فصل: تفسير الآيات (94- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (94- 96):

{فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)}
قوله: {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك} تحتمل الإشارة-بذلك- أن تكون إلى ثلاثة أشياء: أحدها: أن تكون إلى التلاوة إذ مضمنها بيان المذهب وقيام الحجة، أي فمن كذب منا على الله تعالى أو نسب إلى كتب الله ما ليس فيها فهو ظالم واضع الشيء غير موضعه، والآخر: أن تكون الإشارة إلىستقرار التحريم في التوراة، لأن معنى الآية: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} [آل عمران: 93]، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم، {فمن افترى على الله الكذب}، وزاد في المحرمات فهو الظالم، والثالث: أن تكون الإشارة إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وقبل نزول التوراة، أي من تسنن بيعقوب وشرع ذلك دون إذن من الله، ومن حرم شيئاً ونسبه إلى ملة إبراهيم فهو الظالم، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير، قوله تعالى {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء: 160] فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم، كما فعلوا في أمر البقرة، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا، وقوله: دين الله يسر وقوله: بعثت بالحنيفية، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يصدع بالخلاف والجدال مع الأحبار بقوله: {قل صدق الله} أي الأمر كما وصف لا كما تكذبون أنتم، فإن كنتم تعتزون بإبراهيم فاتبعوا ملته على ما ذكر الله، وقرأ أبان بن تغلب: {قل صدق}، بإدغام اللام في الصاد، وكذلك: قل سيروا، قرأها بإدغام اللام في السين، قال أبو الفتح: علة جواز ذلك فشو هذين الحرفين في الفم وانتشار الصدى المنبث عنهما فقاربا بذلك مخرج اللام، فجاز إدغامهما فيهما، وقرأ جمهور الناس: {وُضع} على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله، فالآية على هذا ابتداء معنى منقطع من الكلام الأول، وقرأ عكرمة، {وَضع} بفتح الواو والضاد، فيحتمل أن يريد: وضع الله، فيكون المعنى منقطعاً كما هو في قراءة الجمهور، ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه السلام، فيكون المعنى متصلاً بالذي قبله، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته، في الحج وغيره على ما روى عكرمة: أنه لما نزلت {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً} الآية: قال اليهود: نحن على الإسلام فقرئت، {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] قيل له: أحجهم يا محمد، إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا التأويل ما قال أبو ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال أربعون سنة، فيظهر من هذا أنهما من وضع إبراهيم جميعاً، ويضعف ما قال الزجّاج: من أن بيت المقدس من بناء سليمان بن داود، اللهم إلا أن يكون جدده، وأين مدة سليمان، من مدة إبراهيم؟ ولا مرية في أن إبراهيم وضع بيت مكة، وإنما الخلاف هل وضع بدأة أو وضع تجديد؟ واختلف المفسرون في معنى هذه الأولية التي في قوله: {إن أول} فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: معنى الآية أن أول بيت وضع مباركاً وهدى هذا البيت الذي ببكة وقد كانت قبله بيوت لم توضع وضعه من البركة والهدى، وقال قوم: بل هو أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض.
قال الفقيه القاضي أبو محمد: ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض، ونحو ما قال الزجّاج: من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديداً، قال قتادة: ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم ورفع وقت الطوفان، واختلف الناس في {بكة}، فقال الضحاك وجماعة من العلماء: {بكة} هي مكة، فكأن هذا من إبدال الباء بالميم، على لغة مازن وغيرهم، وقال ابن جبير وابن شهاب وجماعة كثيرة من العلماء مكة الحرم كله، و{بكة} مزدحم الناس حيث يتباكون، وهو المسجد وما حول البيت، وقال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية: {بكة} موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، قال ابن القاسم: يريد القرية، قال الطبري: ما خرج عن موضع الطواف فهو مكة لا بكة، وقال قوم: {بكة}، ما بين الجبلين ومكة، الحرم كله، و{مباركاً} نصب على الحال، والعامل فيه على قول علي بن أبي طالب إنه أول بيت وضع بهذه الحال، قوله: {وضع} والعامل فيه على القول الآخر الفعل الذي تتعلق به باء الجر في قوله: {ببكة} تقديره: استقر ببكة مباركاً، وفي وصف البيت ب {هدى} مجازية بليغة، لأنه مقوم مصلح، فهو مرشد، وفيه إرشاد، فجاء قوله، {وهدى} بمعنى وذا هدى، ويحتمل أن يكون {هدى} في هذه الآية، بمعنى الدعاء، أي من حيث دعي العالمون إليه.

