فصل: الفصل الثاني والثلاثون (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل الثاني والثلاثون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا هذا‏.‏ لو عاينت قصر أجلك لزهدت في طول أملك، وليقتلنك ندمك إن زلت بك قدمك‏.‏

للمتنبئ‏:‏

إلى كم ذا التواني في التواني‏؟‏ *** وكم هذا التمادي في التمادي‏؟‏

وما ماضي الشباب بمسـتـردٍّ *** ولا يومٌ يمر بمـسـتـعـار

متى لحظتْ بياض الشيب عيني *** فقد وجدته منها في الـسـواد

متى ما ازددت من بعد التناهي *** فقد وقع انتفاضي فـي ازدياد

إلى متى تحرص على الدنيا وتنسى القدر‏؟‏ من الذي طلب ما لم يقدر فقدر‏؟‏ لقد أذاك إذ ذاك النصب، وأوقعك الحرص في شرك الشرك إذ نصب، أتحمل على نفسك فوق الجسد‏؟‏ ولو قنعت أراحك الزهد فلماذا تحمل ما آذى ولمن‏؟‏ ومن ينفعك إن قتلت نفسك يا هذا، ومن‏؟‏ تحمل على الهم الهم، لأمر لو قضى تم، أحرصاً على الدنيا‏.‏ لا كانت، أم شكاً في عيوبها‏؟‏ فقد بانت‏.‏

رأيت ظنوني بها كالسراب *** فأيقنت أن سرابي سرابي

كم غرت الدنيا فرخها‏؟‏ فعرت، ثم ذبحته بمدية ما مرت، إنها لتقتل صيادها، وتقتل أولادها‏.‏

عزيز على مهجتي غرني *** وسلم لي الوصل واستسلما

فلما تملكنـي واحـتـوى *** على مهجتي سل ما سلما

والله لو كنت من رياشها أكسى من الكعبة، لم تخرج منها إلا أعرى من الحجر الأسود‏.‏

قيل لراهب‏:‏ ما الذي حبب إليك الخلوة وطرد عنك الفترة‏؟‏ قال‏:‏ وثبة الأكياس من فخ الدنيا‏.‏

وقيل لآخر‏:‏ لم تخليت عن الدنيا‏؟‏ فقال‏:‏ خوفاً والله من الآخرة أن تتخلى عني‏.‏

من غرس في نفسه شرف الهمة فنبت، نبت عن الأقذار، ومن استقر ركن عزيمته وثبت، وثبت نفسه عن الأكدار‏.‏

قد انقضى العمر وأنت في شـغـل *** فاجسر على الأهوال إن كنت رجل

يا زمن الهمة، يا مقعد العزيمة، يا عليل الفهم، يا بعيد الذهن‏.‏

أما اشتقت مغنى الهوى حين طاب *** ومنبت غصن الصبي حين مـالا

أمـا آن مـن نـازح أن يحــن *** وللوصل مـن هـاجـر أن يدالا

سار المجدون وتركوك، ونجا المخفون وخلفوك، نادهم إن سمعوك، واستغث بهم إن رحموك‏.‏

أيها الراحلون من بـطـن خـيف *** وركاب النوى بهـم تـتـرامـى

إن أتيتـم وادي الأراك فـاهـدوا *** لحبيبي تـحـيتـي والـسـلامـا

وردوا ماء ناظري عوض الغـدر *** ان وارعوا بين الحشى لا الخزامى

واطلبوا إلى قـلـبـي وآيتـه أن *** تجدوا فيه من هواهم سـهـامـا

يا من أبعدته الخطايا عنهم، أدرج مرحلة الهوى وقد وصلت أنت تتعلل للكسل بالقدر فتقول‏:‏ لو وفقني، ولكسب الشهوات بالندب إلى الحركة ‏"‏فامشوا في مناكبها‏"‏ أنت في طلب الدنيا قدري، وفي طلب الدين جبري، أي مذهب وافق غرضك تمذهبت به، أوليس في الإجماع ‏"‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها‏"‏ جسدك عندنا وقلبك في البيت، نحن في واد وأنت في واد‏.‏

بكرت صبحاً عواذلـه *** ورسيس الحب قاتله

هوى في واد ولسن به *** والهوى عنهن شاغله

يتمنين السـلـو لـه *** ومناه من يواصـلـه

لا بد والله من قلق وحرقة أما في زاوية التعبد أو في هاوية الطرد، إما أن تحرق قلبك بنار الندم على التقصير والشوق إلى لقاء الحبيب، وإلا فنار جهنم أشد حراً‏:‏

