فصل: تفسير الآيات (168- 169):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (168- 169):

{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}
{الذين} بدل من {الذين} المتقدم، و{إخوانهم} المقتولون من الخزرج وهي أخوة نسب ومجاورة، وقوله تعالى: {لإخوانهم} معناه لأجل إخوانهم وفي شأن إخوانهم، ويحتمل أن يكون قوله: {لإخوانهم} للأحياء من المنافقين، ويكون الضمير في {أطاعونا} هو للمقتولين، وقوله: {وقعدوا} جملة في موضع الحال وهي حالة معترضة أثناء الكلام، وقوله: {لو أطاعونا} يريد في أن لا يخرجوا إلى قريش، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {ما قتّلوا} بشد التاء، وهذا هو القول بالأجلين، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {قل فادرؤوا} الآية، والدرء الدفع ومنه قول دغفل النسابة: [الرجز]
صَادَفَ دَرْءُ السَّيْلِ درءاً يَدْفَعُهْ ** وَالْعِبءُ لا تَعْرفُهُ أَوْ تَرْفَعُه

ولزوم هذه الحجة هو أنكم أيها القائلون: إن التوقي واستعمال النظر يدفع الموت، فتوقوا وانظروا في الذي يغشاكم منه حتف أنوفكم، فادفعوه إن كان قولكم صدقاً، أي إنما هي آجال مضروبة عند الله.
وقرأ جمهور القراء: {ولا تحسبن} بالتاء مخاطبة للنبي عليه السلام، وقرأ حميد بن قيس، {ولا يحسبن} بالياء على ذكر الغائب، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر: ولا يحسبن أحد أو حاسب، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى: ولا يحسب الناس، ويحسبن، معناه يظن، وقرأ الحسن: {الذين قتّلوا}، بشد التاء، وابن عامر من السبعة، وروي عن عاصم أنه قرأ: {الذين قاتلوا} بألف بين القاف والتاء، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء: أنهم في الجنة يرزقون، هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم، قال الحسن بن أبي الحسن: ام زال ابن آدم يتحمد حتى صار حياً لا يموت بالشهادة في سبيل الله، فقوله: {بل أحياء} مقدمة قوله: {يرزقون} إذ لا يرزق إلا الحي، وهذا كما تقول لمن ذم رجلاً: بل هو رجل فاضل، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل، وقرأ جمهور الناس: {بل أحياءٌ} بالرفع على خبر ابتداء مضمر، أي هم أحياء، وقرأ ابن أبي عبلة، {بل أحياءً} بالنصب، قال الزجّاج: ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء، قال أبو علي في الاغفال: ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر في بمحسبة، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة.
قال القاضي: فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلاً غير المحسبة، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر، وقوله: {عند ربهم} فيه حذف مضاف تقديره: عند كرامة ربهم، لأن {عند} تقتضي غاية القرب، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً، وروي عنه عليه السلام أنه قال: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها.
قال القاضي رحمه الله: وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة، يجمعها أنهم يرزقون، وقال عليه السلام: إنام نسمة المؤمن طير تعلق في ثمار الجنة، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء، والحديث معناه في الشهداء خاصة، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها، وأيضاً فإنها لا ترزق، وتعلق معناه: تصيب العلقة من الطعام، وفتح اللام هو من التعلق، وقد رواه القراء في إصابة العلقة، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إن الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول: يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى، فيقول تعالى: قد سبق أنكم لا تردون»، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله: «ألا أبشرك يا جابر؟» قال جابر: قلت بلى يا رسول الله، قال: «إن أباك حيث أصيب- بأحد- أحياه الله، ثم قال: ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟ قال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى»، وقال قتادة رحمه الله: ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين أصيبوا-بأحد- فنزلت هذه الآية وقال محمد بن قيس بن مخرمة في حديث إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر نبينا عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تعالى: أنا رسولكم، فنزل جبريل بهذه الآية وكثرت هذه الأحاديث في هذا المعنى، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من هذه المعاني وقوله تعالى: {فرحين} نصب في موضع الحال وهو من الفرح بمعنى السرور، و{الفضل} في هذه الآية: التنعيم المذكور.

.تفسير الآيات (170- 172):

{فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)}
{يستبشرون} معناه: يسرون ويفرحون، وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة، بل هي بمعنىستغنى الله واستمجد المرخ والعفار، وذهب قتادة والربيع وابن جريج وغيرهم: إلى أن هذا الاستبشار إنما هو بأنهم يقولون: إخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه فيسرون لهم بذلك، إذ يحصلون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذهب فريق من العلماء وأشار إليه الزجّاج وابن فورك: إلى أن الإشارة في قوله: {بالذين لم يلحقوا} إلى جميع المؤمنين، أي لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة لكن الشهداء لما عاينوا ثواب الله، وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، {ويستبشرون} للمؤمنين بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، و{ألا} مفعول من أجله، التقدير، بأن لا خوف، ويجوز أن يكون في موضع خفض بدل اشتمال.
ثم أكد تعالى استبشارهم بقوله: {يستبشرون بنعمة} ثم بين تعالى بقوله: {وفضل} فوقع إدخاله إياهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال، وقرأ الكسائي وجماعة من أهل العلم: {وإن الله}- بكسر الألف من أن، وقرأ باقي السبعة وجمهور العلماء: {وأن الله}- بفتح الألف، فمن قرأ بالفتح فذلك داخل فيما يستبشر به، المعنى، بنعمة وبأن الله، ومن قرأ بالكسر فهو إخبار مستأنف، وقرأ عبد الله وفضل الله لا يضيع.
وقوله تعالى: {الذين استجابوا} يحتمل أن تكون {الذين} صفة للمؤمينين على قراءة من كسر الألف من{إن}، والأظهر أن {الذين} ابتداء وخبره في قوله تعالى: {للذين أحسنوا} الآية، فهذه الجملة هي خبر الابتداء الأول، والمستجيبون لله والرسول هم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب قريش وانتظارهم لهم وذلك أنه لما كان في يوم الأحد وهو الثاني من يوم أحد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين، وقال: لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس، وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم، ولكن تجلدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، وأقام بها ثلاثة أيام، وجرت قصة معبد بن أبي معبد التي ذكرناها، ومرت قريش وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأنزل الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية، ومدحهم لصبرهم، وروي أنه خرج في الناس أخوان وبهما جراحة شديدة وكان أحدهما قد ضعف، فكان أخوه يحمله عقبه ويمشي هو عقبة، ورغب جابر بن عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج معه فأذن له، وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه الفعلة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها غزوة.

.تفسير الآيات (173- 174):

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}
{الذين} صفة للمحسنين المذكورين، وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين حملهم أبو سفيان ذلك، وقد ذكرته قبل، ف {الناس} الأول ركب عبد القيس و{الناس} الثاني عسكر قريش، وقوله تعالى: {فزادهم إيماناً}، أي ثبوتاً واستعداداً، فزيادة الإيمان في هذا هي في الأعمال، وأطلق العلماء عبارة: أن الإيمان يزيد وينقص، والعقيدة في هذا أن نفس الإيمان الذي هو تصديق واحد بشيء ما، إنما هو معنى فرد لا تدخله زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقص في متعلقاته دون ذاته فذهب بعض العلماء إلى أنه يقال: يزيد وينقص من حيث تزيد الأعمال الصادرة عنه وتنقص، لاسيما أن كثيراً من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات، وذهب قوم: إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفروض والإخبار في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر وهذا إنما زيادة إيمان إلى إيمان، فالقول فيه إن الإيمان يزيد وينقص قول مجازي ولا يتصور النقص فيه على هذا الحد وإنما يتصور الأنقص بالإضافة إلى الأعلم، وذهب قوم من العلماء: إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هي من طريق الأدلة، فتزيد الأدلة عند واحد، فيقال في ذلك: إنها زيادة في الأيمان، وهذا كما يقال في الكسوة، إنها زيادة في الإيمان، وذهب أبو المعالي في الإرشاد: إلى أن زيادة الإيمان ونقصانه إنما هو بثبوت المعتقد وتعاوره دائباً، قال: وذلك أن الإيمان عرض وهو لا يثبت زمانين فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وللصلحاء متعاقب متوال، وللفاسق والغافل غير متوال، يصحبه حيناً ويفارقه حيناً في الفترة، فذلك الآخر أكثر إيماناً، فهذه هي الزيادة والنقص وفي هذا القول نظر، وقوله تعالى: {فزادهم إيماناً} لا يتصور أن يكون من جهة الأدلة، ويتصور في الآية الجهات الأخر الثلاث، وروي أنه لما أخبر الوفد من عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حملهم أبو سفيان، وأنه ينصرف إليهم بالناس ليستأصلهم، وأخبر بذلك أيضاً أعرابي، شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا {حسبنا الله ونعم الوكيل} فقالوا واستمرت عزائمهم على الصبر ودفع الله عنهم كل سوء، وألقى الرعب في قلوب الكفار فمروا.
وقوله تعالى: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل} يريد في السلامة والظهور في اتباع العدو وحماية الحوزة، وبفضل في الأجر الذي حازوه والفضل الذي تجللوه، وباقي الآية بين قد مضت نظائره، هذا هو تفسير الجمهور لهذا الآية، وأنها عزوة-أحد- في الخرجة إلى حمراء الأسد وشذ مجاهد رحمه الله فقال: إن هذه الآية من قوله: {الذين قال لهم الناس} إلى قوله: {فضل عظيم} إنما نزلت في خروج النبي عليه السلام إلى بدر الصغرى، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في- أحد- إذ قال: موعدنا بدر من العام المقبل، فقال النبي عليه السلام: قولوا نعم: فخرج رسول الله قبل بدر وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي فأخبره أن قريشاً قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم قالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل}، وصممو حتى أتوا بدراً فلم يجدوا عدواً ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدماً وتجارة وانقلبوا ولم يلقوا كيداً وربحوا في تجارتهم، فذلك قوله تعالى: {بنعمة من الله وفضل} أي فضل في تلك التجارة، والصواب ما قاله الجمهور: إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد، وما قال ابن قتيبة وغيره: من أن لفظة {الناس} على رجل واحد من هذه الآية، فقول ضعيف.

