فصل: الفصل السابع والثلاثون (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل السابع والثلاثون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أخواني‏!‏ جدوا فقد سبقتكم، واستعدوا فقد لحقتم، وانظروا بماذا من الهوى علقتم‏؟‏، ولا تغفلوا عما له خلقتم، ذهبت الأيام وما أطعتم، وكتبت الآثام وما أصغيتم، وكأنكم بالصادقين قد وصلوا وانقطعتم، أهذا التوبيخ لغيركم أو ما قد سمعتم‏؟‏ لصردر‏:‏

ما ضاع من أيامنا هـل يُغـرمُ *** هيهات والأزمان كيف تـقـوم

يومٌ بأرواحٍ يبـاع ويشـتـرى *** وأخوه ليس يُسامُ فـيه درهـمُ

لي وقفة في الدار لا رجعت بما *** أهوى ولا يأسي عليهـا يُقـدِمُ

وكفاك أني للنـوائب عـاتـبٌ *** ولصُمِّ أحجار الـديار أكـلـم

ومن البلادة في الصبابة أننـي *** مستخبرٌ عنهن من لا يفـهـم

وإذا البليغ شـكـا إلـيه بـثـه *** عبثاً فما بال المـطـايا تُـرزِمُ

كل كنى عن شوقه بلـغـاتـه *** ولربما أبكى الفصيحَ الأعجـمُ

نرجو سلوكاً في رسومٍ بينـهـا *** الأغصان سكر، والحمام متـيمُ

هذي تميل إذا تنسمت الصـبـا *** والوُرق تذكر إلفَها فـتـرَنَّـمُ

آهٍ على زمانٍ فاتن وعلى قلب حي مات، كيف الطمع فيما مضى‏؟‏ هيهات، رداً على ليالي التي سلفت أين الزمان الذي بان‏؟‏ أتراه بان، أين القلب الصافي‏؟‏ كان وكان‏.‏

سقياً لمنزلة الحمى وكثيبهـا *** إذ لا أرى زمناً كأزماني بها

ما أعرف اللذات إلا ذاكـراً *** هيهات قد خلفت أوقاتي بها

يا من كان له قلب فانقلب، قيام السحر يستوحش لك، صيام النهار يسأل عنك، ليالي الوصال تعاتبك‏.‏

أين أيامك والـدهـر ربـيع *** والنوى معزولة والقرب وال

يا من كان قريباً فطرد، يا من كان مشاهداً فحجب، يا عزيزي ما ألفت الشقاء، فكيف تصبر‏؟‏ أصعب الفقر ما كان بعد الغنى‏.‏ وأوحش الذل ما كان بعد العز وأشدهما على الكبر‏.‏ يا هذا بت بيت الأحزان من قبل البيات، وثب إلى المثيب وثبة ثبات، ولا تجاوز الجناب ودر حول الدار، واستقبل قبلة التضرع وقل في الأسحار‏:‏

قد قلق الحب وطال الـكـرى *** وأظلم الجو وضاق الفـضـا

لا يعطش الزرع الذي نبـتـه *** بصوت أنعامك قـد روّضـا

إن كان لي ذنب تجـرمـتـه *** فاستأنف العفو وهب ما مضى

لا تبر عـوداً أنـت ريشـتـه *** حاشى لباني المجد أن ينقضـا

كيف لا أبكي لأعـراض مـن *** أعرض عني الدهر إذ عرضا

قد كنت أرجوه لنيل المـنـى *** فاليوم لا أطلب إلا الـرضـا

يا من فقد قلبه وعدم التحيل في طلبه، تنفس من كرب الوجد فبريد اللطف يحمل الملطفات، ريح الأسحار ركابي الرسائل، ونسيم الفجر ترجمان الجواب‏.‏

للمهيار‏:‏

فيا ريح الصبا اقترحي *** على الأحشاء واحتكمي

أراك نسمتِ تختبـرين *** ما عهدي وما ذممـي

فهذي في يدي كـبـدي *** وذا في وجنتي دمـي

سلامٌ كلـمـا ذُكـرتْ *** ليالينـا بـذي سـلَـم

أخواني، صعداء الأنفاس واصل لا يمنع، لسان الدمع أفصح من لسان الشكوى، شجو التائب يطرب سمع الرضا، حزن النادم يسر قلب التعبد، قلق المسكين محبوب الرحمة، آسى من أسا فرح العفو، بكاء المفرط يضحك سن القبول، دمع المحزون مخزون لخزانة الخاص، ريح نفس آسف أطيب من ند ند، قطرة من الدمع على الخد أنفع من ألف مطرة على الأرض‏:‏

