فصل: تفسير الآيات (161- 163):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (161- 163):

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)}
تقدم القول في صيغة: وما كان لكذا أن يكون كذا، في قوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت} [آل عمران: 145] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {يغُل} بفتح الياء وضم الغين، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء، وقرأ باقي السبعة {أن يُغَل} بضم الياء وفتح الغين، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء، واللفظة: بمعنى الخيانة في خفاء، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح، قال أبو عمرو: تقول العرب: أغل الرجل يغل إغلالاً: إذا خان، ولم يؤد الأمانة، ومنه قول النمر بن تولب: [الطويل]
جزى اللَّهُ عنّي جَمْرَة َ ابْنَةَ نَوْفَلٍ ** جزاءَ مُغِلًّ بالأمانةِ كاذبِ

وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان، قال أبو علي: وتقول من الغل الذي هو الضغن: غل يغِل بكسر الغين، ويقولون في الغلول من الغنيمة، غل يغُل بضم الغين، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو {ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء} [يوسف: 38] {وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} [يوسف: 76] {وما كان لنفس أن تموت} [آل عمران: 145] {وما كان الله ليضل قوماً بعد أن هداهم} [التوبة: 115] {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} [آل عمران: 179] ولا يكاد يجيء: ما كان زيد ليضرب، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به، وفي هذا الاحتجاج نظر، وروي عن ابن عباس أنه قرأ {يغُل} بضم الغين، فقيل له: إن ابن مسعود قرأ {يغَل} بفتح الغين، فقال ابن عباس: بلى والله ويقتل، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالاً على هذه القراءة- التي هي بفتح الياء وضم الغين، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم: نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم: لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: قيل: كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجاً، وقيل كانت من منافقين، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً، قال النقاش: ويقال: إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد: الغنيمة الغنيمة أيها الناس، إنما نخشى أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئاً فهو له، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: خشيتم أن نغل؟ ونزلت هذه الآية، وقال الضحاك: بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم، فقسم للناس ولم يقسم لطلائع، فأنزل الله تعالى عليه عتاباً، {وما كان لنبي أن يغل} أي يقسم لبعض ويترك بعضاً، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاماً بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم، ورداً على الأعراب الذين صاحوا به: اقسم علينا غنائمنا يا محمد، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه، ونحا إليه الزجّاج، وقال ابن إسحاق: الآية إنما نزلت إعلاماً بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئاً ما أمر بتبليغه.
قال القاضي: وكأن الآية على هذا في قصة- أحد- لما نزل عليه: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه، وبالجملة فهو تأويل ضعيف، وكان يجب أن يكون {يُغِل} بضم الياء وكسر الغين، لأنه من الإغلال في الأمانة، وأما قراءة من قرأ {أن يُغَل} بضم الياء وفتح الغين، فمعناها عند جمهور من أهل العلم: أن ليس لأحد أن يغله: أي يخونه في الغنيمة، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظوراً مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلهم حظهم من التوقير، وقال بعض الناس: معنى {أن يغل} أن يوجد غالاً، كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محموداً، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى {يغُل} بفتح الياء وضم الغين، وقال أبو علي الفارس: معنى {يُغَل} بضم الياء وفتح الغين يقال له: غللت وينسب إلى ذلك، كما تقول أسقيته، إذا قلت: سقاك الله كما قال ذو الرمة: [الطويل]
وَأُسْقيهِ حتى كاد مِمّا أَبُثُّهُ ** تُكَلِّمُني أحْجَارُه وَمَلاعِبُهْ

وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام، ونحوه في الكلام: أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا آكل سمناً حتى يحياً الناس من أول ما يحيون: أي دخلون في الحيا وقوله تعالى: {ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة} وعيد لمن يغل من الغنيمة، أو في زكاته، فيجحدها ويمسكها، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: «ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء، وفرس له حمحمة».
، وروى نحو هذا الحديث ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء»، الحديث بطوله، وروى نحوه أبو حميد الساعدي وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدوا الخياط والمخيط، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: شراك أو شراكان من نار، وقال في مدعم، إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً».
قال القاضي: وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه، ألا ترى إلى قول الحارد: [الكامل]
أسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ ** رفع اللِّواء لَنَا بِهَا في الْمَجمَعِ

