فصل: كتاب النذور

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحلى بالآثار في شرح المجلى بالاختصار **


كِتَابُ النُّذُورِ

1115 - مسألة‏:‏

نَكْرَهُ النَّذْرَ وَنَنْهَى عَنْهُ ‏;‏ لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهَا فَرْضًا إذَا نَذَرَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجَرَّدًا أَوْ شُكْرًا لِنِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى‏;‏ أَوْ إنْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمَلاً لاَ ظُلْمَ فِيهِ لِمُسْلِمٍ، وَلاَ لِمَعْصِيَةٍ‏:‏ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَقُولَ‏:‏ صَوْمُ كَذَا وَكَذَا فَأَكْثَرَ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ جِهَادٌ، أَوْ ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ رِبَاطٌ، أَوْ عِيَادَةُ مَرِيضٍ، أَوْ شُهُودُ جِنَازَةٍ، أَوْ زِيَارَةُ قَبْرِ نَبِيٍّ، أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ، أَوْ الْمَشْيُ أَوْ الرُّكُوبُ، أَوْ النُّهُوضُ إلَى مَشْعَرٍ مِنْ مَشَاعِرِ مَكَّةَ، أَوْ الْمَدِينَةِ، أَوْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ عِتْقُ مُعَيَّنٍ، أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، أَوْ أَيُّ طَاعَةٍ كَانَتْ‏:‏ فَهَذَا هُوَ التَّقَرُّبُ الْمُجَرَّدُ‏.‏ أَوْ يَقُولَ‏:‏ لِلَّهِ عَلَيَّ إذَا خَلَّصَنِي مِنْ كَذَا، أَوْ إذَا مَلَّكَنِي أَمْرَ كَذَا، أَوْ إذَا جَمَعَنِي مَعَ أَبِي، أَوْ فُلاَنٍ صَدِيقِي، أَوْ مَعَ أَهْلِي صَدَقَةٌ، أَوْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي ذَكَرْنَا‏.‏ أَوْ يَقُولَ‏:‏ عَلَيَّ لِلَّهِ إنْ أَنْزَلَ الْغَيْثَ، أَوْ إنْ صَحَحْت مِنْ عِلَّتِي، أَوْ إنْ تَخَلَّصْت، أَوْ إنْ مَلَكْت أَمْرَ كَذَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا‏.‏ فَإِنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ، أَوْ مَا لَيْسَ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً‏:‏ لَمْ يَلْزَمْ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ‏:‏ مِثْلُ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا، أَوْ أَنْ يَصْبُغَ ثَوْبَهُ أَحْمَرَ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً إنْ نَالَ مَعْصِيَةً، أَوْ إذَا رَأَى مَعْصِيَةً مِثْلَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ إنْ قُتِلَ فُلاَنٌ، أَوْ إنْ ضُرِبَ، وَذَلِكَ الْفُلاَنُ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ‏.‏ أَوْ قَالَ‏:‏ لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ إذَا أَرَانِي مَصْرَعَ فُلاَنٍ وَذَلِكَ الْفُلاَنُ مَظْلُومٌ‏:‏ فَكُلُّ هَذَا لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ تَعَالَى فَقَطْ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ نَذْرَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، فَقَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ إنْ كَلَّمْت فُلاَنًا، أَوْ عَلَيَّ عِتْقُ خَادِمِي فُلاَنَةَ إنْ كَلَّمْت فُلاَنًا، أَوْ إنْ زُرْت فُلاَنًا، فَكُلُّ هَذَا لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ كَفَّارَةٌ فِيهِ إِلاَّ الأَسْتِغْفَارُ فَقَطْ‏.‏ فَإِنْ قَالَ‏:‏ لِلَّهِ عَلَيَّ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ‏.‏‏.‏

وَقَالَ قَوْمٌ‏:‏ مَا خَرَجَ مِنْ هَذَا مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَا خَرَجَ مِنْ هَذَا مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا‏:‏ أَمَّا الْمَنْعُ مِنْ النَّذْرِ فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ، كِلاَهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْرِ، وَقَالَ‏:‏ إنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنْ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ هَذَا لَفْظُ سُفْيَانَ‏.‏ وَلَفْظُ شُعْبَةَ إنَّهُ لاَ يَأْتِي بِخَيْرٍ مَكَانَ إنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ وَاتَّفَقَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏ وَصَحَّ أَيْضًا مُسْنَدًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ‏.‏

وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ‏"‏ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ‏:‏ لاَ أَنْذِرُ أَبَدًا ‏"‏ وَهَذَا يُوجِبُ مَا

قلنا‏:‏ مِنْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَإِذَا وَقَعَ لَزِمَ وَاسْتُخْرِجَ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ‏.‏

وَأَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا‏}‏‏.‏

وَقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو أَوْفُوا بِالْعُقُودِ‏}‏‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏‏.‏

وَقَوْله تَعَالَى ‏{‏قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏‏.‏ فَصَحَّ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ فَصَحَّ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ نَذَرَهُ فَقَدْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ نَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ‏.‏ فَقَدْ صَحَّ يَقِينًا أَنَّ النُّذُورَ وَالْعُقُودَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهَا إنَّمَا هِيَ نَذْرُ الطَّاعَةِ فَقَطْ، وَلَيْسَ نَذْرُ الطَّاعَةِ إِلاَّ مَا ذَكَرْنَا، وَلاَ مَزِيدَ، وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً إنْ رَأَى مَعْصِيَةً أَوْ إنْ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْصِيَةٍ، أَوْ إذْ رَأَى مَعْصِيَةً سُرُورًا بِهَا فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْهُ عِصْيَانٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لاَ يَشُكُّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مُسْلِمٌ‏.‏ فَصَحَّ أَنَّهُ كُلَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ فَلاَ يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا مَا لاَ طَاعَةَ فِيهِ، وَلاَ مَعْصِيَةَ، فَإِنَّ نَاذِرَهُ مُوجِبٌ مَا لَمْ يُوجِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ نَدَبَ إلَيْهِ، وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى، فَفِعْلُهُ لِذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا لَمْ يَلْزَمْهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ‏.‏

رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ‏:‏ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَلاَ يَعْصِهِ‏.‏ قَالَ أَحْمَدُ‏:‏ طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ثِقَةٌ ثِقَةٌ ثِقَةٌ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ، وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ‏.‏ وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ نَفْسُ قَوْلِنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، أَمَرَهُ عليه السلام بِالْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ وَنَهَاهُ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا لَيْسَ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً مِنْ الْوُقُوفِ وَتَرْكِ الأَسْتِظْلاَلِ وَتَرْكِ الْكَلاَمِ‏.‏ وَقَدْ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ‏:‏ يَلْزَمُهُ تَرْكُ الْكَلاَمِ وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إنْسِيًّا‏}‏‏.‏ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏آيَتُكَ أَنْ لاَ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا‏}‏‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ هَذِهِ شَرِيعَةُ زَكَرِيَّا، وَمَرْيَمَ عليهما السلام، وَلاَ يَلْزَمُنَا شَرِيعَةُ غَيْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ شَأْنَهُمَا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ النُّبُوَّةِ، وَلَيْسَتْ الآيَاتُ لَنَا، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَرْكِ الْكَلاَمِ كَمَا ذَكَرْنَا‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس قَالَ‏:‏ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ مُذْ عَقَلْت لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ‏:‏ سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنْ النَّذْرِ يُنْذِرُهُ الْإِنْسَانُ فَقَالَ‏:‏ إنْ كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ فَعَلَيْهِ وَفَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ فَلْيَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا شَاءَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ‏:‏ إنِّي نَذَرْت إنْ نَجَا أَبِي مِنْ الأَسْرِ أَنْ أَقُومَ عُرْيَانًا، وَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ الْبَسْ ثِيَابَك، وَصُمْ يَوْمًا، وَصَلِّ قَائِمًا وَقَاعِدًا‏.‏ وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ‏:‏ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ‏:‏ أَنَّ رَجُلاً نَذَرَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ مَعَ بَنِي أَخِيهِ يَتَامَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ‏:‏ اذْهَبْ فَكُلْ مَعَهُمْ‏.‏ وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله تعالى عنه أَمَرَ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ سَاكِتَةً بِأَنْ تَتَكَلَّمَ‏.‏ وَعَنْ مَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ‏:‏ لاَ وَفَاءَ فِي نَذْرِ مَعْصِيَةٍ، وَلاَ كَفَّارَةَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاَللَّهِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ‏:‏ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ‏.‏ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ يَمِينٍ إِلاَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَهَى عَنْهَا، فَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى، وَلاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏

وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ‏:‏ مَنْ أَخْرَجَ نَذْرَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ مِثْلَ مَنْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ إنْ كَلَّمْت فُلاَنًا، فَإِنْ كَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ إِلاَّ فِي الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ وَحَدِّهِ‏.‏ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ‏:‏ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ‏.‏ وَقَالَ الْمُزَنِيّ‏:‏ لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ إِلاَّ فِي الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ وَحَدِّهِ فَفِيهِ الْوَفَاءُ بِهِ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ أَمَّا مَنْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ ‏;‏ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَقَالُوا‏:‏ قِسْنَاهُ عَلَى الطَّلاَقِ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ‏;‏ لأََنَّ النَّذْرَ مَا قَصَدَ نَاذِرُهُ الرَّغْبَةَ فِي فِعْلِهِ وَالتَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَاسْتَدْعَى مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْجِيلَ تَبْلِيغِهِ مَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ، وَهَذَا بِخِلاَفِ ذَلِكَ، لأََنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الأَمْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ الْبِرِّ، وَإِبْعَادِهِ عَنْ نَفْسِهِ جُمْلَةً وَمَنَعَ نَفْسَهُ مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْعَمَلَ‏.‏ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ نَاذِرًا، وَإِذْ لَيْسَ نَاذِرًا، فَلاَ وَفَاءَ عَلَيْهِ بِمَا قَالَ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَاصٍ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الأَلْتِزَامِ إذْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِهِ فَصَارَ مَعْصِيَةً، وَلاَ وَفَاءَ لِنَذْرِ مَعْصِيَةٍ‏.‏ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا لَيْسَ نَذْرَ طَاعَةٍ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَيْسَ يَمِينًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَبَطَلَ أَنْ يَجِبَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، إذْ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ ‏;‏، وَلاَ سُنَّةٌ وَالأَمْوَالُ مَحْظُورَةٌ مُحَرَّمَةٌ إِلاَّ بِنَصٍّ‏.‏

وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ إيَّاهُ عَلَى الطَّلاَقِ‏:‏ فَالْخِلاَف أَيْضًا فِي الطَّلاَقِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ أَشْهَرِ مِنْ أَنْ يُجْهَلَ فَظَهَرَ بُطْلاَنُ هَذَا الْقَوْلِ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَبَاطِلٌ أَيْضًا، لأََنَّهُ لاَ يَمِينَ إِلاَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُوجِبْ عَزَّ وَجَلَّ كَفَّارَةً فِي غَيْرِ الْيَمِينِ بِهِ، فَلاَ كَفَّارَةَ فِي يَمِينٍ بِغَيْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ فَخَطَأٌ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عِتْقٌ بِصِفَةٍ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا بَلْ هُوَ يَمِينٌ بِالْعِتْقِ فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا لاَ يَلْزَمُ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ قِسْنَا الْعِتْقَ الْمُعَيَّنَ عَلَى الطَّلاَقِ الْمُعَيَّنِ‏.‏

فَقُلْنَا‏:‏ الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لاَ يَصِحُّ قَوْلُكُمْ فِي الطَّلاَقِ الْمُعَيَّنِ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ إجْمَاعٍ‏.‏ فَإِنْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏ وَهَذَا خَبَرٌ لَمْ يَسْمَعْهُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، إنَّمَا رَوَاهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ‏.‏ وَخَبَرٌ آخَرُ‏:‏ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى الأَنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لاَ يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏ وَطَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى الأَنْصَارِيُّ ضَعِيفٌ جِدًّا‏.‏

وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ لاَ نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏ وَخَبَرٌ‏:‏ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏‏:‏ لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيُّ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَزِيَادَةٌ‏:‏ فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ‏.‏ قَالَ الْمُعْتَمِرُ‏:‏ فَقُلْت لِمُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَحَدَّثَكَهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ عِمْرَانَ فَقَالَ‏:‏ لاَ وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ رَجُلٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، فَبَطَلَ جُمْلَةً‏.‏ وَآخَرُ‏:‏ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى الأَنْصَارِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا‏.‏ وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ ضَعِيفٌ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ رَوْحٍ عَنْ سَلَّامٍ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏‏:‏ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ هَالِكٌ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ ‏;‏ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ حَدَّثْت عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ثُمَّ اتَّفَقَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏‏:‏ لاَ نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَلاَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏ أَحَدُهُمَا مُرْسَلٌ وَمُنْقَطِعٌ، وَالآخَرُ مُرْسَلٌ وَعَمَّنْ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ‏.‏

وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ‏;‏ لأََنَّهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ‏.‏

وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ‏:‏ لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ سَاقِطٌ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثُمَّ كُلُّ هَذَا عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ‏:‏ مُخَالِفَانِ لَهُ‏:‏ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلاَ يَرَى فِيمَنْ أَخْرَجَ النَّذْرَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ إِلاَّ الْوَفَاءَ بِهِ وَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا يَرَى كَفَّارَةَ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ فِي مَوْضِعَيْنِ فَقَطْ‏:‏ أَحَدُهُمَا إذَا قَالَ‏:‏ أَنَا كَافِرٌ إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا قَالَ‏:‏ لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ قُتِلَ الْيَوْمَ فُلاَنٌ، وَأَرَادَ الْيَمِينَ، وَلَمْ يَرَ عَلَى مَنْ نَذَرَ أَنْ يَزْنِيَ، أَوْ أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ أَنْ يَكْفُرَ، أَوْ أَنْ يَلُوطَ، أَوْ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ أَصْلاً، فَخَالَفَ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا إلَى غَيْرِ سَلَفٍ يُعْرَفُ‏.‏

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَمْ يَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّذُورِ فِي الْمَعْصِيَةِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِلاَّ فِيمَنْ نَذَرَ طَاعَةً أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ ‏;‏ فَكِلاَهُمَا مُخَالِفٌ لِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ بِشَيْءٍ أَصْلاً وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ‏:‏

كَمَا رُوِّينَا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ قَالَ‏:‏ قَالَتْ لِي مَوْلاَتِي لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ‏:‏ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ، أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك ‏;‏ فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَجَاءَتْ مَعِي إلَيْهَا، فَقَالَتْ‏:‏ يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك إنَّهَا قَالَتْ‏:‏ كُلُّ مَمْلُوكٍ حُرٌّ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ فَقَالَتْ لَهَا زَيْنَبُ‏:‏ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ‏:‏ فَكَأَنَّهَا لَمْ تَقْبَلْ فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ مَعِي إلَيْهَا فَقَالَتْ‏:‏ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك إنَّهَا قَالَتْ‏:‏ كُلُّ مَمْلُوكٍ حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ ‏;‏ فَقَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ قَالَ لِغَرِيمِهِ‏:‏ إنْ فَارَقْتُك فَمَا لِي عَلَيْك فِي الْمَسَاكِين صَدَقَةٌ، فَفَارَقَهُ، إنَّ هَذَا لاَ شَيْءَ يَلْزَمُهُ فِيهِ‏.‏ وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا‏.‏

