فصل: تفسير الآيات (62- 64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (62- 64):

{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)}
قالت فرقة: هي في المنافقين الذين احتكموا حسب ما تقدم، فالمعنى: فكيف بهم إذا عاقبهم الله بهذه الذنوب بنقمة منه؟ ثم حلفوا إن أردنا بالاحتكام إلى الطاغوت إلا توفيق الحكم وتقريبه، دون مر الحكم وتقصي الحق، وقالت فرقة: هي في المنافقين الذين طلبوا دم الذي قتله عمر، فالمعنى: {فكيف} بهم {إذا أصابتهم مصيبة} في قتل قريبهم ومثله من نقم الله تعالى، ثم إنهم حلفوا ما أرادوا بطلب دمه {إلا إحساناً} وحقاً، نحا إليه الزجّاج، وموضع {كيف} نصب بفعل تقديره: فكيف تراهم ونحوه، ويصح أن يكون موضعها رفعاً، تقديره: فكيف صنيعهم.
وقوله تعالى: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} تكذيب المنافقين المتقدم ذكرهم وتوعدهم، أي فهو مجازيهم بما يعلم، و{أعرض عنهم} يعني عن معاقبتهم، وعن شغل البال بهم، وعن قبول أيمانهم الكاذبة في قوله: {يحلفون} وليس بالإعراض الذي هو القطيعة والهجر، فإن قوله: {وعظهم} يمنع من ذلك، {وعظهم} معناه بالتخويف من عذاب الله، وغيره من المواعظ، والقول البليغ اختلف فيه، فقيل: هو الزجر والردع والكف بالبلاغة من القول، وقيل: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق، قاله الحسن، وهذا أبلغ ما يكون في نفوسهم، والبلاغة: مأخوذة من بلوغ المراد بالقول، وحكي عن مجاهد أن قوله: {في أنفسهم}، متعلق بقوله: {مصيبة} وهو مؤخر بمعنى التقديم، وهذا ضعيف وقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} تنبيه على جلالة الرسل، أي: فأنت يا محمد منهم، تجب طاعتك وتتعين إجابة الدعوة إليك، و{ليطاع}، نصب بلام كي، و{بإذن الله} معناه بأمر الله، وحسنت العبارة بالإذن، إذ بنفس الإرسال تجب طاعته وإن لم ينص أمر بذلك، ويصح تعلق الباء من قوله: {بإذن} ب {أرسلنا}، والمعنى وما أرسلنا بأمر الله أي بشريعته وعبادته من رسول إلا ليطاع، والأظهر تعلقه ب {يطاع} والمعنى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بأمر الله بطاعته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ خاص المعنى، لأنا نقطع أن الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه ألا يطيعوا، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، وهذا تخريج حسن، لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن ووفقه لذلك فكأنه أذن له فيه، وحقيقة الإذن: التمكين مع العلم بقدر ما مكن منه، وقوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} الآية، معناه: بالمعصية والنفاق، ونقصها حظها من الإيمان و{استغفروا الله} معناه: طلبوا مغفرته، وتابوا إليه رجعوا، و{تواباً}: معناه راجعاً بعباده.

.تفسير الآيات (65- 68):