.تفسير الآية رقم (97):

{فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}
الضمير في قوله: {فيه} عائد على البيت، وساغ ذلك مع كون {الآيات} خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه، وقرأ جمهور الناس: {آيات بينات} بالجمع، وقرأ أبي بن كعب وعمر وابن عباس: {آية بينة} على الإفراد، قال الطبري: يريد علامة واحدة المقام وحده، وحكي ذلك عن مجاهد.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى، واختلف عبارة المفسرين عن الآيات البينات فقال ابن عباس: من الآيات المقام، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا يدل على أن قراءته {آية} بالإفراد إنما يراد بها اسم الجنس، وقال الحسن بن أبي الحسن: {الآيات البينات} مقام إبراهيم، وإن من دخله كان آمناً، وقال مجاهد: المقام الآية، وقوله: {ومن دخله كان آمناً} كلام آخر.
قال القاضي أبو محمد: فرفع {مقام} على قول الحسن ومجاهد على البدل من {آيات}، أو على خبر ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه: هو مرتفع بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره: منهن {مقام إبراهيم}.
قال القاضي: والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر، ومن آياته الحجر الأسود، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت قلوب العالم نم تعظيمه قبل الإسلام، ومن آياته حجر المقام، وذلك أنه قام عليه إبراهيم عليه السلام، وقت رفعه القواعد من البيت، لما طال له البناء فكلما علا الجدار، ارتفع الحجر به في الهواء، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار، ثم إن الله تعالى، لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه السلام كأنها في طين، فذلك الأثر العظيم باقي في الحجر إلى اليوم، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار، وقال أبو طالب: [الطويل]
ومَوْطِئ إبراهيمَ في الصَّخرِ رطْبَةٌ ** على قَدَمِيهِ حافياً غيرَ ناعِلِ

فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول، ومن آياته البينات زمزم في نبعها لهاجر بهمز جبريل عليه السلام الأرض بعقبه، وفي حفر عبد المطلب لها آخراً بعد دثورها بتلك الرؤيا المشهورة، وبما نبع من الماء تحت خف ناقته في سفره، إلى منافرة قريش ومخاصمتها في أمر زمزم، ذكر ذلك ابن إسحاق مستوعباً، ومن آيات البيت نفع ماء زمزم لما شرب له، وأنه يعظم ماؤها في الموسم، ويكثر كثرة خارقة للعادة في الآبار، ومن آياته، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه، وسلامة الشجر، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله، اجعل هذا بلداً آمناً، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه، ولا زاجر، آية عظمى تقوم بها الحجة، وهي التي فسرت بقوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً} ومن آياته كونه بواد غير ذي زرع، والأرزاق من كل قطر تجيء إليه عن قرب وعن بعد، ومن آياته، ما ذكر ابن القاسم العتقي رحمه الله، قال في النوادر، وغيرها: سمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجيء سيل من الحل فيدخل الحرم.
قال القاضي أبو محمد: هذا والله أعلم، لأن الله تعالى جعله ربوة أو في حكمها ليكون أصون له، والحرم فيما حكى ابن أبي زيد في الحج الثاني من النوادر. مما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم، ومما يلي العرق نحو من ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع، ومما يلي عرفة تسعة أميال، ومما يلي طريق اليمن سبعة أميال، إلى موضع يقال له أضاة، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتى الحديبية، قال مالك في العتبية: والحديبية في الحرم، ومن آياته فيما ذكر مكي وغيره، أن الطير لا تعلوه، وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض به، فهو يستشفي بالبيت، وهذا كله عندي ضعيف، والطير تعاين تعلوه، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره، وتلك كانت من آياته ومن آياته فيما ذكر الناس قديماً وحديثاً، أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في العام الواحد، أخصبت آفاق الأرض، وإن لم يصب جانباً منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه ذلك العام، واختلف الناس في {مقام إبراهيم}، فقال الجمهور: هو الحجر المعروف، وقال قوم: البيت كله مقام إبراهيم لأنه بناه وقام في جميع أقطاره، وقال قوم من العلماء مكة كلها مقام إبراهيم، وقال قوم: الحرم كله مقام إبراهيم، والضمير في قوله: {ومن دخله} عائد على الحرم في قول من قال: مقام إبراهيم هو الحرم، وعائد على البيت في قول الجمهور، إذ لم يتقدم ذكر الغيره، إلا أن المعنى يفهم منه أن من دخل الحرم فهو في الأمن، إذا الحرم جزء من البيت، إذ هو بسببه ولحرمته.
