فصل: تفسير الآيات (268- 269):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (268- 269):

{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}
هذه الآية وما بعدها وإن لم تكن أمراً بالصدقة فهي جالبة للنفوس إلى الصدقة، بين عز وجل فيها نزغات الشيطان ووسوسته وعداوته، وذكر بثوابه هو لا رب غيره. وذكر بتفضله بالحكمة وأثنى عليها، ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون الذين يقيمون بالحكمة قدر الإنفاق في طاعة الله عز وجل وغير ذلك، ثم ذكر علمه بكل نفقة ونذر. وفي ذلك وعد ووعيد. ثم بين الحكم في الإعلان والإخفاء وكذلك إلى آخر المعنى. والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير وإذا قيد بالموعد ما هو فقد يقيد بالخير وبالشر كالبشارة. فهذه الآية مما قيد الوعد فيها بمكروه وهو {الفقر} و{الفحشاء} كل ما فحش وفحش ذكره، ومعاصي الله كلها فحشاء، وروى حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ الفُقر بضم الفاء، وهي لغة، وقال ابن عباس: في الآية اثنتان من الشيطان، واثنتان من الله تعالى، وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن للشيطان لمة من ابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجد ذلك فليتعوذ، وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير فمن وجد ذلك فليحمد الله»، ثم قرأ عليه السلام {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم} الآية، والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه والتنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى، وذكر النقاش أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى. لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير وهو بتخويفه الفقر يبعد منه.
قال القاضي أبو محمد: وليس في الآية حجة قاطعة أما إن المعارضة بها قوية وروي أن في التوراة عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة وفي القرآن مصداقة: وهو {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين} [سبأ: 39] و{واسع} لأنه وسع كل شيء رحمة وعلماً، ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه {يؤتي الحكمة} أي يعطيها لمن يشاء من عباده، واختلف المتأولون في {الحكمة} في هذا الموضع فقال السدي: {الحكمة} النبوءة، وقال ابن عباس: هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وعربيته. وقال قتادة: {الحكمة} الفقه في القرآن، وقاله مجاهد: وقال مجاهد أيضاً: {الحكمة} الإصابة في القول والفعل، وقال ابن زيد وأبوه زيد بن أسلم: {الحكمة} العقل في الدين، وقال مالك: {الحكمة} المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: {الحكمة} التفكر في أمر الله والاتباع له، وقال أيضاً {الحكمة} طاعة الله والفقه في الدين والعمل به، وقال الربيع: {الحكمة} الخشية، ومنه قول النبي عليه السلام: «رأس كل شيء خشية الله تعالى»، وقال إبراهيم: {الحكمة} الفهم وقاله زيد بن أسلم، وقال الحسن: {الحكمة} الورع، وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول.
وكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة. وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس. وقرأ الجمهور «من يؤت الحكمة» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ الزهري ويعقوب {ومن يؤت} بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة {فمن} مفعول أول مقدم و{الحكمة} مفعول ثان، وقرأ الأخفش: {ومن يؤته الحكمة}، وقرأ الربيع بن خثيم {تؤتي الحكمة من تشاء} بالتاء في {تؤتي} و{تشاء} منقوطة من فوق، {ومن يؤت الحكمة} بالياء، وباقي الآية تذكرة بينة وإقامة لهمم الغفلة، والألباب العقول واحدها لب.

.تفسير الآيات (270- 271):