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)}
قال الطبري: قوله: {فلا} رد على ما تقدم، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله، {وربك لا يؤمنون}.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال غيره: إنما قدم {لا} على القسم اهتماماً بالنفي، وإظهاراً لقوته، ثم كررها بعده تأكيداً للتهمم بالنفي، كان يصح إسقاط {لا} الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنى الاهتمام، و{شجر} معناه: اختلط والتف من أمورهم، وهو من الشجر، شبيه بالتفاف الأغصان، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه، وقرأ أبو السمال {شجْر} بإسكان الجيم.
قال القاضي أبو محمد: وأظنه فر من توالي الحركات، وليس بالقوي، لخفة الفتحة، و{يحكموك} نصب بحتى، لأنها هاهنا غاية مجردة. و{يجدوا} عطف عليه، والحرج: الشيق والتكلف والمشقة، قال مجاهد: {حرجاً}، شكاً، وقوله: {تسليماً} مصدر مؤكد، منبئ على التحقيق في التسليم، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة، كما قال تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} [النساء: 164] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع، ومنه: وعجت عجيجاً من جدام المطارف.
وقال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت، ورجح الطبري هذا، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة: نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب ذلك الرجل وقال إن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوعب للزبير حقه، فقال: احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء،» فنزلت الآية، واختلفت أهل هذا القول في الرجل، فقال قوم: هو رجل من الأنصار من أهل بدر، وقال مكي وغيره: هو حاطب بن أبي بلتعة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار، وأن الزبير قال: فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك، وقالت طائفة: لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، بلغ ذلك النبي وعظم عليه، وقال: ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل رجل مؤمن، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله.
و{كتبنا} معناه فرضنا، و{اقتلوا أنفسكم} معناه ليقتل بعضكم بعضاً، وقد تقدم نظيره في البقرة، وضم النون من {أن} وكسرها جائز، وكذلك الواو من {أو أخرجوا} وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو، و{قليل} رفع على البدل من الضمير في {فعلوه}، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب إلا قليلاً، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب.
وسبب الآية على ما حكي: أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام: ما رأينا أسخف من هؤلاء، يؤمنون بمحمد ويتبعونه، ويطؤون عقبة، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا لفعلناه، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون، كثابت وغيره، وكذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل. وشركهم في ضمير {منهم} لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة، وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت {ولو أنا كتبنا عليهم} الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي،» وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق، وذكر النقاش: أنه عمر بن الخطاب، وذكر عن أبي بكر أنه قال: لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي وقوله تعالى: {ولو أنهم فعلوا} أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم، و{تثبيتاً} معناه: يقيناً وتصديقاً ونحوهذا، أي يثبتهم الله، ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر ووصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم، والصراط المستقيم: الإيمان المؤدي إلى الجنة، وجاء ترتيب هذه الآية كذا، ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: ولهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر.

.تفسير الآيات (69- 70):

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}
لما ذكر الله الأمر الذي لو فعلوه لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله، وهذه الآية تفسير قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 5]، وقالت طائفة إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذان، يا رسول الله إذا مت ومتنا كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك، وذكر حزنه على ذلك، فنزلت هذه الآية، وحكى مكي عن عبد الله هذا، أنه مات النبي عليه السلام، قال اللهم أعمني حتى لا أرى شيئاً بعده، فعمي، وذكر أن جماعة من الأنصار قالت ذلك أو نحوه، حكاه الطبري عن ابن جبير وقتادة والسدي.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى- أنهم معهم- أنهم في دار واحدة، ومتنعم واحد، وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على من شاء، والصدّيق فعيل من الصدق، وقيل من الصدقة، وروي عن النبي عليه السلام، الصديقون المتصدقون، والشهداء المقتولون في سبيل الله، هم المخصوصون بفضل الميتة، وهم الذي فرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع لهم، وسمعوا بذلك لأن الله شهد لهم بالجنة، وقيل لأنهم شهدوا لله بالحق في موتهم ابتغاء مرضاته، ولكن لفظ، {الشهداء} في هذه الآية يعم أنواع الشهداء، و{رفيقاً} موحد في معنى الجمع، كما قال: {ثم يخرجكم طفلاً} [الحج: 5] ونصبه على التمييز، وقيل على الحال، والأول أصوب، وقرأ أبو السمال، {وحسْن} بسكون السين، وذلك مثل شجر بينهم.
وقوله تعالى: {ذلك الفضل من الله} رد على تقدير معترض يقول، وما الذي يوجب استواء أهل الطاعة والنبيين في الآخرة، والفرق بينهم في الدنيا بيّن؟ فذكر الله أن ذلك بفضله لا بوجوب عليه، والإشارة ب {ذلك} إلى كون المطيعين مع المنعم عليهم، وأيضاً فلا نقرر الاستواء، بل هم معهم في دار والمنازل متبانية، ثم قال: {وكفى بالله عليماً} وفيها معنى أن يقول، فسلموا فعل الله وتفضله من الأعتراض عليه، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره، ولذلك أدخلت الباء على اسم الله، لتدل على الأمر الذي في قوله: {وكفى}.