شجاك الفراق فما تصنع *** أتصبر للبين أم تجـزع

إذا كنت تبكي وهم جيرة *** فما ذا تقول إذا ودعوا

القلق القلق يا من سلب قلبه، والبكاء البكاء يا من عظم ذنبه‏.‏

كان الشبلي يقول في مناجاته‏:‏ ليت شعري ما اسمي عندك يا علام الغيوب، وما أنت صانع في ذنوبي يا غفار الذنوب، وبم تختم عملي يا مقلب القلوب‏؟‏ وكان يصيح في جوف الليل‏:‏ قرة عيني، وسرور قلبي ما الذي أسقطني من عينك‏؟‏ أقلت هذا فراق بيني وبينك‏؟‏

هجرانك قاتلي سـريعـا *** والهجر من الحبيب قاتـل

إن كنت نسيتني فعـنـدي *** شغل بك لا يزال شاغـل

قلبي يهواك ليت شعـري *** ما أنت بذا المحب فاعـل

حقاً قد قلت يا حـبـيبـي *** قام على قولـي الـدلائل

شوق وجوى ونـار وجـد *** تذكي بعظائم الـبـلابـل

سائل دمعي فجفن عـنـي *** لا يبرح بالبكـاء سـائل

إن جن لي الليل يا حبيبـي *** فجنة القلب في الرسـائل

أبكي ما كان من وصـال *** والحزن تهيجه المنـازل

هذا خدي علـى ثـراكـم *** لا أبـرحــه ولا أزايل

إن أنت طردتني فـويلـي *** بعد الإعراض من أواصل

كلا والجود لـي شـفـيع *** والجود مقدم الـوسـائل

الفصل الثالث والثلاثون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا من بين يديه الأهوال والعجائب، وقدماً نوى له الدهر النوائب، أما سهم المصائب كل يوم صائب، أحاضر فتحمل من عتبنا‏؟‏ كلا بل أنت غائب‏.‏

وكيف قرّت لأهل العلم أعينهـم *** أو استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا

والموت ينذرهم جهراً علانـية *** لو كان للقوم أسماعٌ لقد سمعوا

والنار ضاحية لا بد مـوردهـم *** وليس يدرون من ينجو ومن يقع

قد أمست الطير والأنـعـام آمـنة *** والنون في البحر لن يغتالها فـزع

والآدمي بهذا الكسـب مـرتـهـن *** له رقيب على الأسـرار يطـلـع

حتى يوافيه يوم الجمع مـنـفـرداً *** وخصمه الجلد والأبصار والسمـع

إذ الـنـبـيون والأشـهـاد قـائمة *** والجن والإنس والأملاك قد خشعوا

وطارت الـصـحـف فـي الأيدي *** منشرة فيها السرائر والأخبار تطلع

فكيف سهـوك والأنـبـاء واقـعة *** عما قليل ولا تـدري مـمـا يقـع

أفي الجنان وفوز لا انقـطـاع لـه *** أم الجحيم فلا تـبـقـي ولا تـدع

تهوي بساكنها طوراً وترفـعـهـم *** إذا رجوا مخرجاً من غمها قمعـوا

طال البكاء فلم يرحم تضـرعـهـم *** هيهات لا رقة تغنـي ولا جـزع

لينفع لعلم قبل المـوت عـالـمـه *** قد سأل قوم بها الرجعى فما رجعوا

يا من عمره يقد بالساعات ويعد بالأنفاس، يا خل الأمل خل أحاديث الوسواس، يا طويل الرقاد إلى كم ذا النعاس‏؟‏، قد بقي القليل لا ريب وهذا الشيب يقلع الأغراس، إن في المقابر عبراً، وما أدراك ما الأدراس‏؟‏، تالله لو سكن اليقين القلب، لضربت أخماساً في أسداس، هل تجد لماضي العمر لذة‏؟‏ والباقي على القياس، ماذا التهول في البوار، وجر الأذيال في الخسار، كأنك لم تسمع بجنة ولا نار، لهيب حرصك ما يطفي، وشر شرهك ما يخفى، أترى هذا ‏؟‏ على ماذا، أليس لما إذا‏؟‏ قيل آذى‏.‏

