فصل: تفسير الآية رقم (148):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (148):

{فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}
هذه الآية في ذكر الربيين، أي هذا كان قولهم، لا ما قاله بعضكم يا أصحاب محمد، من قول من قال: نأخذ أماناً من أبي سفيان ومن قول من قال: نرجع إلى ديننا الأول، ومن قول من فر، فلا شك أن قوله مناسب لفعله ولو بعض المناسبة، إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من الأقوال، وقرأ السبعة وجمهور الناس {قولَهم} بالنصب، ويكون الاسم فيما بعد {إلا} وقرا جماعة من القراء {قولُهم} بالرفع وجعلوا الخبر فيما بعد {إلا} وروى ذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، ذكره المهدوي، واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم رأوا ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر وقوله تعالى: {ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} عبارتان عن معنى قريب بعضه من بعض، جاء ذلك للتأكيد ولتعم مناحي الذنوب، وكذلك فسر ابن عباس وغيره، وقال الضحاك: الذنوب عام، والإسراف في الأمر أريد به الكبائر خاصة، وقولهم: {وثبت أقدامنا} يحتمل أن يجري مع ما قبله من معنى الاستغفار، فيكون المعنى: اجعلنا دائبين على طاعتك والإيمان بك، وتثبيت القدم على هذا: استعارة، ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من قوله: {وانصرنا على القوم الكافرين} فيراد ثبوت القدم حقيقة في مواقف الحرب، قال ابن فورك: في هذا الدعاء رد على القدرية، لقولهم: إن الله لا يخلق أفعال العبد، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لا يفعله.
و{ثواب الدنيا} في هذه الآية: الظهور على عدوهم، قاله ابن إسحاق وقتادة وغيرهما، وقال ابن جريج: الظفر والغنيمة، وفسر بهذا جماعة من المؤلفين في التفسير، قال النقاش: ليس إلا الظفر والغلبة فقط، لأن الغنيمة لم تحلل إلا لهذه الأمة.
قال الفقيه الإمام: وهذا اعتراض صحيح، {وحسن ثواب الآخرة} الجنة بلا خلاف، وعبر بلفظة {حسن} زيادة في الترغيب وباقي الآية بين.

.تفسير الآيات (149- 151):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)}
الإشارة بقوله: {الذين كفروا} إلى المنافقين الذين جنبوا المسلمين وقالوا في أمر- أحد- لو كان محمد نبياً لم يهزم، والذين قالوا: قد قتل محمد فلنرجع إلى ديننا الأول، إلى نحو هذه الأقوال، ثم اللفظ يقتضي كل كافر كان في ذلك الوقت ويكون إلى يوم القيامة، نهى الله المؤمنين عن طاعتهم.
و{بل} ترك للكلام الأول ودخول في غيره، وقرأ جمهور الناس {بل اللهُ مولاكم} على الابتداء والخبر، وهذا تثبيت، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {بل اللهَ} بالنصب على معنى: بل أطيعوا لله.
وقوله تعالى: {سنلقي} استعارة، إذ حقيقة الإلقاء إنما هي في الأجرام، وهذا مثل قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} [النور: 4] ونحوه قول الفرزدق: [الطويل]
هما نفثا في فيّ من فَمَوَيْهِما ** عَلى النَّابحِ الْعاوي أَشَدَّ رَجَامِ