ضمنت حالي للقصة ورفعتها *** فآتاني التوقيع يشرح حالـه

فأتيت ديوان الهوى فلكثـرة *** العشاق لم ينهي لي إيصاله

حتى إذا أوصلتها نظروا إلى *** شخص تبقى للعيون خيالـه

قلت ارحموا هذا الفقير فإنه *** من حين هجركم تمزق حاله

يا دائرة الشقاء أين أوّلك‏؟‏ يا أرض التيه متى آخرك‏؟‏ يا أيوب البلاء إلى كم على الكناسة‏؟‏ متى ينسخ الزمن‏؟‏ زمن ‏"‏اركض‏"‏‏:‏

سمعت حمامة هتفت بليل *** وقد حنّتْ إلى ألف بعـيد

فأزعجت القلوب وأقلقتها *** فما زلنا نقول لها أعيدي

أرى ماءً وبي عطشٌ شديد *** ولكن لا سبيل إلى الورود

تعلق بالليل فهو شفيع مشفع، تمسك بالبكاء فهو رفيق صالح، ادخل في زمرة المتهجدين على وجه التطفل في فلوات الخلوات بلسان التذلل‏:‏

يا راحم عبرة المسيء المحـزون *** دمعي مبذول وحزن قلبي مخزون

شوقي يسعى إليك والصبر حرون *** من تهجره أنت ترى كيف يكـون

أبواب الملوك لا تطرق بالأيدي ولا بالحجارة بل بنفس محتاج‏:‏ للمهيار‏:‏

آه والشوق ما تأوهت مـنـه *** لليالٍ بالسفح لو عُدْنَ أخـرى

قلِّبوا ذلك الرماد تُـصـيبـوا *** فيه قلبي إن لم تصيبوا الجمرا

يا هذا، إذا رأيت نفسك متخيلة لا مع المحبين ولا مع التائبين فابسط رماد الأسف واجلس مع رفيق اللهف وابعث رسالة القلق مع بريد الصعداء لعله يأتي بالجواب بكشف الجوى‏:‏

ولي زفرات لو ظهرنَ قتـلـتـنـي *** لشوق لييلاتي التـي قـد تـولـت

إذا قلت هذي زفرة اليوم قد مضـت *** فمن لي بأخرى مثل تيك أظلـمـت

حلفت لهـم بـالـلـه مـا أم واحـد *** إذا ذكـرتـه آخـر الـلـيل أنـت

وما وجدا عرابية قـد‏.‏ فـت بـهـا *** صروف النوى من حيث لم تك ظنت

تمنت أحـالـيب الـرعـاء وخـيمة *** بنجد فلم يقدر لهـا مـا تـمـنـت

إذا ذكرت ماء الـعـذيب وطـيبـه *** وبرد حصاه آخر الـلـيل حـنـت

لهـا أنة وقـت الـعـشــاء وأنة *** سحيراً فلو لا انتـاهـا لـجـنـت

بأكثر منـي لـوعة غـير أنـنـي *** أجمجم أحشائي على مـا أجـنـت

نيران الخوف في قلوب التائبين ما تخبو، وقلق المذنبين مما جنوا لا يسكن، وضجيج المحبين في جيوش الشوق ما يفتر‏:‏

واهاً لزماننا الذي كـان صـفـا *** أبكي مرضي وليس لي منه شفا

ذابت روحي وما أرى غير جفا *** هذا رمقي تسلـمـوه بـوفـا

الفصل الثامن والثلاثون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

ألا يعتبر المقيم منكم بمن رحل‏؟‏ ألا يندم من يعلم عواقب الكسل‏؟‏ آه لغافل كلما جد الموت هزل، ولعاقل كلما صعد العمر نزل‏.‏

