فصل: تفسير الآيات (58- 61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (58- 61):

{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}
{ذلك} رفع بالابتداء والإشارة به إلى ما تقدم من الأنباء، و{نتلوه عليك} خبر ابتداء وقوله: {من الآيات} لبيان الجنس، ويجوز ان تكون للتبعيض، ويصح أن يكون {نتلوه عليك} حالاً ويكون الخبر في قوله من {الآيات} وعلى قول الكوفيين يكون قوله: {نتلوه} صلة لذلك، على حد قولهم في بيت ابن مفرغ الحميري:
وهذا تحملين طليق

ويكون الخبر في قوله: {من الآيات}، وقول البصريين في البيت أن تحملين حال التقدير، وهذا محمولاً، و{نتلوه} معناه نسرده، و{من الآيات} ظاهره آيات القرآن، ويحتمل أن يريد بقوله: {من الآيات} من المعجزات والمستغربات أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا، وبسبب تلاوتنا وأنت أمي لا تقرأ، ولست ممن أصحب أهل الكتاب، فالمعنى أنها آيات لنبوتك، وهذا الاحتمال إنما يتمكن مع كون {نتلوه} حالاً، و{الذكر} ما ينزل من عند الله، و{الحكيم} يجوز أن يتأول بمعنى المحكم، فهو فعيل بمعنى مفعول، ويصح أن يتأول بمعنى مصرح بالحكمة، فيكون بناء اسم الفاعل، قال ابن عباس، {الذكر} القرآن، و{الحكيم} الذي قد كمل في حكمته.
وذكر ابن عباس وقتادة وعكرمة والسدي وغيرهم، قالوا سبب نزول قوله تعالى: {إن مثل عيسى} الآية أن وفد نصارى نجران جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى، وقالوا بلغنا أنك تشتم صاحبنا وتقول هو عبد، فقال النبي عليه السلام، وما يضر ذلك عيسى، أجل هو عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فقالوا فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به؟ وخرجوا من عند النبي فأنزل الله عليه هذه الآية. قوله تعالى {إن مثل} عبر عنه بعض الناس، بأن صفة عيسى وقرنوا ذلك بقوله تعالى: {مثل الجنة} [الرعد: 35] قالوا: معناه صفة الجنة.
قال الإمام أبو محمد: وهذا عندي ضعف في فهم معنى الكلام وإنما المعنى: أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل، وكذلك مثل الجنة عبارة عن المتصور منها، وفي هذه الآية صحة القياس، أي إذا تصوروا أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى عليه السلام والكاف في قوله: {كمثل} اسم على ما ذكرناه من المعنى وقوله: {عند الله} عبارة عن الحق في نفسه، أي هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم، وقوله: {خلقه من تراب} تفسير لمثل آدم، الذي ينبغي أن يتصور، والمثل والمثال بمعنى واحد، ولا يجوز أن يكون {خلقه} صلة لآدم ولا حالاً منه، قال الزجاج: إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها بل هو كلام مقطوع منه، مضمنه تفسر المثل، قوله عز وجل: {ثم قال} ترتيب للأخبار لمحمد عليه السلام، المعنى خلقه من تراب ثم كان من أمره في الأزل أن قاله له {كن} وقت كذا، وعلى مذهب أبي علي الفارسي، في أن القول مجازي، مثل وقال قطني، وأن هذه الآية عبارة عن التكوين، ف {ثم} على بابها في ترتيب الأمرين المذكورين، وقراءة الجمهور {فيكونُ}، بالرفع على معنى فهو يكون، وقرأ ابن عامر {فيكونَ} بالنصب، وهي قراءة ضعيفة الوجه، وقد تقدم توجيهها آنفاً في مخاطبة مريم.
وقوله تعالى: {الحق من ربك}، رفع على الابتداء وخبره فيما يتعلق به، قوله: {من ربك}، أو الحق ذلك، أو ما قلناه لك، ويجوز أن يكون خبر ابتداء، تقديره هذا الحق و{الممترين} هم الشاكون، والمرية الشك، ونهي النبي عليه السلام في عبارة اقتضت ذم الممترين، وهذا يدل على ان المراد بالامتراء غيره، ولو قيل: فلا تكن ممترياً لكانت هذه الدلالة أقل، ولو قيل فلا تمتر لكانت أقل ونهي النبي عليه السلام عن الامتراء مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله.
وقوله تعالى: {فمن حاجك فيه} معناه جادلك ونازعك الحجة، والضمير في قوله: {فيه} يحتمل أن يعود على {عيسى}، ويحتمل أن يعود على {الحق}، والعلم الذي أشير إليه بالمجيء هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة من أمر عيسى وقوله تعالى: {فقل تعالوا} الآية، استدعاء المباهلة و{تعالوا} تفاعلوا من العلو، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونحو ذلك و{نبتهل} معناه نلتعن، ويقال عليهم بهلة الله معنى اللعنة، والابتهال: الجد في الدعاء بالبهلة.