.تفسير الآيات (175- 177):

{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)}
مقتضى {إنما} في اللغة الحصر، هذا منزع المتكلم بها من العرب، ثم إذا نظر مقتضاها-عقلاً- وهذا هو نظرالأصوليين- فهي تصلح للحصر وللتأكيد الذي يستعار له لفظ الحصر، وهي في هذه الآية حاصرة، والإشارة ب {ذلكم} إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين، عن رسالة أبي سفيان ومن تحميل أبي سفيان ذلك الكلام، ومن جزع من ذلك الخبر من مؤمن أو متردد، و{ذلكم} في الإعراب ابتداء، و{الشيطان} مبتدأ آخر، و{يخوف أولياءه} خبر عن الشيطان، والجملة خبر الابتداء الأول، وهذا الإعراب خير في تناسق المعنى من أن يكون {الشيطان} خبر {ذلكم} لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة، و{يخوف} فعل يتعدى إلى مفعولين، لكن يجوز الاقتصار على أحدهما إذ الآخر مفهوم من بنية هذا الفعل، لأنك إذا قلت: خوفت زيداً، فمعلوم ضرورة أنك خوفته شيئاً حقه أن يخاف، وقرأ جمهور الناس {يخوف أولياءه} فقال قوم المعنى: يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه الذين هم كفار قريش، فحذف المفعول الأول وقال قوم: المعنى يخوف المنافقين ومن في قلبه مرض وهم أولياؤه، فإذاً لا يعمل فيكم أيها المؤمنون تخويفه، إذ لستم بأوليائه، والمعنى: يخوفهم كفار قريش، فحذف هنا المفعول الثاني واقتصر على الأول، وقرأ ابن عباس فيما حكى أبو عمرو الداني {يخوفكم أولياءه} المعنى يخوفكم قريش ومن معهم، وذلك بإضلال الشيطان لهم وذلك كله مضمحل، وبذلك قرأ النخعي وحكى أبو الفتح بن جني عن ابن عباس أنه قرأ {يخوفكم أولياءه} فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان، وفسرت قراءة الجماعة {يخوف أولياءه} قراءة أبي بن كعب {يخوفكم بأوليائه} والضمير في قوله: {فلا تخافوهم} لكفار قريش وغيرهم من أولياء الشيطان، حقر الله شأنه وقوى نفوس المؤمنين عليهم، وأمرهم بخوفه هو تعالى وامتثال أمره، من الصبر والجلد، ثم قرر بقوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} كما تقول: إن كنت رجلاً فافعل كذا.
وقرأ نافع وحده {يُحزنك} بضم الياء من أحزن، وكذلك قرأ في جميع القرآن، إلا في سورة الأنبياء {لايحزنهم الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] فإنه فتح الياء، وقرأ الباقون {يَحزنك} بفتح الياء من قولك حزنت الرجل، قال سيبويه: يقال حزن الرجل وفتن إذا أصابه الحزن والفتنة، وحزنته وفتنته، إذا جعلت فيه وعنده حزناً وفتنة، كما تقول: دهنت وكحلت، إذا جعلت دهناً وكحلاً، وأحزنته وأفتنته، إذا جعلته حزيناً وفاتناً، كما تقول: أدخلته وأسمعته، هذا معنى قول سيبويه والمسارعة في الكفر هي المبادرة إلى أقواله وأفعاله والجد في ذلك، وقرأ الحر النحوي {يسرعون} في كل القرآن وقراءة الجماعة أبلغ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهاداً من الذي يسرع وحده، ولذلك قالوا كل مجرٍ بالخلاء يسر، وسلَّى الله نبيه بهذه الآية عن حال المنافقين والمجاهدين إذ كلهم مسارع، وقوله تعالى: {إنهم لن يضروا الله شيئاً} خبر في ضمنه وعيد لهم أي: إنما يضرون أنفسهم، والحظ إذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير، ألا ترى قوله تعالى: {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت: 35].
وقوله تعالى: {إن الذين اشتروا} أطلق عليهم الشراء من حيث كانوا متمكنين من قبول هذا وهذا فجاء أخذهم للواحد وتركهم للآخر كأنه ترك لما قد أخذ وحصل، إذ كانوا ممكنين منه، ولمالك رحمه الله متعلق بهذه الآية في مسألة شراء ما تختلف آحاد جنسه مما لا يجوز التفاضل فيه، في أن منع الشراء على أن يختار المبتاع، وباقي الآية وعيد كالمتقدم.