فصل: تفسير الآيات (10- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (10- 13):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)}
قوله تعالى: {أفلم يسيروا} توقيف لقريش وتوبيخ. و: {الذين من قبلهم} يريد: ثمود وقوم لوط وقوم شعيب وأهل السد وغيرهم. والدمار: الإفساد وهدم البناء وإذهاب العمران.
وقوله: {دمر الله عليهم} من ذلك. والضمير في قوله: {أمثالها} يصح أن يعود على العاقبة المذكورة، ويصح أن يعود على الفعلة التي يتضمنها قوله: {دمر الله عليهم}. وقولهم: {ذلك بأن} ابتداء وخبر في أن وما عملت فيه. والمولى: الناصر الموالي، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا}. وقال قتادة: إن هذه الآية نزلت يوم أحد ومنها انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على أبي سفيان حين قال له: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».
وقوله تعالى: {ويأكلون كما تأكل الأنعام} أي أكلاً مجرداً من فكرة ونظر، فالتشبيه بالمعنى إنما وقع فيما عدا الأكل من قلة الفكر وعدم النظر، فقوله: {كما} في موضع الحال، وهذا كما تقول لجاهل: يعيش كما تعيش البهيمة، فأما بمقتضى اللفظ فالجاهل والعالم والبهيمة من حيث لهم عيش فهم سواء، ولكن معنى كلامك يعيش عديم النظر والفهم كما تعيش البهيمة. والمثوى: موضع الإقامة، وقد تقدم القول غير مرة في قوله: {وكأين}. وضرب الله تعالى لمكة مثلاً بالقرى المهلكة على عظمها، كقرية قوم عاد وغيرها. و: {أخرجتك} معناه: وقت الهجرة. ونسب الإخراج إلى القرية حملاً على اللفظ. وقال: {أهلكناهم} حملاً على المعنى. ويقال: إن هذه الآية نزلت إثر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في طريق المدينة. وقيل: نزلت بالمدينة. وقيل: نزلت بمكة عام دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية. وقيل نزلت: عام الفتح وهو مقبل إليها. وهذا كله حكمه حكم المدني.

.تفسير الآيات (14- 16):

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)}
قوله تعالى: {أفمن كان} الآية توقيف وتقرير على شيء متفق عليه وهي معادلة بين هذين الفريقين. وقال قتادة: الإشارة بهذه الآية إلى محمد عليه السلام في أنه الذي هو على بينة وإلى كفار قريش في أنهم الذين زين لهم سوء أعمالهم.
قال القاضي أبو محمد: وبقي اللفظ عاماً لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر وقوله: {على بينة} معناه على قصة واضحة وعقيدة نيرة بينة، ويحتمل أن يكون المعنى على أمر بين ودين بين، وألحق الهاء للمبالغة: كعلامة ونسابة. والذي يسند إليه قوله: {زين} الشيطان. واتباع الأهواء: طاعتها كأنها تذهب إلى ناحية والمرء يذهب معها.
واختلف الناس في قوله تعالى: {مثل الجنة} الآية، فقال النضر بن شميل وغيره: {مثل} معناه صفة، كأنه قال صفة الجنة ما تسمعون فيها كذا وكذا، وقال سيبويه: المعنى فيما يتلى عليكم مثل الجنة. ثم فسر ذلك الذي يتلى بقوله: فيها كذا وكذا.
قال القاضي أبو محمد: والذي ساق أن يجعل {مثل} بمثابة صفة هو أن الممثل به ليس في الآية، ويظهر أن القصد في التمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه فيها كذا وكذا فإنه يتصور عند ذلك بقاعاً على هذه الصورة وذلك هي {مثل الجنة} ومثالها، وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر، كأنه يقول: {مثل الجنة} ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف. وقرأ علي بن أبي طالب: {مثال الجنة}. وقرأ علي بن أبي طالب أيضاً وابن عباس: {أمثال الجنة}. وعلى هذه التأويلات كلها ففي قوله: {كمن هو خالد} حذف تقديره: أساكن هذه، أو تقديره: أهؤلاء إشارة إلى المتقين، ويحتمل عندي أيضاً أن يكون الحذف في صدر الآية. كأنه قال: أمثل أهل الجنة {كمن هو خالد}، ويكون قوله: {مثل} مستفهماً عنه بغير ألف الاستفهام، فالمعنى: أمثل أهل الجنة، وهي بهذه الأوصاف {كمن هو خالد في النار} فتكون الكاف في قوله: {كمن} مؤكدة في التشبيه، ويجيء قوله: {فيها أنهار} في موضع الحال على هذا التأويل. {وما غير آسن} معناه غير متغير، قاله ابن عباس وقتادة، وسواء أنتن أو لم ينتن، يقال: أسَن الماء: بفتح السين، وأسِن بكسرها.
وقرأ جمهور القراء: {آسِن} على وزن فاعل. وقرأ ابن كثير: {أسن}، على وزن فعل، وهي قراءة أهل مكة، والأسن أيضاً هو الذي يخشى عليه من ريح منتنة من ماء، ومنه قول الشاعر:
التارك القرن مصراً أنامله ** يميل في الرمح ميل المائح الأسن