أنت في طلب الدنيا أحير من صَب، تبيت في عشقها أسهر من صب، أين ما حلا في الفم وحلى في العين، ذهب الكل وأنت تدري إلى أين، ما أصعب السباحة في غدير التمساح، ما أشق السير في الأرض المسبعة، إن المفروح به هو المحزون عليه، غير أن عين الهوى عميا، طاير الطبع يرى الحبة لا الشرك، ضيعت سهادك بسعادك، رمَتْكَ إلى الهند هند، صَيرتَ نهارك ليلا ليلى، ويحك ربات الظلم ظلم، كم أراق الهوى دماً في دمن، ويحك دع سلمى وسل ما ينفعك، دعة لمثلك ترك دعد للنوى، وسعادة لك هجرة لسعاد، قطع الطمع من خضر الدنيا بموسى الياس، تجمع للقلب عزم الخضر وموسى وإلياس‏.‏

يا معشر الفقراء الصادقين قد لبستم حلة الفقر، فتجملوا بحلية الكتمان ، اصبروا على عطش الزهد، ولا تشربوا من مشربة من، فالحرة تجوع ولا تأكل بثدييها، لا تسألوا سوى مولاكم فسؤال الغير غير سيده تشنيع عليه، إن الفقير ترك الدنيا إنفة رآها قاطعاً فقاطع، جاز على جيفة مستحيلة فسد منخر الظرف وأسرع، الأنف الأشم لا يشم رذيلة بينا هو في قطع فيافي القناعة، وقع بكنز ما وجده الإسكندر، فقلبه أغنى من قارون، وبيته أفرغ من فؤاد أم موسى‏.‏ كان إبراهيم بن أدهم يعطي عطاء الأغنياء وهو فقير، ويستدين عليه ثم يؤثر به‏.‏

للشريف الرضي ‏:‏

وهم ينفذون المالَ في أول الغـنـى *** ويستأنفون الصبرَ في آخر الصبـر

مغاوير في الجُليّ مغاييرُ في الحمى *** مفاريج للغُمّي مـداريكُ لـلـوِتْـر

وتأخذهم في ساعة الـجـود هِـزّةٌ *** كما خايل المطرابُ عن نزوةِ الخمرِ

فتحسبهم فيها نشاوى من الـغـنـى *** وهم في جلابيب الخَصاصة بلا وفر

عظيمٌ علـيهـم أن يمـنّـوا بـلا يدٍ *** وهَيْنٌ عليهم أن يبيتـوا بـلا وفـر

إذا نزل الحيّ الغريبُ تـقـارعـوا *** عليه فلم يدرِ المُقل من المـثـري

يميلون في شِق الوفاء مـع الـردى *** إذا كان محبوب البقاء مع الـغـدر

أحكم القوم العلم فحكم عليهم بالعمل، فقاطعوا التسويف الذي يقطع أعمار الأغمار، وانتبهوا فانتبهوا الليل والنهار، أخرجوا قوى العزائم إلى الأفعال، فلما قضوا ديون الجد قضت علومهم بالحذر من الرد، أقدامهم على أرض التعبد قد ألفت الصفون تعتمد على سنابك الحذر، فإذا أثر عندها النصب، راوحت بين أرجل الرجاء قلوب كالذهب ذهب غشه، أنفاسهم لا تخفى، نفوسهم تكاد تطفى، لون المحب غماز، دمع المشوق نمام‏.‏

أخفي كمدي ودمع عينـي *** في الخد على هواك شاهد

فالجفن بلوعتـي مـقـر *** للعاذل واللسان جـاحـد

اشتد الخوف يوماً بإبراهيم بن أدهم، فسأل الراحة فعوتب‏.‏

لو شئت داويت قلباً أنت سقمه *** وفي يديك من البلوى سلامته

علامة كتبت في خد عارفكـم *** من كان مثلي فقد قامت قيامته

ضجت الناقة لثقل الحمل، رأت عظامها قد فرغت ففغرت فم الشكوى فرغت‏.‏

يا حادي العيس قد براها *** حمل هموم لها عظـام

رفقاً بها إنهـا جـلـود *** ملصقات على عظـام

أشواقها خلفها وشوقـي *** خلاف أشواقها أمامي

تمادى في قلب العارف جبل الخوف وجبل الحزن، فلما وصل اسكندر الفكر عبى زبر الهموم، حتى إذا ساوى بين الصدفين صاح بجنود الفهم، انفخوا، فاستغاث الواجد لتراكم الكرب‏.‏

أيا جبلي نعمان بـالـلـه خـلّـيا *** نسيم الصبا يخلص إلى نسيمـهـا

أجد روحها أو تشف مني حـرارة *** على كبد لم يبق إلا صمـيمـهـا

لأن الصبا ريح إذا ما تنـسـمـت *** على نفس مكروب تجلت همومها

الفصل الرابع والثلاثون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

إخواني، رحيل من رحل عنا نذير لنا عنا، وما جرى على من تقدمنا وعظ لنا‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