فَإِنْ قَالُوا‏:‏ قَدْ أَفْتَى ابْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ قلنا‏:‏ نَعَمْ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصِّحَابَةُ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا الَّذِي جَعَلَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ بِلاَ بُرْهَانٍ وَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ‏:‏ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَاحِدَةً‏.‏ وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ فِيمَنْ قَالَ فِي يَمِينٍ‏:‏ مَالِي ضَرَائِبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ‏:‏ مَالِي كُلُّهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَعَائِشَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَشْعَثَ الْحُمْرَانِيِّ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْهُمَا‏.‏

وَرُوِّينَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ النَّذْرُ كَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ هَذَا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَحْوَهُ‏.‏ وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، فِيمَنْ قَالَ‏:‏ مَالِي كُلُّهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَصَحَّ عَنْ طَاوُوس، وَعَطَاءٍ، أَمَّا طَاوُوس فَقَالَ‏:‏ الْحَالِفُ بِالْعَتَاقِ، وَمَالِي هَدْيٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ لِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا النَّحْوُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏

وَأَمَّا عَطَاءٌ فَقَالَ فِيمَنْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ بَدَنَةٍ، أَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ حَجَّةٍ، أَوْ قَالَ‏:‏ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ‏:‏ كُلُّ ذَلِكَ يَمِينٌ‏.‏

وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ كُلُّ هَذَا خِلاَفٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ ‏;‏ لأََنَّ الشَّافِعِيَّ أَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعِتْقَ الْمُعَيَّنَ وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ هُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَشَرِيكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ‏.‏

وَبِهِ يَقُولُ الطَّحَاوِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ وَأَحَدُ قَوْلَيْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ‏.‏ وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتَةٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَفْتَى ابْنَهُ فِي الْمَشْيِ إلَى مَكَّة بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَقَالَ لَهُ‏:‏ إنْ عُدْت أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ مَالِكٍ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا‏:‏ حَدَّثَنِي بِذَلِكَ حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي تَمَّامٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ‏.‏

وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلاً آخَرَ وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ النَّذْرِ فَقَالَ‏:‏ أَفْضَلُ الأَيْمَانِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ، فَاَلَّتِي تَلِيهَا يَقُولُ‏:‏ الْعِتْقُ، ثُمَّ الْكِسْوَةُ، ثُمَّ الْإِطْعَامُ، إِلاَّ أَنَّهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ‏.‏

وَرُوِّينَا مِثْلَ تَفْرِيقِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا بِخِلاَفِ قَوْلِهِ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَاضِرٍ قَالَ‏:‏ حَلَفَتْ امْرَأَةٌ‏:‏ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَجَارِيَتِي حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ‏:‏ أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُعْتَقُ، وَأَمَّا قَوْلُهَا‏:‏ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُتَصَدَّقُ بِزَكَاةِ مَالِهَا‏.‏

وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقٍ لاَ تَصِحُّ‏.‏ وَقَدْ خَالَفُوهُ أَيْضًا فِيهَا‏:‏

كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ إصْرٍ فَلاَ كَفَّارَةَ لَهُ وَالْإِصْرُ أَنْ يَحْلِفَ بِطَلاَقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ نَذْرٍ، أَوْ مَشْيٍ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ غَيْرِ ذَلِكَ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ‏.‏ جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ سَاقِطٌ‏.‏ وَلَوْ صَحَّ لَكَانُوا قَدْ خَالَفُوهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ ‏;‏ لأََنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ فِيمَنْ أَتَى خَيْرًا مِمَّا حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَهُ كَفَّارَةٌ، إِلاَّ فِعْلُهُ ذَلِكَ فَقَطْ‏.‏

فَإِنْ قَالُوا‏:‏ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا بِالْكَفَّارَةِ قلنا‏:‏ نَعَمْ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَهَى عَنْ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ يَمِينًا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ نَذْرًا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ، إذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ قَصْدَ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ وَفَاءَ فِيهِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فَحَصَلَ قَوْلُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ جَمِيعِ السَّلَفِ‏.‏

وَمِمَّا ذَكَرْنَا مَسَائِلُ فِيهَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ، وَهِيَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ، وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مَسْجِدِ إيلْيَاءَ، أَوْ الرُّكُوبَ، أَوْ النُّهُوضَ إلَى مَكَّةَ، أَوْ إلَى مَوْضِعٍ سَمَّاهُ مِنْ الْحَرَمِ، وَمَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدِهِ إنْ بَاعَهُ، أَوْ عِتْقَ عَبْدِ فُلاَنٍ إنْ مَلَكَهُ‏.‏

فأما الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ‏:‏ لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ وَهُوَ قَوْلُنَا‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فِي الْمَسَاكِينِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كُلَّهُ، صَحَّ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ جَعَلْت مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

وَرُوِّينَا عَنْ سَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُمَا قَالاَ فِي هَذِهِ الْمسألة‏:‏ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى بَعْضِ بَنَاتِهِ‏.‏ وَصَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّهُمَا كَانَا يُلْزِمَانِهِ مَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ هَؤُلاَءِ‏:‏ فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِلاَّ أَبَا سُلَيْمَانَ فَقَالَ‏:‏ لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ حَاشَا قُوتِ شَهْرٍ فَإِذَا أَفَادَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمَا كَانَ أَبْقَى لِنَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، وَرَأَى فِيهِ إذَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَيَجْزِيهِ‏:‏

رُوِّينَا ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَصَحَّ نَحْوُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏:‏

رُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ‏.‏

وَرُوِّينَا ذَلِكَ قَبْلُ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُمَرُ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ

وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ جَعَلَ مَالَهُ هَدْيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ‏:‏ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ أَنْ يَغْتَصِبَ أَحَدًا مَالَهُ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلْيُهْدِ خُمُسَهُ وَإِنْ كَانَ وَسَطًا فَسُبُعَهُ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً فَعُشُرُهُ‏.‏ قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ الْكَثِيرُ أَلْفَانِ، وَالْوَسَطُ أَلْفٌ، وَالْقَلِيلُ خَمْسُمِائَةٍ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ يَتَصَدَّقُ بِخُمُسِهِ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ يَتَصَدَّقُ بِرُبْعِ الْعُشْرِ كَمَا رُوِّينَا ذَلِكَ آنِفًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ

وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَسَوَّى بَيْنَ مَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ جَمِيعِ مَالِهِ أَوْ بِصَدَقَةِ جُزْءٍ مِنْهُ سَمَّاهُ وَإِنَّمَا رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْيَمِينِ بِذَلِكَ‏.‏

وَرُوِّينَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ قَوْلَ رَبِيعَةَ هَذَا‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَعُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، كِلاَهُمَا عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ قَالَ‏:‏ إبِلِي نَذْرٌ، أَوْ هَدْيٌ، أَنَّهُ يُجْزِيه بَعِيرٌ مِنْهَا‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُ‏:‏ لَعَلَّهُ يُجْزِيه إنْ كَانَتْ إبِلُهُ كَثِيرَةً‏.‏ وَقَالَ ابْنُ ذَرٍّ عَنْهُ‏:‏ يُهْدِي جَزُورًا ثَمِينًا، وَيُمْسِكُ بَقِيَّةَ إبِلِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَلَهُمْ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ‏:‏ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ نَذْرًا، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِكُلِّ نَوْعٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَقَطْ، كَالْمَوَاشِي، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ نِصَابٌ تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ، أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَلاَ نَدْرِي مَا قَوْلُهُمْ فِي الْحُبُوبِ وَمَا يُزْرَعُ، وَالثِّمَارُ، وَالْعَسَلُ فَإِنَّ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ هَذَا عِنْدَهُ نَعَمْ، وَفِي كُلِّ عَرَضٍ إذَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَلاَ يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ سَلَفٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ‏:‏ الْمَالُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً‏}‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ الصَّدَقَةُ الْمَأْخُوذَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَمْلِكُ الْمَرْءُ، وَمَا اخْتَلَفَ قَطُّ عَرَبِيٌّ، وَلاَ لُغَوِيٌّ، وَلاَ فَقِيهٌ، أَنَّ الْحَوَائِطَ، وَالدُّورَ تُسَمَّى‏:‏ مَالاً، وَأَمْوَالاً، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنَّهُ لاَ مَالَ لَهُ وَلَهُ حَمِيرٌ، وَدُورٌ، وَضِيَاعٌ، فَإِنَّهُ حَانِثٌ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ‏:‏ وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءُ

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَقَالَ‏:‏ إنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ‏.‏ وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ أَنْ لاَ تُجْزِئَ صَدَقَةٌ أَصْلاً إِلاَّ بِمَالٍ فِيهِ زَكَاةٌ أَوْ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ فَقَطْ‏.‏

وقال مالك‏:‏ سَوَاءٌ نَذَرَ ذَلِكَ أَوْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ إنْ قَالَ‏:‏ مَالِي كُلُّهُ صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ، فَإِنْ قَالَ‏:‏ دُورِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَضِيَاعِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَثِيَابِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَرَقِيقِي كُلُّهُمْ صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَلَمْ يَزَلْ هَكَذَا حَتَّى سَمَّى نَوْعًا نَوْعًا حَتَّى أَتَى عَلَى كُلِّ مَا يَمْلِكُ‏:‏ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ ذَلِكَ أَوَّلُهُ عَنْ آخِرِهِ، لاَ يُجْزِيه مِنْهُ الثُّلُثُ إِلاَّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ، وَلاَ يُجْبَرُ‏.‏ فَلَوْ قَالَ مَكَانَ الْمَسَاكِينِ عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ‏:‏ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِكُلِّ ذَلِكَ وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ فَلَوْ نَذَرَ، أَوْ حَلَفَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، إِلاَّ دِينَارًا أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِهِ إِلاَّ دِينَارًا‏:‏

وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، لأََنَّهُ لاَ قُرْآنَ يُعَضِّدُهُ، وَلاَ سُنَّةَ، وَلاَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلاَ قَوْلٌ نَعْلَمُهُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ ‏;‏ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ ذَلِكَ‏.‏ وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ إِلاَّ نِصْفَ دِينَارٍ، أَوْ دِرْهَمًا حَتَّى نَبْلُغَهُمْ إلَى الْفَلْسِ، وَحَبَّةِ الْخَرْدَلَةِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ‏:‏ إنْ كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا تَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَرُبْعُ عُشْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَقَةً قَلِيلَةً، فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ لاَ وَجْهَ لَهُ‏.‏

قال أبو محمد لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ مُتَعَلَّقٌ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ إِلاَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مَنْ قَالَ‏:‏ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ ‏;‏ وَقَوْلَ مَنْ قَالَ‏:‏ يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ‏:‏ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ‏.‏

فأما مَنْ قَالَ‏:‏ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏

قال علي‏:‏ وهذا خَبَرٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لأََنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ ‏;‏ فَلاَ يَخْلُو النَّذْرُ بِصَدَقَةِ الْمَالِ كُلِّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، أَوْ يَكُونَ مَعْصِيَةً فَلاَ يَلْزَمُهُ أَصْلاً إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ صَحِيحٌ فِي ذَلِكَ بِحُكْمٍ مَا فَيُوقَفُ عِنْدَهُ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ عليه السلام‏:‏ كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلِهَذَا الْخَبَرِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

وَأَمَّا مَنْ قَالَ‏:‏ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ هُوَ نَذْرُ طَاعَةٍ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، بَلْ لَيْسَ هُوَ نَذْرَ طَاعَةٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا مَنْ قَالَ‏:‏ يُجْزِيه الثُّلُثُ، فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِخَبَرٍ‏:‏ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَدِّهِ فِي قِصَّتِهِ إذْ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللَّهِ أَنْ أُخْرِجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةً قَالَ‏:‏ لاَ، قُلْتُ‏:‏ فَنِصْفَهُ، قَالَ‏:‏ لاَ، قُلْتُ‏:‏ فَثُلُثَهُ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قُلْتُ‏:‏ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي مِنْ خَيْبَرَ‏.‏ وَبِخَبَرٍ‏:‏ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ‏:‏ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ السَّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي، وَأُسَاكِنَكَ، وَأَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ قَالَ‏:‏ يُجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ‏:‏ أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي السَّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ بِمِثْلِهِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ‏:‏ يُجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ، وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ‏;‏ لأََنَّهَا كُلَّهَا مَرَاسِيلُ، وَالأَوَّلُ مُنْقَطِعٌ ‏;‏ لأََنَّ ابْنَ إدْرِيسَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ ابْنِ إِسْحَاقَ‏.‏

وَأَمَّا تَمْوِيهُ الْمَالِكِيِّينَ بِالأَحْتِجَاجِ بِهَذَا الْخَبَرِ فَعَارٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِمْ ‏;‏ لأََنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ كُلِّهِ بِتِلْكَ التَّقَاسِيمِ الْفَاسِدَةِ، وَبِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِصَدَقَةِ نِصْفِ مَالِهِ إذَا نَذَرَهُ وَفِي هَذَا الْخَبَرِ خِلاَفُ ذَلِكَ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ النَّذْرِ بِصَدَقَةِ جَمِيعِهِ، وَصَدَقَةِ نِصْفِهِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ مُتَعَلَّقٌ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ فَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ إِلاَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ‏:‏ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ ‏;‏ لأََنَّهُ طَاعَةٌ مَنْذُورَةٌ فَهَهُنَا نَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَقُولُ‏:‏ قَالَ اللَّه تَعَالَى ‏{‏وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا‏}‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا‏}‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏}‏ فَلاَمَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُحِبَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ تَخَلُّفِهِ عَنْ تَبُوكَ وَ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ‏:‏ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِإِسْنَادِهِ مِثْلُهُ، وَزَادَ فِيهِ فَقُلْتُ‏:‏ إنْ أُمْسِكَ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّ خَيْرَ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، أَوْ تَصَدَّقَ عَنْ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأََهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا وَهَكَذَا‏.‏ وَالأَحَادِيثُ هَهُنَا كَثِيرَةٌ جِدًّا‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الظَّفَرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ‏:‏ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ، مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ مِرَارًا وَهُوَ يُرَدِّدُ كَلاَمَهُ هَذَا ثُمَّ أَخَذَهَا عليه السلام فَحَذَفَهُ بِهَا، فَلَوْ أَنَّهَا أَصَابَتْهُ لاََوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ وَقَالَ عليه السلام‏:‏ يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ‏:‏ هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَتَكَفَّفُ النَّاسَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوُهُ، وَفِي آخِرِهِ‏:‏ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ‏:‏ خُذْ عَنَّا مَالَكَ، لاَ حَاجَةَ لَنَا بِهِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بْنِ عَجْلاَنَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ‏:‏ دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يَطْرَحُوا ثِيَابًا فَطَرَحُوا فَأَمَرَ لَهُ مِنْهَا بِثَوْبَيْنِ، ثُمَّ حَثَّ عليه السلام عَلَى الصَّدَقَةِ فَطَرَحَ الرَّجُلُ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَصَاحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ خُذْ ثَوْبَكَ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى‏.‏ فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ بِإِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى مَا يُبْقِي غِنًى، وَإِذَا كَانَ الصَّدَقَةُ بِمَا أَبْقَى غِنًى خَيْرًا وَأَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ بِمَا لاَ يُبْقِي غِنًى ‏;‏ فَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ صَدَقَتَهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ لاَ أَجْرَ لَهُ فِيهَا، بَلْ حَطَّتْ مِنْ أَجْرِهِ فَهِيَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَمَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ الأَجْرِ، أَوْ لاَ أَجْرَ فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الْمَالِ فَلاَ يَحِلُّ إعْطَاؤُهُ فِيهِ ‏;‏ لأََنَّهُ إفْسَادٌ لِلْمَالِ وَإِضَاعَةٌ لَهُ وَسَرَفٌ حَرَامٌ، فَكَيْفَ وَرَدُّهُ عليه السلام الصَّدَقَةَ بِذَلِكَ بَيَانٌ كَافٍ فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏‏.‏ وَقَوْلَهُ عليه السلام إذْ سُئِلَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ فَقَالَ‏:‏ جَهْدُ الْمُقِلِّ‏.‏ وَقَوْلَهُ عليه السلام سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَجْوَدِهِمَا‏.‏ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ‏}‏‏.‏ وَبِحَدِيثِي أَبِي مَسْعُودٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِالصَّدَقَةِ ‏;‏ فَيَنْطَلِقُ أَحَدُنَا فَيَتَحَامَلُ فَيَجِيءُ بِالْمُدِّ، وَصَدَقَةِ أَبِي عَقِيلٍ بِصَاعِ تَمْرٍ فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ وَحُجَّةٌ لَنَا لاَ لَهُمْ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُبْقُوا لأََنْفُسِهِمْ مَعَاشًا، إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِلِّينَ، وَيُؤْثِرُونَ مِنْ بَعْضِ قُوتِهِمْ‏.‏

وَأَمَّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ‏}‏ فَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ ‏"‏جَهْدُ الْمُقِلِّ ‏"‏ فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ الْمَوْصُولَةُ بِقَوْلِهِ عليه السلام‏:‏ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ فَبَيَّنَ هَذَا الْقَوْلُ أَنَّهُ جَهْدُهُ بَعْدَ كَفَافِ مَنْ تَعُولُ‏.‏

وَكَذَلِكَ حَدِيثَا أَبِي مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ فَتَصَدَّقَ بِأَجْوَدِهِمَا، فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ ضَيْعَةٌ أَوْ لَهُ غَلَّةٌ تَقُومُ بِهِ فَتَصَدَّقَ بِأَحَدِ دِرْهَمَيْنِ كَانَا لَهُ وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام‏:‏ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُمَا فَإِنْ ذَكَرُوا صَدَقَةَ أَبِي بَكْرٍ بِمَا يَمْلِكُهُ

قلنا‏:‏ هَذَا لاَ يَصِحُّ ‏;‏ لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ‏:‏ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِنْدِي فَقُلْتُ‏:‏ الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَالَ‏:‏ فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَا أَبْقَيْتَ لأََهْلِكَ قُلْتُ‏:‏ مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَا أَبْقَيْت لأََهْلِكَ قَالَ‏:‏ أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ ‏;‏ لأََنَّهُ بِلاَ شَكٍّ كَانَتْ لَهُ دَارٌ بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوفَةٌ وَدَارٌ بِمَكَّةَ وَأَيْضًا‏:‏ فَإِنَّ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُضَيِّعَهُ فَكَانَ فِي غِنًى‏.‏ فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ مُجْمَلاً، أَوْ مُنَوَّعًا عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ إِلاَّ بِمَا أَبْقَى لِنَفْسِهِ، وَلأََهْلِهِ غِنًى، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ‏.‏

فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ سَعْدٍ فِي الْوَصِيَّةِ‏.‏ قلنا‏:‏ هُوَ عَلَيْكُمْ ‏;‏ لأََنَّ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ أَمْرِ الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فِي الْحَيَاةِ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَأَيْضًا فَقَدْ مَنَعَهُ عليه السلام مِنْ الصَّدَقَةِ بِنِصْفِهِ، وَأَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ هَذَا، وَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ‏;‏ وَلَوْ تَرَكَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ وَيُرَدُّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ‏:‏ بِرَدِّ مَا نَفَذَ مِنْ الصَّدَقَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ نَحْرَ نَفْسِهِ أَوْ ابْنِهِ‏:‏ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ‏:‏ سَمِعْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ يَقُولُ‏:‏ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ فَقَالَ‏:‏ لاَ يَنْحَرْ ابْنَهُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، فَقِيلَ لأَبْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ كَيْفَ تَكُونُ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ كَفَّارَةٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ مَا رَأَيْت‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لاَ حُجَّةَ لأَبْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ‏.‏ أَوَّلُ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هُوَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي شَبَّهَهَا بِطَاعَتِهِ فِي الظِّهَارِ، الْكَفَّارَةَ الَّتِي فِي الظِّهَارِ وَيَكْفِي هَذَا ثُمَّ لَوْ طَرَدَ هَذَا الْقَوْلُ لَوَجَبَتْ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ هُوَ، وَلاَ غَيْرُهُ‏.‏ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ فِيمَنْ قَالَ لأَمْرَأَتِهِ‏:‏ أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ، أَنَّهَا لاَ تَحْرُمُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِ كَفَّارَةً وَهَذَا أَصَحُّ أَقْوَالِهِ‏:‏ وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ غَيْرَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ‏:‏ نَذَرْت لاََنْحَرَنَّ نَفْسِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ فَأَمَرَهُ بِكَبْشٍ، قَالَ عَطَاءٌ‏:‏ يُذْبَحُ الْكَبْشُ بِمَكَّةَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ فَقُلْت لِعَطَاءٍ‏:‏ نَذَرَ لَيَنْحَرَنَّ فَرَسَهُ أَوْ بَغْلَتَهُ فَقَالَ‏:‏ جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ فَقُلْت لَهُ‏:‏ أَمَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَبْشٍ فِي نَفْسِهِ، وَتَقُولُ فِي الدَّابَّةِ جَزُورٌ فَأَبَى عَطَاءٌ إِلاَّ ذَلِكَ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَيْضًا حُجَّةٌ لأَبْنِ عَبَّاسٍ ‏;‏ لأََنَّ إبْرَاهِيمَ عليه السلام لَمْ يَنْذُرْ ذَبْحَ وَلَدِهِ، لَكِنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِهِ فَكَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَكَانَ نَذْرُ النَّاذِرِ نَحْرُ وَلَدِهِ أَوْ نَفْسِهِ مَعْصِيَةً مِنْ كِبَارِ الْمَعَاصِي، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُشَبَّهَ الْكَبَائِرُ بِالطَّاعَاتِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَا كَانَ ذَلِكَ الذَّبْحُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ إسْمَاعِيلُ عليه السلام، فَبَطَلَ هَذَا التَّشْبِيهُ وَرُوِّينَا عَنْهُ قَوْلاً ثَالِثًا أَيْضًا‏:‏

كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ، قَالَ‏:‏ لِيُهْدِ مِائَةَ نَاقَةٍ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ‏:‏ سَمِعْت سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ‏:‏ إنِّي كُنْت أَسِيرًا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَنَذَرْت إنْ نَجَّانِي اللَّهُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا، وَأَنْ أَنْحَرَ نَفْسِي، وَإِنِّي قَدْ فَعَلْت ذَلِكَ قَالَ وَفِي عُنُقِهِ قِدٌّ فَأَقْبَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى امْرَأَةٍ سَأَلَتْهُ وَغَفَلَ عَنْ الرَّجُلِ، فَانْطَلَقَ لِيَنْحَرَ نَفْسَهُ، فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ ذَهَبَ لِيَنْحَرَ نَفْسَهُ، فَقَالَ عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَجَاءَ، فَقَالَ‏:‏ لَمَّا أَعْرَضْت عَنِّي انْطَلَقْت أَنْحَرُ نَفْسِي فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لَوْ فَعَلْت مَا زِلْت فِي نَارِ جَهَنَّمَ، اُنْظُرْ دِيَتَك فَاجْعَلْهَا فِي بُدْنٍ فَأَهْدِهَا فِي كُلِّ عَامٍ شَيْئًا، وَلَوْلاَ أَنَّك شَدَدْت عَلَى نَفْسِك لَرَجَوْت أَنْ يُجْزِيك كَبْشٌ وَهَذِهِ آثَارٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنَّهُ أَفْتَى رَجُلاً نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَتَجِدُ مِائَةَ بَدَنَةٍ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ فَانْحَرْهَا، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَمَا لَوْ أَمَرْته بِكَبْشٍ لاََجْزَأَ عَنْهُ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ‏:‏ أَنَّ عِكْرِمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ‏:‏ لَقَدْ أَذْنَبْت ذَنْبًا لَئِنْ أَمَرْتنِي لاََنْحَرَنَّ السَّاعَةَ نَفْسِي وَاَللَّهِ لاَ أُخْبِرُكَهُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ بَلَى، لَعَلِّي أَنْ أُخْبِرَك بِكَفَّارَةٍ، قَالَ فَأَبَى، فَأَمَرَهُ بِمِائَةِ نَاقَةٍ وَهَذَا أَيْضًا إسْنَادٌ صَحِيحٌ‏.‏

وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقٍ سَاقِطَةٍ فِيهَا ابْنُ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيُّ‏:‏ أَنَّ عَلِيًّا، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ أَفْتَوْا فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ ابْنَهُ أَنْ يُهْدِيَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ‏:‏ وَحَدَّثَنِي ابْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ أَنَّهُمْ ثَلاَثَتُهُمْ سُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالُوا‏:‏ يَنْحَرُ بَدَنَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَكَبْشًا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فَهَذِهِ أَقْوَالٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صِحَاحٌ لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ لَمْ يُعْصَمْ مِنْ الْخَطَأِ، وَمَنْ قَلَّدَهُمْ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ لاَ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَضَائِلُ وَمُشَاهَدٌ تَعْفُو عَنْ كُلِّ تَقْصِيرٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ قَالَ‏:‏ سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ نَذْرًا لاَ يَنْبَغِي لَهُ ذَكَرَ ‏;‏ لأََنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يُوَفِّيَهُ ثُمَّ سَأَلَ عِكْرِمَةَ فَنَهَاهُ عَنْ الْوَفَاءِ بِهِ، وَأَمَرَهُ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ فَرَجَعَ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ سَعِيدٌ‏:‏ لَيَنْتَهِيَنَّ عِكْرِمَةُ أَوْ لَيُوجِعَنَّ الْأُمَرَاءُ ظَهْرَهُ، فَرَجَعَ إلَى عِكْرِمَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ‏:‏ إذْ بَلَّغَتْنِي فَبَلِّغْهُ، أَمَّا هُوَ فَقَدْ ضَرَبَتْ الْأُمَرَاءُ ظَهْرَهُ، وَأَوْقَفُوهُ فِي تُبَّانِ شَعْرٍ، وَسَلْهُ عَنْ نَذْرِك أَطَاعَةٌ لِلَّهِ هُوَ أَمْ مَعْصِيَةٌ فَإِنْ قَالَ‏:‏ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ، فَقَدْ أَمَرَك بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ قَالَ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، إذْ زَعَمَ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ طَاعَةٌ لَهُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏

وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْعَلاَءِ عَنْ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ نَفْسِي فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُهْدِيَ مِائَةَ نَاقَةٍ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، قَالَ‏:‏ فَإِنَّكَ لاَ تَجِدُ مَنْ يَأْخُذُهُ مِنْكَ بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ‏:‏ أَلَكَ مَالٌ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا، فَلاَ مَا يُوهَمُونَ مِنْ اتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ الْتَزَمُوا، وَلاَ النَّصَّ الْمُفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ اتَّبَعُوا، وَلاَ بِالْمُرْسَلِ أَخَذُوا، وَهُمْ يَقُولُونَ‏:‏ إنَّ الْمُرْسَلَ وَالْمُسْنَدَ سَوَاءٌ‏:‏

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ نَحْرَ وَلَدِهِ، أَوْ نَحْرَ نَفْسِهِ، أَوْ نَحْرَ غُلاَمِهِ، أَوْ نَحْرَ وَالِدِهِ، أَوْ نَحْرَ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ إهْدَاءَهُ، أَوْ إهْدَاءَ وَلَدِهِ، أَوْ إهْدَاءَ وَالِدِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، إِلاَّ فِي وَلَدِهِ خَاصَّةً، فَيَلْزَمُهُ فِيهِ هَدْيُ شَاةٍ وَهَذَا مِنْ التَّخْلِيطِ الَّذِي لاَ نَظِيرَ لَهُ وَوَافَقَهُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِلاَّ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَعَلَيْهِ فِي عَبْدِهِ أَيْضًا شَاةٌ‏.‏ وَاضْطَرَبَ قَوْلُ مَالِكٍ، فَمَرَّةً قَالَ‏:‏ مَنْ حَلَفَ فَقَالَ‏:‏ أَنَا أَنْحَرُ ابْنِي إنْ فَعَلْت كَذَا، فَحِنْثَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ‏:‏ وَمَرَّةً قَالَ‏:‏ إنْ كَانَ نَوَى بِذَلِكَ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ هَدْيًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لاَ هَدْيٌ، وَلاَ كَفَّارَةٌ‏.‏ وَمَرَّةً قَالَ‏:‏ إنْ نَذَرَ ذَلِكَ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ، فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ، فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُهُ‏:‏ إنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ أَبَاهُ، أَوْ أُمَّهُ، إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الأَبْنِ أَيْضًا‏.‏

وَكَذَلِكَ إنْ نَذَرَ ذَلِكَ بِمِنًى، أَوْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَمَا لَوْ نَذَرَهُ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَخِلاَفٌ لِلسَّلَفِ‏.‏ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ‏:‏ مَنْ قَالَ‏:‏ أَنَا أَنْحَرُ ابْنِي عِنْدَ الْبَيْتِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَيَحُجَّ بِابْنِهِ وَيُهْدِيَ هَدْيًا‏.‏ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ‏:‏ مَنْ قَالَ‏:‏ أَنَا أَنْحَرُ فُلاَنًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَإِنَّهُ يُحِجُّهُ، أَوْ يُعْمِرُهُ، وَيُهْدِي، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدٌ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى فَقَطْ‏:‏ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَيْهَا، فَلاَ وَجْهَ لِلأَشْتِغَالِ بِهَا‏.‏ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ‏:‏ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلاَّ الأَسْتِغْفَارَ فَقَطْ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ‏}‏‏.‏

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ فِي ذَلِكَ بِكَفَّارَةٍ، وَلاَ هَدْيٍ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى‏.‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا‏.‏

رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْت سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى يُحَدِّثُ عَطَاءً أَنَّ رَجُلاً أَتَى إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ‏:‏ نَذَرْت لاََنْحَرَنَّ نَفْسِي فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ أَوْفِ مَا نَذَرْت، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ‏:‏ أَفَأَقْتُلُ نَفْسِي قَالَ لَهُ إذْنَ تَدْخُلُ النَّارَ، قَالَ لَهُ‏:‏ أَلْبَسْت عَلَيَّ قَالَ‏:‏ أَنْتَ أَلْبَسْت عَلَى نَفْسِك قال أبو محمد‏:‏ وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي ابْنُ عُمَرَ، صَحَّ أَنَّ آتِيًا أَتَاهُ فَقَالَ‏:‏ نَذَرْت صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ‏.‏ وَأَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهُ فَقَالَتْ‏:‏ نَذَرْت أَنْ أَمْشِيَ حَاسِرَةً فَقَالَ‏:‏ أَوْفِي بِنَذْرِك، وَاخْتَمِرِي‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ سُقُوطَ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ جُمْلَةً وَبِهَذَا نَقُولُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏

وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ نَحْرَ فَرَسِهِ أَوْ بَغْلَتِهِ، فَلْيَنْحَرْهُمَا لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُؤْكَلُ ‏;‏ لأََنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏

وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ إلَى مَكَان سَمَّاهُ مِنْ الْحَرَمِ، أَوْ إلَى مَسْجِدٍ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّهُ إنْ نَذَرَ مَشْيًا، أَوْ رُكُوبًا، أَوْ نُهُوضًا إلَى مَكَّةَ، أَوْ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ لَزِمَهُ ‏;‏ لأََنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ، وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي ‏"‏ كِتَابِ الْحَجِّ ‏"‏ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ إنْ نَذَرَ مَشْيًا، أَوْ نُهُوضًا، أَوْ رُكُوبًا إلَى الْمَدِينَةِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ‏.‏

