فصل: تفسير الآيات (78- 79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (78- 79):

{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)}
القائل قارون لما وعظه قومه وندبوه إلى اتقاء الله تعالى في المال الذي أعطاه تفضلاً منه عليه أخذته العزة بالإثم فأعجب بنفسه، وقال لهم على جهة الرد عليهم والروغان عما ألزموه فيه {إنما أوتيته على علم عندي}، ولكلامه هذا وجهان يحتملهما وبكل واحد منهما قالت فرقة المفسرين فقال الجمهور منهم إنه ادعى أن عنده علماً استوجب به أن يكون صاحب ذلك المال وتلك النعمة، ثم اختلفوا في العلم الذي أشار إليه ما هو، فقال بعضهم علم التوراة وحفظها، قالوا وكانت هذه مغالطة ورياء، وقال أبو سليمان الداراني: أراد العلم بالتجارب ووجوه تثمير المال فكأنه قال: {أوتيته} بإدراكي وبسعيي، وقال ابن المسيب: أراد علم الكيمياء، وقال ابن زيد وغيره: إنما أراد {أوتيته على علم} من الله وتخصيص من لدنه قصدني به أي فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم، ثم جعل قوله: {عندي} كما تقول في معتقدي على ما أراه.
قال الفقيه الإمام القاضي: وعلى الاحتمالين معاً فقد نبه القرآن على خطئه في اغتراره وعارض منزعه بأن من معلومات الناس المتحققة عندهم {أن الله} تعالى {قد أهلك} من الأمم والقرون والملوك من هو أشد من قارون قوة وأكثر جمعاً إما للمال وإما للحاشية والغاشية، وقوله تعالى: {أو لم يعلم} يرجح أن قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه، وقوله تعالى: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون}، قال محمد بن كعب: هو كلام متصل بمعنى ما قبله، والضمير في {ذنوبهم} عائد على من أهلك من القرون، أي أهلكوا ولم يُسأل غيره بعدهم عن ذنوبهم أي كل واحد إنما يكلم ويعاقب بحسب ما يخصه، وقالت فرقة: هو إخبار مستأنف عن حال يوم القيامة أن المجرمين لا يسألون عن ذنوبهم، قال قتادة ذلك لأنه يدخلون النار بغير حساب، وقال قتادة أيضاً ومجاهد: معناه أن الملائكة لا تسأل عن ذنوبهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه ونحو ذلك قوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41].
قال الفقيه الإمام القاضي: وفي كتاب الله تعالى آيات تقتضي أن الناس يوم القيامة يُسألون كقوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسؤولون} [الصافات: 24] وغير ذلك، وفيه آيات تقتضي أنه لا يسأل أحد كقوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 39]، وغير ذلك فقال الناس في هذا إنها مواطن وطوائف، وذلك من قوله محتمل ويشبه عندي أن تكون الآيات التي توجب السؤال إنما يراد بها أسئلة التوبيخ والتقرير والتي تنفي السؤال يراد بها أسئلة الاستفهام والاستخبار على جهة الحاجة إلى علم ذلك من المسؤولين، أي أن ذلك لا يقع لأن العلم بهم محيط وسؤال التوبيخ غير معتد به، ثم أخبر تعالى أن قارون {خرج على قومه} وقد أظهر قدرته من الملابس والمراكب وزينة الدنيا، قال جابر ومجاهد: خرج في ثياب حمر، وقال ابن زيد: خرج هو وجملته في ثياب معصفرة، وقيل: في ثياب الأرجوان، وقيل غير هذا، وأكثر المفسرون في تحديد زينة قارون وتعيينها بما لا صحة له فاختصرته، وباقي الآية في اغترار الجهلة والأغمار من الناس بين.