ما أسرعَ الأيامَ في طـيّنـا *** تمضي علينا ثم تمضي بنا

في كل يوم أملٌ قـد نـأى *** مرامُهُ عن أجل قـد دنـا

أنذرنا الدهرُ وما نرعـوي *** كأنما الدهر سوانا عـنـا

تعاشياً والموت فـي جـده *** ما أوضح الأمرَ وما أبَيْنـا

والناسُ كالأجمالِ قد قُرِّبتْ *** تنتظر الحيَّ لأن يظعـنـا

تدنو إلى العشب ومن خلفها *** مقامرٌ يطردها بالـقـنـا

أين الأُولى شادوا مبانيهـم *** تهدّموا قبل انهدامِ البـنـا

لا مُعدِمٌ يحميه إعـدامُـه *** ولا يقي نفسَ الغنيِّ الغِنى

كيف دفاعُ المرء أحداثهـا *** فرداً وأقرانُ الليالي ثِنـى

حط رجالٌ وركبنا الـذُّرى *** وعُقبةُ السير لمن بعـدنـا

والحازم الرأي الذي يَغتَذي *** مُستقلعاً ينذرُ مستوطـنـا

لا يأمنُ الدهرَ على غِـرَّةٍ *** وعزّ ليث الغاب أن يؤمنا

كم غارسٍ أمّل في غرسه *** فاعجل المقدار أن يُجتنى

ما هذا التقصير في العمر القصير، ما هذا الزهو يا من إلى البلى يصير، كم فرق الموت أميرة أمير‏؟‏، كم أزار الألحاد من وزير‏؟‏، وسوى في القبور بين من هجر وزير، أين الأبطال الذين خاطرهم خطير، طال ما اقتتلوا، حتى كسروا القنا على القناطير، تالله لقد أمسوا حتى أصبحت خيل الموت تعثي وتغير، ونزلوا لحداً كبيراً غير كبير، ورأوا كل منكر من منكر وكل نكير من نكير، فهم مفترقون في القبور، فإذا اجتمعوا بنفخة الصور، عاد شراب الفراق قد أدير ‏"‏فريقٌ في الجنّةِ وفريقٌ في السّعير‏"‏‏.‏

يا غافلاً والموت يسعى في طلبه، يا مشغولاً بلهوه مفتوناً بلعبه، يا مشترياً راحة تفنى بطول تعبه، أما عللت مريضاً ورأيت كرب كربه، أما شيعت ملكاً فرجعت إلى سلبه، أما تخلى عن ماله وتخلى بمكتسبه، أنفعه غلوّ عزّه أو علوّ نسبه، لقد ناجاك قبره وناداك أمره، فانتبه، ولقد ضرّه هواه، فلا تلهج أنت به، لا تغرنك السلامة فمع الخواطي سهم صائب‏.‏

نظر شاب إلى شيخ ضعيف الحركة فقال‏:‏ يا شيخ، من قيدك‏؟‏ فقال‏:‏ الذي خلفته يفتل قيدك‏.‏

من أخطأته سهام المـوت قـيده *** طول السنين فلا لهو ولا غـزل

وضاق من نفسه ما كان متسعـاً *** حتى الرجاء وحتى العزم والأمل

الشباب باكورة الحياة، والشيب رداء الردى، إذا قرع المرء باب الكهولة فقد استأذن على البلا، يا رهين الإثم على العقوبة، ليس لك من يستفكك إلا التوبة، المنطع في قيد يتلقى الحاج منكس الرأس، رب خجلة تمت الناقص، كان بعض الأشياخ يقول‏:‏ إلهي، من عادة الملوك، أنهم إذا كبر لهم مملوك أعتقوه، وقد كبرت فأعتقني‏.‏ وقف أعجمي عند الكعبة، والناس يدعون وهو ساكت، ثم اخذ بلحيته فرفعها، وقال‏:‏ يا خداه شيخ كبير‏.‏

لما أتونا والشيب شافعهـم *** وقد توالى عليهم الخجـل

قلنا لتلك الصحائف انقلبـي *** بيضاً فإن الشيوخ قد عقلوا

يا معاشر الشباب انتبهوا، القوى في التقوى، فلو قد حل المشيب حل التركيب، إذا هلك أمير الشباب وقع الشتات في العسكر، الشباب رياض والشيب قاع قفر، فاستصحبوا الزاد قبل دخول الفلاة‏.‏