.تفسير الآيات (71- 73):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)}
هذا خطاب للمخلصين من أمة محمد عليه السلام، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، وحماية الشرع، و{خذوا حذركم}، معناه: احزموا واستعدوا بأنواع الاستعداد، فهنا يدخل أخذ السلاح وغيره، و{انفروا} معناه: اخرجوا مجدين مصممين، يقال: نفر الرجل ينفِر بكسر الفاء نفيراً، ونفرت الدابة تنفُر بضم الفاء نفوراً، و{ثبات} معناه: جماعات متفرقات، فهي كناية عن السرايا و{جميعاً}، معناه: الجيش الكثيف مع النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا قال ابن عباس وغيره، والثبة: حكي أنها فوق العشيرة من الرجال، وزنها فعلة بفتح العين، أصلها ثبوة، وقيل: ثبية، حذفت لامها بعد أن تحركت وانقلبت ألفاً حذفاً غير مقبس، ولذلك جمعت ثبون، بالواو والنون عوضاً من المحذوف وكسر أولها في الجمع دلالة على خروجها عن بابها، لأن بابها أن تجمع بالتاء أبداً، فيقال: {ثبات}، وتصغر ثبية أصلها ثبيوة، وأما ثبة الحوض وهي وسطه الذي يثوب الماء إليه، فالمحذوف منها العين، وأصلها ثوبة وتصغيرها ثوبية، وهي من ثاب يثوب، وكذلك قال أبو علي الفارسي في بيت أبي ذؤيب: [الطويل]
فَلَمَّا جَلاها بالأَيامِ تَحَيَّزَتْ ** ثَبَاتٌ عَلَيْهَا ذلُّهَا واْكِتئَابُها

انه اسم مفرد ليس يجمع سيق على الأصل، لأن أصل ثبة ثبوة، تحركت بالواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، فساقها أبو ذؤيب في هذه الحال.
وقوله تعالى: {وإن منكم} {إن} إيجاب، والخطاب لجماعة المؤمنين، والمراد ب {من} المنافقون وعبر عنهم ب {منكم} إذ هم في عداد المؤمنين، ومنتحلون دعوتهم، واللام الداخلة على {من} لام التأكيد، ودخلت على اسم {إن} لما كان الخبر متقدماً في المجرور، وذلك مهيع في كلامهم، كقولك: إن في الدار لزيداً، واللام الداخلة على {يبطئن} لام قسم عند الجمهور، تقديره {وإن منكم لمن} والله {ليبطئن} وقيل: هي لام تأكيد، و{يبطئن} معناه: يبطئ غيره أي يثبطه ويحمله على التخلف عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ مجاهد {ليبطئن} بالتخفيف في الطاء، و{مصيبة} يعني من قتل واستشهاد، وإنما هي مصيبة بحسب اعتقاد المنافقين ونظرهم الفاسد، أو على أن الموت كله مصيبة كما شاءه الله تعالى، وإنما الشهادة في الحقيقة نعمة لحسن مآلها، و{شهيداً} معناه مشاهداً فالمعنى: أن المنافق يسره غيبه إذا كانت شدة وذلك يدل على أن تخلفه إنما هو فزع من القتال ونكول عن الجهاد.
وقوله تعالى: {ولئن أصابكم فضل من الله} الآية، المعنى ولئن ظفرتم وغنمتم وكل ذلك من فضل الله، ندم المنافق إن لم يحضر ويصب الغنيمة، وقال: {يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً} متمنياً شيئاً قد كان عاهد أن يفعله ثم غدر في عهده، لأن المؤمن إنما يتمنى مثل هذا إذا كان المانع له من الحضور عذراً واضحاً، وأمراً لا قدرة له معه، فهو يتأسف بعد ذلك على فوات الخير، والمنافق يعاطي المؤمنين المودة، ويعاهد على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين، فعلى هذا يجيء قوله تعالى: {كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} التفاتة بليغة، واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم.
وحكى الطبري عن قتادة وابن جريج، أنهما كانا يتأولان قول المنافق {يا ليتني كنت معهم} على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغيبة، وقرأ الحسن {ليقولُن} بضم اللام على معنى {من} وضم اللام لتدل على الواو المحذوفة، ويدل مجموع هاتين الآيتين على أن خارج المنافقين فإنما كان يقصد الغنيمة، ومتخلفهم إنما كان يقصد الشك وتربص الدوائر بالمؤمنين و{كأن} مضمنة معنى التشبيه، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر وإنما تجيء بعدها الجمل، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص {تكن} بتاء، وقرأ غيرهما {يكن} بياء، وذل حسن للفصل الواقع بين الفعل والفاعل، وقوله: {فأفوز} نصب بالفاء في جواب التمني، وقرأ الحسن ويزيد النحوي {فأفوز} بالرفع على القطع والاستئناف، التقدير: فأنا أفوز: قال روح: لم يجعل ل {ليت} جواباً، وقال الزجّاج: إن قوله: {كأن لم يكن بينكم وبينه مودة} مؤخر. وإنما موضعه فإن أصابتكم مصيبة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لأنه يفسد فصاحة الكلام.