وقرأ جمهور الناس {سنلقي} بنون العظمة، وقرأ أيوب السختياني {سيلقي} بالياء على معنى هو، وقرأ ابن عامر والكسائي {الرعُب} بضم العين حيث وقع، وقرأ الباقون {الرعْب} بسكون العين، وهذا كقولهم: عُنُق وعنْق وكلاهما حسن فصيح، وسبب هذه الآية: أنه لما ارتحل أبو سفيان بالكفار بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال: انظر القوم، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وركبوا الإبل فهم متشمرون إلى مكة، وإن كانوا على الخيل فهم عائدون إلى المدينة، فمضى علي فرآهم قد جنبوا الخيل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسر وسر المسلمون، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فتجهز واتبع المشركين يريهم الجلد، فبلغ حمراء الأسد وأن أبا سفيان قال له كفار قريش: أحين قتلناهم وهزمناهم ولم يبق إلا الفل والطريد ننصرف عنهم؟ ارجع بنا إليهم حتى نستأصلهم فعزموا على ذلك، وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي قد جاء إلى رسول الله عليه السلام وهو على كفره، إلا أن خزاعة كلها كانت تميل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له، والله يا محمد لقد ساءنا ما أصابك، ولوددنا أنك لم ترزأ في أصحابك، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بما عزمت عليه قريش من الانصراف، اشتد ذلك عليهم، فسخر الله ذلك الرجل معبد بن أبي معبد، وألقى بسببه الرعب في قلوب الكفار، وذلك أنه لما سمع الخبر، ركب حتى لحق بأبي سفيان بالروحاء، وقريش قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أرى مثله قط، يتحرقون عليكم، قد اجتمع إليه من كان تخلف عنه، وندموا على ما صنعوا، قال: ويلك ما تقول؟ قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه شعراً قال وما قلت؟ قال قلت: [البسيط]
كادت تُهَدُّ مِنَ الأَصْواتِ رَاحلتي ** إذ سالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأَبابيلِ

ترْدِي بِأُسْدٍ كِرامٍ لا تنابلةٍ ** عندَ اللقاءِ لا ميلٍ معازيلِ

فَظلْتُ عَدْواً أَظُنُّ الأَرْضَ مائلة ** لمّا سَمَوْا برئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ

إلى آخر الشعر، فوقع الرعب في قلوب الكفار، وقال صفوان بن أمية: لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان، فنزلت هذه الآية في هذا الإلقاء، وهي بعد متناولة كل كافر، ويجري معها قول النبي عليه السلام: نصرت بالرعب مسيرة شهر، ويظهر ان هذه الفضيلة إنما أعلم عليه السلام بها بعد هذه الأحوال كلها حين امتد ظل الإسلام، قال بعض أهل العلم: إنه لما أمر الله المؤمن بالصبر، ووعده النصر، وأخبره أن الرعب ملقى في قلوب الكفار، نقص الرعب من كل كافر جزءاً مع زيادة شجاعة المؤمن، إذ قد وعد النصر فلذلك كلف المؤمن الوقوف للكافرين، وقوله تعالى: {بما أشركوا} هذه باء السبب، والمعنى: أن المشرك بالله نفسه مقسمة في الدنيا وليس له بالله تعالى ثقة، فهو يكره الموت ويستشعر الرعب منه، والسلطان، الحجة والبرهان، ثم أخبر تعالى بعاقبة الكفار في الآخرة، و{المأوى}: مفعل من أويت إلى المكان إذا دخلته وسكنت فيه، و{المثوى}، مفعل من: ثويت، والتقدير: وبئس مثوى الظالمين هي.

.تفسير الآية رقم (152):

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}
جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم، ولذلك وجوه من الفصاحة: منها وعظ الجميع وزجره، إذ من لم يفعل معد أن يفعل إن لم يزجر، ومنها الستر والإبقاء على من فعل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يؤمئذ على خبر الله تعالى-إن صبروا وجدوا- فصدق الله الوعد أولاً، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاف المسلمين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير هذه الآيات في قصة أُحد، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين، وحمل الزبير وأبو دجانة فهزّا عسكر المشركين، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فأبلى حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن ابي الأقلح، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلاً فهذا معنى قوله تعالى: {إذ تحسونهم بإذنه} والحسن: القتل الذريع، يقال حسهم إذا استأصلهم قتلاً، وحس البرد النبات وقال رؤبة: [الرجز]
إذا تَشَكَّوْا سُنَّةً حَسُوسا ** تَأْكُلُ بَعْدَ الأَخْضَرِ الْيَبِيسا