وقال الأخفش: {آسن} لغة: والمعنى الإخبار به عن الحال، ومن قال: {آسِن} على وزن فاعل، فهو يريد به أن يكون كذلك في المستقبل فنفى ذلك في الآية.
وقرأت فرقة: {غير يسن}، بالياء. قال أبو علي: وذلك على تخفيف الهمزة، قال أبو حاتم عن عوف: كذلك كانت في المصحف: {يسن}، فغيرها الحجاج.
وقوله: في اللبن {لم يتغير طعمه} نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن وقوله: {لذة للشاربين} جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره و{لذة} نعت على النسب، أي ذات لذة. وتصفية العسل مذهبة لمومه وضرره. وقوله: {من كل الثمرات} أي من هذه الأنواع، لكنها بعيدة الشبه، إذ تلك لا عيب فيها ولا تعب بوجه. وقوله: {ومغفرة من ربهم} معناه: وتنعيم أعطته المغفرة وسببته، فالمغفرة إنما هي قبل الجنة، وقوله: {وسقوا} الضمير عائد على مَنْ لأن المراد به جمع.
وقوله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك} يعني بذلك المنافقين من أهل المدينة، وذلك أنهم كانوا يحضرون عند النبي عليه السلام فيسمعون كلامه وتلاوته، فإذا خرجوا قال بعضهم لمن شاء من المؤمنين الذين عملوا وانتفعوا {ماذا قال آنفاً} فكان منهم من يقول هذا استخفافاً، أي ما معنى ما قال وما نفعه وما قدره؟ ومنهم من كان يقول ذلك جهالة ونسياناً، لأنه كان في وقت الكلام مقبلاً على فكرته في أمر دنياه وفي كفره، فكان القول يمر صفحاً، فإذا خرج قال: {ماذا قال آنفاً}، وهذا أيضاً فيه ضرب من الاستخفاف، لأنه كان يصرح أنه كان يقصد الإعراض وقت الكلام، ولو لم يكن ذلك بقصد لم يبعد أن يجري على بعض المؤمنين. وروي أن عبد الله بن مسعود وابن عباس ممن سئل هذا السؤال، حكاه الطبري عن ابن عباس.
وقرأ الجمهور: {آنفاً} على وزن فاعل، وقرأ ابن كثير وحده: {أنفاً} على وزن فعل، وهما اسما فاعل من ائتنف، وجريا على غير فعلهما، وهذا كما جرى فقير على افتقر ولم يستعمل فقر، وهذا كثير، والمفسرون يقولون: {أنفاً} معناه: الساعة الماضية القريبة منا، وهذا تفسير بالمعنى.
ثم أخبر تعالى أنه {طبع} على قلوب هؤلاء المنافقين الفاعلين لهذا، وهذا الطبع يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أن يكون استعارة وقد تقدم القول فيه.

.تفسير الآيات (17- 19):