أعد على فكرك أسـلاف الأمـم *** وقفْ على ما في القبور من رمم

وناديهم أين الـقـوي مـنـكـم *** القاهر أم أين الضعيف المهتضم

تفاصلت أوصالهم فوق الـثـرى *** ثم تساوت تـحـتـه كـلُّ قـدم

قبرُ البـخـيل والـكـريم واحـدٌ *** ما نفع البخل ولا ضر الـكـرم

واعجـبـاً لـغـافـل أمـامـه *** هجوم ما لا يتـقـي إذا هـجـم

إذا تخطاه على عهد الـصـبـي *** أو الشباب لم يفته فـي الـهـرم

أما كفى الإنسان موتُ بعـضـه *** وهو المشيب المستطير في اللمم

أي خـلـيلـين أقـامـا أبــداً *** ما افترقا وأي حبل ما انـصـرم

إن الـنـجـوم الـدائرات أبـداً *** تضحك من مبتسم إذا ابـتـسـم

أخواني، بادروا آجالكم، وحاذروا آمالكم، آمالكم عبرة فيمن مضى‏؟‏ آمالكم، ما هذا الغرور الذي قد أمالكم‏؟‏ ستتركون على رغم آمالكم مالكم‏.‏

أخواني، صدقتم الأمل فكذبكم، وأطعتم الهوى فعذبكم، أما أنذركم السقم بعد الصحة، والترحة بعد الفرحة، في كل يوم يموت من أشباحكم ما يكفي في نعي أرواحكم، ويحل بعقوقكم وفنائكم ما يخبركم عن شتاتكم وفنائكم، فخذوا حذركم قبل النوائب، فقد أتيتم من كل جانب، وتذكروا سهر أهل النار في النار، واحذروا فوت دار الأبرار، وتخوفوا يوم الفصل بين الفريقين أن يصيبكم من البين البين‏.‏

أخواني، أبصاركم قوية وبصائركم ضعيفة، ومن ترائى هواه توارى عنه عقله، سحبان من ظهر لخلقه بخلقه، غير أن عالم الحس لا يرونه، أما قلبك من نطفة إلى علقة وأنت كالجماد، كلما نفخ فيك الروح بعث الزاد بساق إليك من دم الأم فتتناوله باجتذاب السرة، إذ لو طرق الحلقوم تلفت، فلما خرجت إلى فلاة الدنيا رأيت أدواتي الثديين معلقتين لشربك، وكانت عمور الأسنان تكفي في اجتذاب المشروب، فكلما اعتصرته خرج مغربلاً لئلا يقع شرق، فلما قويت المعا وافتقرت إلى غذاء فيه صلابة أنبت الأسنان لتقطع والأضراس لتطحن ومن العجائب، أنه أخرجت غبياً لا تعلم شيئاً، فلو أخرجك عاقلاً لرأيت من أطم المصائب تقلبك في الخرق والمصائب، ثم جعل بكاءك حينئذٍ متقاضياً بالمصالح وبث القوى في باطنك فقوة تطلب الغذاء وثانية تجتذبه إلى الكبد وثالثة تمسكه لها حتى تطبخه فيصير دماً، ورابعة تهضمه، وخامسة تفرق بين صفوه وكدره وسادسة تتولى قسمته، فلو بعثت إلى الخد، ما تبعث إلى الكخذ صار بمقداره، وسابعة تدفع ثقله‏.‏

أفيحسن بعد تفرقة الجامكية على العسكر، أن يثبوا في المخالفة للمنعم‏؟‏ ثم انظر إلى هذا الهواء الذي قد ملئ به الفضاء كيف تنتصب منه النفس إلى النفس‏؟‏ ثم هو للأصوات من حيث المعنى كالقرطاس، يرقم فيه الحوائج ثم يمتحي فيعود نقياً، فأقوام يرقمون فيه الذكر والتسبيح، وآخرون يرقمون كل قبيح، وكم بين من يرقم تلاوة القرآن، وبين من يرقم أصوات العيدان‏؟‏ ثم تأمل آلات الأصوات، ترى الرئة كالرق، والحنجرة كالأنبوب، فإذا ظهر الصفر أخذ اللسان والشفتان في صناعته ألحاناً، فهو كالأصابع المختلفة على فم المزمار‏.‏

