فصل: الفصل السابع والعشرون (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل السابع والعشرون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

إن الدنيا مذ أبانت محبها أبانت حالها، لقد روت وما روت، فأرت مآلها، لقد عرف إدبارها من قد ألف إقبالها، وما اطمأنت أرضها، إلا زلزلت زلزالها‏.‏

قل لمن فاخر بالـدنـيا وحـامـى*** قتلت قبلك سـامـاً ثـم حـامـا

ندفن الخِـلَّ ومـا فـي دفـنـنـا*** بعده شك ولـكـن نـتـعـامـى

إن قـدامـك يومـاً لـو بـــه*** هددت شمس الضحى عادت ظلاما

فانتبه من رقـدة الـلـهـو وقـم*** وانف عن عين تماديك المـنـامـا

صاح صح بالقبر يخبـرك بـمـا*** قد حوى واقرأ على القوم السلاما

فالعظيم القـدر لـو شـاهـدتـه*** لم تجد في قبره إلا الـعـظـامـا

تالله لقد ركض الموت فأسرع في الركض، بث الجنود وطبق الأرض، ما حمل على كتيبة إلا وفض، ولا صاح بجيش إلا جاش وارفض، ولا لوح إلى طائر في البرج إلا انقض، إذا تكلمت قوسه بالنبض أسكنت النبض، بينا الحياة تعرب بالرفع جعل الشكل الخفض، أين مصون الحصون‏؟‏ أزعج عنها، أين مقصور القصور‏؟‏ أخرج منها، نقله هادم اللذات نقلاً سريعاً، ومقله في بحار الآفات مقلاً فظيعاً، وفرق بينه وبين بنيه، وطرقه بطارق النقض فأنقض ما كان يبنيه، لقد ولى ولاء ذي ود ينفعه، وبان فبان لباني الدنيا مصرعه، هجره والله من هاجر إليه، ونسيه نسيبه وقد كان يحنو عليه، فلا صديقه صدقه في مودته، ولا رفيقه أرفقه في شدته، حلوا والله بالبلاء في البلى، وودعهم من أودعهم ثم قلى، وانفردوا في الأخدود بين وحش الفلا، وسألوا الإقالة فقيل‏:‏ أما هذا فلا، لو نطق الموتى بعد دفنهم لندموا على غيهم وافتهم، ولقالوا‏:‏ رحلنا عن ظلم شرورنا إلى ظلم قبورنا، وخلونا عن الأخلاء بترابنا في آفات لا ترى بنا، أفترى محبنا إذ ظعنا، بمن اعتاض عنا‏؟‏ وهذا مصيرك بعد قليل، فتأهب يا مقيم للتحويل، يا سليماً يظن أنه سليم، جوارحك جوارحك، سور تقواك كثير الثلم، وأعداؤك قد أحاطوا بالبلد، ويحك، قبل الرمي تراش السهام، وبين العجز والتواني ينتج التوى، يا قالي القائل للنصايح إداؤك داؤك، كيف تجتمع همتك مع غوغاء المنى وضوضاء الشهوات، كيف تتصرف في مصالحك والشواغل للشوي غل، كم صادفت الهوى فصدفت‏؟‏ لقد خدع قلبك الهوى فاسترق فاسترق، أضرّ ما عليك سوء تدبيرك، آه للابس شعار الطرد وما يشعر به وأسفاً، لمضروب ما يحس صوت الشوط، عجباً لمن أصيب بعقله وعقله معه، يا معثر الأقدام مع إشراق الشمس، يا فارغ البيت من القوت في أيام الحصاد‏.‏

أملي من أملي ما ينقـضـي *** وغرامي من غرامي قاتلـي

كلما أفنيتُ عـامـاً فـاسـداً *** جاء عامٌ مثله مـن قـابـل

كلما أملت يوماً صـالـحـاً *** عرض المقدور لي في أملي

وأرى الأيام لا تُدنـي الـذي *** أرتجي منك وتدني أجـلـي

يا جرحى الذنوب قد عرفتم المراهم، اخرجوا من قصر مصر الهوى وقد لاحت مدينة مدين، اطلبوا بئر الشرب وإن صد الرعاء فلعل حضور موسى يتفق، متى استقامت لكم جادة البكاء فلا تعرجوا عنها، كان عمر بن عبد العزيز وفتح الموصلي يبكيان الدم‏.‏

