فصل: تفسير الآيات (21- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (21- 22):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
{يا} حرف نداء، وفيه تنبيه، وأي هو المنادى.
قال أبو علي: اجتلبت أي بعد حرف النداء فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفاً فكان يجتمع تعريفان، وها تنبيه وإشارة إلى المقصود، وهي بمنزلة ذا في الواحد، و{الناس} نعت لازم لأي.
وقال مجاهد: {يا أيها الناس} حيث وقع في القرآن مكي، و{يا أيها الذين آمنوا} مدني.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: قد تقدم في أول السورة أنها كلها مدنية، وقد يجيء في المدني {يا أيها الناس}، وأما قوله في {يا أيها الذين آمنوا} فصحيح.
وقوله تعالى: {اعبدوا ربكم} معناه وحدوه وخصوه بالعبادة، وذكر تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها، فذكر ذلك حجة عليهم.
ولعل في هذه الآية قال فيها كثير من المفسرين هي بمعنى إيجاب التقوى وليست من الله تعالى بمعنى ترجٍّ وتوقُّع.
وقال سيبويه ورؤساء اللسان: هي على بابها، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، أي إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم رجوتم لأنفسكم التقوى، و{لعلكم} متعلقة بقوله: {اعبدوا ربكم}، ويتجه تعلقها بخلقكم أي لما ولد كل مولود على الفطرة فهو إن تأمله متأمل توقَّع له ورجا أن يكون متقياً، و{تتقون} مأخوذ من الوقاية، وأصله توتقيون نقلت حركة الياء إلى القاف وحذفت للالتقاء مع الواو الساكنة وأدغمت الواو الأولى في التاء.
وقوله تعالى: {الذي جعل} نصب على إتباع الذي المتقدم، ويصح أن يكون مرفوعاً على القطع.
وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب {تتقون} فضعيف.
وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين، و{فراشاً} معناه تفترشونها وتستقرون عليها، وما في الأرض مما ليس بفراش كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها، لأن الجبال كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها، و{السماء} قيل هو اسم مفرد جمعه سماوات، وقيل هو جمع واحده سماوة، وكل ما ارتفع عليك في الهواء سماء، والهواء نفسه علواً يقال له سماء، ومنه الحديث: «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً»، واللفظة من السمو وتصاريفه.
وقوله تعالى: {بناء} تشبيه يفهم، كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأييد} [الذاريات: 47].
وقال بعض الصحابة: بناها على الأرض كالقبة.
وقوله: {وأنزل من السماء} يريد السحاب، سمي بذلك تجوزاً لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة، ومنه قول الشاعر: [الوافر].
إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

فتجوز أيضاً في رعيناه، فبتوسط المطر جعل السماء عشباً، وأصل {ماء} موه يدل على ذلك قولهم في الجمع مياه وأمواه، وفي التصغير مويه، وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك، أي هي معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق، ورد بهذه الآية بعض الناس قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه، وليس الحرام برزقه، وواحد الأنداد ند، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلاً أو خلافاً أو ضداً، ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما.
وقال أبو عبيدة معمر والمفضل: الضد الند، وهذا التخصيص منهما تمثيل لا حصر.
واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية؟ فقالت جماعة من المفسرين: المخاطب جميع المشركين: فقوله على هذا: {وأنتم تعلمون} يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار، وقيل المراد كفار بني إسرائيل، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم، أن الله لا ند له.
وقال ابن فورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون، وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد. وهذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرق من جعل لله نداً، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله، لا رب غيره.