وَكَذَلِكَ إلَى أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، فَإِنْ نَذَرَ مَشْيًا، أَوْ رُكُوبًا، أَوْ اعْتِكَافًا، أَوْ نُهُوضًا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَزِمَهُ‏.‏ فَإِنْ نَذَرَ صَلاَةً فِيهِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الأَفْضَلُ أَنْ يَنْهَضَ إلَى مَكَّةَ فَيُصَلِّي فِيهَا وَيُجْزِيه‏.‏

وَالثَّانِي أَنْ يَنْهَضَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنْ نَذَرَ مَشْيًا، وَنُهُوضًا، أَوْ رُكُوبًا إلَى مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ الأَرْضِ غَيْرِ هَذِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ أَصْلاً‏.‏ بُرْهَانُ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ شَدِّ الرَّحَّالِ إِلاَّ إلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ فَقَطْ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏.‏

رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إنَّمَا الرِّحْلَةُ إلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ‏:‏ مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدِ إيلْيَاءَ فَصَارَ الْقَصْدُ إلَى مَا سِوَاهَا مَعْصِيَةً، وَالْمَعْصِيَةُ لاَ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا‏.‏ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ مَا لَمْ يَنْذُرْهُ مِنْ صَلاَةٍ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الَّذِي سَمَّى‏.‏، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ النُّهُوضِ، وَالذَّهَابِ، وَالْمَشْيِ، وَالرُّكُوبِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَشْيَ طَاعَةٌ، وَالرُّكُوبَ أَيْضًا طَاعَةٌ ‏;‏ لأََنَّ فِيهِ نَفَقَةٌ زَائِدَةٌ فِي بِرٍّ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مَكَّةَ، أَوْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ كَانَ نَذَرَ صَلاَةَ تَطَوُّعٍ هُنَالِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةَ فَرْضٍ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ لَزِمَهُ ‏;‏ لأََنَّ كَوْنَهُ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ طَاعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهَا‏.‏ وَإِنَّمَا قلنا‏:‏ لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي نَذْرِهِ صَلاَةَ تَطَوُّعٍ فِيهَا لِلأَثَرِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ قَالَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ إذْ فَرَضَ، عَزَّ وَجَلَّ، الْخَمْسَ الصَّلَوَاتِ‏:‏ هُنَّ خَمْسٌ، وَهُنَّ خَمْسُونَ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فَآمَنَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ‏}‏ أَنْ تَكُونَ صَلاَةً مُفْتَرَضَةً، غَيْرَ الْخَمْسِ لاَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ، وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ، مُعَيَّنَةً عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ أَبَدًا‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ إذْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَعْمَالِ بِمِثْلِ هَذَا وَبِهَذَا أَسْقَطْنَا وُجُوبَ الْوَتْرِ فَرْضًا مَعَ وُرُودِ الأَمْرِ، وَوُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ فَرْضًا عَلَى الدَّاخِلِ الْمَسْجِدَ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ‏.‏

فإن قيل‏:‏ قَدْ قُلْتُمْ فِيمَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا قُلْتُمْ قلنا‏:‏ نَعَمْ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِمَكَّةَ، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلاً قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ، أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام‏:‏ صَلِّ هَهُنَا، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ صَلِّ هَهُنَا، ثُمَّ أَعَادَهَا، فَقَالَ‏:‏ شَأْنَكَ إذًا‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ الْفَتْحِ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ‏:‏ صَلِّ هَهُنَا، فَأَعَادَ الرَّجُلُ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فَشَأْنَكَ إذًا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ هَذَا فِيمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا فِي مَسْجِدِ إيلْيَاءَ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِيهِ فَقَطْ‏:‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا‏.‏ فَإِنْ عَجَزَ رَكِبَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ‏:‏ لِمَا أَخْبَرَ الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلِّ هَهُنَا يَعْنِي بِمَكَّةَ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ وُجُوبُ نَذْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ‏.‏ وَصَحَّ أَنَّهُ نَدْبٌ مُبَاحٌ وَكَانَ فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ لاَزِمًا لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا رَاجَعَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عليه السلام‏:‏ فَشَأْنَكَ إذًا تَبَيَّنَ وَصَحَّ أَنَّ أَمْرَهُ عليه السلام لَهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ نَدْبٌ لاَ فَرْضٌ أَيْضًا، هَذَا مَا لاَ يُمْكِنُ سِوَاهُ، وَلاَ يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ غَيْرَهُ فَصَارَ كُلُّ ذَلِكَ نَدْبًا فَقَطْ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فَإِنَّكُمْ تُوجِبُونَ صَلاَةَ الْجِنَازَةِ فَرْضًا‏.‏ قلنا‏:‏ نَعَمْ، عَلَى الْكِفَايَةِ لاَ مُتَعَيِّنًا عَلَى أَحَدٍ بِعَيْنِهِ‏.‏ وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ هَذَا عَمَّنْ نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، فَإِنْ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ كَانَتْ صَلاَةً سَادِسَةً وَبَدَّلَ الْقَوْلَ الَّذِي أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ لَدَيْهِ‏.‏ فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ سَأَلْنَاهُ‏:‏ مَا الْفَرْقُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى فَرْقٍ أَبَدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏ فَلَوْ نَذَرَ النُّهُوضَ إلَى مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا لَزِمَهُ النُّهُوضُ إلَيْهَا، وَلاَ بُدَّ فَقَطْ ‏;‏ لأََنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَلْزَمُهُ مِنْ صَلاَةِ الْفَرْضِ هُنَالِكَ مَا أَدْرَكَهُ وَقْتُهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ فِيهَا مِنْ التَّطَوُّعِ مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ هُوَ هُنَالِكَ‏.‏

وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيق مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ‏:‏ أَنَّ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏:‏ اذْهَبْ فَتَجَهَّزْ فَتَجَهَّزَ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ‏:‏ اجْعَلْهَا عُمْرَةً‏.‏ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ أَنْ تُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَمَرَتْهَا بِأَنْ تُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ إيلْيَاءَ فَاعْتَكَفَ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ‏.‏ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَاعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَ عَنْهُ‏.‏ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ فَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَلْيَعْتَكِفْ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ‏:‏ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ‏:‏ رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ الْبَصْرَةِ قَالَ‏:‏ إنَّمَا أُمِرْتُمْ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ فِي الْجِوَارِ قُلْت‏:‏ فَأَوْصَى فِي أَمْرٍ فَرَأَيْت خَيْرًا مِنْهُ قَالَ‏:‏ افْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مَا لَمْ تُسَمِّ لأَِنْسَانِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إنْ قَالَ‏:‏ لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْت خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ فَافْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ رَجَعَ عَطَاءٌ عَنْ هَذَا وَقَالَ‏:‏ لِيَفْعَلْ الَّذِي قَالَ وَلْيُنَفِّذْ أَمْرَهُ‏.‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ وَقَوْلُهُ الأَوَّلُ أَحَبُّ إلَيَّ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس عَنْ أَبِيهِ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ مَنْ قَالَ لَهُ‏:‏ نَذَرْت مَشْيًا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ زِيَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ لَهُ طَاوُوس‏:‏ عَلَيْك بِمَكَّةَ مَكَّةَ‏.‏

وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ‏:‏ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ إتْيَانَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ إتْيَانَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ أَصْلاً‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْكَنِهِ مِنْ الْبِلاَدِ حَيْثُ كَانَ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ‏:‏ أَنَّهُ إنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي مَوْضِعٍ فَصَلَّى فِي أَفْضَلَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ صَلَّى فِي دُونِهِ لَمْ يُجْزِهِ‏.‏