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
كانت النذر من سيرة العرب تكثر منها، فذكر تعالى النوعين ما يفعله المرء متبرعاً وما يفعله بعد إلزامه لنفسه، ويقال: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله ينذُر بضم الذال وينذِر بكسرها، وقوله تعالى: {فإن الله يعلمه} قال مجاهد: معناه يحصيه، وفي الآية وعد ووعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب ومن أنفق رئاء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم يذهب فعله باطلاً ولا يجد ناصراً فيه، ووحد الضمير في {يعلمه} وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص، وقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات} الآية، ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع، قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال بسبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرا يقال بخمسة وعشرين ضعفاً، قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة»، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك، وقال سفيان الثوري هذه الآية في التطوع، وقال يزيد بن أبي حبيب: إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر، وهذا مردود لاسيما عند السلف الصالح، فقد قال الطبري: أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل، قال المهدوي: وقيل المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي عليه السلام، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع، قال أبو محمد: وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء، وقال النقاش: إن هذه الآية نسخها قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية} [البقرة: 274]، وقوله: {فنعما هي} ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء، واختلف القراء في قوله: {فنعما هي}، فقرأ نافع في غير رواية ورش، وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل فنِعمّا بكسر النون وسكون فنِعِمّا بكسر النون والعين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي فَنعِمّا بفتح النون وكسر العين وكلهم شدد الميم، قال أبو علي من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين، وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد، إذ المد يصير عوضاً من الحركة، وهذا نحو دابة وضوال وشبهه، ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في باريكم ويأمركم فظن السامع الإخفاء إسكاناً للطف، ذلك في السمع وخفائه، وأما من قرأ {نِعِمّا} بكسر النون والعين فحجته أن أصل الكلمة {نِعم} بكسر الفاء من أجل حرف الحلق، ولا يجوز أن يكون ممن يقول نعم ألا ترى أن من يقول هذا قدم ملك فيدغم، لا يدغم، هؤلاء قوم ملك وجسم ماجد، قال سيبويه {نِعِما} بكسر النون والعين ليس على لغة من قال: {نعم} فاسكن العين، ولكن على لغة من قال: {نعم} فحرك العين، وحدثنا أبو الخطاب أنها لغة هذيل وكسرها كما قال لعب ولو كان الذي قال: {نعْما} ممن يقول نعم بسكون العين لم يجز الإدغام.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: يشبه أن هذا يمتنع لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين، قال أبو علي وأما من قرأ {نَعِمّا} بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم ومنه قول الشاعر:
ما أقلّت قدماي أنهم ** نَعِمَ الساعون في الأمر المبر

ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام {نعْم} بسكون العين، وقال المهدوي وذلك جائز محتمل وتكسر العين بعد الإدغام لالتقاء الساكنين، قال أبو علي، وما من قوله: {نعمّا} في موضع نصب، وقوله: {هي} تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير، نعم شيئاً إبداؤها. والإبداء هو المخصوص بالمدح. إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويدلك على هذا قوله: {فهو خير لكم} أي الإخفاء خير، فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات، فكذلك أولاً الفاعل هو الإبداء، وهو الذي اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مقامه، واختلف القراء في قوله تعالى: {ونكفر عنكم} فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر: {ونكفرُ} بالنون ورفع الراء، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: {ونكفرْ} بالنون والجزم في الراء، وروي مثل ذلك أيضاً عن عاصم، وقرأ ابن عامر: {ويكفرُ} بالياء ورفع الراء، وقرأ ابن عباس {وتكفر} بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء، وقرأ عكرمة: {وتكفر} بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء، وقرأ الحسن: {ويكفرْ} بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش أنه قرأ: {ويكفر} بالياء ونصب الراء، وقال أبو حاتم: قرأ الأعمش: {يكفر} بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء، وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ: {وتكفرُ} بالتاء ورفع الراء، وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآها بتاء ونصب الراء.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فما كان من هذ القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلة، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر، والإعطاء في خفاء هو المكفر، ذكره مكي وأما رفع الراء فهو على وجهين: أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء، وتقدير ونحن نكفر، أو وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر، والثاني: القطع والاستئناف وأن لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف جملة على جملة، وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع قوله تعالى: {فهو خير} إذ هو في موضع جزم جواباً للشرط، كأنه قال: وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم، ثم عطفه على هذا الموضع كما جاء قراءة من قرأ:
{من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم} [الأعراف: 186] بجزم الراء وأمثلة هذا كثيرة، وأما نصب الراء فعلى تقدير {إن} وتأمل، وقال المهدوي هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام. والجزم في الراء أفصح هذه القراءات. لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء. وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى، و{من} في قوله: {من سيئاتكم} للتبعيض المحض، والمعنى في ذلك متمكن، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: {من} زائدة في هذا الموضع وذلك منهم خطأ، وقوله: {والله بما تعملون خبير} وعد ووعيد.