واختلف الناس في معنى قوله: {كان آمناً} فقال الحسن وقتادة وعطاء ومجاهد وغيرهم: هذه وصف حال كانت في الجاهلية أن الذي يجر جريرة ثم يدخل الحرم، فإنه كان لا يتناول ولا يطلب فأما في الإسلام وأمن جميع الأقطار، فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى رجم، ومن قتل قتل، واستحسن كثير ممن قال هذا القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل هنالك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من أحدث حدثاً ثم استجار بالبيت فهو آمن، وإن الأمن في الإسلام كما كان في الجاهلية، والإسلام زاد البيت شرفاً وتوقيراً، فلا يعرض أحد بمكة لقاتل وليه، إلا أنه يجب على المسلمين ألا يبايعوا ذلك الجاني ولا يكلموه ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد، وقال بمثل هذا عبيد بن عمير والشعبي وعطاء بن أبي رباح والسدي وغيرهم، إلا أن أكثرهم قالوا هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم، فأما من يقتل في الحرم، فإنه يقام عليه الحد في الحرم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وإذا تؤمل أمر هذا الذي لا يكلم ولا يبايع، فليس بآمن، وقال يحيى بن جعدة: معنى الآية ومن دخل البيت كان آمناً من النار، وحكى النقاش عن بعض العباد قال: كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فقلت: يا رب إنك قلت: {ومن دخله كان آمناً}، فمن ماذا هو آمن يا رب؟ فسمعت مكلماً يكلمني وهو يقول: من النار، فنظرت وتأملت فما كان في المكان أحد.
وقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} الآية، هو فرض الحج في كتاب الله بإجماع، وقال مالك رحمه الله: الحج كله في كتاب الله، فأما الصلاة والزكاة فهي من جملة الذي فسره النبي عليه السلام، والحج من دعائم الإسلام التي بني عليها حسب الحديث، وشروط وجوبه خمسة، البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، واستطاعة السبيل، والحج في اللغة، القصد لكنه في بيت الله مخصص بأعمال وأقوال، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عصام: {حِج البيت} بكسر الحاء، وقرأ الباقون: {حَج البيت} قالوا غزاة فأرادوا عمل وجه واحد، كما قيل حجة.
قال القاضي: بكسر الحاء يريدون عمل سنة واحدة، ولم يجيئوا به على الأصل لكنه اسم له، قال أبو علي: قوله لم يجيئوا به على الأصل يريد على الفتح الذي هو الدفعة من الفعل، ولكن كسروه فجعلوه اسماً لهذا المعنى، كما أن غزاة كذلك، ولم تجئ فيه الغزوة وكان القياس.
قال القاضي: وأكثر ما التزم كسر الحاء في قولهم ذو الحِجة، وأما قولهم حجة الوداع ونحوه فإنها على الأصل، وقال الزجّاج وغيره، {الحَج}: بفتح الحاء المصدر، وبكسرها اسم العمل، وقال الطبري: هما لغتان الكسر لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية.
وقوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلاً}، {من} في موضع خفض بدل من {الناس}، وهو بدل البعض من الكل وقال الكسائي وغيره: هي شرط في موضع رفع بالابتداء، والجواب محذوف تقديره: من استطاع فعليه الحج، ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله: {ومن كفر}، وقال بعض البصريين: {من} رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو {حج البيت} ويكون المصدر مضافاً إلى المفعول، واختلف الناس في حال مستطيع السبيل كيف هي؟ فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير: هي حال الذي يجد زاداً وراحلة، وروى الطبري عن الحسن من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال له رجل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة، وأسند الطبري إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ملك زاداً وراحلة فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً»، وروى عبد الرزاق وسفيان عن إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر قال: قام رجل إلى النبي عليه السلام، فقال: ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة.