وروي في قصص هذه الآية: أنها نزلت بسبب محاجة نصارى نجران في عيسى عليه السلام وقولهم هو الله، وكانوا يكثرون الجدال وقد روى عبد الله بن الحارث بن جزء السوائي عن النبي عليه السلام أنه قال: ليت بيني وبين أهل نجران حجاباً فلا أراهم ولا يروني لشدة ما كانوا يمارون فلما قرأ النبي عليه السلام الآية دعاهم إلى ذلك، فروى الشعبي وغيره، أنهم وعدوه بالغد أن يلاعنوه فانطلقوا إلى السيد والعاقب فتابعاهم على أن يلاعنوا فانطلقوا إلى رجل آخر منهم عاقل فذكروا له ما صنعوا فذمهم وقال لهم: إن كان نبياً ثم دعا عليكم هلكتم، وإن كان ملكاً فظهر لم يبق عليكم، قالوا فكيف نصنع وقد واعدناه؟ قال: إذا غدوتم فدعاكم إلى ذلك فاستعيذوا بالله من ذلك فعسى أن يعفيكم فلما كان الغد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضناً حسيناً آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، فدعاهم إلى الميعاد، فقالوا: نعوذ بالله فأعادوا التعوذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«فإن أبيتم فأسلموا فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء»، قالوا: لا طاقة لنا بحرب العرب ولكنا نؤدي الجزية قال: فجعل عليهم كل سنة ألفي حلة ألفاً في رجب وألفاً في صفر وطلبوا منه رجلاً آميناً يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقال عليه السلام: «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران لو تموا على الملاعنة»، وروى محمد بن جعفر بن الزبير وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم قالوا: دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نفعل فذهبوا إلى العاقب وهو ذو رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: يا معشر النصارى، والله لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لاعن قوم قط نبياً فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه الاستئصال إن فعلتم، فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه، فأتوا النبي عليه السلام، فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نبقى على ديننا وصالحوه على أموال وقالوا له: ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضى، وروى السدي وغيره أن النبي عليه السلام جاء هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين ودعاهم فأبوا وجزعوا وقال لهم أحبارهم: إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم ناراً فصالحوا النبي عليه السلام على ثمانين ألف درهم في العام فما عجزت عنه الدراهم ففي العروض، الحلة بأربعين وعلى أن عليهم ثلاثاً وثلاثين درعاً وثلاثة وثلاثين بعيراً وأربعاً وثلاثين فرساً عارية كل سنة ورسول الله ضامن ذلك حتى يؤديها إليهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لاعنوا لاستؤصلوا من جديد الأرض، وقال أيضاً لو فعلوا لاضطرم عليهم الوادي ناراً، وروى علباء بن احمر اليشكري قال: لما نزلت هذه الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ودعا اليهود ليلاعنهم، فقال شاب من اليهود: ويحكم، أليس عهدكم بالأمس بإخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ فلا تلاعنوا فانتهوا، وفي هذه القصة اختلافات للرواة وعبارات تجري كلها في معنى ما ذكرناه لكنا قصدنا الإيجاز وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوة محمد شاهد عظيم على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، وما روي من ذلك خير مما روى الشعبي من تقسيم ذلك الرجل العاقل فيهم أمر محمد بأنه إما نبي وإما ملك لأن هذا نظر دنياوي وما روى الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا سائر الكفرة وأليق بحال محمد صلى الله عليه وسلم، ودعاء النساء والأنبياء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين، وظاهر الأمر أن النبي عليه السلام جاءهم بما يخصه، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط.