.تفسير الآيات (80- 82):

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)}
أخبر الله تعالى عن {الذين أوتوا العلم} والمعرفة بالله تعالى وبحق طاعته والإيمان به أنهم زجروا الأغمار الذين تمنوا حال قارون وحملوهم على الطريقة المثلى من أن النظر والتمني إنما ينبغي أن يكون في أمر الآخرة، وأن حالة المؤمن العامل الذي ينتظر {ثواب الله} تعالى {خير} من حال كل ذي دنيا، ثم أخبر تعالى عن هذه النزعة وهذه القوة في الخير والدين أنها لا يلقاها أي يمكن فيها ويخولها إلا الصابر على طاعة الله وعن شهوات نفسه، وهذا هو جماع الخير كله، والضمير من {يلقاها} عائد على ما لم يتقدم له ذكر من حيث الكلام دال عليه، فذلك يجري مجرى {توارت بالحجاب} [ص: 32] و{كل من عليها فان} [الرحمن: 26] وقال الطبري الضمير عائد على الكلمة قوله: {ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً} أي لا يلقى هذه الكلمة {إلا الصابرون} وعنهم تصدر، وروي في الخسف بقارون وبداره أن موسى عليه السلام لما أمضه فعل قارون به وتعديه عليه ورميه بأمر المرأة وغير ذلك من فعله به استجار الله تعالى وبكى وطلب النصرة فأوحى الله تعالى إليه لا تهتم فإني أمرت الأرض أن تطيعك في قارون وأهله وخاصته وأتباعه، فقال موسى للأرض خذيهم فأخذت منهم إلى الركب فاسغاثوا يا موسى يا موسى، فقال خذيهم فأخذتهم شيئاً شيئاً وهم يستغيثون به كل مرة وهو يلج إلى أن تم الخسف بهم، فأوحى الله تعالى إليه يا موسى استغاثوا بك فلم ترحمهم لو بي استغاثوا أو إلي تابوا لرحمتهم وكشفت ما بهم، وقال قتادة ومالك بن دينار: روي لنا أنه يخسف به كل يوم قامة فهو يتجلجل إلى يوم القيامة. والفئة الجماعة الناصرة التي يفيء إليها الإنسان الطالب للنصرة، وقصة قارون هي بعد جوازهم اليم لأن الرواة ذكروا أنه كان ممن حفظ التوراة وكان يقرؤها، ثم أخبر تعالى عن حال {الذين تمنوا مكانه بالأمس} وندمهم واستشعارهم أن الحول والقوة لله تعالى.
وقوله: {ويكأن} مذهب سيبويه والخليل أن وي حرف تنبيه، وهي منفصلة من كأن لكن أضيفت في الكتاب لكثرة الاستعمال، والمعنى أنهم نبهوا من خاطبوه ثم قالوا بين الاخبار وعلى جهة التعجب والتثبت كأن الله يبسط، وقال أبو حاتم وجماعة من النحويين ويك هي ويلك حذفت اللام منها لكثرة الاستعمال وجرت في الكلام كذلك ومنه قول عنترة: [الكامل]
ولقد شفى نفسي وأذهب سقمها ** قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

فكأن المعنى ويلك اعلم أن الله ونحو هذا من الإضمار، وقالت فرقة من النحويين {ويكأن} بجملتها دون تقدير انفصال كلمة بمنزلة قولك ألم تر أن.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويقوى الانفصال فيها على ما قاله سيبويه لأنها تجيء مع أنَّ، ومع أنْ وأنشد سيبويه:
ويكأنْ من يكن له نشب يحبب ** ومن يفتقر يعش عيش ضر

وهذا البيت لزيد بن عمرو بن نفيل، وقرأ الأعمش {لولا من الله} بحذف أن وروي عنه {لولا منُّ} برفع النون وبالإضافة إلى الله تعالى، وقرأ الجمهور {لخُسِف} بضم الخاء وكسر السين، وقرأ عاصم بفتح الخاء والسين، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف {لا نخسف} كأنه فعل مضارع أريد به أن الأرض كانت تبتلعه، وروي عن الكسائي أنه كان يقف على وي، ويبتدئ كأن، وروي عنه الوصل كالجماعة، وروي عن أبي عمرو أنه كان يقف ويك ويبتدئ أن الله وعلى هذا المعنى قال الحسن إن شئت ويكأن أو يكإن بفتح الهمزة وبكسرها، وكذلك في {ويكأنه}.