قال القاضي: وضعّف قوم هذا الحديث، لأن إبراهيم بن يزيد الخوزي تكلم فيه ابن معين وغيره، والحديث مستغن عن طريق إبراهيم، وقال بعض البغداديين، هذا الحديث مشير إلى أن الحج لا يجب مشياً.
قال القاضي: والذي أقول: إن هذه الحديث إنما خرج على الغالب من أحوال الناس وهو البعد عن مكة واستصعاب المشي على القدم كثيراً، فأما القريب الدار فلا يدخل في الحديث، لأن القرب أغناه عن زاد وراحلة، وأما الذي يستطيع المشي من الأقطار البعيدة، فالراحلة عنده بالمعنى والقوة التي وهب، وقد ذكره الله تعالى في قوله: {يأتوك رجالاً} [الحج: 27] وكذلك أيضاً معنى الحديث: الزاد والراحلة لمن لم يكن له عذر في بدنه، من مرض أو خوف على أقسامه أو استحقاق بأجرة أو دين وهو يحاول الأداء ويطمع فيه بتصرفه في مال بين يديه، وأما العديم فله أن يحج إذا تكلف واستطاع، فمقصد الحديث: أن يتحدد موضع الوجوب على البعيد الدار، وأما المشاة وأصحاب الأعذار فكثير منهم من يتكلف السفر، وإن كان الحج غير واجب عليه، ثم يؤديه ذلك التكلف إلى موضع يجب فيه الحج عليه، وهذه مبالغة في طلب الأجر ونيله إن شاء الله تعالى، وذهبت فرقة من العلماء إلى قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلاً} كلام عام لا يتفسر بزاد وراحلة ولا غير ذلك، بل إذا كان مستطعياً غير شاق على نفسه فقد وجب عليه الحج، قال ذلك ابن الزبير والضحاك، وقال الحسن: من وجد شيئاً يبلغه فقد استطاع إليه سبيلاً، وقال عكرمة: استطاعة السبيل الصحة، وقال ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه، في سماع أشهب من العتبية، وفي كتاب محمد، وقد قيل له: أتقول إن السبيل الزاد والراحلة؟ فقال: لا والله، قد يجد زاداً وراحلة ولا يقدر على مسير، وآخر يقدر أن يمشي راجلاً، وربَّ صغير أجلد من كبير فلا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى.
قال القاضي: وهذا أنبل كلام، وجميع ما حكي عن العلماء لا يخالف بعضه بعضاً، الزاد والراحلة على الأغلب من أمر الناس في البعد، وأنهم أصحاء غير مستطيعين للمشي على الأقدام، والاستطاعة- متى تحصلت- عامة في ذلك وغيره، فإذا فرضنا رجلاً مستطيعاً للسفر ماشياً معتاداً لذلك، وهو ممن يسأل الناس في إقامته ويعيش من خدمتهم وسؤالهم ووجد صحابة، فالحج عليه واجب دون زاد ولا رحلة، وهذه من الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال، وكان الشافعي يقول: الاستطاعة على وجهين: بنفسه أولاً، فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك.
واختلف الناس هل وجوب الحج علىلفور أو على التراخي؟ على قولين، ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القولين، قال في المجموعة فيمن أراد الحج ومنعه أبواه: لا يعجل عليهما في حجة الفريضة وليستأذنهما العام والعامين، فهذا على التراخي، وقال في كتاب ابن المواز: لا يحج أحد إلا بإذن أبويه إلا الفريضة، فليخرج وليدعهما، فهذا علىلفور، وقال مالك في المرأة يموت عنها زوجها فتريد الخروج إلى الحج: لا تخرج في أيام عدتها، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: فجعله على التراخي.
قال القاضي: وهذا استقراء فيه نظر، واختلف قول مالك رحمه الله فيمن يخرج إلى الحج على أن يسأل الناس جائياً وذاهباً ممن ليست تلك عادته في إقامته، فروى عنه ابن وهب أنه قال: لا بأس بذلك، قيل له فإن مات في الطريق قال: حسابه على الله، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: لا أرى اللذين لا يجدون ما ينفقون أن يخرجوا إلى الحج والغزو، ويسألوا وإني لأكره ذلك، لقول الله سبحانه، {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} [التوبة: 91] قال ابن القاسم: وكره مالك أن يحج النساء في البحر لأنها كشفة، وكره أن يحج أحد في البحر إلا مثل أهل الأندلس الذين لا يجدون منه بداً، وقال في كتاب محمد وغيره: قال الله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27] وما أسمع للبحر ذكراً.