{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)}
لما ذكر تعالى المنافقين بما هم أهله من قوله: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} [محمد: 16] عقب ذلك بذكر المؤمنين ليبين الفرق، وشرفهم بإسناد فعل الاهتداء إليهم وهي إشارة إلى تكسبهم.
وقوله تعالى: {زادهم هدى} يحتمل أن يكون الفاعل في {زادهم} الله تعالى، والزيادة في هذا المعنى تكون إما بزيادة التفهيم والأدلة، وإما بورود الشرائع والنواهي والأخبار فيزيد الاهتداء لتزيد علم ذلك كله والإيمان به وذلك بفضل الله تعالى، ويحتمل أن يكون الفاعل في: {زادهم} قول المنافقين واضطرابهم، لأن ذلك مما يتعجب المؤمن منه ويحمد الله على إيمانه، ويتزيد بصيرة في دينه، فكأنه قال: المهتدون والمؤمنون زادهم فعل هؤلاء المنافقين هدى، أي كانت الزيادة بسببه، فأسند الفعل إليه، وقالت فرقة: إن هذه الآية نزلت في قوم من النصارى، آمنوا بمحمد فالفاعل في: {زادهم} محمد عليه السلام كان سبب الزيادة فأسند الفعل إليه. وقوله على هذا القول: {اهتدوا} يريد في إيمانهم بعيسى عليه السلام ثم {زادهم} محمد {هدى} حين آمنوا به. والفاعل في {آتاهم} يتصرف بحسب التأويلات المذكورة، وأقواها أن الفاعل الله تعالى. {وآتاهم} معناه: أعطاهم، أي جعلهم متقين له، فالتقدير: تقواهم إياه. وقرأ الأعمش: {وأنطاهم تقواهم}، وهي بمعنى أعطاهم، ورواها محمد بن طلحة عن أبيه. وهي في مصحف عبد الله.
وقوله تعالى: {فهل ينظرون} يريد المنافقين، والمعنى: {فهل ينظرون} أي هكذا هو الأمر في نفسه وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك، فإن ما في أنفسهم غير مراعى، لأنه باطل.
وقرأ جمهور الناس: {أن تأتيهم} ف {أن} بدل من {الساعة}. وقوله تعالى على هذه القراءة. {فقد جاء أشراطها} إخبار مستأنف والفاء عاطفة جملة من الكلام على جملة. وقرأ أهل مكة فيما روى الرؤاسي {إن تأتهم} بكسر الألف وجزم الفعل على الشرط، والفاء في قوله: {فقد جاء أشراطها} جواب الشرط وليست بعاطفة على القراءة الأولى فثم نحو من معنى الشرط، و. {بغتة} معناه: فجأة، وروي عن أبي عمرو {بغَتّة} بفتح الغين وشد التاء. وقوله: {فقد جاء أشراطها} على القراءتين معناه: فينبغي أن يقع الاستعداد والخوف منها لمن جزم ونظر لنفسه. والذي جاء من أشراط الساعة محمد عليه السلام لأنه آخر الأنبياء، فقد بان من أمر الساعة قدر ما، وفي الحديث عنه عليه السلام أنه قال: «أنا من أشراط الساعة وقد بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان». ويقال شرط وشرط: بسكون الراء وتخفيفها، وأشرط الرجل نفسه: ألزمها أموراً. وقال أوس بن حجر: [الطويل]
فأشرط فيها نفسه وهو معصم ** وألقى باسباب له وتوكلا

وقوله تعالى: {فأنى لهم} الآية، يحتمل أن يكون المعنى: {فأنى لهم} الخلاص أو النجاة {إذ جاءتهم} الذكرى بما كانوا يخبرون به في الدنيا فيكذبون به وجاءهم العذاب مع ذلك. ويحتمل أن يكون المعنى: فأنى لهم ذكراهم وعملهم بحسبها إذا جاءتهم الساعة، وهذا تأويل قتادة، نظيره: {وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} [سبإ: 52].
وقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} الآية إضراب عن أمر هؤلاء المنافقين وذكر الأهم، والمعنى: دم على علمك، وهذا هو القانون في كل أمر بشيء هو متلبس به، وهذا خطاب للنبي عليه السلام، وكل واحد من الأمة داخل معه فيه. واحتج بهذه الآية من قال من أهل السنة: إن العلم والنظر قبل القول، والإقرار في مسألة أول الواجبات. وبوب البخاري رحمه الله العلم قبل القول والعمل لقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} الآية، وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنها صدقة. وقال الطبري وغيره: {متقلبكم} تصرفكم في يقظتكم. {ومثواكم} منامكم. وقال ابن عباس: {متقلبكم} تصرفكم في حياتكم الدنيا. {ومثواكم} في قبوركم وفي آخرتكم.

