فصل: الفصل الثاني والأربعون (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل الثاني والأربعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا من قد أسره الهوى فما يستطيع فكاكاً، أفق قبل الومى، وها هو قد أدركك إدراكاً قبل أن لا ينفع البكاء الباكي ولا التباكي من تباكى‏.‏

لأبي العتاهية‏:‏

بَليتَ وما تَبْلَى ثـيابُ صِـبـاكـا *** كفاكَ نذير الشيبِ فيك كـفـاكـا

ألم ترَ أنَّ الشيبَ قد قـامَ نـاعـياً *** مقامَ الشباب الغَضِّ ثم نـعـاكـا

ولم تـر يومـاً مـر إلا كـأنـه *** بإهلاكه للهالـكـين عـنـاكـا

ألا أيها الفاني وقد حـان حـينـه *** أتطمع أن تبقى فلست هـنـاكـا

تسمَّع ودعْ من أفسد الغي سمعـه *** كأني بداعٍ قد أتـى فـدعـاكـا

ورب أمان للفتى نـصـبـت لـه *** المنية فيما بـينـهـن شـراكـا

أراك وما تنفك تهـدي جـنـازة *** ويوشك أن تهدي هديت كـذاكـا

ستمضي ويبقى ما تراه كما تـرى *** وينساك من خلفـتـه هـو ذاكـا

ألا ليت شعري كيف أنت إذا القُوى *** وهبْ وإذا الكرب الشديد علاكـا

تموت كما مات الذين نسـيتـهـم *** وتُنسى ويهوى الحي بعد هواكـا

كأن خطوب الدهر لم تجر سـاعة *** عليك إذا الخطب الجليل أتـاكـا

ترى الأرض كم فيها رهون دفينة *** غلقن فلم يقبل لهـن فـكـاكـا

كم سكن قلبك في هذه الدار، فحام الموت حوم حماهم ودار، ثم ناهضهم سريعاً وثار، كأنه ولي يطلب الثأر، وقد خوفك بأخذ الصديق وسلب الجار، ومن أنذر قبل هجومه فما جار‏.‏ يا هذا، العمر عمر قليل وقد مضى أكثره بالتعليل، وأنت تعرض البقية للتأويل، وقد آن أوان الآن أن يرحل التنزيل، ما أرخص ما يباع عمرك وما أغفلك عن الشرا، والله ما بيع أخوة يوسف يوسف بثمن بخس، يا عجب من بيعك نفسك بمعصية ساعة، متى ينتهي الفساد‏؟‏ متى يرعوي الفؤاد‏؟‏‏.‏

يا مسافراً بلا زاد، لا راحلة ولا جواد، يا زارعاً قد آن الحصاد، يا طائراً بالموت يصاد، يا بهرج البضاعة أين الجياد‏؟‏ يا مصاب الذنوب أين الحداد‏؟‏ لو عرفت المصاب فرشت الرماد، لو رأيت سواد السر لبست السواد، جسمك في واد وأنت في واد، نثر الدر لديك وما تنتقي، وقربت المراقي إليك وما ترتقي، لقد ضيعت ما مضى وشرعت في ما بقي، يا واقفاً في الماء الغمر وما ينقى‏.‏

إن قلت قم قال رجلي ما تطاوعني *** أو قلت خذ قال كفى ما تواتينـي

واعجباً لنفاسة نفس رفعت بسجود الملك لها، كيف نزلت بالخساسة حتى زاحمت كلاب الشره، على مزابل الذل، هيهات لن تفلح الأسد إذا أنفقت عليها الميتات الفسد‏.‏

يا هذا، جسدك كالناقة يحمل راكب القلب، فلا تجعل القلب مستخدماً في علف الراحلة، تالله إن جوهر معناك يتظلم من سوء فعلك، لأنك قد ألقيته في مزابل الذل، ماء حياتك في ساقية عمرك قد اغدودق، فهو يسيل ضايعاً إلى مهاوي الهوى، وينسرب في أسراب البطالة، فقد امتلأت به خربات الجهل ومزابل التفريط، وشربته أدغال الغفلات، ويحك، أردده إلى مزارع التقوى لعله يحدق نور حديقة، إلى متى يمتد ليل الغفلة‏؟‏ متى تأتي تباشير الصباح‏؟‏