قولوا لسكان الحـي *** تبدل الدمـع دمـا

وكل شهد بعـدكـم *** قد صار مراً علقما

إذا تكاثفت كثبان الذنوب في بوادي القلوب، نسفها نسف أسف في نفس، يا أهل الزلل قوموا نفس أنفسكم فقد جمع قسر القهر، بين الناقص والتام، لقد تاب الله على المؤمنين ‏"‏وعلى الثلاثة الذي خُلِّفوا‏"‏‏.‏

لست وإن أعرضتـم *** أيأس من أن تعطفوا

فلا برى وجدي بكم *** ولا أفاق الشغـف

وصبر يعقوب معي *** حتـى يرد يوسـف

يا من كان له وقت طيب وقلب حسن، فاستحال خله خمراً، ابكِ على ما فقدت في بيت الأسف‏.‏

لعل انحدار الدمع يعقـب راحة *** من الوجدان يطفي نجى البلابل

ما أحسن ما كنتَ فتغيرت، ما أجود جادتك فكيف تعثرت‏.‏

وكنا جميعاً قبل أن يظهر الورى *** بأنعم حالي غبـطة وسـرور

فما برح الواشون حتى بدت لنا *** بطون الهوى مقلوبة لظهـور

البكاء على الفايت معول الحزين‏.‏

لأبي تمام‏:‏

وانجدتم من بعد اتـهـام داركـم *** فيا دمع انجدني على ساكني نجد

لعمري قد أخلفتم جدة الـبـكـا *** عليّ وجددتم به خلق الـوجـد

يا معاشر المطرودين عن صحبة أهل الدين‏.‏

تعالوا نقم مأتماً للفراق *** ونندب إخواننا الظاعنينا

هلموا نرق دمع تأسفنا على قبح تخلفنا، ونبعث مع الواصين رسالة محضر لعلنا نحظى بأجر المصيبة، أنجع المراهم لجراحات الذنوب البكاء، هتكة الدمع ستر على الذنب‏.‏

قد كنت أصون دمعتي فـي الأمـاق *** ستراً للحب وهو مـا لـيس يطـاق

حتى صاح الوجد عن صحيح الأشواق *** ما حيلة من بلى بمهـجـر وفـراق

كان محمد ابن المنكدر كثير البكاء فسئل عن ذلك فقال‏:‏ آية من القرآن أبكتني ‏"‏وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏"‏ كيف لا تذهب العيون من البكاء‏؟‏ وما تدري ما قد أعد لها‏.‏

سبقت السعادة لمحمد صلى الله عليه وسلم قبل كونه، ومضت الشقاوة لأبي جهل قبل وجوده، وخوف العارفين من سوابق الأقدار قلقل الأرواح هيبة ‏"‏لا يُسئل‏"‏ مع تحكم ‏"‏ولو شئنا لآتينا كلَّ نفسٍ هداها‏"‏ قوي قلق العلماء‏.‏

أترى سألوا لما رحـلـوا*** ماذا فعلوا أم من قتـلـوا

أحليف النوم أقل الـلـوم*** فعندي اليوم بهم شـغـل

أدنى جزعي لم يبق معـي*** قلب فيعي منذ احتمـلـوا

جلدي سلبوا جسدي نهبـوا*** كمدي وهبوا كبدي تبلـوا

لما ذرفت عيني وقـفـت*** أترى عرفت ما بي الإبل

ولحا اللاحي وهو الصاحي*** وهو راحي وأنا الثـمـل

الفصل الثامن والعشرون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

تيقظ لنفسك يا هذا وانتبه، وأحضر عقلك وميز ما تشتبه، أما هذا منزلك اليوم‏؟‏ وغداً لست به‏.‏

إذا ما انجلى الرأي فاحكم به *** ولا تحكمن بما يشـتـبـه

ونبّه فـؤادك مـن رقـدة *** فإن الموفق من ينـتـبـه

وإن كنتُ لم أنتبه بـالـذي *** وعظت به فانتبه أنت بـه

لقد أمكنت الفرصة أيها العاجز، ولقد زال القاطع وارتفع الحاجز، أين الهمم العالية وأين النجايز‏؟‏ أما تخاف هادم اللذات والمنى الناجز‏؟‏ أما اعوجاج القناة دليل على الغامز‏؟‏ أما الطريق طويلة وفيها المفاوز، أما القبور قنطرة العبور فمن المجاوز، أما يكفي في التنغيص حمل الجنايز‏؟‏ أما العدو محارب فهل من مبارز‏؟‏ أما الأمن بعيد والهلك ناشز، والقنا مشرع والطعن واخز، تالله تطلب الشجاعة من بين العجايز، وتروم إصلاح فارك وتقويم ناشز، إن لم يكن سبق التصديق فلتكن توبة ماعز، ما هذه الغفلة والبلى مصيرك‏!‏ وكم هذا التواني فلقد أودى تقصيرك، أما صاح بك في سلب نذيرك، أفلا تتأهب لقدساء تدبيرك‏.‏