قال بعض الناس: هو مأخوذ من الحاسة، والمعنى في حس: أفسد الحواس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، والإذن: التمكين مع العلم بالممكن منه، وقوله تعالى: {حتى إذا فشلتم} يحتمل أن تكون {حتى} غاية مجردة، كأنه قال: إلى أن فشلتم، ويقوي هذا أن {إذا} بمعنى إذ لأن الأمر قد كان تقضى، وإنما هي حكاية حال، فتستغني {إذا} على هذا النظر عن جواب، والأظهر الأقوى أن {إذا} على بابها تحتاج إلى الجواب، وتكون حتى كأنها حرف ابتداء على نحو دخولها على الجمل، واختلف النحاة في جواب {إذا} فذهبت فرقة إلى أن الجواب قوله: {تنازعتم}، والواو زائدة، وحكى المهدوي عن أبي علي أنه قال: الجواب قوله: {صرفكم} و{ثم} زائدة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا يشبه نظر أبي علي وسيبويه، والخليل وفرسان الصناعة، إن الجواب محذوف مقدر، يدل عليه المعنى، تقديره: انهزمتم ونحوه، والفشل- استشعار العجز وترك الجد، وهذا مما فعله يومئذ قوم، والتنازع هو الذي وقع بين الرماة، فقال بعضهم: الغنيمة الغنيمة، الحق بنا بالمسلمين، وقال بعضهم: بل نثبت كما أمرنا {وعصيتم} عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة حتى تمكن خالد بن الوليد من غرة المسلمين، وقوله تعالى: {من بعد ما أراكم ما تحبون} يعني من هزم القوم، قال الزبير بن العوام: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم، وقوله تعالى: {منكم من يريد الدنيا} إخبار عن الذين حرصوا على الغنيمة وكان المال همهم، قاله ابن عباس وسائر المفسرين، وقال عبد الله بن مسعود: ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد {منكم من يريد الدنيا} وقوله تعالى: {ومنكم من يريد الآخرة} إخبار عن ثبوت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالاً للأمر حتى قتلوا، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين، وقوله تعالى: {ليبتليكم} معناه: لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص، وقوله تعالى: {ولقد عفا عنكم} إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل، وهذا تحذير، والمعنى {ولقد عفا عنكم} بأن لم يستأصلوكم، فهو بمنزلة: ولقد أبقى عليكم، ويحتمل أن يكون إخباراً بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين، وقال الحسن بن أبي الحسن: قتل منهم سبعون، وقتل عم النبي عليه السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم، هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم.

.تفسير الآيات (153- 154):

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ}
العامل في {إذ} قوله: {عفا} [آل عمران: 152] وقرأ جمهور الناس بضم التاء وكسر العين من أصعد ومعناه: ذهب في الأرض، وفي قراءة أبي بن كعب، {إذ تصعدون في الوادي}.
قال القاضي أبو محمد: والصعيد وجه الأرض، وصعدة اسم من أسماء الأرض، فأصعد معناه: دخل في الصعيد، كما أصبح دخل في الصباح إلى غير ذلك، والعرب تقول أصعدنا من مكة وغيرها، إذا استقبلوا سفراً بعيداً وأنشد أبو عبيدة لحادي الإبل: [الرجز]
قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ على الإصْعادِ ** فَالآنَ صرَّحَتِ وَصَاحَ الحادِي

وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو عبد الرحمن واليزيد ومجاهد وقتادة {إذ تَصعَدون} بفتح التاء والعين، من صعد إذا علا، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل والقراءة الأولى أكثر، وقوله تعالى {ولا تلوون} مبالغة في صفة الانهزام وهو كما قال دريد:
وهل يرد المنهزم شيء