هل الدهر يوماً بوصل يجود *** وأيامُنا باللوى هل تـعـودُ

زمان تقضي وعيش مضى *** بنفسي والله تلك العـهـود

ألا قل لكان وادي الحبـيب *** هنيئاً لكم في الجنان الخلود

أفيضوا علينا من الماء فيضاً *** فنحن عطاشى وأنتم ورود

لما سبق الاختيار لأقوام في القدم، جذبوا بعد الزلق في هوة الهوى إلى نجاة النجاة، يا عمر، كيف كانت حالك‏؟‏ قال‏:‏ كنت مشغولاً بهبل فسمعت هتاف ‏"‏ففِرُّوا إلى الله‏"‏ فعرجت على المنادي، فإذا أنا في دار الخيزران يا فضيل، من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أخذت من قطع الطريق، فأخذت في قطع الطريق، يا عتبة الغلام، من أنت‏؟‏ قال‏:‏ كنت عبد الهوى فحضرت مجلس عبد الواحد، فصرت عبداً للواحد يا سبتي من أنت‏؟‏ قال كنت ابن الرشيد فعرض لي رأي رشيد فإذا عزمي قد أخذ المر ومر، يا ابن أدهم، من أنت‏؟‏ قال أخذني حبه من منظرتي فصيرني ناطور البساتين‏.‏ يا رابعة، من أنت‏؟‏ قالت‏:‏ كنت أضرب بالعود فما سمع غيري‏.‏

بالله يا ريح الصـبـا *** مري على تلك الربا

وبـلـغـي رسـالة *** يفضها أهل قـبـل

واحربـا وهـل يرد *** فاتـيا واحـربــا

يا طفلاً في حجر العادة محصوراً بقماط الهوى، مالك ومزاحمة الرجال‏؟‏ تمسكت بالدنيا تمسك المرضع بالظئر، والقوم ما أعاروها الطرف، ما لك والمحبة وأنت أسير حبة‏؟‏ كم بينك وبينهم‏؟‏ وهل تدري أين هم‏؟‏‏.‏

سلام على تلك المـعـاهـد إنـهـا *** شريعة وردي أو مهب شـمـالـي

ليالي لم نـحـذر حـزون قـطـيعة *** ولم نمش إلا في سـهـول وصـال

فقد صرت أرضى من سواكن أرضها *** بخلـب بـرق أو بـطـيف خـيال

سار القوم ورجعت، ووصلوا وانقطعت، وذهبوا وبقيت، فإن لم تلحقهم شقيت‏.‏

لبس البياض بذات عرق معشـر *** ولبست من حزن ثـياب حـداد

وصلوا إلى عرفات يبغون الرضا *** وبقيت منكسراً ببطـن الـوادي

رفعوا أكفهم وضجوا بـالـدعـا *** وضممت من كمد يدي بفـؤادي

يا من كلما استقام عثر، يا من كلما تقرب أبعد، استسلم مع الحرية واستروح إلى دوام البكاء وصح بصوت القلق على باب دار الأسف‏.‏

ليس لـي فـيك حـيلة *** غير صبري على القضا

وبكائي على الـوصـال *** الذي كان وانقـضـى

ليتـنـي تـبـت تـوبة *** وقضى الله ما قضـى

الفصل الثالث والأربعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا هذا، من اجتهد وجدَّ وجد، وليس من سهر كمن رقد والفضائل تحتاج إلى وثبة أسد‏.‏

للمهيار‏:‏

خاطرْ فإما عيشةٌ حـرةٌ *** يُرغدُها العزُّ وإما الحِمامْ

*** زاحمْ على باب العلى واجتـهـد *** لا بد أن تدخل بـين الـزِّحـامْ

رام بها اللـيل فـمـا يُسـفـر *** المصباح إلا عن نقابِ الظـلامْ

مَوارقاً عن عُقْل أشـطـانـهـا *** مروقَ فوق السهم عن قوسٍ رامْ

ميِّزْ من الناس على ظـهـرهـا *** نفسك لا ميزة تحـت الـرخـامْ

من طلب الغايةَ خطـواً عـلـى *** ظهر الهوينا رامَ صعبَ المـرامْ

لقد رضيت الغبن والغبن، وبعت عمرك بأقل ثمن، وأنفقت فيما يرد بك الزمن، وفترت في الصحة ولا فتور الزمن، يا مغروراً بخضراء الدمن، يا جامعاً مانعاً قل لي لمن‏؟‏ كيف ينال الفضائل مستريح البدن، سلع المعالي غاليات الثمن، وإن ساومتها فبزهد أويس وفقه الحسن‏.‏