إبْ يا شارد الطبع من سفر الهوى، وأذب جامد الدمع بنيران الأسى، لعل شفيع الاعتراف يسئل في أسير الاقتراف، نق عينيك من عيوبك، وخلص ذنوبك من بحر ذنوبك، وصن صندوق فمك بقفل صمتك، واطو طيلسان لسانك عن بذلة نطقك، وأغمض عينك عن عيبك حفظاً لدينك، واكفف كفك مكتفياً بما كفك، وابن منبر التذكير لواعظ القلب في ساحة الصدر، وناد في شجعان العزائم ورهبان الفكر، هلموا إلى عقد مجلس الذكر، واحذر عين العدو أن يوقع تشتيت الهم في جمع العزم، فإن رماك القدر بسهم الفتور عن قوس الحكمة من يد لكل عامل فترة فاتق بجنة الاعتذار، فإن ألقى كرة قلبك إلى صولجان التقليب في بيداء المؤمن مفتن فجل في ميدان الدل فإن دب ذئب الهوى فعاث في مزرعة التقى فأقم ناطور القلق، فإن أفلت دجال الطبع فأقام صليب الزلل وأطلق خنزير الشره فألجأ إلى حرم التوبة واستغث بعيسى العون لعله ينزل من سماء الألطاف فيهلك الدجال ويقتل الخنزير ويكسر الصليب، اجلس ليلة على مائدة السحر وذق طعام المناجاة تنسيك كل لذة، أرواح الأسحار لا يستنشقها من كوم غفلة، إنها لتأتي بألطاف الحبيب ثم تعود فيحاء تطلب رسالة، فمن لم يكتب كتاباً فماذا يبعث‏؟‏ لو وقفت على جادة التهجد ليلة لرأيت ركب الأحباب لو سرت في أعراض القوم لحرك قلبك صوت الحداة، أقبلت رياح الأسحار فاحتشمت تقبيل أقدامهم، وذكت أذيال أثوابهم‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

وأمستِ الريحُ كالغيرى تجاذبنـا *** على الكئيب فضول الرَّيط واللَّمم

يشي بنا الطـيبُ أحـيانـاً وآونةً *** يُضيئنا البرقُ مجتازاً على أَضَم

يُولّع الطلُّ بُرْدَيْنا وقد نسـمـت *** رويحة الفجر بين الضال والسلم

حديث القوم مع الدجى يطول، يسيحون في فلوات خلواته، يندبون أطلال الحب ويرتاحون إلى تنسمه لشدة الطرب‏.‏

وإني لأستنشي الـشـمـال إذا جـرت *** حنينا إلى آلاف قلـبـي وأحـبـابـي

وأهدي مع الريح الجـنـوب إلـيهـم *** سلامي وشكوى طول حزني وأوصابي

واعجباً الرسايل تحمل في الأسحار، لا يدري بها الفلك، والأجوبة ترد إلى الأسرار لا يعلمها الملك‏.‏

يا حبذا رند العقـيق وبـأنـه *** سقى العقيق وأهله وزمانـه

راقت خمايله ورق نسـيمـه *** وصفت على عصبائه غدرانه

وشكت تباريح الصبابة ورقـه *** وتمايلت بيد الصبا أفـنـانـه

يا مفرداً في حسنه صل مفرداً *** في حزنه لعبت به أشجانـه

صباً إذا ذكر العقيق وأهـلـه *** صابت مدامعه وجن جنانـه

اجتمع المحبون في مساجد التعبد أول الليل، فرماهم الوجد في آخره على قوارع الطرق‏.‏

مشوا إلى الراح مشى الرخ فانصرفوا *** والراح تهشي بهم مشي الـفـرازين

أرواح أزعجها الحب، وأقلقها الخوف، سبحان من أمسكها باللطف‏.‏

قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا *** ماتوا وإن عاد من يهوونه بعثـوا

ترعى المحبين صرعن في ديارهم *** كفتية الكهف يدرون لا كم لبثـوا

والله لو حلف العـشـاق أنـهـم *** موتى من الحب أو قتلى لما حنثوا

مجلسنا بحر، يرده الفيل والعصفور كل أناس مشربهم أطيار صناعتها في الجو بالقلب‏.‏

فأين الطروب، سحائب التفهيم قد هطلت بودق البيان، أفتراها أخضرت رياض الأذهان‏؟‏ نحن في روضة طعامنا فيها الخشوع وشرابنا فيها الدموع ونقلنا هذا الكلام المطبوع، نداوي أمراضاً أعجزت بختيشوع، ونرقى الهاوي ونرقى الملسوع، فليته كان كل يوم لا كل أسبوع‏.‏