يا قومنا، الفوائد فوايت، كف من تبذير يؤذي، فكيف ببيذر من رعونة‏؟‏، إذا كانت القلوب عقماً عن الفكر، واتفقت عنة الفهم فلا وجه لنسل الفضائل، الخوف ذكر والرجاء أنثى ومخنث البطالة إلى الإناث أميل‏.‏ من زرع بذر العمل في أرجاء الرجا ولم تقع عليه شمس الحذر جاءت ثماره فجة‏.‏ الجاهل ينام على فراش الأمن فيثقل نومه، فتكثر أحلام أمانيه، والعالم يضطجع على مهاد الخوف وحارس اليقظة يوقظه، من فهم معنى الوجود علم عزة النجاة‏.‏ النفس طائر قد أرسل من عبادان التعبد محملاً كتاب الأمانة إلى دار الملك والعدو قد نصب له صنوف الأشراك، يلوح في ضمنها الحب المحبوب، فإن تم كيده فهو صيده، وإن خبر الخبر عبر، يا أطيار الفهوم احذري مراعي الهموم فثم عقبان التلف، ومن نجا منها بعد المحاربة أفلت مكسور الجناح، واعجباً لبلبل الفطنة كيف اغتر بفخ الفتنة‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

يا قلب كيف علقت في أشراكهم *** ولقد عهدتك تُفلِتُ الأشـراكـا

لا تشكونَ إليّ وَجداً بـعـدهـا *** هذا الذي جرَّتْ علـيكَ يداكـا

من حدق بصره إلى طرف الدنيا طرفت عينه‏.‏ من أصغى إلى حديث الهوى أورثه الصمم عن النصائح‏.‏ خست همة فرعون فاستعظم الحقير ‏"‏أليسَ لي مُلكُ مِصر‏"‏ يا دني النفس حمارك ينهق من كف شعير يراه، الدنيا كلها كجناح بعوضة فما نسبة مصر إليها‏.‏ صبي الفهم يشغله لون الصدفة والمتيقظ يرى الدرة‏.‏ يا هذا، إذا لاحت لك شهوة فقف متدبراً عواقبها وقد بردت حرارة الهوى فبين النجاة والهلاك فواق‏.‏ واعجباً أنفقت المال المسروق وبقي القطع‏:‏

أبكي زللي وأشتكـي آثـامـي *** في سفك دمي تقدمت أقدامـي

ما أبصرت إلا والبلى قـدامـي *** ما أسرع ما أصاب قلبي الرامي

ضر والله التخليط آدم، ونفعت الحمية يوسف، ملك هواه فملك زليخا، أمرضها حبه فأرادت تناول مقصودها في زمان الحمية فصاح لسان طبه ‏"‏معاذ الله‏"‏ فخلطت في بحران المرض ‏"‏ما جزاء من أرادَ بأهلكَ سوءاً إلاّ أن يُسْجَنَ‏"‏ فلما صح الذهن قالت‏:‏ ‏"‏الآنَ حصحصَ الحَقُّ‏"‏‏.‏ لما نظر يوسف في عواقب الذنب ونهاية الصبر فكف الكف اطلع بتعليم التأويل على عواقب الرؤيا‏.‏ دخل اليوم موسى وعظى إلى مدينة مدين قلبك فوجد فيها رجلين يقتتلان، القلب والهوى، فاستغاثه الذي من شيعته وهو القلب على الذي من عدوه وهو الهوى، فوكزه موسى فقضى عليه، فكان قتل الهوى سبباً للخروج من قصر مصر الغفلة إلى شعب شعيب اليقظة، فالآن يناديك لسان المعاملة، هل لك في بلوغ عرضك على أن تأجرني، فإن وفيت انقلبت إلى لذاتك مسروراً، واسترجع لك التكليم على طور الجنة، فإن صحبت فرعون الهوى غرقت بعبورك يوم اليم‏.‏

الفصل الخامس والثلاثون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا هذا، إنما خلقت الدنيا لتجوزها لا لتحوزها، ولتعبرها لا لتعمرها، فاقتل هواك المايل إليها، واقبل نصحي لا تعول عليها‏.‏

لورقة بن نوفل‏:‏

لاشيء فيما ترى تبقى بشاشتـه *** يبقى الإله ويؤدي المال والولد

لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه *** والخلد قد حاولتْ عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له *** والإنس والجنّ فيما بينها تـردُ