يا هذا أوقد مصباح الفكر في بيت العلم، تلح لك الأعلام، من سد ثغور الهوى بجند الجد ملأ عين راحته من نوم الطمأنينة، من دق صراط ورعه عن الشبهات عرض الصراط له يوم الجواز، لله در أقوام تأملوا الوجوب ففهموا المقصود، فالناس في رقادهم وهم في جمع زادهم، والخلائق في غرورهم، وعيونهم إلى قبورهم‏.‏

قال الإمام أحمد لقد رأيت أقواماً صالحين، رأيت عبد الله بن إدريس وعليه جبة من لبود قد أتت عليها سنون، رأيت أبا داود الحفري وعليه جبة محرقة قد خرج منها القطن وهو يصلي فيترجح من الجوع، ورأيت أبواب النجار، وقد خرج من كل ما يملكه‏.‏

وكان في المسجد شاب مصفر يقال له العوفي، يقوم من أول الليل إلى الصباح يبكي‏.‏

إذا ما الخيام البيض لاحت لدى منـى *** فعرج فأنـا بـعـدهـا بـقـلـيل

ترانا لدى الأطناب صرعى من الهوى *** نكفكف دمعـاً لافـتـقـاد خـلـيل

وكم أنـه أردفـتـهـا بـتـنـفـس *** وكم عبرة أتبـعـتـهـا بـعـويل

قفوا وانظروا ذلي وعز مـعـذبـي *** تروا عجباً مـن قـاتـل وقـتـيل

عملت في قلوبهم معاول الحزن معاً، فانبعثت من كل ركية، ركية ماء أسي، فجرى من طرف طرفين ماء فجرى وسخاً فغسل وسخاً‏.‏

قد كنت أطوي على الوجد الضلوع ولا *** أبدي الهوى وأسوم القلب كتـمـانـا

فخانني الصبـر إذ نـاديتـه ووفـت *** لي الشؤون فعاد الـسـر إعـلانـا

أكتم الوجد والـعـينـان تـظـهـره *** للحب أعظم ممـا رمـتـه شـانـا

قال أبو عمران الجوبي‏:‏ أرتني أمي موضعاً من الدار قد انحفر، فقالت‏:‏ هذا موضع دموع أبيك‏.‏

وكان حسان بن أبي سنان‏:‏ يحضر مجلس مالك بن دينار، فيبكي حتى يبل ما بين يديه ولا سمع له صوت‏.‏ للمتنبي‏:‏

أجاب دمعي وما الداعي سوى طللِ *** دعا فلبَّاه قبل الـركـب والإبـلِ

ظللت بين أصيحابي أكـفـكـفـه *** فظل يسفح بين العُذر والـعَـذلِ

وما صبابة مـشـتـاق لـه أمـل *** من اللقاء كمشـتـاق بـلا أمـل

دموع المحبين، غدران في صحاري الشوق، من عادة القوم ألف البراري والجلوس إلى الشجر فإن سمعوا هتاف الحمام استغنوا عن نايح‏.‏

شوقي إليك مجاوز وصفـي *** وظهور وجدي دون ما أخفي

ما دار ذكر منك في خلـدي *** إلا طرفت بمدمعي طرفـي

إذا تمكنت المحبة استحال السلو، تعلقت يد المحبة بتلابيب القلب فلا يمكنه التخلص، فيدور معها في دار المداراة‏.‏

ليكفكم ما فيكم من جوى نلقـى *** فمهلاً بنا مهلاً ورفقاً بنا رفقـا

وحرمة وجدي لا سلوت هواكم *** ولا رمت منه لا فكاكاً ولا عتقا

وهل للمحب قلب، هيهات مزقته المحبة، براثن أسود في شلو ضعيف، على شدة جذب مع وام التقليب‏.‏

إن ترحلت أو أقمت فعنـدي *** فيض دمع يجري ووجد مقيم

وفؤادي ذاك الفؤاد المعنـى *** وغرامي ذاك الغرام القـديم

انكشف اليوم الستر، افتضح العاصي والعارف‏.‏

لتوبة‏:‏

خليلي قد عم الأسى وتقاسمـت *** فنون البلى عشاق ليلى ودورها

وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت *** فقد رابني منها الغداة سفورها