لصردر‏:‏

يا صحابي وأين منِّي صحـبـي *** فتنتهم عـيون ذاك الـسـربِ

كلمات أسماؤهن اسـتـعـارات *** وما هن غير طعـن وضـربِ

أرني ميتة تطيب بها الـنـفـس *** وقـتـلا يلـذُّ غـير الـحـبِّ

لا تزل بي عن العقـيق فـفـيه *** وطري إن قضيته أو نحـبـي

لا رعيتُ السوامَ إن قلتُ للصحبة *** خفّي عني وللعـيس‏:‏ هـبِّـي

وحدي أتكلم، وجدي يتألم، ألا مريد يتعلم‏؟‏ ألا دموع تتسلم‏؟‏ لابن المعلم‏:‏

هو الحمى ومغانيه معانـيه *** فاحبس وعان بليلى ما تعانيه

 

ما في الصحاب أخو وجد تطارحه *** حديث نجد ولا صب تـجـاريه

إليك عن كل قلب في أمـاكـنـه *** ساه وعن كل دمع في مـآقـيه

يوهي قوى جلدي من لا أبوح به *** ويستبيح دمي مـن لا أسـمـيه

يبلى فما في لساني ما يعـاتـبـه *** ضعفا بلى في فؤادي مـا يداريه

الفصل التاسع والعشرون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أخواني تفكروا في مصارع الذين سبقوا، وتدبروا مصيرهم أين انطلقوا‏؟‏ واعلموا أن القوم انقسموا وافترقوا، قوم منهم سعدوا ومنهم قوم شقوا

والمرء مثل هلالٍ عند طلـعـتـه *** يبدو ضئيلاً لطيفـاً ثـم يتـسـق

يزداد حتى إذا ما تـم أعـقـبـه *** كر الجديدين نقصا ثم ينـمـحـق

كان الشباب رداءً قد بهجـت بـه *** فقد تطاير منه للـبـلـى خـرق

وبات منشمراً يحدو المشـيب بـه *** كالليل ينهض في أعجازه الفلـق

عجبتُ والدهر لا تفنى عجـائبـه *** للراكنين إلى الدنيا وقد صـدقـوا

وطال ما نغصوا بالفجع ضاحـية *** وطال بالفجع والتنغيص ما طرقوا

دار تغر بها الآمـال مـهـلـكة *** وذو التجارب فيها خـائف فـرق

يا للرجال لمخدوع بزخـرفـهـا *** بعد البيان ومغرور بـهـا يثـق

أقول والنفس تدعوني لباطـلـهـا *** أين الملوك ملوك الناس والسـوق

أين الذين إلى لذاتـهـا ركـنـوا *** قد كان فيها لهم عيش ومرتـفـق

أمست مساكنهم قفراً مـعـطـلة *** كأنهم لم يكونوا قبلهـا خـلـقـوا

يا أهل لذات دار لا بـقـاء لـهـا *** إن اغتراراً بظـل زايل حـمـق

أين من كان في سرور وغبطة‏؟‏ أين من بسط اليد في بسيط البسطة‏؟‏ لقد أوقعهم الموت في أصعب خطة، جسروا على المعاصي فانقلبت على الجيم النقطة، بيناهم في الخطأ خطا إليهم صاحب الشرطة، هذا دأب الزمان فإن صفا فغلطة، كم تخون الموت منا أخوانا، وكم قرن في الأجداث أقرانا، كم مترف أبدله الموت ديدانا، وهذا أمر إلينا قد تدانى، كم معد عوداً لعيده‏؟‏ صارت ثيابه أكفانا، وما شاهدنا مصرعها وما كفانا، كم مسرور بقصره عوض من قبره أعطانا، افتراناً، هذا الأمن، من أعطانا‏؟‏

لنمنا وصرف الدهر ليس بنائم *** خزمنا له قسراً بغير خزائم

من سعى إلى شهواته مستعجلاً تعثر بحسك الأسف، تلمح العواقب قبل الفعل أمان من الندم، قد عرفتم عقابيل قابيل وعلمتم حسن سرابيل هابيل‏:‏