.تفسير الآيات (83- 85):

{تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)}
هذا إخبار مستأنف من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يراد به إخبار جميع العالم وحضهم على السعي بحسب ما تضمنته الآية، وهذا الحض يتصمن الإنحاء على حال قارون ونظرائه، والمعنى أن الآخرة ليست في شيء من أمر قارون إنما هي لمن صفته كذا وكذا، والعلو المذموم هو بالظلم والانتحاء والتجبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم «وذلك أن تريد أن يكون شراك نعلك أفضل من شراك نعل أخيك»، والفساد يعم وجوه الشر، ومما قال العلماء هو أخذ المال بغير حق {والعاقبة للمتقين}، خير منفصل جزم معناه إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة ولا بد، ثم وصف تعالى أمر جزاء الآخرة أنه {من جاء} بعمل صالح {فله خير} من القدر الذي يقتضي النظر أنه مواز لذلك العمل هذا على أن نجعل الحسنة للتفضيل، وفي القول حذف مضاف أي من ثوابها الموازي لها ويحتمل أن تكون {من} لابتداء الغاية أي له خير بسبب حسنته ومن أجلها.
وأخبر تعالى أن السيئة لا يضاعف جزاؤها فضلاً منه ورحمة، وقوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن}، معناه أنزله عليك وأثبته، والفرض أصله عمل فرضة في عود أو نحوه فكأن الأشياء التي تثبت وتمكن وتبقى تشبه ذلك الفرض، وقال مجاهد معناه أعطاك القرآن وقالت فرقة في هذا القول حذف مضاف، والمعنى فرض عليك أحكام القرآن، واختلف المتأولون في معنى قوله: {لرادك إلى معاد}، فقال جمهور المتأولين: أراد إلى الآخرة، أي باعثك بعد الموت، فالآية على هذا مقصدها إثبات الحشر والإعلام بوقوعه، وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وغيرهما: المعاد الجنة وقال ابن عباس أيضاً وجماعة: المعاد الموت.
قال الفقيه الإمام القاضي: فكأن الآية على هذا واعظة ومذكرة، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد المعاد مكة، وهذه الآية نزلت في الجحفة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة، قال أبو محمد: فالآية على هذا معلمة بغيب قد ظهر للأمة ومؤنسة بفتح، والمعاد الموضع الذي يعاد إليه وقد اشتهر به يوم القيامة لأنه معاد الكل، وقوله تعالى: {قل ربي أعلم} الآية، آية متاركة للكفار وتوبيخ، وأسند الطبري في تفسير قوله: {لرادك إلى معاد} قال إلى الجنة، قال وسماها معاداً إما من حيث قد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء وغيره وإما من حيث قد كان فيها آدم عليه السلام فهي معاد لذريته.
قال الفقيه الإمام القاضي: وإنما قال هذا من حيث تعطي لفظة المعاد أن المخاطب قد كان في حال يعود إليها وهذا وإن كان مما يظهر في اللفظ فيتوجه أن يسمى معاداً ما لم يكن المرء قط فيه تجوزاً، ولأنها أحوال تابعة للمعاد الذي هو النشور من القبور.

.تفسير الآيات (86- 88):

{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}
قال بعض المفسرين: قوله تعالى: {وما كنت ترجو} الآية ابتداء كلام مضمنه تعديد النعمة على محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى رحمه رحمة لم يحتسبها ولا بلغها أمله، وقال بعضهم بل هو متعلق بقوله تعالى {إن الذي فرض عليك القرآن} [القصص: 85] أي وأنت بحال من لا يرجو ذلك، وقوله تعالى: {يلقى إليك} عبارة عن تقليده النبوءة وتبليغ القرآ،. كما تقول: ألقى فلان إلى فلان بالرياسة ونحو هذا، وقوله تعالى: {إلا رحمة} نصب على استثناء منقطع، والظهير المعين أي اشتد يا محمد في تبليغك ولا تلن ولا تفشل فتكون معونة للكافرين بهذا الوجه أي بالفتور عنهم، وقوله تعالى: {ولا يصدنك}، أي بأقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت نحوه وامض لشأنك، وقرأ يعقوب {ولا يصدنْك} بجزم النون، وقوله: {وادع إلى ربك}، وجميع الآيات تتضمن المهادنة والموادعة، وهذا كله منسوخ بآية السيف، وسبب هذه الآية ما كانت قريش تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه من تعظيم أوثانهم وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته أمر الغرانيق، وقوله تعالى: {ولا تدع مع الله إلهاً آخر} نهي عما هم بسبيله، فهم المراد وإن عري اللفظ من ذكرهم، وقوله تعالى: {إلا وجهه} قالت فرقة: هي عبارة عن الذات، المعنى هالك إلا هو، قاله الطبري وجماعة منهم أبو المعالي رحمه الله، وقال الزجاج: إلا إياه، وقال سفيان الثوري: المراد إلا ذا وجهه، أي ما عمل لذاته ومن طاعته وتوجه به نحوه ومن هذا قول الشاعر:
رب العباد إليه الوجه والعمل

