فصل: تفسير الآيات (10- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (10- 14):

{أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)}
{أم} في هذه الآية معادلة للألف المقدرة في {أم} [ص: 9] الأولى، وكأنه تعالى يقول في هذه الآية: أم لهم هذا الملك فتكون النبوءة والرسالة على اختيارهم ونظرهم فليرتقوا في الأسباب إن كان الأمر كذلك، أي إلى السماء، قاله ابن عباس. و{الأسباب}: كل ما يتوصل به إلى الأشياء، وهي هنا بمعنى الحبال والسلاليم. وقال قتادة: اراد أبواب السماء.
وقوله تعالى: {جند من هنالك مهزوم} اختلف المتأولون في الإشارة ب {هنالك} إلى ما هي؟ فقالت فرقة: أشار إل الارتقاء في الأسباب، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم، وهذا قوي. وقالت فرقة: الإشارة ب {هنالك} إلى حماية الأصنام وعضدها، أي هؤلاء القوم حند مهزوم في هذه السبيل وقال مجاهد: الإشارة ب {هنالك}، إلى يوم بدر، وكان غيب أعلم الله به على لسان رسوله، أي جند المشركين يهزمون، فخرج في بدر. وقالت فرقه: الإشارة إل حصر عام الخندق بالمدينه.
وقوله: {من الأحزاب} أي من جملة أجزاب الأمم الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل فأخذهم الله تعالى. و{ما}، في قوله: {جند ما} زائدة مؤكدة وفيها تخصيص.
واختلف المتأولون في قوله: {ذي الأوتاد}، فقال ابن عباس وقتادة سمي بذلك لأنه كانت له أوتاد وخشب يلعب له بها وعليها. وقال السدي: كان يقتل الناس بالأوتاد، يسمرهم في الأرض بها. وقال الضحاك: أراد المباني العظام الثابتة، وهذا أظهر الأقوال، كما يقال للجبال أوتاد لثبوتها، ويحتمل أن يقال له ذو أوتاد عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره، ونحو من هذا قولهم: أهل العمود.
وقرأت فرقة: {ليكة}. وقرأت فرقة: {الأيكة}، وقد تقدم القول في شرح ذلك في سورة الشعراء، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء المذكورين هم الأحزاب، وضرب بهم المثل لقريش في أنهم كذبوا، ثم أخبر أن عقابه حق على جميعهم، أي فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بمحمد وفي قراءة ابن مسعود: {إن كل لما}. وحكى أبو عمرو الداني إن فيها. {إن كلهم إلا كذب}.

.تفسير الآيات (15- 20):

{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)}
{ينظر} بمعنى ينتظر، وهذا إخبار من الله لرسوله صدقه الوجود، ف الصيحة على هذا عبارة عن جميع ما نابهم من قتل وأسر وغلبة، وهذا كما تقول: صاح فيهم الدهر. وقال قتادة: توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور. قال الثعلبي: روي هذا التفسير مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه سلم. وقالت طائفة: توعدهم بصيحة يهلكون بها في الدنيا، وعلى هذين التأويلين فمعنى الكلام أنهم بمدرج عقوبة وتحت أمر خطير، ما ينتظرون فيه إلا الهلكة، وليس معناه التوعد بشيء معين ينتظره محمد فيه كالتأويل الأول.
وقرأ جمهور القراء: {فَواق} بفتح الفاء. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن: {فُواق} بضم الفاء. قال ابن عباس وغيره: هما بمعنى واحد، أي ما لها من انقطاع وعودة، بل هي متصلة حتى تهلكهم، ومنه فواق الحلب: المهلة التي بين الشخبين: وجعلوه مثل قصاص الشعر وقصاص وغيره ذلك، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من رابط فوق ناقة حرم الله جسده على النار» وقال ابن زيد وأبو عبيدة ومؤرج والفراء: المعنى مختلف: الضم كما تقدم من معنى فواق الناقة، والفتح بمعنى الإفاقة، أي ما يكون لهم بعد هذه الصيحة إفاقة ولا استراحة، ف فواق: مثل جواب، من أجاب.
ثم ذكر عز وجل عنهم أنهم قالوا: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} والقط: الحظ والنصيب، والقط أيضاً: الصك والكتاب من السلطان بصلة ونحوه، ومنه قول الأعشى: [الطويل]
ولا الملك النعمان يوم لقيته ** بغبطته يعطي القطوط ويافق