ثم تأمل الأرض، كيف مدها بساطاً وأمسكها عن الاضطراب لتصح للسكنى، ثم يزلزلها في وقت ليفطن الساكن بقدرة المزعج، وجعل فيها نوع رخاوة ليقبل الحفر والزرع، ورفع جانب السماء لينحدر الماء، وفرق المياه بين الجزائر ليرطب الهواء، وأودع المعادن كما تودع الحاجات في الخزائن، ولما بث الطير صان عنها السنبل، لأنه قوتك بقشور صلبة قايمات كالإبر لئلا تستفه فتموت بشماء، فيفوت الحظان، ثم تأمل الرماية كيف حشيت بالشحم بين الحب، ليكون غذاءاً لها إلى وقت عود المثل، ثم جعل كل حشوتين لفافة لئلا يتصاك فيجري الماء، ثم جاء بالشمس سراجاً ومنضجاً للثمر تجري لتعمر الأماكن ثم تغيب ليسكن الحيوان، ولما كانت الحوائج قد تعرض بالليل جعل في القمر خلفاً ولم يجعل طلوعه في الليل دائماً، لئلا تنبسط الناس في أعمالهم كانبساطهم بالنهار، فيؤذي الحريص كلاله، ولما قدر غيبة القمر في بعض الليل جعل أنوار الكواكب كشعل النار في أيدي المقتبسين، ولما كانت حاجة الخلق إلى النار ضرورية أنشأها وجعلها كالمخزون، تستنهض وقت الحاجة فتمسك بالمادة، قدر مراد الممسك، ثم انظر إلى الطائر، لما كان يختلس قوته خوف اصطياده، صلب منقاره لئلا ينسحج من الالتقاط لأن زامن الانتهاب لا يحتمل المضغ، وجعل له حوصلة يجمع فيها الحب ثم ينقله إلى القانصة في زمان الأمن، فإن كانت له أفراخ أسهمهم من الحاصل في الحوصلة قبل النقل، فإن لم يكن له حنة على أفراخه أغنوا عنه باستقلالهم من حين انشقاق البيضة كالفراريج‏.‏

واعجباً كيف يُعصى من هذه نعمه، وكيف لا تموت النفس حباً لمن هذه حكمه، إن دنت همتك فخف من عقوبته، وإن علت قليلاً فارغب في معاملته، وإن تناهت فتعلق بمحبته، على قدر أهل العزم تأتي العزائم، إن قصرت همتك فآثرت قطع الشوك صحبك حمار، وإن رضيت سياسة الدواب رفقك بغل، وإن سددت بعض الثغور أعطيت فرساً، فإن كنت تحسن السباق كان عربياً، فإن عزمت على الحج ركبت جملاً، وإن شمخت همتك إلى الملك فالفيل مركب الملوك‏.‏

رأيت عليات الأمور منـوطة *** بمستودعات في بطون الأساود

 ليس كل الخيل للسباق ولا كل الطيور تحمل الكتب، من الناس من تشغله في الدنيا سوداء، ومنهم من لا يلهيه في الجنة قصر، ولا يسليه عن حبيبه نهر، قوته في الدنيا الذكر وفي الآخرة النظر‏.‏

يقول أناس لو تناسى وصالهـا *** وواصل أخرى غيرها لسلاها

فلا نظرت عين تلذ بغـيرهـا *** ولا بقيت نفس تحب سواهـا

الفصل التاسع والثلاثون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أيها الغافل في إقامته عن نقلته، الجاهل وقد ملأ بما يملي بطن صحيفته، ألك زاد لسفرك على طول مسافته‏؟‏

خف الله وانظر في صحيفتك التي *** حوت كلما قدمته من فعالـكـا

فقد خط فيها الكاتبان فأكـثـروا *** ولم يبق إلا أن يقولا فـذالـكـا

والله ما تدري إذا ما لـقـيتـهـا *** أتوضع في يمناك أو في شمالكا

فلا تحسبن المرء يبقى مخـلـداً *** فما الناس إلا هالك فابك هالكـا

يا من تحصى عليه اللفظة والنظرة، مزق بيد الجد أثواب الفترة، وتأهب فما تدري السير عشاء أو بكرة، واعتبر بالقرباء فالعبرة تبعث العبرة، وتزود لسفرة ما مثلها سفرة، واقنع باليسير فالحساب عسير على الذرة، وإياك والحرام وانظر من أين الكسرة‏؟‏ قبل أن تلقى ساعة حسرة وتلقى بعدها في ظلمة حفرة‏.‏