ومنه قول القائل أردت بفعلي وجه الله تعالى ومنه قوله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الأنعام: 52] وقوله تعالى: {له الحكم} أي فصل القضاء وإنفاذ القدرة في الدنيا والآخرة، وقوله: {وإليه ترجعون} إخبار بالحشر والعودة من القبور، وقرأ الجمهور {تُرجَعون} بضم التاء وفتح الجيم، وقرأ عيسى {تَرجِعون} بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ أبو عمرو بالوجهين.

.سورة العنكبوت:

.تفسير الآيات (1- 3):

{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوئل السور، وقرأ ورش {ألمَ احسب} بفتح الميم من غير همز بعدها وذلك على تخفيف الهمزة وإلقاء حركتها على الميم، وهذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام، فكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكر أن يمكن الله الكفرة من المؤمنين قال مجاهد وغيره، فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله تعالى في عباده اختباراً للمؤمنين وفتنة ليعلم الصادق ويري ثواب الله له ويعلم الكاذب ويري عقابه إياه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب وفي هذه الجماعة فهي بمعناها باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر،. وذلك أن الفتنة من الله تعالى والاختبار باق في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك، وإذا اعتبر أيضاً كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن ولكن التي تشبه نازلة المؤمنين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر، وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر إذا كان يعذب في الله تعالى ونظرائه، وقال الشعبي: سبب الآية ما كلفه المؤمنون من الهجرة، فهي الفتنة التي لم يتركوا دونها، لاسيما وقد لحقهم بسببها أن اتبعهم الكفار وردوهم وقاتلوهم، فقتل من قتل ونجا من نجا، وقال السدي: نزلت في مسلمين كانوا بمكة وكرهوا الجهاد والقتال حين فرض على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وحسب، معناه ظن، و{أن} نصب ب حسب وهي والجملة التي بعدها تسد مسد مفعولي حسب و{أن} الثانية في موضع نصب على تقدير إسقاط حرف الخفض تقديره بأن يقولوا ويحتمل أن يقدر لأن يقولوا والمعنى في الباء واللام مختلف وذلك أنه في الباء كما تقول تركت زيداً بحاله، وهي في اللام بمعنى من أجل أن حسبوا أن إيمانهم علة للترك، و{الذين من قبلهم}، يريد بهم المؤمنين مع الأنبياء في سالف الدهر، وقرأ الجمهور {فليَعلمن} بفتح الياء واللام الثانية، ومعنى ذلك ليظهرن عليهم ويوجدن منهم ما علمه أزلاً، وذلك أن علمه بذلك قديم وإنما هذه عبارة عن الإيجاد بالحالة التي تضمنها العلم القديم، والصدق والكذب على بابهما أي من صدق فعله قوله ومن كذبه ونظير هذا قول زهير: [البسيط]
ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا ** ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

قال النقاش، قيل إن الإشارة ب {صدقوا} هي إلى مهجع مولى عمر بن الخطاب لأنه أول قتيل قتل من المؤمنين يوم بدر، وقالت فرقة: إنما هي استعارة وإنما أراد بها الصلابة في الدين أو الاضطراب فيه وفي جهاد العدو ونحو هذا، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه {فليُعلِمن} بضم الياء وكسر اللام، وهذه القراءة تحتمل ثلاثة معان أحدها أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا، بمعنى يوقفهم على ما كان منهم، والثاني أن يكون المفعول الأول محذوفاً تقديره ليعلمن الناس أو العالم هؤلاء الصادقين والكاذبين، أي يفضحهم ويشهرهم، هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر، وذلك في الدنيا والآخرة، والثالث أي يكون ذلك من العلامة أي لكل طائفة علماً تشهر به، فالآية على هذا ينظر إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها» وعلى كل معنى منها ففيها وعد للمؤمنين الصادقين ووعيد للكافرين، وقرأ الزهري الأولى كقراءة الجمهور والثانية كقراءة عليّ رضي الله عنه.