.تفسير الآية رقم (272):

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)}
روي عن سعيد بن جبير في سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم»، فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام، وذكر النقاش أن النبي عليه السلام أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لك في صدقة المسلمين من شيء»، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية، {ليس عليك هداهم} فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية {إنما الصدقات} [التوبة: 60] وروي عن ابن عباس أنه كان ناس من الأنصار لهم قرابات في بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلمون إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب ذلك، وحكى بعض المفسرين أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أرادت أن تصل جدها أبا قحافة، ثم امتنعت من ذلك لكونه كافراً، فنزلت الآية في ذلك، وذكر الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله: {ليس عليك هداهم} قال أبو محمد: وهذه الصدقة التي أبيحت عليهم حسبما تضمنته هذه الآثار إنما هي صدقة التطوع. وأما المفروضة فلا يجزي دفعها لكافر، وهذا الحكم متصور للمسلمين اليوم مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين. قال ابن المنذر أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئاً، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك، ولم يذكر خلافاً، وقال المهدوي رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة بهذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود عندي، والهدى الذي ليس على محمد صلى الله عليه وسلم هو خلق الإيمان في قلوبهم، وأما الهدى الذي هو الدعاء فهو عليه، وليس بمراد في هذه الآية، ثم أخبر تعالى أنه هو: {يهدي من يشاء} أي يرشده، وفي هذا رد على القدرية وطوائف المعتزلة، ثم أخبر أن نفقة المرء تأجراً إنما هي لنفسه فلا يراعى حيث وقعت، ثم بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله، هذا أحد التأويلات في قوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} وفيه تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل، وعلى التأويل الآخر هو اشتراط عليهم ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة، ونصب قوله: {ابتغاء} هو على المفعول من أجله، ثم ذكر تعالى أن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين، والمعنى في الآخرة ولا يبخسون منه شيئاً، فيكون ذلك أبخس ظلماً لهم، وهذا هو بيان قوله: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} والخير في هذه الآية المال لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى: {خيراً مستقراً} [الفرقان: 24] وقوله تعالى: {مثقال ذرة خيراً يره} [الزلزلة: 7] إلى غير ذلك، وهذا الذي قلناه تحرز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله فهو المال.

.تفسير الآية رقم (273):