أين الملوك التي كانت نوافلهـا *** من كل أوب إليها وافـدٌ يفـد

حوضٌ هنالك مورودٌ بلا كـذبٍ *** لا بدّ من رده يوماً كمـا وردوا

الدنيا مزرعة النوائب ومشرعة المصائب، ومفرقة المجامع ومجرية المدامع‏.‏ كم سلبت أقواماً أقوى ما كانوا، وبانت أحلى ما كانت أحلاماً فبانوا، ففكر في أهل القصور والممالك، كيف مزقوا بكف المهالك ثم عد بالنظر في حالك، لعله يتجلى القلب الحالك‏.‏ إن لذات الدنيا لفوارك، وإن موج بلائها لمتدارك، كم حج كعبتها قاصد فقتلته قبل المناسك، كم علا ذروتها مغرور فإذا به تحت السنابك، كم غرت غراً فما استقر، حتى صيد باشك، خلها واطلب خلة ذات سرور وسرر وأرائك، تالله ما طيب العيش إلا هنالك‏.‏ أخواني ، ما قعودنا وقد سار الركب، ما أرى النية الآنية، يا مسافرين من عزم تزود، يا راحلين بلا رواحل وطنوا على الانقطاع، ليت المحترز نجا فكيف المهمل‏؟‏، يا أقدام الصبر تحملي فقد بقي القليل، تذكري حلاوة الدعة يهن عليك مر السرى، قد علمت أين المنزل، فاحدلها تسير ‏.‏

للمهيار‏:‏

تغنَّ بالجـرعـاء يا سـائقـهـا *** فإن ونت شيئاً فزدها الأبـرقـا

واغنَ عن السياطِ في أرجـوزة *** بحاجرٍ ترَ السهـامَ الـمُـرقـا

واستقبال الريح الصبا بخُطمهـا *** تجدْ سُرى ما وجدتْ منتسـقـا

إن لها عند الحـمـى وأهـلـهِ *** تعلقاً من حـبـهـا وعـلـقـا

وكل ما تـزجـره حـداتُـهـا *** رعى الحمى ربُّ الغمام وسقى

حواملا منها همومـاً ثـقُـلـتْ *** وانفساً لـم تـبـق إلا رمَـقـا

تحملنـا وإن عـرين قـصَـبـاً *** وإن دمـين أذرعـاً وأسـوقـا

دام عليها الليلُ حتى أصبـحـت *** تحسب فجرَ ذاتِ عرقٍ شفقـا

عرِّجْ على الوادي فقل عن كبدي *** ما شئت للبان الجوى والحُرَقـا

الجنة ترضى منك بالزهد، والنار تندفع عنك بترك الذنب، والمحبة لا تقع إلا بالروح‏.‏

إنّ سلطان حبـه *** قال لا أقبل الرشا

ما سلك الخليل طريقاً أطيب من الفلاة التي دخلها، لما خرج من كفه المنجنيق، زيارة تسعى، فيها أقدام الرضا على أرض الشوق، شابهت ليلة ‏"‏فزجني في النور، وقال ها أنت وربك‏"‏‏.‏

زرناك شوقاً ولو أن النوى بسطت *** فرش للفلا بيننا جمراً لزرنـاك

رآه جبريل وقد ودع بلد العادة، فظن ضعف أقدام المتوكل فعرض عليه زاد ‏"‏ألك حاجة‏"‏ فرده بأنفة ‏"‏أما إليك فلا‏"‏ قال فسل مولاك، قال‏:‏ علمه بحالي يغنيني عن سؤالي‏.‏

تملكوا واحتكـمـوا *** وصار قلبي لـهـم

تصرفوا في ملكهـم *** فلا يقال ظلـمـوا

إن وصلوا محبـهـم *** أو قطعوا لهم هـم

يا أرض سلع أخبري *** وحدثيني عـنـهـم

تبكيهم أرضى منـى *** وتشتكيهـم زمـزم

يا ليت شعري إذ غوا *** أأنجدوا أم اتهـمـوا

ما ضرهم حين سروا *** لو وقفوا فسلّـمـوا

أبدان المحبين عندكم وقلوبهم عند الحبيب، طرق طارق باب أبي يزيد فقال‏:‏ ها هنا أبو يزيد‏؟‏ فصاح من داخل الدار‏:‏ أبو يزيد يطلب أبا يزيد فما يجده‏.‏