وهو من قططت، أي قطعت.
واختلف الناس في القط هنا ما أرادوا به، فقال سعيد بن جبير: أرادوا به عجل لنا نصيبنا من الخير والنعيم في دنيانا. وقال أبو العالية والكلبي: أرادوا عجل لنا صحفنا بإيماننا، وذلك لما سمعوا في القرآن أن الصحف تعطى يوم القيامة بالأيمان والشمائل، قالوا ذلك. وقال ابن عباس وغيره: أرادوا ضد هذا من العذاب ونحوه، فهذا نظير قولهم: {فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 42] وقال السدي، المعنى: أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك، وعلى كل تأويل، فكلامهم خرج على جهة الاستخفاف والهزء، ويدل على ذلك ما علم من كفرهم واستمر، ولفظ الآية يعطي إقراراً بيوم الحساب.
وقوله تعالى: {اصبر على ما يقولون} أي من هذه الأقاويل التي يريدون بها الاستخفاف ولا يلتفت إليها: واذكر داود ذا الأيد في الدين والشرع والصدع به، فتأس به وتأيد كما تأيد، و: {الأيد} القوة، وهي في داود متضمنة قوة البدن وقوته على الطاعة. و{الأواب} الرجاع إلى طاعة الله، وقاله مجاهد وابن زيد، وفسره السدي بالمسبح، وذكر الثعلبي أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الزرقة يمن.
وكان داود أزرق.
وأخبر تعالى عما وهب لداود من الكرامة في أن سخر الجبال تسبح بعه، وظاهر الآية عموم الجبال. وقالت فرقة: بل هي الجبال التي كان فيها وعندها، وتسبيح الجبال ها حقيقة. {والإشراق} وقت ضياء الشمس وارتفاعها، ومنه قولهم: أشرق ثبير، أي ادخل في الشروق، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل. وقال ابن عباس: صلاة الضحى عندنا هي صلاة الإشراق، وهي في هذه الآية.
وقوله تعالى: {والطير} عطف على {الجبال}، أي وسخرنا الطير، و{محشورة} نصب على الحال، ومعناه: مجموعة.
وقرأ ابن أبي عبلة: {والطيرُ محشورة} بالرفع فيهما. والضمير في: {له} قالت فرقة: هو عائد على داود، ف {كل} للجبال والطير.
وقوله تعالى: {وشددنا ملكه} عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة، وقد خصص بعض المفسرين في ذلك أشياء دون أشياء، فقال السدي: بالجنود. وقال آخرون: بهيبة جلعها الله تعالى له.
وقرأ الجمهور: {وشدَدنا} بتخفيف الدال الأولى، وروي عن الحسن: {شدّدنا} بشدها على المبالغة.
و{الحكمة}: الفهم في الدين وجودة النظر، هذا قول فرقة. وقالت فرقة: أراد ب {الحكمة} النبوءة. وقال أبو العالية: {الحكمة} العلم الذي لا ترده العقول.
قال القاضي أبو محمد: هي عقائد البرهان واختلف الناس في {فصل الخطاب}، فقال ابن عباس ومجاهد والسدي: فصل القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه. وقال علي بن أبي طالب وشريح والشعبي: {فصل الخطاب} إيجاب اليمين على المدعى عليه، والبينة على المدعي. وقال الشعبي أيضاً وزياد: أراد قول أما بعد، فإنه أول من قالها، والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، وهذه صفة قليل من يدركها، فكان كلامه عليه السلام فصلاً، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن: {إنه لقول فصل} [الطارق: 13] ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله: «وأعطيت جوامع الكلم» فإنها في الخلال التي لم يؤتها أحد قبله، ذكر جوامع الكلم معدودة في ذلك مسلم.