وقع الحريق في زوايا المجلس رشوا عليه من مزاد الدمع، يا كثيف الطبع بيض الحمام يفرق من صوت الرعد ولا حس له، أفميت أنت وهذه الصواعق حولك‏؟‏

لو ترى العاشقين في مأتم الذل *** وقد شققت جيوب الوصـال

لعذرت الذي بلـى بـقـراق *** ورحمت المحب في كل حال

هبت اليوم نسمة من أرض كنعان إلى مصر، غنت حمامات اللوى في أرض نجد، تنفس المشتاق فانقشع غيم الهجر، سعى سمسار المواعظ في الصلح‏.‏

للغزي‏:‏

هبت لنا وبرود اللـيل أسـمـال *** ريح لها من جيوب الوصل أذيال

مرت بسفح اللوى والشح متشـحٍ *** بلؤلؤ الطل والجرباء معـطـال

مريضة في حواشي مرطها بللٌ *** يهدي لكل مريض منـه أبـلال

دع جمرة لسويدا القلب محـرقة *** يا لائمي ثم قل لي كيف احتـال

حدثت عن منحني الوادي وساكنه *** كرر حديثك لا حالت بك الحال

وامزج بماء المنى قلت‏:‏ من خبر *** فإن أخبار ذاك الـحـي جـريال

الفصل الرابع والأربعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أخواني، شحم المنى هزال، وشراب الآمال سراب وآل، ولذات الدنيا منام وخيال، وحربها قتل بلا قتال‏.‏

والمرء يبليه في الدنيا ويخـلـقـه *** حرص طويل وعمر فيه تقصـير

يطوق النحـر بـالآمـال كـاذبة *** ولهذم الموت دون الطوق مطرور

جذلان يبسم في أشراك مـيتـتـه *** إن أفلت الناب أردته الأظـافـير

تيقظ لنفسك واذكر زوالك، ودع الأمل ولو طوى الدنيا وزوى لك، فكأنك بالموت قد حيرك وأبدى كلالك، ونسيك الحبيب، لأنه أرادك له لا لك، وخلوت تبكي خلالك في زمان خلا لك، وشاهدت أمراً أفظعك وهالك، تود أن تفتديه بالدنيا لو أنها لك، فتنبه من رقاد الهوى لما هو أولى لك، واحذر أن أعمالك أعمى لك، وأفعالك كالأفعى لك‏.‏

لو كان باعث من نفسك، ما احتجت إلى محرك من خارج، هذا الديك يصيح في أوقات معلومة من الليل لا تختلف، يؤدي وظائفها بباعث الطبع وإن لم يكن في القرية ديك غيره، وأنت تؤخر وظائف صلواتك، وتنقص من واجبات عباداتك، فإن بكيت في المجلس فلبكاء الجماعة، فإذا خلوت خلوت من محرك، هيهات من لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ، إذا لم يكن للدجاجة همة الحضن لم تنفع تغطيتها بمنخل الحاضن، تصابر الشقاء لما تأمل من العواقب والرعناء تكسر البيض قصداً‏.‏

الخصائص أوضاع والسوابق خواص، ‏"‏هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي‏"‏ المغناطيس يجذب الحديد بخاصية فيه، الظليم يبتلع الحصى والحجارة فيذيبها حرُّ قانصته حتى يجعلها كالماء الجاري، ولو طبخ ذلك بالنار لم ينخل، ذنب الجرادة يشق الصخرة وليس بالقوي، إبرة العقرب تنفذ في الطشت، خرطوم البعوضة يغوص في جلد الجاموس، من تعلق عليه برادة الحديد لم يغط في نومه، إذا ترك الرصاص أو الزيبق في تنور سقط الخبز كله، فإن ترك الرصاص في قدر لم ينضج اللحم، إذا كان الزعفران في دار لم تدخلها وزغه، إذا دفن الحديد في الدقيق زال عنه الصدأ، إذا ترك سراج على شيء في نهر سكنت ضفادعه، إذا دفنت ذئبة في قرية لم تدخلها الذئاب، إذا نظر صاحب الثآليل إلى كوكب ينقض فمسح بيده حينئذٍ على ثآليله ذهبت، إذا عسرت الولادة فصاحت بالمرأة بكر يا فلانة أنا جارية عذراء وقد ولدت وأنت لم تلدي ولدت في الحال للنملة، فضل حسن في الشم تدرك الأراييح البعيدة، لما شق ختام نافجة النبوة ملأت ريحها الأرض، فاستنشقها أهل العافية، فوصل إلى خياشم سلمان في فارس وصهيب في الروم وبلال في الحبشة، وكان ابن أُبي مزكوماً فما نفعه قرب الدار، كم من نفر دخلت مجلسي وهي حامل جنين الإصرار، فلما استنشقت ريح المواعظ أسقطت‏.‏