وقال مالك‏:‏ إذَا قَالَ‏:‏ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إلَى الْمَدِينَةِ، أَوْ قَالَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ صَلاَةً هُنَالِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ رَاكِبًا، وَالصَّلاَةُ هُنَالِكَ ‏;‏ فَإِنْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ قَالَ‏:‏ إلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعَلَيْهِ الذَّهَابُ إلَى مَا هُنَالِكَ رَاكِبًا وَالصَّلاَةُ هُنَالِكَ قَالَ‏:‏ فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى عَرَفَةَ، أَوْ إلَى مُزْدَلِفَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ لَزِمَهُ‏.‏ وَقَالَ اللَّيْثُ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى مَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ مَشَى إلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وقال الشافعي‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ لَمْ يُجْزِهِ إِلاَّ فِيهَا، فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي ذَكَرَ لاَ فِيمَا سِوَاهُ، فَإِنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الْمَسَاجِدِ لَمْ يَلْزَمْهُ، لَكِنْ يُصَلِّي حَيْثُ هُوَ، فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَجْزَأَهُ الرُّكُوبُ إلَيْهِمَا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَخِلاَفُ السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِيمَنْ نَذَرَ طَاعَةً، وَفِي أَنَّ صَلاَةً فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، وَإِنَّ صَلاَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ عُمُومًا لاَ يَخُصُّ مِنْهُ نَافِلَةً مِنْ فَرْضٍ، وَهَذِهِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ فَقَالُوا‏:‏ لاَ يُطِعْهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَفَاسِدٌ أَيْضًا ‏;‏ لأََنَّهُ يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ فَجَاهَدَ فَإِنَّهُ يُجْزِيه مِنْ الصَّوْمِ ‏;‏ لأََنَّهُ قَدْ فَعَلَ خَيْرًا مِمَّا نَذَرَ، وَإِنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ، أَنَّهُ يُجْزِيه وَهَذَا خَطَأٌ ‏;‏ لأََنَّهُ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَخَطَأٌ لاَئِحٌ أَيْضًا ‏;‏ لأََنَّهُ أَسْقَطَ وُجُوبَ الْمَشْيِ عَنْ مَنْ نَذَرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ إلَى مَكَّةَ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا، لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ‏:‏ إنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ تَخْصِيصُهُ فِيمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَعْضِ الْمَشَاعِرِ، كَمُزْدَلِفَةَ، أَوْ عَرَفَةَ، فَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ، وَأَوْجَبَهُ إلَى مَكَّةَ، وَإِلَى الْكَعْبَةِ، وَإِلَى الْحَرَمِ ‏;‏ وَهَذَا كُلُّهُ تَحَكُّمٌ بِلاَ بُرْهَانٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِمَا يُنْتَقَضُ بِهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدِ فُلاَنٍ إنْ مَلَكَهُ، أَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عِتْقَ عَبْدِهِ إنْ بَاعَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَهُوَ بَاطِلٌ لاَ يَلْزَمُ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، فَإِنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ النَّذْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا شَيْءٌ ‏;‏ لأََنَّهُ إذَا قَالَ‏:‏ عَبْدِي حُرٌّ إنْ بِعْته، أَوْ قَالَ‏:‏ ثَوْبِي هَذَا صَدَقَةٌ إنْ بِعْته فَبَاعَهُ فَقَدْ سَقَطَ مُلْكُهُ عَنْهُ، وَإِذَا سَقَطَ مُلْكُهُ عَنْهُ، فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَنْفُذَ عِتْقُهُ فِي عَبْدٍ لاَ يَمْلِكُهُ هُوَ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ، وَصَدَقَتُهُ كَذَلِكَ‏.‏ وَمَنْ قَالَ‏:‏ إنْ ابْتَعْت عَبْدَ فُلاَنٍ فَهُوَ حُرٌّ، أَوْ إنْ ابْتَعْت دَارَ فُلاَنٍ فَهِيَ صَدَقَةٌ، ثُمَّ ابْتَاعَ كُلَّ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقٌ، وَلاَ صَدَقَةٌ‏:‏ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ‏.‏

وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ، حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو قِلاَبَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ إبِلاً بِبُوَانَةَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ إنِّي نَذَرْت أَنْ أَنْحَرَ إبِلاً بِبُوَانَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ قَالُوا‏:‏ لاَ، قَالَ‏:‏ هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ قَالُوا‏:‏ لاَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَوْفِ بِنَذْرِكَ فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ فَفِي هَذَا الْخَبَرِ نَصُّ مَا قلنا‏:‏ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمَرْءَ وَفَاءُ نَذْرِهِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ، وَفِيهِ إيجَابُ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ نَحْرِ الْإِبِلِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ‏.‏ وَقَالَ النَّاسُ فِي هَذَا‏:‏ أَقْوَالاً‏:‏ فَاخْتَلَفُوا فِي رَجُلٍ قَالَ‏:‏ إنْ بِعْت عَبْدِي هَذَا فَهُوَ حُرٌّ وَقَالَ آخَرُ‏:‏ إنْ اشْتَرَيْته مِنْك فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَعَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْمَاجِشُونِ قَالاَ‏:‏ يُعْتَقُ عَلَى الْمُشْتَرِي، لاَ عَلَى الْبَائِعِ‏.‏

وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ‏:‏ يُعْتَقُ عَلَى الْبَائِعِ لاَ عَلَى الْمُشْتَرِي‏.‏ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ‏:‏ لاَ يُعْتَقُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الْحَقُّ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْمَذْكُورُونَ قَبْلُ قَدْ نَقَضَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ أَصْلَهَا ‏;‏ لأََنَّهُمْ عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ‏:‏ إنْ بِعْت عَبْدِي فَهُوَ حُرٌّ، فَبَاعَهُ‏:‏ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّهُ إنْ قَالَ‏:‏ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدَ فُلاَنٍ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ، فَإِنَّهُ حُرٌّ فَمِنْ أَيْنَ غَلَّبَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا فِي اجْتِمَاعِهِمَا فِي بَيْعِهِ وَابْتِيَاعِهِ أَحَدَ النَّاذِرَيْنِ عَلَى الآخَرِ فَكَانَ الأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يُعْتِقُوهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَهَذَا نَقْضٌ وَاحِدٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ‏:‏ يُعْتَقُ عَلَى الْبَائِعِ فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ ‏;‏ لأََنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ، أَوْ لَمْ يَبِعْهُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ‏.‏ فَإِنْ كَانَ بَاعَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ غَيْرُهُ فَبِأَيِّ حُكْمٍ تُفْسَخُ صَفْقَةُ مُسْلِمٍ قَدْ تَمَّتْ وَبِأَيِّ حُكْمٍ يُعْتِقُ زَيْدٌ عَبْدَ عَمْرٍو إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبِعْهُ فَمَا يَلْزَمُهُ عِتْقُهُ ‏;‏ لأََنَّهُ إنَّمَا نَذَرَ عِتْقَهُ إنْ بَاعَهُ وَهُوَ لَمْ يَبِعْهُ وَهَذَا نَفْسُهُ لاَزِمٌ لِلشَّافِعِيِّ سَوَاءٌ سَوَاءٌ فَظَهَرَ فَسَادُ أَقْوَالِهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ‏.‏ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى‏:‏ مَنْ قَالَ‏:‏ إنْ دَخَلَ غُلاَمِي دَارَ زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ دَخَلَ الْغُلاَمُ دَارَ زَيْدٍ بَعْدَ مُدَّةٍ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ فِيهِ، وَيُعْتَقُ عَلَى بَائِعِهِ‏.‏ وَلَعَمْرِي مَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ بِبَعِيدٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ‏;‏ لأََنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَدْ اعْتِقُوهُ عَلَيْهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَأَبْطَلُوا صَفْقَةَ الْمُشْتَرِي وَصِحَّةَ مِلْكِهِ وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْغُلاَمُ دَارَ زَيْدٍ أَيُفْسَخُ عِتْقُهُ ثُمَّ يُعْتِقُهُ عَلَى بَائِعِهِ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَأَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي، ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ‏.‏