الشرى يوجد في أعقابه ضرب *** خير من الأرى في أعقابه لسع

الهوى مطمورة ضيقة في حبس وعر ومذ خلق الهوى خلق الهوان، لا يتصرف الهوى إلا بربع قلب فارغ من العلم، الجهل خندق يحول بين الطالب والمطلوب والعلم يدل على القنطرة، كتابة العلم في ليل الجهل تفتقر إلى مصباح فطنة ودهن الذهن غال، ما قدر لص قط على فطن، ومتى نام حارس الفكر انتبه لص الهوى، من ثبت قلبه في حرب الشهوات لم يتزلزل قدمه، أول ما ينهزم من المهزوم عقله، ما دمتَ في حرب العدو فلا تبال بالجراح، فإنه قد يصاب الشجاع، إنما المهادنة دليل الذل، تأثيرات الذنوب على مقاديرها، وقعت غلطة من يوسف فقُدَّ القميص وقويت زلة آدم، فخرج عرياناً من الثياب، أين عزيمة توبة ماعز‏؟‏ لا عزيمة توبة، أين هم أويس لا غم قيس، ما لم يكن لك محرِّك من باطنك فالخلق تضرب في حديد بارد‏.‏

لصردر‏:‏

ظللت أكر عليه الرقي *** وتأبى عريكته أن تلينا

ويحك، من زم جوارحه ولازم الباب كان على رجاء الوصول، فكيف بمن لازم ولا لازم، طوبى للزهاد لقد مروا في المطلق، من يرافقني إلى ديار القوم‏؟‏ ما أجوز على البلدان إنما أمضى على السماوة، وهذه خيام ليلى فأين ابن الملوح‏:‏

هذي منازلهم ومالي *** بعد بعد القوم خبـر

ويلي أحظى كـلـه *** من دونه صد وهجر

كان سري يدافع أول الليل فإذا جن أخذ في البكاء إلى الفجر‏:‏

أقطع ليلى وجيش وجـدي *** من عن شمالي وعن يميني

تالله لو عـادنـي رسـول *** لعاد عن مدنـف حـزين

ما حيلتي فيك غـير أنـي *** أسرق من زفرتي أنينـي

ذلوا له ليرضى، فإذا رأيتهم قلت مرضى‏.‏

لصردر‏:‏

مرض بقلب ما يعاد *** وقتيل حب ما يقـاد

يا آخر العشـاق مـا *** أبصرت أولهـم يذاد

يقضي المتيم منهـم *** نحباً ولو ردوا لعادوا

يأنسون في الدجى بالظلام، ويطربون بنوح الحمام، مرضى الأبدان من طول الغرام، أصحاء القلوب مع السقام، إذا ذكرت حبيبهم رأيت المستهام قد هام‏.‏

للمهيار‏:‏

وأنتَ إن كنتَ رفيقاً فـأعِـد *** ذكر الحمى أطيب ما غُنّـيا

أعِدْ فمن آية سكان الحـمـى *** وذكرهم أن يذهب الشجونـا

شجواً كشجوى يا حمام ساعدي *** إن الحزين يسعد الحـزينـا

كم من دموع ردها صوب دم *** تخلج البرق علـى يبـرينـا

قال الشبلي‏:‏ لقيت جارية حبشية، فقلت‏:‏ من أين‏؟‏ فقالت‏:‏ من عند الحبيب، قلت‏:‏ وإلى أين‏؟‏ قالت‏:‏ إلى الحبيب، قلت‏:‏ ما الذي تريدين من الحبيب‏؟‏ قالت‏:‏ الحبيب‏.‏ قلت‏:‏ فكم تذكرين الحبيب‏؟‏ فقالت‏:‏ ما يسكن لساني عن ذكراه حتى ألقاه‏:‏

وحرمة الورد ما لي عنكم عوض *** وليس لي في سواكم بعدكم غرض

ومن حديثي بكم قالوا بـه مـرض *** فقلت لا زال عني ذلك المـرض

رأى معروف في المنام كأنه تحت العرش، فقال الله عز وجل‏:‏ ملائكتي من هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ أنت أعلم، هذا معروف قد سكن من حبك، فلا يفيق إلا بلقائك‏:‏

فداو سقماً بجسم أنـت مـتـلـفـه *** وابرد غراماً بقلب أنت مضـرمـه

ولا تكلني على بـعـد الـديار إلـى *** صبري الضعيف فصبري أنت تعلمه

تلق قلبي فقـد أرسـلـتـه فـرقـا *** إلى لقـائك والأشـواق تـقـدمـه

الفصل الثلاثون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أخواني البدار البدار، والجد الجد، فالخصم معد، والقصم مجد‏:‏