.تفسير الآيات (20- 23):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}
هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله، وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحو ذلك مما هو ظهور للإسلام، فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ، والله تعالى قد جعل ذلك بآماد مضروبة وأوقات لا تتعدى، فمدح الله المؤمنين بحرصهم. وقولهم: {لولا نزلت سورة} معناه: تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه. ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول أمر القتال.
وقوله: {محكمة} معناه: لا يقع فيها نسخ، وبهذا الوجه خصص السورة بالأحكام، وأما الإحكام الذي هو بمعنى الإتقان، فالقرآن فيه كله سواء. وقال قتادة: كل سورة فيها القتال فهي محكمة، وهو أشد القرآن على المنافقين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن، وليس من تفسير هذه الآية في شيء.
وفي مصحف ابن مسعود: {سورة محدثة}. والمرض الذي في القلوب: استعارة لفساد المعتقد وحقيقة الصحة والمرض في الأجسام، وتستعار للمعاني، ونظر الخائف الموله قريب من نظر {المغشي عليه}، وخسسهم هذا الوصف والتشبيه.
وقوله تعالى: {فأولى لهم} الآية، أولى: وزنه أفعل، من وليك الشيء يليك. وقالت فرقة وزنه: أفلع، وفيه قلب، لأنه مشتق من الويل، والمشهور من استعمال أولى: أنك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي أحق، وقد تستعمل أولى فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول، فتقول على جهة الزجر والتوعد: أولى لك يا فلان، وهذه الآية من هذا الباب، ومنه قوله تعالى: {أولى لك فأولى} [القيامة: 34-35]، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه للحسن: أولى لك. وقالت فرقة من المفسرين: أولى رفع بالابتداء. و: {طاعة} خبره.
وقالت فرقة من المفسرين: {أولى لهم} ابتداء وخبر، معناه: الزجر والتوعد. ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى قوله: {طاعة وقول معروف} فقال بعضها، التقدير: {طاعة وقول معروف} أمثل، وهذا هو تأويل مجاهد ومذهب الخليل وسيبويه، وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصصة، ففيها بعض التعريف. وقال بعضها التقدير: الأمر {طاعة وقول معروف}، أي الأمر المرضي لله تعالى. وقال بعضها التقدير قولهم لك يا محمد على جهة الهزء والخديعة {طاعة وقول معروف} فإذا عزم الأمر كرهوه، ونحو هذا من التقدير قاله قتادة. وقال أيضاً ما معناه: إن تمام الكلام الذي معناه الزجر والتوعد ب أولى. وقوله: {لهم} ابتداء كلام، ف {طاعة} على هذا القول: ابتداء، وخبره: {لهم} والمعنى أن ذلك منهم على جهة الخديعة، فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا.
وقوله: {عزم الأمر} استعارة كما قال:
قد جدت الحرب بكم فجدوا

ومن هذا الباب: نام ليلك ونحوه.
وقوله: {صدقوا الله} يحتمل أن يكون من الصدق الذي هو ضد الكذب، ويحتمل أن يكون من قولك عود صدق، والمعنى متقارب.
وقوله تعالى: {فهل عسيتم} مخاطبة لهؤلاء {الذين في قلوبهم مرض} أي قل لهم يا محمد.
وقرأ نافع وأهل المدينة {عسِيتم} بكسر السين. وقرأ أبو عمرو والحسن وعاصم وأبو جعفر وشيبة: {عسَيتم} بفتح السين، والفتح أفصح، لأنه من عسى التي تصحبها أن. والمعنى: فهل عسى أن تفعلوا {إن توليتم} غير {أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}، وكأن الاستفهام الداخل على عسى غير معناها بعض التغيير كما يغير الاستفهام قولك: أو لو كان كذا وكذا. وقوله: {إن توليتم} معناه: إن أعرضتم عن الحق. وقال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن.
وقرأ جمهور القراء: {إن توليتم} والمعنى: إن أعرضتم عن الإسلام. وقال كعب الأحبار ومحمد بن كعب القرظي المعنى: إن توليتم أمور الناس من الولاية، وعلى هذا قيل إنها نزلت في بني هاشم وبني أمية، ذكره الثعلبي. وروى عبد الله بن مغفل عن النبي عليه السلام: «إن وُليتم» بواو مضمومة ولام مكسورة. قرأ علي بن أبي طالب: {إن تُوُلِّيتم} بضم التاء والواو وكسر اللام المشددة على معنى: إن وليتكم ولاية الجور فملتم إلى دنياهم دون إمام العدل، أو على معنى: إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وأفعال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والسباء، فإنما كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم، وقيل معناها: إن توليكم الناس ووكلكم الله إليهم.
وقرأ جمهور الناس: {وتُقطِّعوا} بضم التاء وشد الطاء المكسورة. وقرأ أبو عمرو: {وتَقطَعوا} بفتح التاء والطاء المخففة، وهي قراءة سلام ويعقوب.
وقوله تعالى: {أولئك الذين لعنهم الله} إشارة إلى مرضى القلوب المذكورين. و: {لعنهم} معناه: أبعدهم. وقوله: {فأصمهم وأعمى أبصارهم} استعارة لعدم سمعهم فكأنهم عمي وصم.