.تفسير الآيات (21- 24):

{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)}
هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم واستفتحت بالاستفهام تعجيباً من القصة وتفخيماً لها، لأن المعنى: هل أتاك هذا الأمر العجيب الذي هو عبرة، فكأن هذا الاستفهام إنما هو تهيئة نفس المخاطب وإعدادها للتلقي. و{الخصم} جار مجرى عدل وزور، يوصف به الواحد والاثنان والجميع، ومنه قول لبيد: [الطويل]
وخصم يعدو الذخول كأنهم ** قروم غيارى كل أزهر مصعب

وتحتمل هذه الآية أن يكون المتسور للمحراب اثنين فقط، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين، فتجيء الضمائر في: {تسوروا} و: {دخلوا} و: {قالوا} على جهة التجوز، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجمع، ويحتمل أنه جاء مع كل فرقة، كالعاضدة والمؤنسة، فيقع على جميعهم خصم، وتجيء الضمائر حقيقة. و: {تسوروا} معناه: علوا سوره وهو جمع سورة، وهي القطعة من البناء، هذا كما تقول: تسنمت الحائط أو البعير، إذا علوت على سنامه. و{المحراب}: الموضع الأرفع من القصر أو المسجد، وهو مضوع التعبد، والعامل في: {إذ} الأولى {نبأ} وقيل: {أتاك}. والعامل في: {إذ} الثانية {تسوروا}، وقيل هي بدل من {إذ} الأولى وقوله تعالى: {ففزع منهم} يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان، وقيل إن ذلك كان ليلاً، ذكره الثعلبي، ويحتمل أن يكون فزعه من أين يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين. ويحتمل قولهم: {لا تخف} أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه.
وهنا قصص طول الناس فيها، واختلفت الروايات به، ولابد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد، خر وأناب واستغفر، وأما نازلته التي وقع فيها، فروي أنه عليه السلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة، ويقال بل وقعت له في مثل هذا مجاورة مع الملكين الحافظين عليه فقال لهما: جرباني يوماً، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروهاً. وقال السدي: كان داود قد قسم دهره: يوماً يقضي فيه بين الناس، ويوماً لعبادته، ويوماً لشأن نفسه، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا، وقيل في السبب غير هذا مما لا يصح تطويله. قال ابن عباس ما معناه: أنه أخذ داود يوماً في عبادته وانفرد في محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة، فوقع بين يديه، فروي أنه كان طائراً حسن الهيئة: حمامة، فمد داود يده ليأخذه فزل مطمعاً له فما زال يتبعه حتى صعد الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه، فتنحى له الطائر، فتطلع داود عليه السلام، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة، فرأى منظراً جميلاً فتنه، ثم إنها شعرت به، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به، فزاده ولوعاً بها، ثم إنه انصرف وسأل عنها، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له: أوريا وإنه في بعث كذا وكذا، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلاناً يقاتل عند التابوت، وهو موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك.
ويروى أن داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال، وترمى به الغارة والوجوه الصعبة من الحرب، حتى قتل في الثالثة من نهضاته، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع، فلما سمي الرجل قال: كتب الموت على كل نفس، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها، فكانت أم سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله تعالى إليه الخصم ليفتي بأن هذا ظلم. وقالت فرقة: إن هذا كله هم به داود ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك. وقال آخرون: إنما الخطأ في أن لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده، إذ كان عنده أمر المرأة.
قال القاضي أبو محمد والرواة على الأول أكثر، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق. وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله.
وقوله: {خصمان} تقديره: نحن خصمان، وهذا كقول الشاعر: [الطويل]
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر ** وجاوزتما الحيين نهداً وخثعما

نزيعان من جرم ابن زبان إنهم ** أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما

ونحوه قال العرب في مثل: محسنة فهيلي، التقدير: أنت محسنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «آيبون تائبون» و: {بغى} معناه: اعتدى واستطال، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
ولكن الفتى حمل بن بدر ** بغى والبغي مرتعه وخيم