مكرُ الزمان علينـا غـيرُ مـأمـون *** فلا تظنن أمراً غـيرَ مـظـنـون

بل المخوف علينا مكرَ أنـفـسـنـا *** ذات المنى دون مكر البيض والجون

إن الليالـي والأيام قـد كـشـفـت *** من مكرها كل مستور ومـكـنـون

وحدثتنـا بـأنـا مـن فـرائسـهـا *** نواطقاً بفصـيح غـير مـلـحـون

واستشهدت من مضي منا فأنـبـأنـا *** عن ذاك كل لقي مـنـا ومـدفـون

وأم سـوء إذا مـا رام مـرتـضـع *** أخلافها صد عنها صـد مـزبـون

ونحن في ذاك نصيفهـا مـودتـنـا *** تباً لكل سفـيه الـرأي مـغـبـون

نشكو إلى الله جهلاً قد أضـر بـنـا *** بل ليس جهلاً ولكن علم مـفـتـون

أغوى الهوى كل ذي عقل فلست ترى *** إلا صحيحاً له أفعـال مـجـنـون

حتى متى نشـتـري دنـيا بـآخـرة *** سفاهة ونبـيع الـفـوق بـالـدون

نبني المعـاقـل والأعـداء كـامـنة *** فيها بكل طرير الحـد مـسـنـون

ونجمع المال نرجـو أن يخـلـدنـا *** وقد أبى قبلنـا تـخـلـيد قـارون

نظل نستنـفـق الأعـمـار طـيبة *** عنها النفوس ولا نسخر بمـا عـون

ومـا تـأخـر حـي بـعـد مـيتة *** ألا تأخر نـقـد بـعـد عـربـون

يا من دعى إلى نفعه نبا ونشز، يا جامعاً لغيره ما جمع وكنز، يا متثبطاً في الخير فإذا لاح الشر جمز، كأنك بالألم وقد ألم، فنكى ونكز، وكد التبار الروح بالتباريح، واشتد العلز، وأخذ النفس النفس فاضطرها وحفز، ودارت في فلك الفوت فإذا ملك الموت قد برز، فسماك بالمقبور وبالمثبور قد نبز، فتأهب فالسعيد منا من تأهب للخير وانتهز، لقد علت سنك وانتهيت‏.‏ وما انتبهت ولا انتهيت‏.‏ أتعبت ألف رايض ولم تؤد الفرايض‏.‏

كم ضيعت عمراً طويلاً حملت فيه وزراً ثقيلاً‏.‏ كم نصب لك الموت دليلاً إذ ساق العزيز ذليلاً، لقد حمل إلى القبور جيلاً جيلاً، ونادى في الباقين رحيلاً رحيلا، لكن الهوى أعاد الطرف كليلا، وما كان الذي رأيت قليلا، يا مرضاً عجيباً كم أتعبت طبيبا، لقد تنوع ضروبا فأخذ كل عضو نصيباً، إلام يبقى الغصن رطيباً‏؟‏ من يرد برد الصبي قشيباً، لقد أمسى الموت قريباً، وستبصر يوماً غريباً‏.‏

عجباً لك، لا الدهر يعظك، ولا الحوادث تنذرك، والساعات تعد عليك، والأنفاس تعد منك، وأحب أمريك إليك، أعودهما بالضرر عليك‏.‏

يا هذا، من جلا بصيرته من قذى الهوى جلّى على بصره عرائس الهدى‏.‏ الصور تزاحم المعاني فمن حلها حلى بمغنى المعنى فتعلم حلها بالتدريج‏.‏ كل ذرة من الكون تخبر بلغة بليغة عن حكمة الفاطر، غير أنه لا يفهم نطق الجوامد إلا العقل نظر الأبصار اليوم إلى الصانع بواسطة المصنوع تدريج إلى رفع الوسايط غداً، يا محبوساً في سجن غفلته أخرج من ديار أدبارك واعبر في معبر اعتبارك، قف على بعض بقاع قاع ترى كيف نمت خضرة حضرته بأسرار الخالق إذ تمت‏.‏ تلمح أصناف النبات في ثياب الثبات قد برزت في عيد الربيع تميس طرباً بالري، تأمل مختلف الألوان في الغصن الواحد، فإن صباغ القدرة صناع‏.‏ اسمع غناء الورق، على عيدان العيدان‏.‏ لعل مقاطع السجوع توجب رجوع المقاطع‏:‏