وكانت العرب ترفع للغادر لواء، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته، وقد تقدم القول في نظير، {ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [البقرة: 281].
وقوله تعالى: {أفمن اتبع رضوان الله} الآية، توقيف على تباين المنزلتين وافتراق الحالتين، والرضوان: مصدر، وقرأه عاصم- فيما روي عنه- بضم الراء- وقرأ جميعهم بكسرها، وحكى أبو عمرو الداني عن الأعمش، أنه قرأها- بكسر الراء وضم الضاد، وهذا كله بمعنى واحد مصدر من الرضى، والمعنى، اتبعوا الطاعة الكفيلة برضوان الله، ففي الكلام حذف مضاف، و{باء بسخط}- معناه: مضى متحملاً له، والسخط: صفة فعل، وقد تتردد متى لحظ فيها معنى الإرادة، وقال الضحاك: إن هذه الآية مشيرة إلى أن من لم يغل واتقى فله الرضوان، وإلى أن من غل وعصى فله السخط، وقال غيره: هي مشيرة إلى أن من استشهد- بأحد- فله الرضوان، وإلى المنافقين الراجعين عن النبي صلى الله عليه وسلم فلهم السخط، وباقي الآية بّين.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: {هم درجات} من المراد بذلك؟ فقال ابن إسحاق وغيره: المراد بذلك الجمعان المذكوران، أهل الرضوان وأصحاب السخط، أي لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النار أيضاً، وقال مجاهد والسدي ما ظاهره: إن المراد بقوله: {هم} إنما هو لمتبعي الرضوان، أي لهم درجات كريمة عند ربهم، وفي الكلام حذف مضاف تقديره {هم درجات} والدرجات المنازل بعضها أعلى من بعض في المسافة أو في التكرمة، أو العذاب، وقرأ إبراهيم النخعي {هم درجة} بالإفراد، وباقي الآية وعيد ووعد.

.تفسير الآيات (164- 165):

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)}
اللام في {لقد} لام القسم، و{منّ} في هذه الآية معناه: تطول وتفضل، وقد يقال: منّ بمعنى: كدرمعروفه بالذكر فهي لفظة مشتركة.
وقوله تعالى: {من أنفسهم} معناه في الجنس واللسان والمجاورة فكونه من الجنس يوجب الأنس به وقلة الاستيحاش منه، وكونه بلسانهم يوجب حسن التفهيم وقرب الفهم، وكونه جاراً وربياً يوجب التصديق والطمأنينة، إذ قد خبروه وعرفوا صدقه وأمانته فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسب قومه، وكذلك الرسل، قال النقاش: ليس في العرب قبيلة إلى وقد ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاتهم إلا بني تغلب لنصرانيتهم، والآيات في هذه الآية، يحتمل أن يراد بها القرآن ويحتمل أن يراد بها العلامات، والأول أظهر، {ويزكيهم} معناه: يطهرهم من دنس الكفر والمعاصي، قال بعض المفسرين: معناه يأخذ منهم الزكاة، وهذا ضعيف، و{الكتاب}: القرآن، {والحكمة}، السنة المتعلمة من لسانه عليه السلام، ثم ذكر حالتهم الأولى من الضلال ليظهر الفرق بتجاور الضدين- وقيل: لفظة مبنية لما تضمنت الإضافة، فأشبهت الحروف في تضمن المعاني فبنيت.
ثم وقف تعالى المؤمنين على الخطا في قلقهم للمصيبة التي نزلت بهم وإعراضهم عما نزل بالكفار، وعرفهم أن ذلك لسبب أنفسهم، والواو في قوله: {أولما} عطف جملة على جملة دخلت عليها ألف التقرير على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال، والمصيبة التي نالت المؤمنين هي: قصد- أحد- وقتل سبعين منهم، واختلف في المثلين اللذين أصاب المؤمنين فقال قتادة والربيع: وابن عباس وجمهور المتأولين: ذلك في يوم بدر، قتل المؤمنون من كفار قريش سبعين وأسروا سبعين، وقال الزجّاج: أحد المثلين: هو قتل السبعين يوم بدر، والثاني: هو قتل اثنين وعشرين من الكفار يوم- أحد- فهو قتل بقتل، ولا مدخل للأسرى في هذه الآية، هذا معنى كلامه، لأن أسارى بدر أسروا ثم فدوا، فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين، و{أَنّى}-معناها: كيف ومن أين؟ ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم: {هو من عند أنفسكم}، واختلف الناس كيف هو من عند أنفسهم ولأي سبب؟ فقال الجمهور من المفسرين: لأنهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك كفار قريش بشر محبس فأبوا إلا الخروج حتى جرت القصة، وقالت طائفة: قوله تعالى: {من عند أنفسكم} إشارة إلى عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين. وقال الحسن وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: بل ذلك لما قبلوا الفداء يوم بدر، وذلك أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما فرغت هزيمة المشركين ببدر جاء جبريل عليه السلام إلى النبي عليه السلام فقال: يا محمد إن الله قد كره ما يصنع قومك في أخذ الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: أن يقدموا الأسارى فتضرب أعناقهم، أو يأخذوا الفداء، على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسارى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر ذلك لهم فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره، قال: فقتل منهم يوم أحد- سبعون رجلاً.