أيها التائب من حر‏؟‏كك‏؟‏ وقد كان تحريك الجبل دون إزعاجك ‏"‏صُنْعَ الله الذي أتقن كلَّ شيء‏"‏ أتدرون هذا التائب لم انزعج‏؟‏ أما تجدون في نفسه حرَّ وهج‏.‏

صبا لنسيم الصبا إذ نـفـح *** وارقه لمع بـرق لـمـح

واذكره عيشه بالـحـمـى *** وعهداً تقادم سرب سـنـح

فحن إلى السفح سفح العقيق *** فسح له دمعه وانسـفـح

وكان كتوماً لسر الـهـوى *** ولكن جرى دمعه فافتضح

فدعه ينادي طلول الحمـى *** ويسأل رامه عمـن نـزح

يا غائباً عنا، وهو حاضر أما لك ناظر ناظر‏؟‏ أما دموع الوجد قد ملأت الحناجر‏؟‏ أف لبدوي لا يطربه ذكر حاجر، أقل أحوال الزمن أن يبكي إذا رأى المشاة، انظر إلى التائبين وحرقهم، والتفت إلى العارفين وقلقهم‏.‏

اسمع أنين العاشـقـين *** إن استطعت له سماعا

راح الحبيب فشيعتـه *** مدامع تجري سراعـا

لو كلف الجبل الأصـم *** فراق ألف ما استطاعا

كلما بكى الخائفون أزعجوني، وكلما استغاث الواجدون ألهفوني

وإني لمجلوب لي الشوق كـلـمـا *** تنفـس بـاك أو تـألـم ذو وجـد

تعرض رسل الشوق والركب هاجد *** فيوقظني من بين نوامهم وحـدي

يا صبيان التوبة، ارفقوا بمطايا أبدانكم فقد ألفت الترف ‏"‏ولا تُضارُّوهنَّ لتضيِّقوا عليهنَّ‏"‏

هب لهـا مـن الـنـسـيم رائد *** فعادهـا مـن الـغـرام عـائد

نوق نفى عنها الحمى طيب الكرى *** فهي كما شاء السرى سـواهـد

أنحلها تـحـت الـدؤب أينـهـا *** فمـارت الأنـسـاع والـقـلائد

فلا تخالفها إذا مـا الـتـفـتـت *** شوقاً إلى بان الحـمـى يا قـائد

وقل لها لعـا إذا مـا عـثـرت *** فهي لحمل وجـدهـا تـكـابـد

مذ حكم البين علـيهـا لـم تـزل *** تبكي عليها الـبـيد والـفـدافـد

يا صبيان التوبة، للنفس حظ وعليها حق ‏"‏فلا تميلوا كلَّ المَيْل‏"‏ خذوا مالها، واستوفوا ما عليها ‏"‏وزِنوا بالقسطاس المستقيم‏"‏ فإن رأيتم من النفوس فتوراً فاضربوهن بسوط الهجر ‏"‏فإنْ أطعْنَكُم فلا تبغوا عليهنَّ سبيلا‏"‏ على أني أوصي صبيان التوبة بالرفق، وبعيد أن يقر خائف أو يسمع العذل محب

ليت شعري هل أرى في طريقي *** سعة تفسح كرب الـمـضـيق

قد رماني الحب ف لج بـحـر *** فخذوا يا قوم كـف الـغـريق

حل عندي حبكم في شـغـافـي *** حل مني كـل عـقـد وثـيق

عفت دنياي اشـتـياقـاً إلـيكـم *** وتساوى خامهـا والـدبـيقـى

ورفضت الكل شغلاً بـوجـدي *** فانجلى لي كل معـنـى دقـيق

يا صديقي عندي الـيوم شـغـل *** فاله عني واشتغل يا صـديقـي

بيدان تذكر لي حـب قـلـبـي *** فأعـد ذكـرهـم يا رفـيقـي

غصني الشوق إليهـم بـريقـي *** واحريقي في الهوى واحريقـي

الفصل الخامس والأربعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أخواني، البدار البدار، فما دار الدنيا بدار، إنما هي جلية لجريان الأعمار، وكم تبقى الفريسة بين النيوب الأظفار‏.‏