وقوله: {فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط} إغلاظ على الحاكم واستدعاء بعدله، وليس هذا بارتياب منه، ومنه قول الرجل للنبي عليه السلام: فاحكم بيننا بكتاب الله.
وقرأ جمهور الناس: {ولا تُشطِط} بضم التاء وكسر الطاء الأولى، معناه: ولا تتعد في حكمك. وقرأ أبو رجاء وقتادة: {تَشطُط} بفتح التاء وضم الطاء، وهي قراءة الحسن والجحدري، ومعناه: ولا تبعد، يقال: شط إذا بعد، وأشط إذا أبعد غيره.
وقرأ زر بن حبيش {تُشاطط} بضم التاء وبالألف. و: {سواء الصراط} معناه: وسط الطريق ولا حبه.
وقوله: {إن هذا أخي} إعراب أخي عطف بيان، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف، فإنه نعت محض، والعامل فيه هو العامل في الموصوف، وما كان منها مما ليس ليوصف به بتة فهو بدل، والعامل فيه مكرر، وتقول: جاءني أخوك زيد، فالتقدير: جاءني أخوك جاءني زيد، فاقتصر على حذف العامل في البدل والمبدل منه في قوله: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} [يس: 31] وما كان منها مما لا يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان، وهو بين في قول الشاعر: [الرجز]
يا نصر نصراً نصرا

فإن الرواية في الثاني بالتنوين، فدل ذلك على أن النداء ليس بمكرر عليه، فليس ببدل، وصح فيه عطف البيان، وهذه الأخوة مستعارة، إذ هما ملكان، لكن من حيث تصورا آدميين تكلما بالأخوة التي بينهما في الدين والإيمان، والله أعلم. والنعجة في هذه الآية، عبر بها عن المرأة. والنعجة في كلام العرب تقع على أنثى بقر الوحش، وعلى أنثى الضأن، وتعبر العرب بها عن المرأة، وكذلك بالشاة، قال الأعشى: [الكامل]
فرميت غفلة عينه عن شاته ** فأصبت حبة قلبها وطحالها

أراد عن امرأته، وفي قراءة ابن مسعود: {وتسعون نعجة أنثى}. وقرأ حفص عن عاصم: {وليَ} بفتح الياء. وقرأ الباقون بسكونها، وهما حسنان. وقرأ الحسن والأعرج: {نِعجة} بكسر النون، والجمهور على فتحها. وقرأ الحسن: {تَسع وتَسعون} بفتح التاء فيهما وهي لغة.
وقوله: {أكفلنيها} أي ردها في كفالتي، وقال ابن كيسان، المعنى: اجعلها كفلي، أي نصيبي. {وعزتي}: معناه غلبني، ومنه قول العرب: من عز بز، أي من غلب سلب وقرأ أبو حيوة: {وعزني} بتخفيف الزاي. قال أبو الفتح: أراد عززني، فحذف الزاي الواحدة تخفيفاً كما قال أبو زيد:
أحسن به فهن إليه شوس

قال أبو حاتم: ورويت {عزني} بتخفيف الزاي عن عاصم. وقرأ ابن مسعود وأبو الضحى وعبيد بن عمير: {وعازني}، أي غالبني.
ومعنى قوله: {في الخطاب} كان أوجه مني وأقوى، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي، وقوته أعظم من قوتي، فيروى أن داود عليه السلام لما سمع هذه الحجة قال للآخر: ما تقول؟ فأقر وألد، فقال له داود: لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك. وقال للثاني: لقد ظلمك، فتبسما عند ذلك، وذهبا ولم يرهما لحينه، فشعر حينئذ للأمر.
وروي أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه. وقيل بل بينا فعله في تلك المرأة وزوجها، وقالا له: إنما نحن مثال لك. وقال بعض الناس: إن داود قال: لقد ظلمك، قبل أن يسمع حجة الآخر، وهذه كانت خطيئة ولم تنزل به هذه النازلة المروية قط.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق ابن عطية رضي الله عنه: وهذا ضعيف من جهات، لأنه خالف متظاهر الروايات، وأيضاً فقوله: {لقد ظلمك} إنما معناه إن ظهر صدقك ببينة أو باعتراف، وهذا من بلاغة الحاكم التي ترد المعوج إلى الحق، وتفهمه ما عند القاضي من الفطنة. وقال الثعلبي: كان في النازلة اعتراف من المدعى عليه حذف اختصاراً، ومن أجله قال داود: {لقد ظلمك}.
وقوله عليه السلام: {لقد ظلمت بسؤال نعجتك} أضاف الضمير إلى المفعول، و{الخلطاء} الأشراك والمتعاقبون في الأملاك والأمور، وهذا القول من داود وعظ وبسط لقاعدة حق ليحذر من الوقوع في خلاف الحق. وما في قوله: {وقليل ما هم} زائدة مؤكدة.
وقوله تعالى: {وظن داود} معناه: شعر للأمر وعلمه. وقالت فرقة: {ظن} هنا بمعنى أيقن.
قال القاضي أبو محمد: والظن أبداً في كلام العرب إنما حقيقته توقف بين معتقدين يغلب أحدهما على الآخر، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ولا له اليقين التام، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون ظن بمعنى: أيقن، ولسنا نجد في كلام العرب على العلم الذي ليس على الحواس شاهداً يتضمن أن يقال: رأى زيد كذا وكذا فظنه. وانظر لى قوله تبارك وتعالى في كتابه: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف: 53] وإلى قول دريد بن الصمة [الطويل]
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ** سراتهم بالفارسي المسرد