.تفسير الآيات (23- 24):

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
الريب الشك، وهذه الآية تقتضي أن الخطاب المتقدم إنما هو لجماعة المشركين الذي تحدوا، وتقدم تفسير لفظ سورة في صدر هذا التعليق. وقرأ يزيد بن قطيب: {أنزلنا} بألف.
واختلف المتأولون على من يعود الضمير في قوله: {مثله}: فقال جمهور العلماء: هو عائد على القرآن ثم اختلفوا. فقال الأكثر من مثل نظمه ورصفه وفصاحة معانية التي يعرفونها ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خُصَّ به القرآن، وبه وقع الإعجاز على قول حذاق أهل النظر.
وقال بعضهم: {من مثله} في غيوبه وصدقه وقدمه، فالتحدي عند هؤلاء وقع بالقدم، والأول أبين و{من} على هذا القول زائدة، أو لبيان الجنس، وعلى القول الأول هي للتعبيض، أو لبيان الجنس.
وقالت فرقة: الضمير في قوله: {من مثله} عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا.
فقالت طائفة: من أمي صادق مثله.
وقالت طائفة: من ساحر أو كاهن أو شاعر مثله. على زعمكم أيها المشركون.
وقالت طائفة: الضمير في {مثله} عائد على الكتب القديمة التوراة والإنجيل والزبور.
وقوله تعالى: {وادعوا شهداءكم} معناه دعاء استصراخ، والشهداء من شهدهم وحضرهم من عون ونصير، قاله ابن عباس. وقيل عن مجاهد: إن المعنى دعاء استحضار.
والشهداء جمع شاهد، أي من يشهد لكم أنكم عارضتم، وهذا قول ضعيف.
وقال الفراء: شهداؤهم يراد بهم آلهتهم.
وقوله تعالى: {إن كنتم صادقين} أي فيما قلتم من الريب. هذا قول بعض المفسرين.
وقال غيره: فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة. ويؤيد هذا القول أنه قد حكى عنهم في آية أخرى: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الأنفال: 31].
وقوله تعالى: {فإن لم تفعلوا}، دخلت {إن} على {لم} لأن {لم تفعلوا} معناه تركتم الفعل، ف {إن} لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال، و{تفعلوا} جزم ب {لم}، وجزمت ب {لم} لأنها أشبهت لا في التبرية في أنهما ينفيان، فكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.
وقوله: {ولن تفعلوا} نصبت {لن}، ومن العرب من تجزم بها، ذكره أبو عبيدة، ومنه بيت النابغة على بعض الروايات: [البسيط]
فلن أعرّضْ أبيت اللعن بالصفد

وفي الحديث في منامة عبد الله بن عمر فقيل لي: لن ترعْ هذا على تلك اللغة، وفي قوله: {لن تفعلوا} إثارة لهممهم وتحريك لنفوسهم، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها.
وقوله تعالى: {فاتقوا النار}، أمر بالإيمان وطاعة الله خرج في هذه الألفاظ المحذرة.
وقرأ الجمهور: {وَقودها} بفتح الواو. وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وأبو حيوة: {وقودها} بضم الواو في كل القرآن، إلا أن طلحة استثنى الحرف الذي في البروج، وبفتح الواو هو الحطب وبضمها هو المصدر، وقد حكيا جميعاً في الحطب وقد حكيا في المصدر.
قال ابن جني: من قرأ بضم الواو فهو على حذف مضاف تقديره ذو وقودها، لأن الوقود بالضم مصدر، وليس بالناس، وقد جاء عنهم الوقود بالفتح في المصدر، ومثله ولعت به لوعاً بفتح الواو، وكله شاذ، والباب هو الضم.
وقوله: {الناس} عموم معناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء بدخولها.
وروي عن ابن مسعود في {الحجارة} أنها حجارة الكبريت وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الاتقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها إذا حميت.
وفي قوله تعالى: {أعدت} رد على من قال: إن النار لم تخلق حتى الآن، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة، وأن غيرها هي للعصاة.
وقال الجمهور: بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد، إذ فعلهم كفر، فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم، وليس فعل فعلكم، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم.
وقرأ ابن أبي عبلة: {أَعدَّها الله للكافرين}.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
{بشر} مأخوذ من البشرة لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثر في بشرة الوجه، والأغلب استعمال البشارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيدة به منصوصاً على الشر المبشر به، كما قال تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21، التوبة، 34، الانشقاق: 24] ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير، وفي قوله تعالى: {وعملوا الصالحات} رد على من يقول إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات لأنه لو كان ذلك ما أعادها.
و{أن} في موضع نصب ب {بشرِّ} وقيل في موضع خفض على تقدير باء الجر و{جنات} جمع جنة، وهي بستان الشجرة والنخيل، وبستان الكرم يقال له الفردوس، وسميت جنة لأنها تجن من دخلها أي تستره، ومنه المجن والجنن وجن الليل، و{من تحتها} معناه من تحت الأشجار التي يتضمنها ذكر الجنة وقيل قوله: {من تحتها} معناه بإزائها كما تقول داري تحت دار فلان وهذا ضعيف، و{الأنهار} المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، لأنها لفظة مأخوذة من أنهرت أي سعت، ومنه قول قيس بن الخطيم: [الطويل].
ملكت بها كفي فأنْهَرْتَ فَتْقَها ** يَرَى قَائِمٌ من دونِها ما وراءَها