ولقد تشكو فما أفهـمـهـا *** ولقد أشكو فما تفهمـنـي

غير أني بالجوى أعرفهـا *** وهي أيضاً بالجوى تعرفني

الحمائم نواح المشتاقين قد رضيت من خلعهم بجريان الدموع‏:‏

ناحت سحراً حمامة في غصن *** قد جرعها الفراق كأس الحزن

تبكي شجناً تلـقـتـه مـنـي *** ما يبكي باك إلا ويروي عنـي

واعجباً، متى يثمر لك وجود الثمر معرفة النعم‏.‏ كم تنضج الثمار وتتناولها وثمرة عرفانك بعد فجة‏.‏ ليس حظك من النبات إلا الأكل‏.‏ أين التدبير لعجيب الصنعة والصنع‏.‏ يا مؤثراً ضنك الحس، على فضاء العقل‏.‏ كيف تبيع صفاء للتأمل بكدر الإهمال‏؟‏ من العجب أن ندعوك إلى تلمح العبر في الغير وأنت ما تبصر نفسك، تدبر قطرة قطرة من ماء‏.‏ صبت على إيقاد نار الشهوة‏.‏ كيف ظهرت فيها عن حركات اللذة‏؟‏ رقوم نقوش عقدتها يد القدرة‏.‏ كما تظهر الصورة في ثوب السقلاطوني عن حركات الشد‏.‏

تأمل نطفة مغموسة في دم الحيض، ونقاش القدرة يشق سمعها وبصرها من غير مساس‏.‏ كيف تربى في حرر مصون عن مشعب، بينا هي ترفل في ثوب نطفة اكتست رداء علقة‏.‏ ثم اكتست صفة مضغة، ثم انقسمت إلى عظم ولحم‏.‏ فاستترت من يد الأذى بوقاية جلد‏.‏ ثم خرجت في سربال الكمال تسحب مطارف الطرائف‏.‏ فبينا هي في صورة طفل درجت درجة الصبي‏.‏ فتدرجت إلى النطق وتشبثت بذيل الفهم‏.‏ فكم من صوت بين أرجل النقل من تحريك جلاجل العبر‏.‏ في خلاخل الفكر، كلما رنت غنت ألسن الهدى في مغاني المعاني‏.‏ وكيف يسمع أطروش الغفلة‏؟‏ هذا بعض وصف الظاهر، فكيف لو فهمت معنى الباطن‏؟‏ الآدمي كتاب مسطور‏.‏ وشخصه رق منشور‏.‏ قلبه بيت معمور‏.‏ همه سقف مرفوع‏.‏ علمه بحر مسجور‏.‏ من ينتفع بأسماعكم بعدي‏؟‏ وما تحسن الأيام تكتب ما أملى‏.‏

الفصل الحادي والثلاثون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا جامعاً المال لغيره، تاركاً للتزود في سيره، أتحظى بشر كسبك، ويحصل سواك بخيره‏:‏

سابق إلى مـالـك وراثـه *** ما المرء في الدنيا بلبـاث

كم صامت يخنق أكـياسـه *** قد صلح في ميزان ميراث

أين جامع الدنيا‏؟‏ طرحها واطرح، أين اللاهي بها‏؟‏ حزن بعد أن فرح، جال في وصف الحرب عنها فاغتيل وجرح، وظن الأمر سهلاً فإذا الرجل قد ذبح، بينا هو في لذاته يغتبق ويصطبح برح به أمر مرحل، فما برح نزل والله لحداً ضيقاً فما ينفسح، وصمت تحت الثرى فكأنه لم ينطق ولم يصح، وكتب على قبره ما أخّر خسر، وما قدم ربح، وعدل إلى قصره بعد الدفن فافتتح، وأصبحت سهام الوارث في ماله تنتطح، يا معرضاً عن الهدى والأمى متضح، أو ما حالك كهذا الحال‏؟‏ الذي شرح، كأنك بك في ضيق خناقك تبكي على قبيح أخلاقك، وحبل الدموع تجري في حلبات آماقك، وقد تحيرت عند التفاف ساقك بساقك، وأسرت لا بقيد عن حركات إطلاقك، وناداك تفريطك‏:‏ هذا بعض استحقاقك‏.‏

لا تكـذبـن فـإنـنـي *** لك ناصح لا تكذبـنـه

فاعمل لنفسك ما استطع *** ت فإنها نـار وجـنة

أخواني، كم من حريص قد جمع المال جمع الثريا‏؟‏ فرقته الأقدار تفريق بنات نعش، يا ذا اللب، حدثني عنك، أتنفق العمر الشريف في طلب الفاني الرذيل‏؟‏ ويحك، إن الهوى مرعاد مبراق بلا مطر، الدنيا لا تساوي نقل أقدامك في طلبها، أرأيت غزالاً يغدو خلف كلب، الدنيا مجاز والأخرى وطن، والأوطار في الأوطان أطوار، إيثار ما يفنى على ما يبقى برسام حاد‏.‏

