرون}، وقرأ شهر بن حوشب {مسْكنكم} بسكون السين على الإفراد، وفي مصحف أبي {مساكنكن}، و{ضاحكاً} نصب على الحال، وقرأ محمد بن السميفع {ضحكاً} وهو نصب على المصدر إما بـ تبسم على مذهب المبرد إذ هو في معنى ضحك، وإما بتقدير ضحك على مذهب سيبويه، وقرأ جمهور القراء {لا يحْطمنّكم} بشد النون وسكون الحاء، وقرأ أبو عمرو وفي رواية عبيد {لا يحطمنْكم} بسكون النون وهي قراءة ابن أبي إسحاق، وقرأ الحسن وأبو رجاء {لا يُحَطِّمنّكم} بضم الياء وفتح الحاء وكسر الطاء وشدها وشد النون وعنه أيضاً {يَحِطِّمنكم} بفتح الياء وكسر الحاء والطاء وشدها، وقرأ الأعمش وطلحة {لا يحطمكم} مخففة بغير نون، وفي مصحف أبي بن كعب {لا يحطمنكن} مخففة النون التي قبل الكاف، ثم دعا سليمان إلى ربه في أن يعينه الله تعالى ويفرغه إلى شكر نعمته وهذا هو معنى إيزاع الشكر، وباقي الآية بين.

.تفسير الآيات (20- 23):

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}
اختلف الناس في معنى {تفقده الطير}، فقالت فرقة ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والتهمم بكل جزء منها.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أنه تفقد جميع الطير، وقالت فرقة: بل {تفقد الطير} لأن الشمس دخلت من موضع {الهدهد} حين غاب، فكان ذلك سبب تفقد الطير ليبين من أين دخلت الشمس، وقال عبد الله بن سلام إنما طلب {الهدهد} لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كَم هو من وجه الأرض، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن {الهدهد} كان يرى باطن الأرض وظاهرها كانت تشف له وكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ شاة قاله ابن عباس فيما روي عن أبي سلام وغيره، وقال في كتاب النقاش كان {الهدهد} مهندساً، وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يقول هذا فقال له: قف يا وقاف كيف يرى {الهدهد} باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه. فقال له ابن عباس رضي الله عنه: إذا جاء القدر عمي البصر. وقال وهب بن منبه: كانت الطير تنتاب سليمان كل يوم من كل نوع واحد نوبة معهودة ففقد {الهدهد}، وقوله: {ما لي لا أرى} إنما مقصد الكلام {الهدهد} غاب لكنه أخذ اللام عن مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله: {ما لي}، ناب مناب الألف التي تحتاجها أم، ثم توعده عليه السلام بالعذاب، وروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن تنتف، قال ابن جريج: ريشه أجمع، وقال يزيد بن رومان: جناحاه، وروي ابن وهب أنه بأن تنتف أجمع وتبقى بضعة تنزو، والسلطان الحجة حيث وقع في القرآن، قاله عكرمة عن ابن عباس، وقرأ ابن كثير وحده {ليأتينني} بنونين، وفعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظاً عن العاصين وعقاباً على إخلاله بنوبته ورتبته، وقرأ جمهور القراء، {فمكُث} بضم الكاف، وقرأ عاصم وحده {فمكَث} بفتحها، ومعناه في القراءتين أقام، والفتح في الكاف أحسن لأنها لغة القرآن في قوله: {ماكثين} [الكهف: 3] إذ هو من مكَث بفتح الكاف، ولو كان من مكُث بضم الكاف لكان جمع مكيث، والضمير في مكث يحتمل أن يكون لسليمان أو ل {الهدهد}، وفي قراءة ابن مسعود {فتمكث ثم جاء فقال} وفي قراءة أبي بن كعب {فتمكث} ثم قال: {أحطت} وقوله: {غير بعيد} كما في مصاحف الجمهور يريد به في الزمن والمدة، وقوله: {أحطت} أي علمت علماً تاماً ليس في علمك، واختلف القراء في {سبأ}، فقرأ جمهور القراء {سبأ} بالصرف.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {سبأ} بفتح الهمزة وترك الصرف، وقرأ الأعمش {من سبإ} بالكسر وترك الصرف وروى ابن حبيب عن اليزيدي {سبا} بألف ساكنة، وقرأ قنبل عن النبال بسكون الهمزة، فالأولى على أنه اسم رجل وعليه قول الشاعر: [البسيط]
الواردون وتيم في ذرى سبإ ** قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس

وقال الآخر: من سبأ الحاضرين مآرب، وهذا على أنها قبيلة والثانية على أنها بلدة، قاله الحسن وقتادة، وكلا القولين قد قيل، ولكن روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث فروة بن مسيك وغيره أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة، وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشوى، والثالثة على البناء والرابعة والخامسة لتوالي الحركات السبع فسكن تخفيفاً للتثقيل في توالي الحركات، وهذه القراءة لا تبنى على الأولى بل هي إما على الثانية أو الثالثة، وقرأت فرقة {بنبأ} وقرأت فرقة دون تنوين على الإضافة، وقرأت فرقة {بنبا} بالألف مقصورة وقوله: {وأوتيت من كل شيء} مبالغة أي مما تحتاج المملكة قال الحسن: من كل أمر الدنيا، ووصف عرشها بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان، وروي عن نافع الوقف على {عرش} ف {عظيم} على هذا يتعلق بما بعده، وهذه المرأة هي بلقيس بنت شراحيل فيما قال بعضهم، وقيل بنت الفشرح، وقيل كانت أمها جنية، وأكثر بعض الناس في قصصها بما رأيت اختصاره لعدم صحته وإنما اللازم من الآية أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وكانت كافرة من قوم كفار.