.تفسير الآيات (62- 64):

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}
{هذا} خبر من الله تعالى جزم مؤكد فصل به بين المختصمين، والإشارة ب {هذا} هي إلى ما تقدم في أمر عيسى عليه السلام، قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد وغيرهم: و{القصص} معناه الأخبار، تقول: قص يقص، قصاً وقصصاً، إذا تتبع الأمر يخبر به شيئاً بعد شيء، قال قوم: هو مأخوذ من قص الأثر، وقوله: {لهو} يحتمل أن يكون فصلاً ويحتمل أن يكون ابتداء، و{من} قوله: {من إله} مؤكدة بعد النفي، وهي التي يتم الكلام دونها لكنها تعطي معنى التأكيد، وقوله تعالى: {فإن الله عليم بالمفسدين} وعيد.
واختلف المفسرون من المراد بقوله: {قل يا أهل الكتاب تعالوا} فقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله عليه السلام دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم، وقاله الربيع وابن جريج، وقال: محمد بن جعفر بن الزبير: نزلت الآية في وفد نجران، وقاله السدي، وقال ابن زيد: لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة، دعوا إلى أيسر من ذلك وهي الكلمة السواء والذي يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران، لكن لفظ {أهل الكتاب} يعمهم وسواهم من النصارى واليهود، فدعى النبي عليه السلام بعد ذلك يهود المدينة بالآية، وكذلك كتب بها إلى هرقل عظيم الروم، وكذلك ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة، وقرأ جمهور الناس {إلى كَلِمة} بفتح الكاف وكسر اللام، وروى أبو السمال: {كَلْمة} بفتح الكاف وسكون اللام، وروي عنه أنه قرأ {كِلْمة} بكسر الكاف وسكون اللام، وذلك على إلقاء حركة اللام على الكاف كما قالوا في كبد، كبد بكسر الكاف وسكون الباء، و{الكلمة} هنا عبارة عن الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها، وهي ما فسره بعد ذلك بقوله: {ألا نعبد} الآية وهذا كما تسمي العرب القصيدة كلمة، وجمهور المفسرين على أن الكلمة هي ما فسر بعد، وقال أبو العالية: الكلمة السواء، لا إله إلا الله.
قال الفقيه الإمام: وقوله: {سواء} نعت للكلمة، قال قتادة والربيع وغيرهما: معناه إلى كلمة عدل، فهذا معنى {السواء}، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، كما فسر قتادة والربيع، وقال بعض المفسرين: معناه إلى كلمة قصد.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وهذا قريب في المعنى من الأول، والسواء والعدل والقصد مصادر وصف بها في هذه التقديرات كلها، والذي أقوله في لفظة {سواء} انها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون، صغيرهم وكبيرهم، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً فلم يكونوا على استواء حال فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه، ف {سواء} على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر: هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه.
والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير اللفظة بعدل، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل، وعلى هذا الحد جاءت لفظة {سواء} في قوله تعالى: {فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58] على بعض التأويلات، ولو دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حراً مقاسماً لك في عيشك، لكنت قد دعوته إلى السواء، الذي هو استواء الحال على ما فسرته، واللفظ على كل تأويل فيها معنى العدل، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال، وهو عندي حسن، لأن النفوس تألفه، والله الموفق للصواب برحمته.
وقوله: {ألا نعبد} يحتمل أن يكون في موضع خفض بمعنى، إلى {ألا نعبد}، فذلك على البدل من {كلمة} ويحتمل أن يكون في موضع رفع بمعنى، هي {ألا نعبد} وما ذكره المهدوي وغيره من أن تكون مفسرة إلى غير ذلك من الجائزات التي يلزم عنها رفع {نعبد} إكثار منهم فاختصرته، واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتب، أعلاها اعتقادهم فيهم الألوهية، وعبادتهم لهم على ذلك، كعزير وعيسى ابن مريم، وبهذا فسر عكرمة، وأدنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم، ورؤسائهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعاً، وبهذا فسر ابن جريج، فجاءت الآية بالدعاء إلى ترك ذلك كله وأن يكون الممتثل ما قاله الله تعالى على لسان نبيه عليه السلام، وقوله تعالى: {فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون} أمر بتصريح مخالفتهم بمخاطبتهم ومواجهتهم بذلك، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف تكون.