لا يغرنـك الـزمـان بـيسـر *** وسرور ولا يرعك بـعـسـره

إن مر الزمان يمحق عسر المرء *** في لحـظة ويذهـب بـسـره

وسواء إذا انقضى يوم كـسـرى *** في نعيم ويوم صاحب كـسـره

أترى في عين العبرة رمد‏؟‏ أما تبصر انسلاخ الأمد‏؟‏ يا دائم المعاصي ما غيره الأبد، تصلي ولو التعود لم تكد، القلب غايب إنما جاء الجسد، الفكر يجول في طلب الدنيا من بلد إلى بلد، يا معرضاً عن بحر برناء لا تقنع بالثمد، يا مقتول الهوى ولكن بلا قود‏.‏ بين الهوى والمنى، ضاع الجلد، أما يجول ذكر الموت في الخلد‏؟‏ أرأيت أحداً من قبلك خلد‏؟‏ رب يوم معدود وليس في العدد، إنما الروح عارية في هذا الجسد، هذا بحر الغرور يقذف بالزبد، كم ركبه جاهل فغرق قبل البلد، هذا سهم المنون يفري حلق الزرد، أخواني دنا الصباح فقولوا لمن رقد‏:‏ أين الوجوه الصباح‏؟‏ مرت على جدد، أين الظباء الملاح‏؟‏ اغتالها الأسد، هذا هو المصير‏.‏ أما يرعوي أحد‏؟‏ قال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم‏:‏ عظني، فقال‏:‏ اضطجع‏.‏ ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فجد فيه الآن وما تكره أن يكون فيك فدعه الآن‏.‏

أيها الطالب للدنيا وما يجد، كيف تجد الآخرة وما تطلب‏؟‏ ما مضى من الدنيا فحلم، وما بقي فأماني، سبعة يظلهم الله في ظله، منهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال‏:‏ إني أخشى الله‏.‏

اسمع يا من أجاب عجوزاً على مزبلة، ويحك إنها سوداء، ولكن قد غلبت عليك، عرضت على نبيينا صلى الله عليه وسلم بطحاء مكة ذهباً فأبى، يا محمد ممن تعلمت هذه القناعة‏؟‏ قال لسان حاله‏:‏ من عجلة أبي، الحريص دائم السرى وما يحمد الصباح، من لا همة له سوى جمع الحطام معدود في الحشرات‏.‏

يا أطيار القلوب إلى كم في مزبلة الحبس‏؟‏ اكسري بالعزم قفص الحصر، واخرجي إلى فضاء صحراء القدس، روحي خماصاً من الهوى، تعودي بطاناً من الهدى، بين أبي الحركة وأم القصد ينتج ولد الظفر، لا ينال الجسيم بالهوينا، حمل النفس على حمل المشاق مدرجة إلى الشرف، واعجباً من توقف الكالى والدر ينثر، أشهود كغياب‏؟‏ أكانون في آب‏؟‏، الحرب خصام قائم وأنت غلام نائم، ادخل بسلامتك لابس لامتك، ليس في سلاح المحارب أحدّ من نبلة عوم، أجرأ الليوث أجرها للصيود‏.‏

ليس عزماً ما مرض العزم فيه *** ليس هما ما عاق عنه الظلام

طر بجناح الجد من وكر الكسل، تابعاً آثار الأحباب تصل‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

تلفّت حتى لم يبِـن مـن ديارهـم *** جناب ولا من نـارهـن وقـود

وإن التفات القلب من بعد طَرْفـه *** طَوال الليالي نحـوهـم لـيزيد

ولو قال لي الغادون‏:‏ ما أنت مُشْتَهٍ *** غداةَ جزعنا الرمل قلت‏:‏ أعـود

أأصبر والوَعساءُ بيني وبـينـهـم *** وأعلام خَبتٍ‏؟‏ إننـي لـجـلـيد

يا مخنث العزم أين أنت والطريق‏؟‏ سبيل نصب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار إبراهيم الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بدراهم، وذهبت من البكاء عين يعقوب، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح الحصور يحيى، وضنى بالبلاء أيوب، وزاد على المقدار موسى، وهام مع الوحوش عيسى، وعالج الفقر محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

فيا دارهم بالحزن أن مزارها *** قريب ولكن دون ذلك أهوال

أول قدم في الطريق بذل الروح، هذه الجادة فأين السالك‏؟‏ هذا قميص يوسف فأين يعقوب‏؟‏ هذا طور سينا فأين موسى‏؟‏ يا جنيد احضر، يا شبلي اسمع‏.‏

بدم المحب يباع وصلهم *** فمن الذي يبتاع بالسعر

الفصل الأربعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أخواني، اعتبروا بالذين قطنوا وخزنوا، كيف ظعنوا وحزنوا‏؟‏ وانظروا إلى آثارهم تعلموا أنهم قد غبنوا، لاحت لهم لذات الدنيا فاغتروا وفتنوا، فما انقشعت سحاب المنى حتى ماتوا ودفنوا‏.‏

جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا *** وبنوا مساكنهم فما سكنـوا

فكأنهم كانوا بها ظـعـنـاً *** لما استراحوا ساعة ظعنوا

يا من قد امتطى بجهله مطا المطامع، لقد ملا الوعظ، في الصباح والمساء المسامع، أين الذين بلغوا آمالهم‏؟‏ فما لهم في المنى منازع‏.‏

ما زال الموت يدور على بدور الدور حتى طوى الطوالع، صار الجندل فراشهم بعد أن كان الحرير فيما مضى المضاجع، ولقوا والله البلا في تلك البلاقل، قال شداد بن أوس‏:‏ لو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت ما انتفعوا بعيش ولا التذوا بنوم‏.‏

وقال وهب ابن منبه‏:‏ لو أن لأم عرق من عروق الميت قسم على أهل الأرض لوسعهم ألماً‏.‏

وكان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء كل ليلة فيتذاكرون الموت والقيامة ثم يبكون، حتى كأن بين أيديهم جنازة‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏ لو ضربت السماء والأرض بالسياط التي ضرب بها ابن آدم لانقادت خاشعة للموت والحساب والنار‏.‏

يا هذا الشيب أذان والموت إقامة ولست على طهارة، العمر صلاة والشيب تسليم، يا من قد خيم حب الهوى في صحراء قلبه أقلع الأطناب فقد ضرب بوق الرحيل، أما تسمع صوت السوط في ظهور الإبل‏؟‏ أما ترى عجلة السلب وقصر العمر‏؟‏ شارف الركب بلد الإقامة فاستحث المطى، يا مشاهدة ما تمت بغيتها حتى وقع النهب فيها، استلب منك لك قبل أن تستلب الجملة، الأيام تسرع في تبذير مجموع صورتك وأنت تسرع في تبذير معانيك‏.‏

يا شباب الجهل، يا كهول التفريط، يا شيوخ الغفلة، اجلسوا معنا ساعة في مأتم الأسف يا سحائب الأجفان، امطري على رباع الذنوب، يا ضيف الندم على الإسراف أسكن شغف القلوب، يا أيام الشيب إنما أنت بين داع ووادع، فهل لماض من الزمان ارتجاع‏.‏

قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى *** وقل لنجد عندنـا أن تـودعـا

فليس عشيات الحمى برواجـع *** عليك ولكن خل عينيك تدمعـا

تلفت نحو الحمى حتى وجدتنـي *** وجعت من الإصغاء ليتا واخدعا

واذكر أيام الحمى ثم انـثـنـي *** على كبدي من خشية أن تصدعا

أخواني، سكران الهوى بعيد الإفاقة، فلو تذكر إقامة الحد طار السكر، من تحسى مرق الهوان احترقت شفتاه، من أكل من الظلم تمرة أداها قوصرة‏.‏ ويحك، اغسل العثرة بعبرة، وادفع الحوبة بتوبة ما دام في الوقت مهلة وفي زمن السلامة فسحة، قبل أن تموت وتفوت وتعلو بعد الخيل على تابوت، قبل أن ترى السمع والبصر قد كلا، وتقول ‏"‏رب ارجعون‏"‏ فيقال كلا، قبل أن يصير دمع الأسى من جفن من أسى، ويقال هلا كان هذا قبل هذا، هلا‏.‏

أتترك من تحب وأنـت جـار *** وتطلبه إذا بعـد الـمـزار

وتبكي من بعد نأيهم اشتـياقـاً *** وتسأل في المنازل أين ساروا

تركت سؤالهم وهم حضـور *** وترجو أن تخبـرك الـديار

فنفسك لم ولا تلم الـمـطـايا *** ومت كمداً فليس لك اعتـذار

يا من أجله يذوب ذوبان الثلج في الحر، أينقشع غيم العمر‏؟‏ لا عن هلال الهدى، أتؤثر الفاني المرذول على النفيس الباقي‏؟‏

ارضيا بثـنـيات الـلـوى *** عن زرود يا لها صفقة غبن

ما يخفى علامات الإدبار عليك، يفتش دارك فلا يرى سواك للطهارة، بلى ملاعق الأكل، ليس في البيت مصحف بل تقويم، أينفع وجود التقويم‏؟‏ يا مهتماً بالنظر في الطالع طالع ما قد خبي لك كأنك بالموت قد طلع، وما طالع فكرك عاقبة، اسمع حسابي حقاً وما أرجم، ودع لكلماتي هذي قول الهاذي المنجم، إن ضم الندم على التفريط إلى العزيمة على الإنابة فساعة سعد، وإن اجتمع في القلب حب الدنيا على إيثار الكسل فقران نحس‏.‏