ا أبناء الدنيا إنها مذمومة في كل شريعة، والولد عند الفقهاء يتبع الأم، يا من هو في حديثها أنطق من سبحان، وفي انتقاد الدنانير أنسب من أغفل، فإذا ذكرت الآخرة فأبله من باقل، حيلتك في تحصيلها أدق من الشعر، وأنت في تدبيرها أصنع من النحل، وعين حرصك عليها أبصر من العقاب، وبطن أملك أعطش من الرمل، وفم شرهك أشرب من الهيم، تجمع فيها الدر جمع الذر، يا رفيقاً في البله لدود القز، ما انتفعت بموهبة العقل‏:‏

كدود كدود القز ينسـج دائمـاً *** ويهلك غماً وسط ما هو ناسجه

ويحك، إن سرورها أقتل من السم، وإن شرورها أكثر من النمل، إنها في قلبك أعز من النفس، وسنصير عند الموت أهون من الأرض، حرصك بعد الشيب أحر من الجمر، أبقي عمر‏؟‏ يا أبرد من الثلج، يا من هو عن نجاته أنوم من فهد، ضيعت عمراً أنفس من الدر، أنت في الشر أجرى من جواد، وفي الخير أبطأ من أعرج، تسعى إلى العاجل سعي رث، ويمشي في الأجل مشي فرزان، الزكاة عليك أثقل من أحُد، والصلاة عندك كنقل صخر على ظهر، وطريق المسجد في حسبان كسلك كفرسخي دير كعب، صدرك عن حديث الدنيا أوسع من البحر، ووقت العبادة أضيق من تسعين، معاصيك أشهر من الشمس، وتوبتك أخفى من السهي، إن عرضت خطيئة وثبت وثوب النمر، فإذا لاحت طاعة رغت روغان الثعلب، تقدم على الظلم أقدام السبع، وتخطف الأمانة اختطاف الحدأة، يا أظلم من الجلندي ما تأمنك غزلان الحرم، يا كنعان الأمل، يا نمرود الحيل، يا نعمان الزلل، أنت في حب المال شبه الحباحب، وفي تبذير العمر رفيق حاتم، تمشي في الأمل على طريق أشعب، وستندم ندامة الكسعي، يا عذري الهوى في حب الدنيا، يا كوفي الفقه في تحصيلها، يا بصري الزهد في طلب الآخرة، إنما يتعب في تعليم البازي ليصيد ماله قدر، ولما تعلم بازي فكرك، أرسلته على الجيف‏.‏

ويحك تفكر قبل سلوك طريق الهوى، في كثرة المعاثر والصدمات أوما المكروهات في طي المحبوبات كوامن‏؟‏ يا مطلقاً نفسه في محظور شهواتها، اذكر الغمس في الرمس، يا ذا البال الناعم فوق الأرض، اذكر الناعم البالي تحتها، أتلفق‏؟‏ والزمان يفرق، أتؤلف‏؟‏ والحدثان يمزق، أتصفي‏؟‏ والدهر يرنق، أتؤمل‏؟‏ والموت معوق، ويحك إن القاصد قاصم، وما للعاصي عاصم، أنت في أرباب الذنوب غريق، وفي روم الهوى بطريق، فاحذر عقاب الأكابر، يا قليل الخبرة بالطريق اطلب رفقة، إذا لم تعرف القبلة بالعلامات، ففي المساجد محاريب، إذا رأيت قطار التائبين متصلاً فعلق عليه‏.‏

أهل الغرام تجمعوا *** فاليوم يوم عتابنـا

نعق الغراب ببيننا *** فغرابنا أغرى بنا

إن الذين نحبـهـم *** قد وكلوا بعذابنـا

قوموا بنا بحياتكـم *** نمضي إلى أحبابنا

قوم إذا ظفروا بنا *** جادوا بعتق رقابنا

من مشى إليَّ هرولتُ إليه، دعوناك بالوسائط فلم تحضر، فأتى المرسل ينزل إلى السماء، النظر متشابه والذوق محكم‏.‏

ولما رأيت الحب قد مد جـسـره *** ونودي بالعشاق قوموا بنا فاسروا

خرجتُ مع الأحباب كيما أحـوزه *** فصادفني الحرمان وانقطع الجسر

ومالت بنا الأمواج من كل جانـبٍ *** ونادى مناد الحب قد غرق الصبر