ما دار دنيا لـلـمـقـيم بـدار *** وبها النفوس فـريسة الأقـدار

ما بين ليل عـاكـف ونـهـاره *** نفسان مرتشفان لـلأعـمـار

طول الحياة إذا مضى كقصيرها *** واليسر للإنسان كـالإعـسـار

والعيش يعقب بالمرارة حـلـوه *** والصفو فيه مخلـف الأكـدار

وكأنما تقضي بـنـيات الـردى *** لفنائنا وطـراً مـن الأوطـار

ويروقنا زهر الأماني نـضـرة *** هدم الأماني عادة الـمـقـدار

والمرء كالطيف المطيف وعمره *** كالنوم بين الفجر والأسـحـار

خطب تضاءلت الخطوب لهوله *** أخطاره تعلو على الأخـطـار

تلقى الصوارم والرماح لهولـه *** ونلوذ من حرب إلى استشعـار

إن الذين بنوا مشيداً وانـثـنـوا *** يسعون سعي الفاتك الجـبـار

سلبوا النضارة والنعيم فأصبحـوا *** متوسـدين وسـائد الأحـجـار

تركوا ديارهم علـى أعـدائهـم *** وتوسدوا مـدراً بـغـير دثـار

خلط الحمام قويهم بضعيفـهـم *** وغنيهم ساوى بـذي الإقـتـار

والدهر يعجلنا علـى آثـارهـم *** لا بد من صبح المجد السـاري

وتعاقب الملوين فـينـا نـاثـر *** بالكر ما نظما من الأعـمـار

 تالله ما صح من يطلبه مرضه، ولا سر من سير وصل حل غرضه ولا استقام غصن يلويه كاسره، ولا طاب عيش الموت آخره، إن الطمع لعذاب، وحديث الأمل كذاب، وفي طريق الهوى عقاب، وآخر المعاصي عقاب، فلا يخدعنك ضياء ضباب، ولا يطمعنك شراب سراب، فمجيء الدنيا على الحقيقة ذهاب، وعمارة الفاني إن فهمت خراب، وفرح الغرور ثبور واكتئاب، ودنو الشيب ينسخ ضياء الشباب وكلما نادى الأمل ‏"‏فأبلغه مأمنه‏"‏ صاح الأجل ‏"‏فضرب الرقاب‏"‏‏.‏

يا تايهاً في ظلمة ظلمه‏.‏

يا موغلاً ف مفازة تيهه، يا باحثاً عن مدية حتفه، يا حافراً زبية هلكه، يا معمقاً مهواة مصرعه، بئس ما اخترت، لأحب الأنفس إليك، ويحك، تطلب الجادة ولست على الطريق، كم فغر الزمان بوعظه فماً، فما سمعت ‏"‏لينذر من كان حياً‏"‏ كيف تطيب الدنيا‏؟‏ لمن لا يأمن الموت ساعة، ولا يتم له سرور يوم إذا كان عمرك في إدبار، والموت في إقبال‏:‏ فما أسرع الملتقى، لقد نصبت لك أشراك الهلاك، والأنفاس أدق الحبائل، يا ماشياً في ظلمة ليل الهوى لو استضئت بمصباح الفكر فما تأمن من بئر بوار، الشهوات مبثوثة في طريق المتقين، وما يسلم من شرها شره الأولياء في حرم التقوى ‏"‏ويُتخطَّف الناسُ من حولهم‏"‏ الدنيا مثل منام والعيش فيها كالأحلام، قيل لنوح عليه السلام يا أطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا‏؟‏ قال‏:‏ كدار ذات بابين، دخلت من باب وخرجت من باب‏.‏

فلما تفرقنا كأني ومـالـكـا *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً

يا ثقيل النوم، أما تنبهك المزعجات‏؟‏ الجنة فوقك تزخرف، والنار تحتك توقد، والقبر إلى جانبك يحفر وربما يكون الكفن قد غزل، أيقظان أنت اليوم أم حالم، يا حاضراً يرى التائبين، وهو في عداد الغائبين‏.‏