.تفسير الآيات (65- 66):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)}
اختلف المفسرون فيمن نلزت هذه الآية، فقال ابن عباس: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند النبي عليه السلام فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى، ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فأنزل الله الآية، وقال السدي وقتادة: وحكى الطبري عن مجاهد وقتادة أيضاً: أنهما قالا نزلت الآية بسبب دعوى اليهود أنه منهم وأنه مات يهودياً، وجعل هذا القول تحت ترجمة مفردة له، والصحيح أن جميع المتأولين إنما نحوا منحى واحداً، وأن الآية في اليهود والنصارى، وألفاظ الآية تعطي ذلك فكيف يدافع أحد الفريقين عن ذلك؟ وهذه الآية مبينة فساد هذه الدعاوى، التي لا تشبه لقيام الدليل القاطع على فسادها، لأنهم ادعوا لإبراهيم الخليل نحلاً لم تحدث في الأرض، ولا وجدت إلا بعد موته بمدة طويلة، ولما كان الدليل عقلياً قال الله تعالى لهم موبخاً {أفلا تعقلون}؟
واختلف القراء في قوله: {ها أنتم} في المد والهمز وتركه، فقرأ ابن كثير، {هأنتم}، في وزن هعنتم، وقرأ نافع وأبو عمرو {هانتم} استفهاماً بلا همز، وقرأ الباقون، {ها أنتم} ممدواً مهموزاً، ولم يختلفوا في مد {هؤلاء} وأولاء، فوجه قراءة ابن كثير، أنه أبدل من همزة الاستفهام الهاء، أراد {أأنتم}، ووجه قراءة نافع وأبي عمرو أحد أمرين، يجوز أن تكون {ها} التي للتنبيه دخلت على {أنتم}، ويكون التنبيه داخلاً على الجملة، كما دخل على قولهم هلم وكما دخلت- يا- التي للتنبيه في قوله ألا يا اسجدوا، وفي قول الشاعر: [البسيط]
يَا قَاتَلَ صِبياناً تجيءُ بِهِمْ ** أمُّ الهُنَيِّدِ مِنْ زَنْدٍ لها وَاري

وقول الآخر: [البسيط]
يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهِم ** والصَّالِحِينَ عَلَى سِمْعَانَ مِنْ جَارِ

وخففت الهمزة من {أنتم} ولم تحقق بعد الألف، كما قالوا في هباءة هباة، ويجوز أن تكون الهاء في {هأنتم} بدلاً من همزة الاستفهام، كوجه قراءة ابن كثير، وتكون الألف هي التي تدخل بين الهمزتين، لتفصل بينهما، ووجه قراءة الباقين {ها أنتم} مهموز ممدود يحتمل الوجهين اللذين في قراءة نافع وأبي عمرو، وحققوا الهمزة التي بعد الألف، ولم يخففوها كما خففها أبو عمرو ونافع، ومن لم ير إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين كما يراه أبو عمرو، فينبغي أن تكون {ها} في قوله للتنبيه ولا تكون بدلاً من همزة الاستفهام، وأما {هؤلاء} ففيه لغتان، المد والقصر، وقد جمعهما بيت الأعشى في بعض الروايات: [الخفيف].
هؤلا ثُمَّ هؤلاءِ قَدِ اعْطيتَ ** نِعالاً مَحْذُوَّةً بِنِعَالِ

وأما إعراب {ها أنتم هؤلاء} فابتداء وخبر، و{حاججتم} في موضع الحال لا يستغنى عنها، وهي بمنزلة قوله تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون} [البقرة: 85] ويحتمل أن يكون {هؤلاء} بدلاً أو صفة ويكون الخبر {حاججتم} وعلى مذهب الكوفيين {حاججتم}، صلة لأولاء والخبر في قوله: {فلم تحاجون} ومعنى قوله تعالى: {فيما لكم به علم} أي على زعمكم، وإنما المعنى فيما تشبه فيه دعواكم، ويكون الدليل العقلي لا يرد عليكم وفسر الطبري هذا الموضع بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم وأنبائهم مما أيقنوه وثبت عندهم صحته.
قال الفقيه الإمام: وذهب عنه رحمه الله أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة، لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم، كما كان هنالك على حقيقته، وباقي الآية بين.