وهذا أشد من قول امرئ القيس: [الطويل]
أخو الْجَهْدِ لاَ يلْوي على من تَعَذَّرا

وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل {إذ يصعدون ولا يلوون} بالياء فيهما على ذكر الغيب، وقرأ بعض القراء {ولا تلؤون} بهمز الواو المضمومة، وهذه لغة، وقرأ بعضهم {ولا تلون} بضم اللام وواو واحدة، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين الساكنتين، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية أبي بكر {تُلوون} بضم التاء من ألوى وهي لغة، وقرأ حميد بن قيس {على أُحُد} بضم الألف والحاء، يريد الجبل، والمعنى بذلك رسول الله عليه السلام، لأنه كان على ا لجبل، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن علىلجبل إلا بعد ما فر الناس عنه، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم، وروي أنه كان ينادي: إليَّ عباد الله، والناس يفرون. وفي قوله تعالى: {في أخراكم} مدح للنبي عليه السلام فإن ذلك هو موقف الابطال في أعقاب الناس، ومنه قول الزبير بن باطا ما فعل مقدمتنا إذ حملنا وحاميتنا إذ فررنا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومنه قول سلمة بن الأكوع كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {فأثابكم} معناه: جازاكم على صنيعكم، وسمي الغم ثواباً على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب، وهذا كقوله: [الوافر]
تَحِيَّةُ بَيْنهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

وكقول الآخر: [الفرزدق]: [الطويل]
أخَافُ زِياداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ** أَدَاهِمَ سوداً أَوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرا

فجعل القيود والسياط عطاء، ومحدرجة: بمعنى مدحرجة، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: {غماً بغم} فقال قوم: المعنى {أثابكم غماً} بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين، بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم.
قال القاضي أبو محمد: فالباء على هذا باء السبب، وقال قوم: {أَثابكم غماً بغم}، الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر.
قال القاضي أبو محمد: فالباء باء معادلة، كما قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، وقالت جماعة كبيرة من المتأولين: المعنى أثابكم غماً على غم، أو غماً مع غم، وهذه باء الجر المجرد، واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال قتادة ومجاهد: الغم الأول أن سمعوا: ألا إن محمداً قد قتل، والثاني، القتل والجراح الواقعة فيهم، وقال الربيع وقتادة أيضاً بعكس هذا الترتيب، وقال السدي ومجاهد أيضاً وغيرهما: بل الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق، والغم الثاني هو إشراف أبي سفيان على النبي ومن كان معه، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى قوم من أصحابه قد علوا صخرة في سفح الجبل فمشى نحوهم فأهوى إليه رجل بسهم ليرميه، فقال: أنا رسول الله، ففرحوا بذلك، وفرح هو عليه السلام إذ رأى من أصحابه الامتناع، ثم أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر، وعلى من مات من أصحابهم فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم أبو سفيان من علو في خيل كثيرة، فنسوا ما نزل بهم أولاً، وأهمهم أمر أبي سفيان، فقال رسول الله عليه وسلم: ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة، وأغنى هنالك عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم. واختلفت الروايات في هذه القصة من هزيمة-أحد- اختلافاً كثيراً، وذلك أن الأمر هول، فكل أحد وصف ما رأى وسمع، قال كعب بن مالك: أول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، رأيت عينيه تزهران تحت المغفر، وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة خالد بن الوليد، وأن أبا سفيان إنما دنا، والنبي عليه السلام في عرعرة الجبل، ولأبي سفيان في ذلك الموقف قول كثير، ولعمر معه مراجعة محفوظة اختصرتها إذ لا تخص الآية، وقوله تعالى: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} معناه: من الغنيمة و{ما أصابكم} معناه: من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم.
قال القاضي أبو محمد: واللام من قوله: {لكيلا} متعلقة بأثابكم، المعنى: لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه وفي قوله تعالى: {والله خبير بما تعملون} توعد.
ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين، فغشي أهل الإخلاص، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب، قال النبي عليه السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه: اذهب فانظر إلى القوم، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون إلى المدينة، فاتقوا الله واصبروا، ووطنهم على القتال، فمضى علي ثم رجع، فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالاً، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقى الله عليهم النعاس، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد، فلم يقع على أحد منهم نوم، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية، قال أبو طلحة: لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مراراً، وقال الزبير بن عوام: لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته، وقال ابن مسعود: نعسنا يوم-أحد- والنعاس في الحرب أمنة من الله، والنعاس في الصلاة من الشيطان، وقرأ جمهور الناس {أمَنة} بفتح الميم، وقرأ ابن محيصن والنخعي {أمْنة} بسكون الميم، وهما بمعنى الأمن، وفتح الميم أفصح، وقوله: {نعاساً} بدل، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر {يغشي} بالياء حملاً على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل، وقرأ حمزة والكسائي {تغشى} بالتاء حملاً على لفظ- الأمنة- بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل منه، والواو في قوله تعالى: {وطائفة قد أهمتهم} هي واو الحال كما تقول: جئت وزيد قائم، قاله سيبويه وغيره قال الزجاج: وجائز أن يكون خبر قوله: {وطائفة} قوله- يظنون- ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة، وقوله تعالى: {قد أهمتهم أنفسهم} ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم: إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن، والمعنى: أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة، قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال، تقول العرب: أهمني الشيء إذا جلب الهم، وذكر بعض المفسرين: أن اللفظة من قولك: هم بالشيء يهم إذا أراد فعله.
قال القاضي أبو محمد: أهمتهم أنفسهم المكاشفة: ونبذ الدين، وهذا قول من قال: قد قتل محمد، فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو هذا من الأقوال.
قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ في أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَئ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قَلْ لَّوْ كُنتُمْ في بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا في صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا في قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدوُرِ}
قوله تعالى: {غير الحق} معناه: يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب، وقوله: {ظن الجاهلية} ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام، وهذا كما قال: {حمية الجاهلية} [الفتح: 26] و{تبرج الجاهلية} [الأحزاب: 33]، وكما تقول شعر الجاهلية، وكما قال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأساً دهاقاً، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه، والأمر محتمل، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري، وقوله تعالى: {يقولون هل لنا من الأمر من شيء} حكاية كلام قالوه، قال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله بن أبي ابن سلول: قتل بنو الخزرج فقال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ يريد أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا، وهذا منهم قول بأجلين، وكان كلامهم يحتمل الكفر والنفاق، على معنى: ليس لنا من أمر الله شيء، ولا نحن على حق في اتباع محمد، ذكره المهدوي وابن فورك، لكن يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في الخروج، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد، وقوله تعالى: {قل إن الأمر كله لله} اعتراض أثناء الكلام فصيح، وقرأ جمهور القراء {كلَّه}- بالنصب على تأكيد الأمر، لأن {كله} بمعنى أجمع، وقرأ أبو عمرو بن العلاء {كلُّه لله} برفع كل على الابتداء والخبر، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة {كل}، وقوله تعالى: {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك} يحتمل أن يكون إخباراً عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر، بل هي جهالة، ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزعات، وأخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين، وهذه كانت سنته في المنافقين، لا إله إلا هو، وقوله تعالى: {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق، وقال الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال: {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا}.
قال القاضي أبو محمد: وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي، ومعتب هذا ممن شهد بدراً، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، وقال ابن عبد البر: إنه شهد العقبة، وذلك وهم، والصحيح أنه لم يشهد عقبة، وقوله تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم} الآية رد على الأقوال، وإعلام بأن أجل كل امرئ إنما هو واحد، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل، وقرأ جمهور الناس {في بُيوتكم} بضم الباء، وقرأ بعض القراء وهي بعض طرق السبعة {في بِيوتكم}، بكسر الباء، وقرأ جمهور الناس {لَبَرَز} بفتح الراء والباء على معنى: صاروا في البراز من الأرض، وقرأ أبو حيوة {لبُرِّز} بضم الباء وكسر الراء وشدها، وقرأ جمهور الناس: {عليهم القَتل} أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره، وقرأ الحسن والزهري: {عليهم القتال} وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم، وقوله تعالى: {وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم} الآية، اللام في قوله تعالى: {وليبتلي} متعلقة بفعل متأخر تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا هو الاختبار، والتمحيص: تخليص الشيء من غيره، والمعنى ليختبره فيعلمه علماً مساوقاً لوجوده وقد كان متقرراً قبل وجود الابتلاء أزلاً، و{ذات الصدور} ما تنطوي عليه من المعتقدات، هذا هو المراد في هذه الآية.