للمهيار‏:‏

وبجرعاءِ الحمى قلبـي فـعـج *** بالحمى واقرأ على قلبي السلاما

وترجّـلْ وتـحـدّثْ عـجَـبـاً *** أن قلباً سار عن جسمٍ أقـامـا

قل لجيران الغضـا آهٍ عـلـى *** طيب عيشٍ بالغضا لو كان داما

حملوا ريحَ الصبـا نـشـركُـمُ *** قبلَ أن تحملَ شيحاً وتـمـامـا

وابعثوا لي بالكرى طـيفـكـم *** إن أذنتم لعيونـي أن تـنـامـا

بلغت بالقوم المحبة إلى استحلاء البلى، فوجدوا في التعذيب عذوبة لعلمهم أنه مراد الحبيب‏.‏

إرضاء أسخط أو أرضي تلونه *** وكل ما يفعل المحبوب محبوب

ضنى سويد بن مثعبة، على فراشه، فكان يقول‏:‏ والله ما أحب أن الله نقصني منه قلامة ظفر‏.‏

تعجبوا من تمني القلب مؤلمه *** وما دروا أنه خلوٌ من الألـم

أمر الحجاج بصلب ما هان العابد، فرفع على خشبة وهو يسبح ويهلل ويعقد بيده حتى بلغ تسعاً وعشرين فبقي شهراً بعد موته، ويده على ذلك العقد مضمومة‏.‏

لتحشرن عظامي بعد ما بليت *** يوم الحساب وفيها حبكم علق

مروا على مجذوم قد مزقه الجذام، فقالوا له‏:‏ لو تداويت، فقال‏:‏ لو قطعني إرباً إرباً ما ازددت له إلا حباً‏.‏

إن كان جيرانُ الغضـى *** رضوا بقتلي فـرضـا

والله لا كـنـت لـمـا *** يهوى الحبيب مبغضـا

صرت لهم عبـداً ومـا *** للعبـد أن يعـتـرضـا

هم قلّبوا قـلـبـي مـن *** الشوق على جمر الغضا

يا لـيت أيام الـحـمـى *** يعود منها ما مـضـى

من لـمـريض لا يرى *** إلا الطبيب الممـرضـا

كان الشبلي يقول‏:‏ أحبك الناس لنعمائك وأنا أحبك لبلائك‏.‏

من لقتيل الحب لـو *** ردّ عليه القـاتـلُ

يجرحه النّبلُ ويهوى *** أن يعود النـابـل

قلبهم الزهد في قفر الفقر على أكف الصبر فقلع أوداج أغراضهم بسكين المسكنة، والبلاء ينادي أتصبرون‏؟‏ والعزم يجيب‏:‏ لا ضير، سقاهم رحيق القرب فأورثهم حريق الحب فغابوا بالسكر عن روية النفس فعربدوا على رسم الجسم وهاموا في فلوات الوجد يستأنسون بالحمام والوحش‏.‏

يا منية القلب ما جيدي بمنعطـف *** إلى سواكم ولا حبلي بمـنـقـاد

لولا المحبة ما استعملـت بـارقة *** ولا سألت حمام الدوح إسـعـادي

ولا وقفت على الـوادي أسـائلـه *** بالدمع حتى رثى لي ساكن الوادي

الفصل السادس والثلاثون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أيها المغتر كم خدعت، ما واصل وصلها محب إلا قطعت، ولا ناولت نوالاً إلا ارتجفت، اختبأت مريرها فلما اعتقلت أسيرها جرعت، متى رأيتها قد توطنت فاعلم أنها قد أزمعت‏.‏