.تفسير الآيات (166- 167):

{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)}
الخطاب بقوله تعالى: {وما أصابكم} للمؤمنين، و{الجمعان} هما عسكر النبي صلى الله عليه وسلم وعسكر قريش يوم-أحد- ودخلت الفاء في قوله: {فبإذن الله} رابطة مشددة، وذلك للإبهام الذي في {ما} فأشبه الكلام الشرط، وهذا كما قال سبيويه: الذي قام فله درهمان، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء، وكل ترتيب هذه الآية، فالمعنى إنما هو، وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب، لكن قدم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم، والإذن: التمكين من الشيء مع العلم به، وقوله تعالى: {وليعلم} معناه: ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين: أي مساوقين للعلم الذي لم يزل ولا يزال واللام في قوله: {ليعلم} متعلقة بفعل مقدر في آخر الكلام، والإشارة بقوله: {نافقوا} وقيل لهم هي إلى عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا معه عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم- أحد- وذلك أنه كان من رأي عبد الله بن أبي أن لا يخرج إلى كفار قريش، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على الوجه الذي قد ذكرناه، قال عبد الله بن أبي أطاعهم وعصاني، فانخذل بنحو ثلث الناس، فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله فقال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، أو نحو هذا من القول، فقال له ابن أبي: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم، فلما يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله رسوله عنكم، ومضى مع النبي صلى الله عليه وسلم فاستشهد، واختلف الناس في معنى قوله: {أو ادفعوا} فقال السدي وابن جريج وغيرهما معناه: كثروا السواد وإن لم تقاتلوا، فيندفع القوم لكثرتكم، وقال أبو عون الأنصاري: معناه رابطوا، وهذا قريب من الأول، ولا محالة أن المرابط مدافع، لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو، والمكثر للسواد مدافع، وقال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى، وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى، ولكني أكثر المسلمين بنفسي، وروي أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله، وذهب بعض المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو: {أو ادفعوا}، إنما هو استدعاء القتال حمية، لأنه دعاهم إلى القتال في سبيل الله، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما رأى أنهم ليسوا أهل ذلك، عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة، أي أو قاتلوا دفاعاً عن الحوزة، ألا ترى أن قزمان قال: والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي، وألا ترى أن بعض الأنصار قال يوم- أحد- لما رأى قريشاً قد أرسلت الظهر في زروع قناة قال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره بالقتال، فكأن عبد الله بن عمرو بن حرام دعاهم إلى هذا المقطع العربي الخارج عن الدين والقتال في سبيل الله، وذهب جمهور المفسرين إلى أن قوله: {أقرب} مأخوذ من القرب ضد البعد، وسددت- اللام- في قوله: {للكفر}، و{للإيمان}- مسد إلى، وحكى النقاش: أن قوله: {أقرب} مأخوذ من القرب بفتح القاف والراء وهو الطلب، والقارب طالب الماء، وليلة القرب ليلة الورد، فاللفظة بمعنى أطلب، واللام متمكنة على هذا القول، وقوله: {بأفواههم} تأكيد، مثل يطير بجناحيه، وقوله: {ما ليس في قلوبهم} يريد ما يظهرون من الكلمة الحاقنة لدمائهم، ثم فضحهم تعالى بقوله: {والله أعلم بما يكتمون} أي من الكفر وعداوة الدين وفي الكلام توعد لهم.