الفصل الحادي والأربعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

ما هذا الحب للدنيا والصبابة‏؟‏ وإنما يكفي منها صبابة، فقل للنفس الحريصة، لقد بعت الأخرى رخيصة‏.‏

يا نفس ما الدهر إلا ما علمت فكم *** ألست حدثتني أني أتـوب فـلـم

إياك إياك من سوف فكم خدعـت *** وأهلكت أمماً من قبلهـا وأمـم

توبي يكن لك عند الله جاه تـقـى *** وقدمي من فعال الصالحين قـدم

يا راقد للبلى حث المشـيب بـه *** ألا فكن خائفاً لا تقـعـدن وقـم

يا من قد أخذ الهوى بأزمته، وأمسك الردى بلمته، يا رهين ديون تعلقت في ذمته، هذا أوان جدك إن كنت مجداً، هذا زمان استعدادك إن كنت مستعداً‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

يا نفس قد عز المرادُ فخـذي *** إن كنت يوماً تأخذين أو ذَري

نُهزَةُ مجدٍ كنتُ في طِلابهـا *** لمثلها يَنصُفُ ساقي مئزري

عمر الفتى شبابُـه وإنـمـا *** آونةُ الشيبِ انقضاءُ العُمُـر

رض مهر النفس يتأت ركوبه، أمت زئبق الطبع يمكن استعماله، تلمح فجر الأجر يهن ظلام التكليف، احذر حية الفم فإنها بتراء، إذا خرجت من شفة غدرك لفظة سفه فلا تلحقها بمثلها تلقحها، ونسل الخصام مذموم، أوثق سبع غضبك بسلسلة حلمك، فإنه إن أفلت أتلف، متى قمت بحدة الغضب انطفى مصباح الحلم، بحر الهوى إذا مد أغرق، وأخوف المنافذ من الغرق فتحة البصر فلا يشتغل زمان الزيادة إلا بإحكام القورح‏.‏

والمرء ما دام ذا عـين يقـلـبـهـا *** في أعين العين موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضـر مـهـجـتـه *** لا مرحباً بسرور عاد بـالـضـرر

لو حضرت مع الأحباب الباب، لسامح الناقد ببهرجك، رحلت رفقة ‏"‏تتجافى‏"‏ ومطرود النوم في حبس الرقاد، فما فك عنه السجان قيد الكرى حتى استقر بالقوم المنزل، فقام يتلمح الآثار بباب الكوفة والأحباب قد وصلوا إلى الكعبة‏.‏

لصردر‏:‏

من يطّلع شرفاً فيعـلـمَ لـي *** هل روح الرُعيان بـالإبـلِ‏؟‏

أم قعقعت عَـمَـدُ الـخـيام أم *** ارتفعت قبابهم على البُـزْلِ‏؟‏

أم غرَّد الـحـادي بـقـافـيةٍ *** منها غراب البين يستلـمـي‏؟‏

فَضَلَت دموعي عن مدى حَزَني *** فبكيتُ مَن قتل الهوى قبـلـي

ما مر ذو شـجـن يكـتِّـمـه *** إلا أقول‏:‏ مـتـيَّم مـثـلـي

من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه، الزهاد عين العارفين، الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، وليس ما أعد للإستفراخ كما هي للسباق، من حدق بعين الفكر إلى مطلع الهدى لاح له الهلال، كم أداوي بصر بصيرتك وما يتجلى، ما أظن الضعف إلا في الوضع، ضعف عين الخفاش في أصل الفطرة ليس برمد، وحدة ناظر الهدهد خلقة، مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة، قبل الشرايع ‏"‏يكاد زيتها يضيء‏"‏ وحدّ قس وما رأى الرسول، وكفر ابن أبي وقد صلى معه، مع الضب ري يكفيه، ولا ماء، وكم من عطشان في الموجة، إذا سبق الأنعام في القدم فذلك غنى الأبد، لما تقدم اختيار الطين المنهبط صعد على النار المرتفعة، وكانت الغلبة لآدم في حرب إبليس، فاكتفت نار جهنم بما جرى فسلمت يوم ‏"‏جزيا مؤمن‏"‏ سبق العلم بنبوة موسى وإيمان آسية فسبق تابوته إلى بيتها، فجاء طفل منفرد عن أم، إلى امرأة خالية عن ولد، قرينان مرتعنا واحد‏.‏

دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت يهودي يعوده فقال له أسلم، فنظر المريض إلى أبيه فقال له‏:‏ أجب أبا القاسم، فأسلم، فكان ذلك قريباً من نسب ‏"‏سلمان منا‏"‏ فصاحت ألسنة المخالفين‏:‏ ما لمحمد ولنا‏؟‏ والقدر يقول‏:‏ مريضنا عندكم ‏"‏كيف انصرافي ولي في داركم شغل‏"‏‏.‏

لما عم نور النبوة آفاق الهدى رآه سلمان دون العم، قويت ظلمات الشرك بمكة فتخبطت قريش في الضلال، فلاح مصباح الفلاح من سجف دار الخيزران، فإذا عمر على الباب ولقد أنارت لإبليس شمس البيان يوم ‏"‏أنبِئهم بأسمائهم‏"‏ غير أن النهار ليل عند الأعشى، رجع الخفاش إلى عشه، فقال‏:‏ أوقدوا المصباح فقد جن الليل، فقالوا‏:‏ الآن طلعت الشمس، فقال‏:‏ ارحموا من طلوع الشمس عنده ليل، فسبحان من أعطى ومنع ولا يقال لم صنع‏؟‏ سلم التوفيق قريب المراقي، وبئر الخذلان بلا قعر، ربما أدرك الوقفة أهل مصر وفاتت أهل نخلة، لا بد والله من نفوذ القضاء فاجنح للسلم‏.‏

كم بالمخصب من عليل *** هوى طريح لا يعلـل

وقتيل بين بين خـيف *** مني وجمع ليس يعقل

كيف تتقي نبال القدر والقلب بين إصبعين‏.‏

لا تغضبن على قوم تحـبـهـم *** فليس ينجيك من أحبابك الغضب

ولا تخاصمهم يوماً إذا حكـمـوا *** إن القضاة إذا ما خوصموا غلبوا

كان إبليس كالبلدة العامرة فوقعت فيها صاعقة الطرد فهلك أهلها ‏"‏ فتلكَ بيوتُهُمْ خاوِيَةٌ ‏"‏

من لم يكن للوصال أهلاً *** فكل إحسانـه ذنـوب

أخذ كساء ترهبه فجعل جلاً لكلب أصحاب الكهف، فأخذ المسكين في عداوة آدم فكم بالغ واجتهد‏؟‏ وأبى الله أن يقع في البئر إلا من حفر، ويحك ما ذنب آدم‏؟‏ أنت الجاني على نفسك، ولكنه غيظ الأسير على القد‏.‏

لقي إبليس عمر بن الخطاب فصارعه فصرعه عمر، فقال بلسان الحال‏:‏ أنا مقتولٌ بلسان الخذلان قبل لقائك فإياك عني لا يكن بك ما بيا، يا عمر أنت الذي كنت في زمان الخطاب لا تعرف الباب وأنا الذي كنت في سدة السيادة وأتباعي الملائكة موصل منشور ‏"‏ لا يسئل ‏"‏ فعزلني وولاك فكن على حذر من تحول الحال‏.‏

فإن الحسام الصقيل الذي *** قتلت به في يد القاتـل

لما تمكنت معرفة عمر بتقليب القلوب لعب القلق بقلبه، خوفاً من قلبه، فبادر بطريق باب البريد بالعزل والولاية، يا حذيفة المحبة العظمى، ارتباط أمرك بمن لا يبالي بهلاكك، فكم قد أهلك قبلك مثلك، كم مشارف بسفينة عمله‏؟‏ على شاطئ النجاة، ضربها خرق الخذلان فغرقت وما بقي للسلامة إلا باع أو ذراع، أي تصرف بقي لك في قلبك‏؟‏ وهو بين إصبعين‏.‏

يا قلب إلام تطالـبـنـي *** بلقا الأحباب وقد رحلـوا

أرسلتك في طلبي لـهـم *** لتعود فضعت وما حصلوا

سلم واصبر واخضع لهـم *** كم مثلك قبلك قد قتـلـوا

ما أحسن ما أعقلـت بـه *** أما لك منهم لو فعـلـوا