يا محب الدنيا الغرور اغـتـرارا *** راكباً في طلابهـا الأخـطـارا

يبتغي وصلها فـتـأبـى عـلـيه *** وترى أنسه فـتـبـدي نـفـارا

خابَ من يبتغي الوصال لـديهـا *** جارةٌ لم تزل تسـيء الـجـوارا

كم محبٍّ أرته أنـسـاً فـلـمـا *** حاول الزور صـيرتـه ازورارا

شيب حلو اللذات منـهـا بـمـر *** إن حلت مـرة أمـرت مـرارا

في اكتساب الحلال منها حسـاب *** واكتساب الحرام يصلي الـنـارا

ولباغي الأوطار منـهـا عـنـاءٌ *** سوف يقضي وما قضى الأوطارا

كل لذاتها مـنـغـصة الـعـيش *** وأرباحـهـا تـعـود خـسـارا

وليالي الهـمـوم فـيهـا طـوال *** وليالي السرور تمضي قصـارا

وكفى أنهـا تـظـن وإن جـادت *** بنزر أفـنـت بـه الأعـمـارا

وإذا ما سقت خمـور الأمـانـي *** صيرت بعدها المنـايا خـمـارا

كم ملـيك مـسـلـط ذلـلـتـه *** بعد عز فما أطاق انـتـصـارا

ونعيم قد أعـقـبـتـه بـبـوس *** ومغان قد غادرتـهـا قـفـارا

أيها المستعير منـهـا مـتـاعـاً *** عن قليل تسترجع المسـتـعـارا

عد عن وصل مـن يعـيرك مـا *** يفنى ويبقى إثماً ويكسـب عـارا

قد أرتك الأمثال في سالـف الـد *** هر وما قدراتك فيك اعتـبـارا

وجدير بـالـعـذر مـن قـدم الأ *** عذار فيمـا جـنـاه والإنـذارا

فتعوض منهـا بـخـلة صـدق *** والتمس غـير هـذه الـدار دارا

والبدار البدار بالعـمـل الـصـا *** لح ما دمت تستطـيع الـبـدارا

إلى متى في طلبها‏؟‏، إلى كم الاغترار بها‏؟‏، تدور البلاد منشداً ضالة المنى، وتلك ضالة لا توجد أبداً، فسيقتلك الحرص غريباً ولكن لا في فيافي ‏"‏فيا طوبى للغرباء‏"‏‏.‏

أظن هواها تاركي بـمـضـلة *** من الأرض لا مال لدي ولا أهل

ولا أحد أفضى إلـيه وصـيتـي *** ولا وارث إلا المطية والرحـل

أيها المتعب نفسه في جمع المال، عقاب الوارث على مرقب الانتظار، أفهمت أم أشرح لك‏؟‏، العقاب لا تعاني الصيد وإنما تكون على موضع عال، فأي طائر صاد صيداً انقضت عليه فإذا رآها هرب وترك الصيد، ومالك تجمع مالك‏؟‏ ومالك منه إلا ما تخلف، والزمان يشتك للذهاب وأنت للإذهاب تؤلف، المال إذا وصل إلى الكرام عابر سبيل وإكرام عابر السبيل تجهيزه للرحيل، جسم البخيل كله يعرق إلا اليد كفه مكفوفة ما ينفق منها خرزة‏.‏

تحلى بأسماء الشهور فـكـفـه *** جمادى وما ضمت عليه المحرم

يا فرعوني الكبر تفرح بمال سيسلب منك، فتستعير كلمة ‏"‏أليس لي‏"‏ يا نمروذي الجهل، تشد أطناب الحيل على الدنيا في أرجل نسور الأمل ثم ترمي نشاب الأغراض، إن وقف لك غرض فتستغيث الأكوان من يدك ‏"‏وإن كان مكرهم‏"‏ من فهم علم التوحيد، تجرد للواحد بقطع العلائق، أما ترى كلمتي الشهادة مجردة عن نقط‏.‏ إذا أعرضت عن الدنيا أقبلت إليك الآخرة، من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، عقر سليمان الخيل ‏"‏ فسخّرنا لهُ الريحَ‏"‏، لما عقدت الخنصر على التوحيد ميزت على باقي الأصابع بالخاتم‏.‏

 يا أطفال التوبة ما أنكر حنينكم إلى الرضاع، ولكن ذوقوا مطاعم الرجال وقد نسيتم شرب اللبن، إذا تحصن الهوى بقلعة الطبع فانصبوا مجانيق العزائم وقد انهدم السور، أنتم تخرجون لقتل سبع ما أذاكم‏.‏ ليقال عن أحدكم ما أجلده، فكيف تتركون سبع الهوى وقد أغار على سرح القلوب‏؟‏ إنما تتحف الملوك بالباكورة‏.‏ فافهموا يا صبيان التوبة إذا أهديتم فالرطب لا الحشف‏.‏ يا أطيار الشباب، إما عبادان التعبد وإلا استفراخ العلم وإلا فالذبح، تريدون نيل الشهوات وحصول المراتب، والجمع بين الأضداد لا يمكن‏.‏

هواك نجد وهواي الشام *** وذا وذا يا مي لا يلتام‏.‏

ما زلت أعالج مسمار الهوى‏.‏ في قلب العاصي، أميل به تارة إلى جانب التخويف، وتارة إلى ناحية التشويق، فلما ضعف الماسك بإزعاجي له، اتسع عليه المجال فجذبته، أنفت لصبي اللعب من بيع جوهر العمر النفيس بصدف الهوى، فشددت عليه في الحجر ليعلم بعد البلوغ ‏"‏أنِّي لمْ أَخُنْهُ بالغيب‏"‏‏.‏