واقف في الماء عطشان *** ولكن لـيس يسـقـي

عاتب نفسك على هواها فقد وهاها، قل لها ادرجي درج المدرج وقد لاحت مني، لا يوقفنك في الطريق طاقة من أم غيلان، فالخبط في المنزل مهيؤ لك، تلمح عواقب الهوى يهن عليك الترك، تفكر في حال يوسف لو كان زل من كان يكون‏؟‏ هل كانت إلا لذة لحظة وحسرة الأبد، عبرت والله أجمال الصبر سليمة من مكس وبقيت مديحة ‏"‏إنه من عبادنا المخلصين‏"‏‏.‏

يا هذا، احسب صبر يومك ساعة نومك تحظ في غداة برغدك، البدار إلى الشهوات والندامة فرسا رهان، والتواني عن التوبة والخيبة رضيعا لبان، واعجباً غرتك حبة فخ فحصلت وما حوصلت، اليوم واطرباً للكأس، وغداً واحرباً للإفلاس، آه من حلاوة لقم أورثت مرارة نقم، تأمل العاقبة لا يحصل إلا لنا قد يصير، من تلمح إذا تلا ‏"‏وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ‏"‏ وعرف قدر مدح ‏"‏فأتمهنّ‏"‏ علم أنه لم يبق في فيه شيئاً من مرارة البلى مرارة ‏"‏وإذا ابتلى‏"‏ ضجت الملائكة حين هموا بإلقائه في النار، فقالوا ائذن لنا حتى نطفي عنه، فقال تعالى‏:‏ إن استغاث بكم فأغيثوه وإلا فدعوه‏.‏ فلما ألقي عرض له جبريل، وهو يهوي في الهواء فأراد أن ينظر هل للهوى فيه أثر‏؟‏ فقال‏:‏ ألك حاجة‏؟‏ قال‏:‏ أما إليك فلا، فأقبل بمنشور ‏"‏وإبراهيم الذي وفَّى‏"‏‏.‏

قالت لطيف خيال زارها ومضى *** بالله صفه ولا تنقـص ولا تـزد

فنال خلفته لو مات من ظـمـاء *** وقلت قف عن ورود الماء لم يرد

قالت صدقت الوفا في الحب عادته *** يا برد ذلك الذي قالت على كبدي

الفصل السادس والأربعون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا مجتنباً من الهدى طريقاً واضحاً، افتح عين الفكر تر العلم لائحاً، احذر بئر الغفلة فكم غال سائحاً، وتوق بحر الجهل فكم أغرق سابحاً‏.‏

يا غادياً في غـفـلة ورائحـا *** إلى متى تستحسن القبـائحـا

وكم إلى كم لا تخاف موقفـا *** يستنطق اللهُ به الجـوارحـا

يا عجباً منك وأنت مبـصـر *** كيف تجنبت الطريقَ الواضحا

كيف تكون حين تقرأ في غـد *** صحيفة قد حوت الفضائحـا

وكيف ترضى أن تكون خاسراً *** يوم يفوز من يكون رابـحـا

يا معدوماً في الأمس، فانياً في الغد، عاجزاً في الحال، من أنت حتى تغتر بسلامتك‏؟‏ وتنسى حتفك‏؟‏ وأملك بين يديك وأجلك خلفك، وكتابك قد حوى تفريطك، كم نُهيت عن أمر‏؟‏ فما كفك النهي أن تبسط كفك، يا من قد طال زلله وتعثيره، تفكر في عمر قد مضى كثيره، يا قلباً مشتتاً قل نظيره، كم هذا الهوى‏؟‏ ولكم هوى أسيره‏؟‏ أيها القاعد عن أعالي المعالي، سبق الأبطال والبطال ما يبالي، ستعرف خبرك يوم عتابي وسؤالي، وستقول عند الحساب مالي ومالي، أعمالك إذا تصفحت لهواك لآلي، لو أثر فيك وعظي ومقالي لكنت لحر الحسرات على حر المقالي‏.‏

إلى أي حـين أنـت فـي زي مـحـرم *** وحتى متـى فـي شـقـوة وإلـى كـم

فالا تمت تحـت الـسـيوف مـكـرمـا *** تمت وتقـاسـي الـذل غـير مـكـرم

فثـب واثـقـاً بـالـلـه وثـبة مـاجـد *** يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم

ويحك، إنما يكون الجهاد بين الأمثال، ولذلك منع من قتل النساء والصبيان، فأي قدر للدنيا حتى يحتاج قلبك إلى محاربة لها‏؟‏ أما علمت شهواتها جيف ملقاة، أفيحسن بباشق الملك أن يطير عن كفه إلى ميتة‏؟‏ مهلاً ‏"‏لا تمدنَّ عينيك‏"‏ لو علمت أن لذة قهر الهوى أطيب من نيله لما غلبك، أما ترى الهرة تتلاعب بالفأرة ولا تقتلها ليبين أثر اقتدارها وربما تغافلت عنها، فتمعن الفأرة في الهرب فتثب فتدركها ولا تقتلها إيثاراً للذة القهر على لذة الأكل، من ذبح حنجرة الطمع بخنجر اليأس أعتق القلب من أسر الرق، من ردم خندق الحرص بسكر القناعة ظفر بكيمياء السعادة، من تدرع بدرع الصدق على بدن الصبر هزم عسكر الباطل، من حصد عشب الذنوب بمنجل الورع طالبت له روضة الاستقامة، من قطع فضول الكلام بشفرة الصمت وجد عذوبة الراحة في القلب، من ركب مركب الحذر مرت به رخاء الهدى إلى رجاء النجاة، من أرسى على ساحل الخوف لاحت له بلاد الأمن، إلا عزيمة عمرية، إلا هجرة سلمانية جاءت بمركب عمر، جنوب المجانبة للحق إلى دار الخيزران، فلما فتح له الباب انقلب شمالاً، مد يده لتناول خمر الفتك فاستحالت في الحال خلاً، جاء وكله كدر، فلما دنا من الصفا صفا، كان ماء قلبه لما جنى ملحاً آجناً فلما تلقاه النذير بالعذاب عذب‏.‏

يكون أجاجاً دونكم فإذ انتهى *** إليكم تلقى طيبكم فيطـيب

سقم قلب سلمان من معاناة أمراض المجوس، فخرج إلى أودية الأدوية فالتقطته يد ظالم، وما عرفت، فهان على يوسف البيع ليلقى العزيز فبينا هو في نخلة يحترفها قدم مخبر بقدوم الرسول، فنزل ليصعد وصاح به‏:‏ حدثني‏.‏

نزلوا جبال تهامة فلأجـلـهـم *** يهوى الفؤاد تهامة وجبـالـهـا

يا صاحبيّ قفا عـلـي بـقـدر *** ما أسقي بواكف عبرتي أطلالها

واعجباً، أطلب الشجاعة من حسان، وأسأل عن الهلال ابن أم مكتوم، أتلو سورة يوسف على روبيل، أستملي الفصاحة من باقل، وأنتظر الوفاء من عرقوب، لقد رجعت إذن بخفي حنين، يا من نقده مردود، وعقله محلول، نيتك في الحيرنية لو أنضجتها نيران خوف أو شوق لانتفعت بها‏.‏

ولي قوادم لو أني جذب بـهـا *** لأنهضتني ولكن أفرخي زغب

غمض عينيك على الدواء يعمل، وافتحها لرؤية الهدى تبصر، حجر المعصية تطحطح إناء القلب، وضبة التوبة شعاب، يا من عزمه في الإنابة جزر بلا مد، وقفت سفينة نجاتك، ليل كسلك قد أطبق آفاق التردد، وقد طلبت فيه أطيار الهمة أوكار الدعة، فلو قد طلعت شمس العزيمة في نهار اليقظة لانبث عالم النشط في صحراء المجاهدة‏.‏ يا صبيان التوبة، تزودوا للبادية تأهبوا لحاجر، انعلوا الإبل قبل زرود، ولا تنسوا وقت تناول الزاد جمالكم‏.‏

بين العقيق والـكـثـيب الـفـرد *** علاقة لـي مـن هـوى ووجـد

سل هضبات الرمل من جزع اللوى *** يوم النوى عن قلـقـي ووجـدي

واستخبر الأنجم عن صـبـابـتـي *** بساكنـي نـجـد وأرض نـجـد

فمن مجيري أو ممن أسـتـعـدي *** وليس عند عاذلـي مـا عـنـدي