.تفسير الآيات (24- 28):

{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)}
كانت هذه الأمة أمة تعبد الشمس لأنهم كانوا زنادقة فيما روي، وقيل كانوا مجوساً يعبدون الأنوار، وقوله: {ألا يسجدوا} إلى قوله: {العظيم} ظاهره أنه من قول الهدهد، وهو قول ابن زيد وابن إسحاق ويعترض بأنه غير مخاطب، فكيف يتكلم في معنى شرع، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى اعتراضاً بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل، وقراءة التشديد في {ألاَّ} تعطي أن الكلام للهدهد، وقراءة التخفيف تمنعه وتقوي الآخر حسبما يتأمل إن شاء الله، وقرأ جمهور القراء {ألا يسجدوا} ف أن في موضع نصب على البدل من {أعمالهم} وفي موضع خفض على البدل من {السبيل} أو يكون التقدير لأن لا يسجدوا فـ أن متعلقة إما بـ زين وإما بـ صدهم، واللام الداخلة على أن داخلة على مفعول له، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر والزهري وأبو عبد الرحمن والحسن والكسائي وحميد: {ألا} على جهة الاستفتاح ووقف الكسائي من هذه الفرقة على يا، ثم يبتدئ اسجدوا، واحتج الكسائي لقراءته هذه بأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه موضع سجدة.
قال القاضي أبو محمد: وهذه القراءة مقدر فيها النداء والمنادى محذوف تقديره إن جعلناه اعتراضاً يا هؤلاء ويجيء موضع سجدة، وإن جعلناه من كلام الهدهد يا قوم أو يا عقلاء ونحو هذا ومنه قول الشاعر:
ألا يا سلمي يا دار ميَّ على البلا

إلخ البيت، ونحو قول الآخر وهو الأخطل: [الطويل]
ألا يا أسلمي يا هند هند بني بدر ** وإن كان حيانا عدًى آخر الدهر

ومنه قول الآخر:
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطة ** فقلت سمعنا فاسمعي واصمتي

ويحتمل قراءة من شدد: {ألاَّ} أن يجعلها بمعنى التخصيص، ويقدر هذا النداء بعدها ويجيء في الكلام إضمار كثير ولكنه متوجه، وسقطت الألف كما كتبت في يا عيسى ويا قوم، وقرأ الأعمش {هل لا يسجدون}، وفي حرف عبد الله بن معسود {ألا هل تسجدون} بالتاء، وفي قراءة أبيّ: {ألا هل تسجدوا} بالتاء أيضاً، و{الخبء} الخفي من الأمور وهو من خبأت الشيء، وخبء السماء مطرها، وخبء الأرض كنوزها ونباتها، واللفظة بعد هذا تعم كل خفيّ من الأمور وبه فسر ابن عباس، وقرأ جمهور الناس {الخبْء} بسكون الباء والهمز، وقرأ أبي بن كعب {الخبَ}، بفتح الباء وترك الهمز، وقرأ عكرمة {الخبا} بألف مقصورة، وحكى سيبويه أن بعض العرب يقلب الهمزة إذا كانت في مثل هذا مفتوحة وقبلها ساكن يقلبها ألفاً، وإذا كانت مضمومة وقبلها ساكن قلبها واواً، وإذا كانت مكسورة قلبها ياء ومثل سيبويه ذلك بالوثا والوثو والوثي، وكذلك يجيء {الخبء} في حال النصب وتقول اطلعت على الخبي وراقني الخبو وقرأ جمهور القراء {يخفون} و{يعلنون} بياء الغائب.
قال القاضي أبو محمد: وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد، وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص {تخفون وما تعلنون} بتاء الخطاب، وهذه القراءة تعطي أن الآية من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف أبي بن كعب {ألا يسجدوا والله الذي يخرج الخبء من السماوات والأرض ويعلم سركم وما تعلنون}، وخصص {العرش} بالذكر في قوله: {رب العرش العظيم} لأنه أعظم المخلوقات، وما عداه في ضمنه وقبضته، ثم إن سليمان عليه السلام أخَّر أمر الهدهد إلى إن يبين له حقه من باطله فسوفه بالنظر في ذلك وأمر بكتاب فكتب وحمله إياه وأمره بإلقائه إلى القوم والتولي بعد ذلك، وقال وهب بن منبه أمره بالتولي حسن أدب، ليتنحى حسبما يتأدب به مع الملوك بمعنى وكن قريباً حتى ترى مراجعاتهم، وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه أي ألقه وارجع، قال وقوله: {فانظر ماذا يرجعون} في معنى التقديم على قوله: {ثم تول}.
قال القاضي أبو محمد: واتساق رتبه الكلام أظهر أي ألقه ثم تول وفي خلال ذلك {فانظر} وإنما أراد أن يكل الأمر إلى علم ما في الكتاب دون أن تكون للرسول ملازمة ولا إلحاح.
وقرأ نافع {فألقِه} بكسر الهاء، وفرقة {فألقهُ} بضمها، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي بإشباع ياء بعد الكسرة في الهاء، وروى عنه ورش بياء بعد الهاء في الوصل، وقرأ قوم بإشباع واو بعد الضمة، وقرأ البزي عن أبي عمرو وعاصم وحمزة {فألقهْ} بسكون الهاء، وروي عن وهب بن منبه في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدرات فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عن طلوعها لمعنى عبادتها إياها فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي فيما يروى نائمة، فلما انتبهت وجدته فراعها وظنت أنه قد دخل عليها أحد ثم قامت فوجدت حالها كما عهدته فنظرت إلى الكوة تهمماً بأمر الشمس فرأت الهدهد فعلمت أمره ثم جمعت أهل ملكها وعلية قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد.