فصل: تفسير الآيات (111- 112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (111- 112):

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}
قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} معناه: لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة، فالاستثناء متصل، وقال الحسن، وقتادة وغيرهما: {الأذى} هو تحريفهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه.
قال القاضي أبو محمد: وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفراداً، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء، وضرب الجزية، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحداً عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه، وهكذا هي فصاحة العرب، ومن هذا المعنى في التحقير قول ثمامة بن أثال: يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت، فقوله: ذا دم، روي بالذال منقوطة، وبالدال غير منقوطة، فذم بفتح الذال وبكسرها أراد بها الذمام، وأما الدال غير المنقوطة، فيحتمل أنه أرد التعظيم لأمر نفسه، وذلك بأحد وجهين: إما أن يريد الوعيد، أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك، وإما أن يريد تقتل ملكاً يستشفى بدمه، كما كانت العرب تعتقد في دماء الملوك، فهذا استعطاف لا وعيد، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي، وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا المعنى، ويحتمل كلام ثمامة، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر العظيم، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود: وهل أعمد من رجل قتلتموه؟ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز، حين قال له: لأقتلنك، قال إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر شيئاً فكأن ثمامة أراد: إن تقتلني تقتل حيواناً حقيراً شأنه، كما يقتل كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ؟ فالآية تنظر إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عيظم في نفسه تنبيهاً لهم، وأخبر الله تعالى في قوله: {وإن يقاتلوكم} الآية، بخبر غيب صححه الوجود، فهي من آيات محمد صلى الله عليه وسلم، وفائدة الخبر هي في قوله: {ثم لا ينصرون} أي لا تكون حربهم معكم سجالاً وخص {الأدبار} بالذكر دون الظهر تخسيساً للفارّ، وهكذا هو حيث تصرف.
قوله: {ضربت} معناه: أثبتت بشدة والتزام مؤكد، وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام، قال الحسن: جاء الإسلام وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وما كانت لهم عزة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض فأزالها الله بالإسلام، ولم تبق لهم راية أصلاً في الأرض، و{الذلة} فعلة من الذل {ثقفوا} معناه أخذوا وهم بحال المذنب المستحق الإهلاك، ومنه قوله تعالى: {فإما تثقفنهم في الحرب} [الأنفال: 57] {فاقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم} [التوبة: 5] واللفظة مأخوذة من الثقاف، ومنه قول الشاعر:
تدعو ثقيفاً وَقَدْ عَضَّ الحديدُ بها ** عضَّ الثّقافِ على صُمّ الأنابيبِ

وقوله تعالى: {إلا بحبل} استثناء منقطع، وهو نظير قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً} [النساء: 92] لأن بادي الرأي يعطي أن له أن يقتل خطئاً، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنما الكلام محذوف، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر، وتقديره في آياتنا فلا نجاة من الموت {إلا بحبل}، وقوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا} كأنه بالمعنى هلكوا واستؤصلوا، فلذلك حسن أن يجيء بعده {إلا بحبل}، وقرب فهم ذلك للسامع، قال الزجّاج: المعنى ضربت عليهم الذلة إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه، والحبل العهد، شبه به لأنه يصل قوماً بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام، و{باؤوا} معناه مضوا متحملين لهذا الحكم، و{غضب الله عليهم}، بما دلت عليه هذه الأمور التي أوقع بهم، وأفعال بني إسرائيل على وجه الدهر من التعنت والعصيان توجب الغضب، فلذلك خصوا به، والنصارى إنما ضلوا فقط، و{المسكنة} التذلل والضعة، وهي حالة الطواف الملتمس للقمة واللقمتين المضارع المفارق لحالة التعفف والتعزز به، فليس أحد من اليهود وإن كان غنياً إلا وهو بهذه الحال، وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى الغضب وضرب الذلة والمسكنة، فعاقبهم الله على كفرهم وقتلهم الأنبياء بذلك، و{آيات الله}: يحتمل أن يراد بها المتلوة، ويحتمل أن يريد العبر التي عرضت عليهم، وقوله: {بغير حق} تأكيد ومبالغة وقطع لما عسى أن يكون في وهم إنسان ممكناً بوجه ما، وقوله تعالى: {ذلك بما عصوا} حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول، قاله الطبري والزجّاج وغيرهما. والذي أقول: إن الإشارة ب {ذلك} الأخير إنما هي إلى كفرهم وقتلهم، وذلك أن الله تعالى، استدرجهم فعاقبهم على العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء، وهو الذي يقول أهل العلم: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في معصية، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى الطاعة، وذلك موجود في الناس إذا تؤمل، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره متقرر في غير ما موضع من كتاب الله، وقال قتادة رحمه الله عندما فسر هذه الآية: اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس.

.تفسير الآيات (113- 114):

{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)}
لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب، عقب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا النظر أن جميع اليهود على عوج من وقت عيسى، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقط، أو يكون اليهود في معنى الأمة القائمة إلى وقت عيسى، ثم ينتقل الحكم في النصارى، ولفظ {أهل الكتاب} يعم الجميع، والضمير في {ليسوا} لمن تقدم ذكره في قوله: {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110] وما قال أبو عبيدة من أن الآية نظيرة قول العرب أكلوني البراغيث خطأ مردود، وكذلك أيضاً ما حكي عن الفراء أن {أمة} مرتفعة ب {سواء} على أنها فاعلة كأنه قال: لا تستوي أمة كذا وإن في الآخر الكلام محذوفاً معادلاً تقديره وأمة كافرة، فأغنى القسم الأول عن ذكرها ودل عليه كما قال أبو ذؤيب:
عَصَيْتُ إليْها الْقَلْبَ إنّي لأَمْرِها ** سَمِيعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها

المعنى أم غيّ، فاقتصر لدلالة ما ذكر عليه.
قال القاضي أبو محمد: وإنما الوجه أن الضمير في {ليسوا} يراد به من تقدم ذكره، و{سواء} خبر ليس، و{من أهل الكتاب} مجرور فيه خبر مقدم، و{أمة} رفع بالابتداء قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سيعة وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود، معهم، قال الكفار من أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله تعالى في ذلك {ليسوا سواء} الآية، وقال مثله قتادة وابن جريج.
قال القاضي أبو محمد: وهو أصح التأويلات، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: معنى الآية: ليس اليهود وأمة محمد سواء، وقاله السدي.
قال القاضي أبو محمد: فمن حيث تقدم ذكر هذه الآمة في قوله: {كنتم خير أمة} [آل عمران: 110] وذكر أيضاً اليهود قال الله لنبيه {ليسوا سواء} و{الكتاب} على هذا جنس كتب الله وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط، والمعنى: {من أهل الكتاب} وهم أهل القرآن أمة قائمة: واختلف عبارة المفسرين في قوله: {قائمة} فقال مجاهد: معناه عادلة، وقال قتادة والربيع وابن عباس: معناه قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية، وقال السدي: القائمة القانتة المطيعة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله يرجع إلى معنى واحد من الاعتدال على أمر الله، ومنه قيل للدنانير أو الدراهم الوازنة قائمة وهذه الآية تحتمل هذا المعنى وأن لا تنظر اللفظة إلى هيئة الأشخاص وقت تلاوة آيات الله، ويحتمل أن يراد ب {قائمة} وصف حال التالين في {آناء الليل}، ومن كانت هذه حاله فلا محالة أنه معتدل على أمر الله، وهذه الآية في هذين الاحتمالين مثل ما تقدم في قوله: {إلا ما دمت عليه قائماً} [آل عمران: 75] و{يتلون} معناه: يسردون، و{آيات الله} في هذه الآية هي كتبه، والآناء: الساعات واحدها إني بكسر الهمزة وسكون النون، ويقال فيه أني بفتح الهمزة، ويقال إنَى بكسر الهمزة وفتح النون والقصر، ويقال فيه أنى بفتح الهمزة ويقال إِنْو بكسر الهمزة وسكون النون وبواو مضمومة ومنه قول الهذيلي: [البسط]
حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ الْقدْحِ مِرَّتهُ ** في كلُّ إنيٍ قضاه الليل ينتعل

وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة، إذا بعض الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عبارة {آناء الليل} بالقيام، وهكذا كان صدر هذه الأمة، وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل أو قبله بشيء، وحينئذ كان يقوم الأكثر، والقيام طول الليل قليل وقد كان في الصالحين من يلتزمه، وقد ذكر الله تعالى القصد من ذلك في سورة المزمل، وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه، وأما عبارة المفسرين في {آناء الليل}، فقال الربيع وقتادة وغيرهما: {آناء الليل} ساعات الليل، وقال عبد الله بن كثير: سمعنا العرب تقول {آناء الليل} ساعات الليل، وقال السدي: {آناء الليل} جوف الليل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قلق، أما ان جوف الليل جزء من الآناء، وقال ابن مسعود: نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم احتبس عنا ليلة عن صلاة العشاء وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى ليل، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع، فقال: أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة، فأنزل الله تعالى: {ليسوا سواء} الآية، فالمراد بقوله: {يتلون آيات الله آناء الليل} صلاة العشاء، وروى سفيان الثوري عن منصور أنه قال: بلغني أن هذه الآية نزلت في المصلين بين العشاءين وقوله تعالى: {وهم يسجدون} ذهب بعض الناس إلى أن السجود هنا عبارة عن الصلاة، سماها بجزء شريف منها كما تسمى في كثير من المواضع ركوعاً، فهي على هذا جملة في موضع الحال، كأنه قال: يتلون آيات الله آناء الليل مصلين، وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة مقطوعة من الكلام الأول، أخبر عنهم أنهم أيضاً أهل سجود.
قال القاضي أبو محمد: ويحسن هذا من جهة أن التلاوة آناء الليل قد يعتقد السامع أن ذلك في غير الصلاة، وأيضاً فالقيام في قراءة العلم يخرج من الآية على التأويل الأول، وثبت فيها على هذا الثاني ف {هم يسجدون} على هذا نعت عدد بواو العطف، كما تقول: جاءني زيد الكريم والعاقل.
و{يؤمنون} معناه: يصدقون، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالأنبياء، لأنه من جائزات العقل التي أثبتها السمع من الأنبياء، وقوله تعالى: {ويسارعون في الخيرات} وصف بأنهم متى دعوا إلى الخير من نصر مظلوم وإغاثة مكروب وجبر مهيض وعبادة لله أجابوا، ومنه فعل مالك رضي الله عنه في ركعتي المسجد، وقال: دعوتني إلى خير فأجبت إليه، ومما يدخل في ضمن قوله تعالى: {ويسارعون في الخيرات} أن يكون المرء مغتنماً للخمس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل مماتك، وغناك قبل فقرك، فيكون متى أراد أن يصنع خيراً بادر إليه ولم يسوف نفسه بالأمل، فهذه أيضاً مسارعة في الخيرات، وذكر بعض الناس قال: دخلت مع بعض الصالحين في مركب فقلت له: ما تقول أصلحك الله في الصوم في السفر؟ فقال لي: إنها المبادرة يا ابن أخي، قال المحدث: فجاءني والله بجواب ليس من أجوبة الفقهاء، ثم وصف الله تعالى من تحصلت له هذه الصفات، بأنه من جملة الصالحين، و{من} يحسن أن تكون للتبعيض، ويحسن أن تكون لبيان الجنس.

.تفسير الآيات (115- 117):

{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر {تفعلوا وتكفروه} بالتاء على مخاطبة هذه الأمة، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء فيهما، على مشابهة ما تقدم من {يتلون ويؤمنون} وما بعدهما، وكان أبو عمرو يقرأ بالوجهين، و{تكفروه} معناه: يعطى دونكم فلا تثابون عليه، ومن هذا القول النبي صلى الله عليه وسلم: من أزلت إليه نعمة فليذكرها فإن ذكرها فقد شكرها، فإن لم يفعل فقد كفرها، ومنه قول الشاعر: [عنترة]: [الكامل].
والْكُفْرُ مَخبَثَةٌ لِنَفْسِ الْمُنْعِمِ

وفي قوله تعالى: {والله عليم بالمتقين} وعد ووعيد.
ثم عقب تعالى ذكر هذا الصنف الصالح بذكر حال الكفار، ليبين الفرق، وخص الله تعالى {الأموال والأولاد} بالذكر لوجوه. منها أنها زينة الحياة الدنيا، وعظم ما تجري إليه الآمال، ومنها أنها ألصق النصرة بالإنسان وأيسرها، ومنها أن الكفار يفخرون بالآخرة لا همة لهم إلا فيها هي عندهم غاية المرء وبها كانوا يفخرون على المؤمنين، فذكر الله أن هذين اللذين هما بهذه الأوصاف لا غناء فيهما من عقاب الله في الآخرة، فإذا لم تغن هذه فغيرها من الأمور البعيدة أحرى أن لا يغني وقوله تعالى: {أصحابه} إضافة تخصيص ما، تقتضي ثبوت ذلك لهم ودوامه.
وقوله تعالى: {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا} الآية، معناه: المثال القائم في النفوس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثوراً، وذهابه كالمثال القائم في النفوس من زرع قوم نبت واخضرّ وقوي الأمر فيه فهبت عليه {ريح فيها صر} محرق فأهلكته، فوقع التشبيه بين شيئين وشيئين، ذكر الله عز وجل أحد الشيئين المشبهين وترك ذكر الآخر ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازي المذكور الأول، وترك ذكر الآخر، ودل المذكور أن على المتروكين، وهذه غاية البلاغة والإيجاز، ومثل ذلك قوله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع} [البقرة: 171]، وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، {تنفقون} بالتاء على معنى قل لهم يا محمد، و{مثل} رفع بالابتداء وخبره في محذوف به تتعلق الكاف من قوله: {كمثل}، و{ما} بمعنى الذي وجمهور المفسرين على أن {ينفقون} يراد به الأموال التي كانوا ينفقونها في التحنث وفي عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك عندهم قربة، وقال السدي: {ينفقون} معناه من أقوالهم التي يبطنون ضدها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأنه يقتضي أن الآية في منافقين والآية إنما هي في كفار يعلنون مثل ما يبطنون، وذهب بعض المفسرين إلى أن {ينفقون} يراد به أعمالهم من الكفر ونحوه، أي هي كالريح التي فيها صر، فتبطل كل ما لهم من صلة رحم وتحنث بعتق ونحوه، كما تبطل الريح الزرع، وهذا قول حسن لولا بعد الاستعارة في الإنفاق، والصر البرد الشديد، المحرق لكل ما يهب عليه وهو معروف قال ابن عباس وجمهور المفسرين: الصر البرد، وتسميه العرب الضريب، وذهب الزجّاج وغيره: إلى أن اللفظة من التصويت، من قولهم صر الشيء، ومنه الريح الصرصر، قال الزجاج، فالصر صوت النار التي في الريح.
قال القاضي: الصر هو نفس جهنم الذي في الزمهرير يحرق نحواً مما تحرق النار، و{الحرث} شامل للزرع والثمار، لأن الجميع مما يصدر عن إثارة الأرض، وهي حقيقة الحرث، ومنه الحديث لا زكاة إلا في عين أو حرث أو ماشية، وقال عز وجل: {ظلموا أنفسهم} فما بال هذا التخصيص والمثل صحيح، وإن كان الحرث لمن لم يظلم نفسه؟ فالجواب أن ظلم النفس في هذه الآية تأوله جمهور المفسرين بأنه ظلم بمعاصي الله، فعلى هذا وقع التشبيه بحرث من هذه صفته، إذ عقوبته أوخى واخذ الله له أشد والنقمة إليه أسرع وفيه أقوى، كما روي في جوف العير وغيره، وأيضاً فمن أهل العلم من يرى أن كل مصائب الدنيا فإنما هي بمعاصي العبيد، وينتزع ذلك من غير ما آية في القرآن، فيستقيم على قوله: إن كل حرث تحرقه ريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه، وذهب بعض الناس ونحا إليه المهدوي: إلى أن قوله تعالى: {حرث قوم ظلموا أنفسهم} معناه زرعوا في غير أوان الزرعة.
قال أبو محمد: وينبغي أن يقال في هذا: {ظلموا أنفسهم} بأن وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل، ويخص هؤلاء بالذكر لأن الحرق فيما جرى هذا المجرى أو عب وأشد تمكناً، وهذا المنزع يشبه من جهة ما قول امرئ القيس: [المتقارب]
وسالفة كَسحوقِ اللَّيا ** نِ أَضرِمَ فيها الغويُّ السعرُ

فخصص الغويّ لأنه يلقي النار في النخلة الخضراء الحسنة التي لا ينبغي أن تحرق، فتطفئ النار عن نفسها رطوبتها بعد أن تتشذب وتسود، فيجيء الشبه حسناً، والرشيد لا يضرم النار إلا فيما يبس واستحق فهو يذهب ولا يبقى منه ما يشبه به، والضمير في {ظلمهم} للكفار الذين تقدم ضميرهم في {ينفقون} وليس هو للقوم ذوي الحرث لأنهم لم يذكروا ليرد عليهم، ولا ليبين ظلمهم وأيضاً فقوله: {ولكن أنفسهم يظلمون}، يدل على فعل الحال في حاضرين.