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكرَ اسمُ الله عليه فكلوه» معناه ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهر ونسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده تجوزاً، كما قال: {واسأل القربة} [يوسف: 82] وكما قال الشاعر: [مهلهل أخو كليب] [الكامل]
نُبِّئْتُ أن النارَ بعدَك بعدَك أوقدتْ ** واستبّ بعدك يا كليبُ المجلسُ

وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنما تجري على سطح أرض الجنة منضبطة، وقوله: {كلما} ظرف يقتضي الحصر وفي هذه الآية رد على من يقول: إن الرزق من شروطه التملك.
قال القاضي أبو محمد: ذكر هذا بعض الأصوليين وليس عندي ببين، وقولهم {هذا} إشارة إلى الجنس أي: هذا من الجنس الذي رزقنا منه من قبل، والكلام يحتمل أن يكون تعجباً وهو قول ابن عباس، ويحتمل أن يكون خبراً من بعضهم لبعض، قاله جماعة من المفسرين.
وقال الحسن ومجاهد: يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها والطعم مختلف فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضاً.
وقال ابن عباس: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة.
وقال بعض المتأولين: المعنى أنهم يرون الثمر فيميزون أجناسه حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون: {هذا الذي رزقنا من قبل} في الدنيا.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن عباس الذي قبل هذا يرد على هذا القول بعض الرد.
وقال بعض المفسرين: المعنى هذا الذي وعدنا به في الدنيا فكأنهم قد رزقوه في الدنيا إذ وعد الله منتجز.
وقال قوم: إن ثمر الجنة إذا قطف منه شيء خرج في الحين في موضعه مثله فهذا إشارة إلى الخارج في موضع المجني.
وقرأ جمهور الناس: {وأُتُوا} بضم الهمزة وضم التاء.
وقرأ هارون الأعور: {وأَتَوا} بفتح الهمزة والتاء والفاعل على هذه القراءة الولدان والخدام، و{أتوا} على قراءة الجماعة أصله أتيوا نقلت حركة الياء إلى التاء ثم حذفت الياء للالتقاء.
وقوله تعالى: {متشابهاً} قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم: معناه يشبه بعضه بعضاً في المنظر ويختلف في الطعم.
وقال عكرمة: معناه يشبه ثمر الدنيا في المنظر ويباينه في جل الصفات.
وقوله تعالى: {متشابهاً} معناه خيار لا رذل فيه، كقوله تعالى: {كتاباً متشابهاً} [الزمر: 23].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كأنه يريد متناسباً في أن كل صنف هو أعلى جنسه فهذا تشابه ما، وقيل {متشابهاً} أي مع ثمر الدنيا في الأسماء لا في غير ذلك من هيئة وطعم، و{أزواج} جمع زوج والمرأة زوج الرجل والرجل زوج المرأة ويقال في المرأة زوجة ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ** كساع إلى أُسْد الشرى يستبيلُها

وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم. ذكر البخاري وغيره الحديث بطوله. و{مطهرة} أبلغ من طاهرة، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبزاق وسائر أقذار الآدميات، وقيل من الآثام. والخلود الدوام في الحياة أو الملك ونحوه وخلد بالمكان إذا استمرت إقامته فيه، وقد يستعمل الخلود مجازاً فيما يطول، وأما هذا الذي في الآية فهو أبدي حقيقة.