قال الفقيه القاضي: وهذا تأنيس من مالك رحمه الله لسقوط لفظة البحر، وليس تقتضي الآية سقوط البحر، وسيأتي تفسير ذلك في موضعه إن شاء الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناس من أمتي عرضوا عليَّ ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، يركبون ثبج هذا البحر الأخضر غزاة في سبيل الله».
قال القاضي أبو محمد: ولا فرق بين الغزو والحج، واختلف في حج النساء ماشيات مع القدرة على ذلك، فقال في المدونة في المرأة تنذر مشياً فتمشي وتعجز في بعض الطريق: إنها تعود ثانية، قال: والرجال والنساء في ذلك سواء، فعلى هذا، يجب الحج إذا كانت قادرة على المشي لان حجة الفريضة أكد من النذر، وقال في كتاب محمد: لا أرى على المرأة الحج ماشية وإن قويت عليه، لأن مشيهن عورة، إلا أن يكون المكان القريب من مكة.
قال القاضي: وهذا ينظر بفقه الحال من رائعة ومتجالة، ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم، واختلف إذا عدمته، هل يجب الحج بما هو في معناه من نساء ثقات يصطحبن في القافلة أو رجال ثقات؟ فقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة وأصحابه: المحرم من السبيل، ولا حج عليها إلا مع ذي محرم.
قال القاضي: وهذا وقوف مع لفظ الحديث، وقال مالك: تخرج مع جماعة نساء، وقال الشافعي: تخرج مع حرة ثقة مسلمة، وقال ابن سيرين: تخرج مع رجل ثقة من المسلمين، وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل.
قال القاضي: وهذه الأقوال راعت معنى الحديث: وجمهور الأمة على أن للمرأة أن تحج الفريضة وإن كره زوجها وليس له منعها، واضطرب قول الشافعي في ذلك، واختلف الناس في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة، فقال سفيان الثوري: إذا كان المكس ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس، وقال عبد الوهاب، إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض، فظاهر هذا أنها إذا كانت كثيرة غير مجحفة لسعة الحال أن الفرض لا يسقط، وعلى هذا لمنزع جماعة أهل العلم وعليه مضت الأعصار، وهذه نبذة من فقه الاستطاعة، وليس هذا الجمع بموضع لتقصي ذلك والله المستعان.
والسبيل- تذكر وتؤنث، والأغلب والأفصح التأنيث، قال الله تعالى: {تبغونها عوجاً} [آل عمران: 99] وقال: {قل هذه سبيلي} [يوسف: 108] ومن التذكير قول كعب بن مالك.
قضى يوم بدر أن تلاقي معشراً ** بغوا وسبيل البغي بالناس جائز

والضمير في {إليه}، عائد على البيت، ويحتمل أن يعود على الحج، وقوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} قال ابن عباس: المعنى، من زعم أن الحج ليس بفرض عليه، وقال مثله الضحاك وعطاء وعمران القطان والحسن ومجاهد، وروي عن النبي عليه السلام أنه قرأ الآية، فقال له رجل من هذيل: يا رسول الله من تركه كفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حجه لا يرجو ثوابه فهو ذلك وقال بمعنى هذه الحديث ابن عباس ومجاهد أيضاً، وهذا والذي قبله يرجع إلى كفر الجحد والخروج عن الملة، وقال ابن عمر وجماعة من العلماء معنى الآية، من كفر بالله واليوم الآخر وهذا قريب من الأول، وقال ابن زيد: معنى الآية من كفر بهذه الآيات التي في البيت، وقال السدي وجماعة من أهل العلم: معنى الآية: ومن كفر أبن وجد ما يحج به ثم لم يحج، قال السدي: من كان بهذه الحال فهو كافر.
قال القاضي أبو محمد: فهذا كفر معصية، كقوله عليه السلام، من ترك الصلاة فقد كفر وقوله: لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض، على أظهر محتملات هذا الحديث. وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة، ومعنى قوله تعالى: {غني عن العالمين} الوعيد لمن كفر، والقصد بالكلام، فإن الله غني عنهم، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى، وينتبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء، لا رَبَّ سواه.