وإلى هذه الآية: {وظن داود} فإنك تجد بينها وبين اليقين درجة، ولو فرضنا أهل النار قد دخلوها وباشروا، لم يقل ظن ولا استقام ذلك، ولو أخبر جبريل داود بهذه الفتنة لم يعبر عنها ب ظن، فإنما تعبر العرب بها عن العلم الذي يقارب اليقين وليس به، لم يخرج بعد إلى الإحساس وقرأ جمهور الناس: {فَتنّاه} بفتح التاء وشد النون، أي ابتليناه وامتحناه. وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رجاء والحسن: بخلاف عنه، {فتّنّاه} بشد التاء والنون على معنى المبالغة. وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر: {فتَنَاه} بتخفيف التاء والنون على أن الفعل للخصمين، أي امتحناه عن أمرنا، وهي قراءة قتادة. وقرأ الضحاك: {افتتناه}.
وقوله: {وخر} أي ألقى بنفسه نحو الأرض متضامناً متواضعاً، والركوع والسجود: الانخفاض والترامي نحو الأرض، وخصصتها الشرائع على هيئات معلوم. وقال قوم يقال: خر، لمن ركع وإن كان لم ينته إلى الأرض.
وقال الحسن بن الفضل، والمعنى: خر من ركوعه، أي سجد بعد أن كان راكعاً. وقال أبو سعيد الخدري: رأيتني في النوم وأنا أكتب سورة: {ص} فلما بلغت هذه الآية سجد القلم، ورأيتني في منام آخر وشجرة تقرأ: {ص} فلما بلغت هذا سجدت، وقالت: اللهم اكتب لي بها أجراً، وحط عني بها وزراً، وارزقني بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وسجدت أنت يا أبا سعيد؟ قلت لا، قال: أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات حتى بلغ: {وأناب}، فسجد، وقال كما قالت الشجرة. {وأناب} معناه: رجع وتاب، ويروى عن مجاهد أن داود عليه السلام بقي في ركعته تلك لاصقاً بالأرض يبكي ويدعو أربعين صباحاً حتى نبت العشب من دمعه، وروي غير هذا مما لا تثبت صحته. وروي أنه لما غفر الله له أمر المرأة، قال: يا رب فكيف لي بدم زوجها إذا جاء يطلبني يوم القيامة، فأوحى الله إليه أني سأستوهبه ذلك يا داود، وأجعله أن يهبه راضياً بذلك، فحينئذ سر داود عليه السلام واستقرت نفسه، وروي عن عطاء الخراساني ومجاهد أن داود عليه السلام نقش خطيئته في كفه فكان يراها دائماً ويعرضها على الناس في كل حين من خطبه وكلامه وإشاراته وتصرفه تواضعاً لله عز وجل وإقراراً، وكان يسيح في الأرض ويصيح: إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي، سبحانك، إلهي أتيت أطباء الدين يداووا علتي، فكلهم عليك دلني. وكان يدخل في صدر خطبته الاستغفار للخاطئين، وما رفع رأسه إلى السماء بعد خطيئته حياء صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء المرسلين.