{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}
هذه اللام في قوله: {للفقراء} متعلقة بمحذوف مقدر، تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء، وقال مجاهد والسدي وغيرهما: المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، قال الفقيه أو محمد: ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم، ثم بيّن الله تعالى من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم، بقوله: {الذين أحصروا في سبيل الله} والمعنى حبسوا ومنعوا وذهب بعض اللغويين إلى أن أحصر وحصر بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه من الأعذار، حكاه ابن سيده وغيره، وفسر السدي هنا الإحصار بأنه بالعدو. وذهب بعضهم إلى أن أحصر إنما يكون بالمرض والأعذار. وحصر بالعدو. وعلى هذا فسر ابن زيد وقتادة ورجحه الطبري. وتأول في هذه الآية أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفر، فصار خوف العدو عذراً أحصروا به.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذا متجه كأن هذه الأعذار أحصرتهم أي جعلتهم ذوي حصر، كما قالو قبره أدخله في قبره وأقبره جعله ذا قبر، فالعدو وكل محيط يحصر، والأعذار المانعة {تُحصِر} بضم التاء وكسر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط به، وقوله: {في سبيل الله} يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام، واللفظ يتناولهما، والضرب في الأرض هو التصرف في التجارة، وضرب الأرض هو المشي إلى حاجة الإنسان في البراز، وكانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفراً مطبقاً، وهذا في صدر الهجرة، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد. وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة. فبقوا فقراء إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث {يحسبهم الجاهل} بباطن أحوالهم {أغنياء} و{التعفف} تفعل، وهو بناء مبالغة من عفَّ عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه. وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي {يحسِبهم} بكسر السين. وكذلك هذا الفعل في كل القرآن، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة {يحسبهم} بفتح السين في كل القرآن، وهما لغتان في {يحسب} كعهد ويعهد بفتح الهاء وكسرها في حروف كثيرة أتت كذلك، قال أبو علي فتح السين في يحسب أقيس لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة، والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به، وإن كان شاذاً عن القياس، و{من} في قوله: {من التعفف} لابتداء الغاية أي من تعففهم ابتدأت محسبته، وليست لبيان الجنس لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف، وإنما يحسبهم أغنياء غناء مال، ومحسبته من التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة، وهو الذي عليه جمهور المفسرين، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافاً}: المعنى لا يسألون البتة.
وتحتمل الآية معنى آخر من فيه لبيان الجنس، سنذكره بعد والسيما مقصورة العلامة. وبعض العرب يقول: السيمياء بزيادة ياء وبالمد، ومنه قول الشاعر: [الطويل].
لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ ** واختلف المفسرون في تعيين هذه السيما التي يعرف بها هؤلاء المتعففون، فقال مجاهد: هي التخشع والتواضع، وقال السدي والربيع: هي جهد الحاجة وقصف الفقر في وجوههم وقلة النعمة، وقال ابن زيد: هي رثة الثياب، وقال قوم، وحكاه مكي: هي أثر السجود.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا حسن لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم أبداً، و{الإلحاف} والإلحاح بمعنى واحد، وقال قوم: هو مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وغمه بالتغطية، ومنه اللحاف، ومنه قول ابن الأحمر: [الوافر]
يَظَلُّ يَحُفُّهُنَّ بِقُفْقُفَيْهِ ** وَيُلْحِفُهنَّ هَفهَافاً ثَخِينَا

يصف ذكر نعام يحضن بيضاً، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، وذهب الطبري والزجاج وغيرهما إلى أن المعنى لا يسألون البتة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط، أما الأولى فعلى أن يكون {التعفف} صفة ثابتة لهم، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال، وتكون {من} لابتداء الغاية ويكون قوله: {لا يسألون الناس إلحافاً} لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافاً من الناس، كما تقول: هذا رجل خير لا يقتل المسلمين. فقولك: {خير} قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل، وكثيراً ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجوداً في القضية مشاراً إليه في نفس المتكلم والسامع. وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة، وهو مما يكره، فلذلك نبه عليه.
وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون {التعفف} داخلاً في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالاً، بل هو قليل.
وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة، ف {من} لبيان الجنس على هذا التأويل، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقرراً لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي، وقال الزجّاج رحمه الله: المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف.
وهذا كما قال امرؤ القيس: [الطويل]
عَلَى لاَحِبٍ يُهتَدَى بِمَنَارِهِ ** أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال البتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية، وأما تشبيهه الآية ببيت امرئ القيس فغير صحيح، وذلك أن قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله الآخر: [البسيط].
قِفْ بِالطُّلُولِ التي لَمْ يَعْفُهَا القدَمُ

وقوله الشاعر: [المتقارب]
وَمَنْ خفْتُ جَوْرِهِ فِي القَضَا ** ء فَمَا خِفْتُ جَوْرَك يَا عَافِيهْ

وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار، وإن كان المنار موجوداً فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور، وهذا لا يترتب في الآية، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني، أي ليس ثم منار، فإذاً لا يكون اهتداء بمنار، وليس ثم قدم فإذاً لا يكون عفا، وليس ثم جور فإذاً لا يكون خوف، وقوله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافاً}، لا يترتب فيه شيء من هذا، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره، ثم خصص بقوله: {إلحافاً} جزءاً من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم، والسؤال ليس هكذا مع الألحاف، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالاً لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال، كأنك قلت تكسباً أو نحوه لصح الشبه، والله المستعان وقوله تعالى: {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} وعد محض أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب.