فصل: الفصل الثاني والخمسون (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل الثاني والخمسون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

العزلة حمية البدن والمناجاة قوت القلب، ومن أنس بمولاه استوحش من سواه‏.‏

يا منتهى وحشتي وأنسي *** كن لي إن لم أكن لنفسي

أوهمني في غد نجاتـي *** حلمك عن سيئات أمسي

خلق القلب طاهراً في الأصل، فلما خالطته شهوات الحسن تكدر، وفي العزلة يرسب الكدر، الحيوان المميز على ثلاثة أقسام‏:‏ فالملائكة خلقت من صفاء لا كدر فيه، والشياطين من كدر لا صفاء فيه، والبشري مركب من الضدين، فالعجب أن تقوى عنده التقوى، تقديس الملائكة يدور على ألسنة لا تشتاق بالطبع إلى الفضول سبح تسبيحهم عقود ما نظمتها كلف التكليف، تمرات زروعهم، نشأت لا عن تعب، سقاها سيح العصمة، فكثر في زكوات تعبدهم قدر الواجب ‏"‏ويستغفرون لمن في الأرض‏"‏‏.‏

كانت أقدم تعبدهم سليمة فاستبطئوا سير زمني الهوى، فقيل‏:‏ ‏"‏إذا رأيتم أهل البلاء، فسلوا الله العافية‏"‏ واعجباً من منحدر في سفن التعبد يستبطئ مصاعداً في الشمال، سمعوا بيوسف الهوى وما رأوه، فأخذوا يلومون زليخا الطبع من حبس عتب ‏"‏تُراوِد فتاها ‏"‏ فلما قالت الدنيا يوم هاروت وماروت ‏"‏اخرُج عليهنّ‏"‏ قطعوا أكف الصبر وصاح في تلك المواقف مواقف ‏"‏أتجعل فيها‏"‏ إن للحرب رجالاً خُلقوا، ألهم أنين المذنبين‏؟‏ أو خلوف الصائمين، أو حرقة المحبين، أما عب بحر الأمانة يوم ‏"‏إنَّا عرضنا الأمانة‏"‏ توقفت الملائكة على الساحل، ونهضت عزيمة الآدمي لسلوك سبيل الخطر، بلى لأقدام المحب أقدام‏.‏

يغلبني شوقي فأطوي السرى *** ولم يزل ذو الشوق مغلوبـا

لا نحتاج أن نناظر الملائكة بالأنبياء، بل نقول‏:‏ هاتوا لنا مثل عمر، كل الصحابة هاجروا سراً وعمر هاجر جهراً، وقال للمشركين قبل خروجه ها أنا‏.‏ على عزم الهجرة فمن أراد أن يلقاني فليلقني في بطن هذا الوادي، فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي، مذ عزم عمر على طلاق الهوى أحد أهله عن زينة الدنيا‏.‏

وعزمة بعثتـهـا هـمة زحـل *** من تحتها بمكان الترب من زحل

لما ولي عمر بن عبد العزيز خيَّر النساء، فقال‏:‏ من شاءت فلتقم ومن شاءت فلتذهب، فإنه قد جاء أمر شغلني عنكن‏.‏

لمهيار‏:‏

أقـسَـم بـالـعـفة‏:‏ لا تـيَّمــهُ *** ظبـيٌ رنـا أو غـصـنٌ تـأوَّدا

وكلما قيل له‏:‏ قـف تـسـتـرحْ *** جزتَ المدى قال‏:‏ وهل نلتُ المدى

للعزائم رجال ليسوا في ثيابنا، وطنوا على الموت فحصلت الحياة‏.‏

إذا ما جررت الرمح لم يثنني أب *** ملـح ولا أم تـصـيح ورائي

وشيعني قلـب إذ مـا أمـرتـه *** أطاع بـعـزم لا يروغ ورائي

يا مختار القدر اعرف قدرك، فإنما خلقت الأكوان كلها لأجلك، يا خزانة الودائع يا وعاء البدائع، يا من غذي بلبان البر وقلب بأيدي الأيادي، يا زرعاً تهمى عليه سحب الألطاف، كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة، وصور وأنت المعنى، وصدف وأنت الدر، ومخضة وأنت الزبد، مكتوب اختيارنا لك، واضح لخلط، غير أن استخراجك ضعيف، متى رمت طلبي فاطلبني عندك‏.‏

ساكن في القلـب يعـمـره *** لسـت أنـسـاه فـاذكـره

غاب عن سمعي وعن بصري *** فسويدا القلـب تـبـصـره

ويحك لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي، إنما أبعدنا إبليس لأجلك لأنه لم يسجد لك، فالعجب منك كيف صالحته وهجرتنا‏؟‏

رعى الله من نهوى وإن كان ما رعى *** حفظنا له الود الـقـديم فـضـيعـا

وواصلت قوماً كنت أنهاك عـنـهـم *** وحقك ما أبقيت للصلح مـوضـعـا

يا جوهرة بمضيعة، يا لقطة تداس، كم في السماوات من ملك يسبح‏؟‏ ما لهم مرتبة ‏"‏تتجافى‏"‏ لا يعرفون طعم طعام، وما لهم مقام ‏"‏ولخلوف‏"‏ أنين المذنبين عندنا، أو في من تسبيحهم، سبحان من اختارك، على الكل وجادل عنك الملائكة قبل وجودك ‏"‏إني أعلم‏"‏ خلق سبعة أبحر واستقرض منك دمعة، له ملك السماوات والأرض واستقرض منك حبة‏.‏

الماء عندك مبـذول لـوارده *** وليس يرويك إلا مدمع الباكي

كانت الأمتعة المثمنة واللآلئ النفيسة تباع بمصر فلا ينظر إليها يوسف فإذا جاءت أجمال صوف من كنعان لم تحل إلا بين يديه ‏"‏لا تسئل عن عبادي غيري‏"‏‏.‏

للخفاجي‏:‏

لاح وعقد الليل مسلـوب *** برق بنار الشرق مشبوب

أسأله عنكـم وفـي طـيه *** سطر من الأحباب مكتوب

لو كان في قلبك محبة، لبان أثرها على جسدك، عجب ربنا من رجل ثار عن وطائه ولحافه إلى صلاته، تلمح معنى ثار، ولم يقل قام، لأن القيام قد يقع بفتور، فأما الثوران فلا يكون إلا بالإسراع حذراً من فائت‏.‏

إذا هزنا الشوق اضطربنا لـهـزه *** على شعب الرحل اضطراد الأراقم

فمن صبوات تسـتـقـيم بـمـائل *** ومن أريحـيات تـهـب بـنـائم

أخواني من ناقره الوجد ناقره النوم، قال سفيان الثوري‏:‏ بت عند الحجاج ابن الفرافصة إحدى عشرة ليلة، فما أكل وما شرب ولا نام‏.‏

اسأل عيني كيف طعم الكـرى *** علالة وهو سـؤال مـحـال

وكيف بالنوم على الهجر لـي *** والنوم من شرط ليالي الوصال

الفصل الثالث والخمسون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا طويل الأمل في قصير الأجل، يا كثير الزلل في يسير العمل، خلا لك الزمان وما سددت الخلل، أفما عندك وجل من هجوم الأجل‏؟‏

تجهز إلى الأجداث ويحك والرمس *** جهازاً من التقوى لا طول ما حبس

فإنك ما تدري إذا كنت مصبـحـاً *** بأحسن ما ترجو لعلك لا تمـسـى

سأتعب نفسـي أو أصـادف راحة *** فإن هوان النفس أكرم للـنـفـس

وازهد في الدنيا فإن مـقـيمـهـا *** كظاعنها ما أشبه اليوم بـالأمـس

يا معاشر الأصحاء اغتنموا نعمتي السلامة والإمهال، واحذروا خديعتي المنى الآمال، قد جربتم على النفس تبذيرها في بضاعة العمر، فانتبهوا لانتهاب الباقي ‏"‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏"‏ الدنيا حلم يقظة، ويوم الحساب تفسير الأضغاث، أيام معدودة وسيفنى العدد وطريق صعبة على قلة العدد، وقد سار الركب ولاح الجدد، أترى تظن أن تبقى إلى الأبد‏؟‏ أما يعتبر بالوالد الولد، أين المتحرك في الهواء همد، أين اضطرام تلك النار‏؟‏ خمد، أين ماء الأعراض الجاري‏؟‏ جمد، تساوى في الممات الثعلب والأسد، وشارك الوهى بين الحديد والمسد، وجمع التلف عنقاء مغرب والصرد، واستقام قياس النقض للكل وأطرد، أفلا ينتبه من رقدته من قد رقد‏؟‏ يا شاربين من منهل أبوى شرب الهيم، يا جاعلين نهار الهدى كالليل البهيم، مقيمين على الدنس وليس فيهم مقيم، سالمين من أمراض البدن وكلهم سليم، أتعمرون ربوع النقم برتوع النعم‏؟‏ وتستبدلون بالقرآن، محرمات النغم، وقد توطنتم ناسين تروح النزوح فلم تذكروا الممات‏.‏ تروح الروح، تالله ليعودن المستوطن في أهله غريباً، والمغتبط بفرحه مغيظاً كئيباً ‏"‏إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً‏"‏‏.‏

أين أرباب البيض والسمر‏؟‏ والمراكب الصفر والحمر، والقباب والقب الضمر، ما زالوا يفعلون فعل الغمر إلى أن تفضي جميع العمر، يا من عمره قد رحل وولى، كأنك بك تندم وتتقلى، والسمع والبصر للموت قد كلا، ويد التناول للتوبة شلا، والعين تجري وابلاً لا طلا، وعصافير الندم قد أنضجها القلا، وأنت تستغيث ‏"‏ربِّ ارجعونِ‏"‏ فيقال ‏"‏كلا‏"‏ ألا كان هذا قبل هذا‏.‏

ألا يا ثقيل النوم، يا بطيء اليقظة، يا عديم الفهم، أما ينبهك الأذان‏؟‏ أما تزعجك الحداة‏؟‏ أترى نخاطب عجماً‏؟‏ أو نكلم صماً، كم نريك عيب الدنيا‏؟‏ ولكن عين الهوى عوراء، كم تكشف للبصر قصر العمر‏؟‏ ولكن حدقة الأمل حولاء‏.‏

ليس في الدنيا سرور *** إنما الدنيا غـرور

ومآتـيم إذا فـكـر *** ت فيها وقـبـور

يا من شاب وما تاب ولا أصلح، يا معرضاً إلى ما يؤذي عن الأصلح، ليت شعري بعد الشباب بماذا تفرح‏؟‏ ما أشنع الخطايا في الصبا وهي في الشيب أقبح، إذ نزل الشيب ولم يزل العيب فبعيد أن يبرح‏.‏

للبحتري‏:‏

وإذا تكامل للفتى من عـمـره *** خمسون وهو إلى التقى لا يجنح

عكفت عليه المخزيات فمـالـه *** متأخر عنها ولا مـتـزحـزح

وإذا رأى الشيطان غرة وجهـه *** حيى وقال فدَيْتُ من لا يفـلـح

أخواني، فتشوا أحمال الأعمال، قبل الرحيل ‏"‏ولتنظُر نفسٌ ما قدَّمتْ لغد‏"‏ يا مطلقي النواظر، في محرم المنظور ‏"‏لتَرَوُنَّ الجحيم‏"‏ لا يغرنكم إمهال العصاة ‏"‏إنَّ إلينا إيابَهم‏"‏ يا من عاهدناه من يوم ‏"‏ألستُ‏"‏ لا تحلن عقد العهد بأنامل الزلل فما يليق بشرف قدرك خيانة‏.‏

بحرمة الود الذي بيننا *** لا تفسد الأول بالآخر

اذكر ملازمة المطالبة بالوفاء في أضيق خناق، يا منكر ويا نكير انزلا إلى الخارج من بساتين الأرواح فانظرا، هل استصحب وردة من اليقين أو شوكة من الشك‏؟‏

قفوا سائلوا بأن العقيق هل الهوى *** على ما عهدنا فيه أم حال حاله

استنكها فمه، الذي قال به ‏"‏بلى‏"‏ يوم ‏"‏ألستُ‏"‏ هل غير طيبه طول رقاد الغفلة‏؟‏ هل انجاس زلله‏؟‏ مما يدخل قليلها تحت العفو، هل معرفته في قليب قلبه يبلغ قلتين، أنا مقيم له على الوفاء في كل حال، فانظر إلى حاله هل حال‏؟‏ لقيس المجنون‏:‏

ألا حبذا نجـد وطـيب تـرابـه *** وأرواحه إن كان نجد على العهد

ألا ليت شعري عن عويرضتي قبا *** بطول الليالي هل تغيرتا بـعـدي

وعن علويات الـرياح إذا جـرت *** بريح الخزامى هل تهب على نجد

المعرفة غرس في القلب والتذكار ماء، ومتى جفت المياه عن الغروس جفت شجرات ‏"‏ألستُ‏"‏ تسقي من مياه ‏"‏هل من سائل‏"‏‏.‏

إذا مرضنا أتيناكم نزوركم *** وتذنبون فنأتيكم فنعتـذر

العقل ما ينسى إنما الحس مغفل، سبب النسيان أمراض من التخليط في مطاعم الهوى عقدت بخاراً في هام الفهم، فإذا عالجها طبيب الرياضة تحللت فذكر ما نسي من عهد ‏"‏ألست‏"‏‏.‏

قيل لذي النون‏:‏ أين أنت من يوم ‏"‏ألست‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ كأنه الآن في أذني‏.‏

للمهيار‏:‏

سل أبرق الحنان واحبس بـه *** أين ليالينا علـى الأبـرقِ‏؟‏

وكيف باناتُ بسقط الـلـوى *** ما لم يُجدها الدمع لم تورقِ‏؟‏

هل حملتْ لا حملتْ بعـدنـا *** عنك الصَّبا عَرْفا لمستنشقِ‏؟‏

يا سائق الأظعان رفقـاً وإن *** لم يُغن قولي للعسوفِ‏:‏ ارفقِ

لولا زفيري خلف أجمالـهـم *** وحر أنفاسي لـم تـنـشـقِ

سميتَ لي نجداً على بعدهـا *** يا وله المشئم بالـمـعـرقِ

الفصل الرابع والخمسون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

أيها القائم على سوق الشهوات، في سوق الشبهات، ناسياً سوق الملمات إلى ساقي الممات، إلى كم مع الخطأ بالخطوات إلى الخطيئات، كم عاينت حياً فارق حيا‏؟‏ وكفا كفت بالكفات‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

ما أقل اعتبارنـا بـالـزمـان *** وأشدَّ اغترارنـا بـالأمـانـي

وقفاتٌ عـلـى غـرورٍ وأقـدا *** مٌ على مَزلقٍ من الـحِـدْثـانِ

في حروبٍ من الردى وكـأنـا *** اليومَ في هدنة مـع الأزمـانِ

وكفانا مُـذكِّـراً بـالـمـنـايا *** عِلْمُنا أنـنـا مـن الـحـيوان

كل يوم رزيةٌ فـي فـــلان *** ووقوعٌ من الـردى بـفـلان

قل لهذي الهواملِ استـوثـقـي *** للسير واستبدلي عن الأغطـان

واستقيمي قد ضمكِ اللقَّم النهـجُ *** وغـنـى وراءكَ الـحـاديان

كم محيدٍ عن الطريق وقد صرّح *** خَلْجُ البُرى وجَذْبُ الـعـنـان

هل مجيرٌ بـذابـلٍ أو حـسـامٍ *** أو معينٌ بسـاعـدٍ أو بـنـان

قد مررنا على الديار خشـوعـا *** ورأينا البِـنـا فـأين الـبـانِ

أين رب السدير والحيرة البيضاء *** أم أين صــاحـــب الإيوان

والسيوف الحدادُ مـن آل بـدرٍ *** والقنا الصُّمُّ من بـنـي الـديانِ

ليس يبقى على الزمان جـريء *** في إباء وعاجـزٌ فـي هـوان

يا عاصياً بالأمس أين الالتذاذ‏؟‏ يا مطالباً بالجرم أين المعاذ‏؟‏ يا متمسكاً بالدنيا حبلها جذاذ، ما راعت من المحبين ولا الشذاذ، بل ساوت في الهلاك بين الفقير وكسرى بن قباذ، تخلص من أسرها قبل أن يعز الإنقاذ، وقبل أن تجري دموع الأسى بين ويل ورذاذ، إذا نبذوك في القبر انتبذوا أي نبذ وأي انتباذ، فتذكر ضمة، ما نجا منها سعد بن معاذ، ألا يلين القلب‏؟‏ أصخر أم فولاذ، تدعي العجز عن الطاعة وفي المعاصي أستاذ، وتؤثر ما يفنى على ما يبقى وأنت ابن بغداد، يا مستلباً عن أهله وماله يا خالياً في القبر بأعماله ليته خلاك ما منه تخليت، ليته ولى عنك أثم ما عنه توليت، وأسفاً من حالة حيلتها ليت‏.‏

وكـل إن يتـيه غـــنـــاه *** فمرتـجـع بـمـوت أو زوال

وهب جدي زوى لي الأرض طياً *** أليس الموت يطوي ما زوى لي

إذا اخضر الربيع ناح الهزار وندب القمري وأنت تعتقده غناء، إنما هو بكاء على انتظار التكدير، لا يغرنك صفو العيش فالرسوب في أسفل الكاس، من يسمع كلام الصامت ولم يسمع عبارة الجامد فليس بفطن‏.‏

قال أحمد ابن أبي الحواري‏:‏ رأيت شاباً قد انحدر عن مقبرة، فقلت من أين‏؟‏ فقال‏:‏ من هذه القافلة النازلة، قلت‏:‏ وإلى أين‏؟‏ قال‏:‏ أتزود لألحقها‏.‏ قلت‏:‏ فأي شيء قالوا لك‏؟‏ وأي شيء قلت لهم‏؟‏ قلت‏:‏ متى ترحلون‏؟‏ فقالوا‏:‏ حتى تقدرون‏.‏

وكم من عبرة أصبحت فيها *** يلين لها الحديد وأنت قاس

إلى كم والمعاد إلى قريب *** تذكر بالمعاد وأنت نـاس

ويحك تلمح عاقبتك بعين عقلك فإنها سليمة من رمد، العقل محتسب إذا وقع بميزان الهوى كسر العلاقة يا صبيان التوبة، قد عرفتم شرور أعطان الهوى فرحلتم طالبين ريف التقى فحثوا مطايا الجد ‏"‏ولا يلتفتْ منكم أحدٌ وامضوا حيث تؤمرون‏"‏ كلما شرف المطلوب طالت طريقه، الهرة تحمل خمسين يوماً، والخنزيرة أربعة أشهر، والخف والحافر سنة، فأما الفيل فسبع سنين، عموم الشجر يحمل في عامه، والصنوبر بعد ثلاثين سنة، شرف النمل يوجب القلة، الشاة تلد واحداً أو اثنين، والخنزيرة تلد عشرين، وأم الصقر مقلات نزور، يا هذا ينبغي أن تكون همتك على قدرك ولك قدر عظيم لو عرفته‏.‏

إنما خلقت الداران لأجلك، أما الدنيا فلتتزود، وأما الأخرى فلتتوطن، أفتراك تعرف مكانة ‏"‏أذكركم‏"‏ أو قيمة ‏"‏يحبهم‏"‏ أو مرتبة‏:‏ وإنا إلى لقائهم أشد شوقاً، تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا، إذا صعدت الملائكة عن مجلس الذكر، قال الحق‏:‏ أين كنتم، فيقولون‏:‏ عند عباد لك يسبحونك ويمجدونك، فيقول‏:‏ ما الذي طلبوا ومما استعاذوا‏:‏

يا من يسائل عني القادمـين إذا *** ما كنت بي هكذا صبا فكيف أنا

يا من كان في رفقة ‏"‏تتجافى‏"‏ فصار اليوم في حزب أهل النوم‏.‏

للشريف الرضي‏:‏

يا ديار الأحباب كيف تغـيرتِ *** ويا عهدُ ما الـذي أبـلاكـا

هل تولى الذين عهدي بهم فيك *** على عهدهـم وأين أولاكـا

الذّميلَ الذميلَ يا ركـبُ إنـي *** لضمينٌ أن لا تخيب سُراكـا

يا هذا لا تجزع من ذنب جرى فرب زلة أورثت تقويماً، ‏"‏لو لم تُذنبوا‏"‏‏.‏

من لم يلق مرارة الفراق *** لم يدر ما حلاوة التلاقي

ما لم يقع سهم في مقتل فالعلاج سهل، انحناء القوس ركوع لا اعوجاج، كانت صحبة آدم للحق أصلية وتعبد إبليس تكلفاً والعرق نزاع ‏"‏كان من الجنِّ‏"‏ وإنما يعالج الرمد لا الأكمة، تأملوا خسة همة إبليس إذ رضي بعد القرب من السدة بالتقاط القمامة ‏"‏إلا من استرق السمع‏"‏ إنه ليهجم على ساحة الصدر فيأخذ في حديث الوسوسة فيصيح به حراس الإيمان من شرفات قصر ‏"‏ويسعني‏"‏ فيرجع بقلب الخناس، فضائل بني آدم خفيت على الملائكة يوم ‏"‏أنبئهم‏"‏ فكيف يعرفها إبليس‏؟‏ صعد إلى السماء منا، إدريس وعيسى، وجال في مجالهم محمد، ونزل منهم هاروت وماروت وتدير عندنا إبليس، لو علم المتدير ما قد خبي له من البلايا‏؟‏ ما سأل الأنظار، كلما غاب صاحب معصية وجلس يقسم في تقواه صدرت عن التائب نشابة ندم، فوقعت في صدر إبليس، أطم ما على إبليس مجلسي، ما من مجلس أعقده إلا ويقلق لما يرى من النفع، واليوم يغشى عليه ويله، ما علم أن الجنة إقطاعنا وإنما أخرجنا عنها مسافرين، كتب ديارنا تصل إلينا، ورسائلنا تصل إليهم ويا قرب اللقا، كان فتح بن شخرف، يقول‏:‏ قد طال شوقي إليك فعجل قدومي عليك‏.‏

للمهيار‏:‏

تُمدُّ بـالآذان والـمـنـاخـرِ *** لحاجر أنى لها بـحـاجـر‏؟‏

أرضٌ بها السائغ من ربيعهـا *** وشوقُها المكنونُ في الضمائرِ

سارت يميناً والغـرامُ شـامةٌ *** ياسِرْ بها يا ابن الحداة ياسِـرِ

الفصل الخامس والخمسون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا من شاب وما تاب، أموقن أنت أم مرتاب‏؟‏ من آمن بالسؤال أعد الجواب‏.‏

فخذ للسير إهبتـه وبـادر *** وجود جمع رحلك للذهاب

فقد جد الرحيل وأنت ممن *** يسير على مقدمة الركاب

أما أنذرك بياض الشمط‏؟‏ أما يبكيك قبح ما منك فرط‏؟‏ إلى متى تجري في الهوى على نمط‏؟‏ إلى متى تضيع وقتاً مثله يلتقط‏؟‏ لقد أحاط بك المنون وها أنت في الوسط، واستل التلف سيفه عليك سريعاً واخترط، يا من يهفو وينسى والملك قد ضبط، يا منفقاً نعم المولى على العصيان هذا الشطط، امح باعترافك قبح اقترافك وقد انكشط، وقم في الدجى والليل قد سجى فرب عفو هبط، قد نصحتك بما أسمعتك وقد أوقعتك على النقط‏.‏

يا مغموراً بالنعم معدوم الشكر، كلما لطفنا بك قابلتنا بالمخالفة، إنه لا عجب من ترك الشكر إنفاق النعم في مخالفة المنعم، هذا عود العنب يكون يابساً طول السنة فإذا جاء الربيع دب فيه الماء فاخضر وخرج الحصرم، فإذا اعتصر الناس منه ما يحتاجون إليه طول السنة قلب في ليلة خلاً، فبانقلابه يوجب للعقل الدهش، من صنع صانعه، وقدرة خالقه فينبغي أن يفرغ العقل للتفكر فيأخذ الجاهل العنب فيجعله خمراً، فيغطي به العقل، الذي ينبغي أن يحسر عن رأسه قناع الغفلة ‏"‏ومن يُضللِ اللهُ فما له مِن هاد‏"‏ ويحك، قد أطعمتك إياه حصرماً وعنباً وزبيباً وخلاً، فدع الخامس لي، فقد سمعت في كلامي ‏"‏فإنَّ للهِ خُمُسَهُ‏"‏‏.‏

أيها الضال في بادية الهوى، احذر من بئر بوار، وليس في كل وقت، تتفق سيارة، ليل الصبا مرخى السدفة، وبخار الأماني يعقد دواخن الكسل، فانهض عن حفش الكسل واستنطق ألسن الحكم من موضوعات المصنوعات يمل عليك كلما في دستوره يا مقتولاً ماله طالب ثأر يريد الموت، مطلق الأعنة في طلبك وما يخفيك حصن، ثوب حياتك منسوج من طاقات أنفاسك، والأنفاس تسلب، ذرات ذاتك وحركات الزمان، قوية في النسج الضعيف، فيا سرعة التمزيق آن الرحيل وما في مزادتك قطرة ماء، ولا في مزود عملك قبضة زاد، وقد أحلت ناقتك على ما تلقى من العشب والجدب عام في العام، ويحك عش ولا تغتر‏.‏ يا رابطاً مناه بخيط الأمل إنه ضيف القتل، صياد التلف قد بث الصقور، وأرسل العقبان ونصب الأشراك، وقطع الجواد فكيف السلامة‏؟‏ تهيأ لصرعة الموت وأشد منها فلت القلب، فليت شعري إلى ماذا يؤول الأمر‏؟‏ للحارثي‏:‏

فوالله ما أدري أيغلبنـي الـهـوى *** إذا جد جد البين أم أنا غـالـبـه

فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى *** فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبـه

آه من تأوه حينئذٍ لا ينفع، ومن عيون صارت كالعيون مما تدمع‏.‏

للمهيار‏:‏

ولما خلا التوديع مما حـذرتـه *** ولم يبق إلا نظرةٌ تُـتُـغـنَّـمُ

بكيتُ على الوادي فحُرمت ماءه *** وكيف يحل الماء أكـثـره دم

نقلة إلى غير مسكن، وسفر من غير تزود، وقدوم إلى بلد ربح بلا بضاعة‏.‏

ولما تيقنا النـوع لـم يدع لـنـا *** مسيل غروب الدمع جفناً ولا خدا

فلا صفوة إلا وقد بدلـت قـذي *** ولا راحة إلا وقد قلـبـت كـدا

فوالله ما أدري وقد كـنـت دارياً *** أغورت الأظعان أم طلبت نجـدا

يا لساعة الموت ما أشدها، تتمنى أن لو لم تكن عندها، وأعظم المحن ما يكون بعدها،

ولم أنس موقفنـا لـلـوداع *** وقد حان ممن أحب الرحيل

ولم يبق لي دمعة في الشؤون *** إلا غدت فوق خدي تسـيل

فقال نصيح من القـوم لـي *** وقد كاد يأتي على الغـلـيل

تأن بدمـعـك لا تـفـنـه *** فبين يديك بـكـاء طـويل

تقسم الصالحون عند الموت، فمنهم من صابر هجير الخوف، حتى قضى نحبه، كعمر كان يقول عند الرحيل‏:‏ الويل لعمر إن لم يغفر له‏.‏ ومنهم من أقلقه عطش الحذر فيبرده بماء الرجاء كبلال‏.‏ كانت زوجته تقول‏:‏ واحرباه، وهو يصيح‏:‏ واطرباه، غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه‏.‏ علم بلال أن الإمام لا ينسى المؤذن، فمزج كرب الموت براحة الرجاء في اللقاء‏.‏

بشرها دليلـهـا وقـالا *** غداً ترين الطلح والجبالا

قال سليمان التيمي لابنه عند الموت‏:‏ اقرأ علي أحاديث الرخص لألقى الله وأنا حسن الظن به‏.‏ إلى متى تتعب الرواحل‏؟‏ لا بد من مناخ‏.‏

رفقاً بها يا أيها الـزاجـر *** قد لاح سلع ودنا حاجـر

فخلها تخلع أرسـانـهـا *** على الربى لأراعها ذاعر

واذكر أحاديث ليالي منـى *** لا عدم المذكور والذاكـر

كان أبو عبيدة الحواص يستغيث في الأسواق وينادي‏:‏ واشوقاه إلى من يراني ولا أراه‏.‏

جاء بها قالصة عـن سـاق *** تحن والحنة للمـشـتـاق

ما أولع الحنين بـالـنـياق *** تذكري رمل النقى واشتاقي

الفصل السادس والخمسون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا من أيام عمره في حياته معدودة، وجسمه بعد مماته مع دودة‏.‏

رأيتك في النقصان مذ أنت في المهد *** تقربك الساعات من ساعة اللـحـد

ستضحك سن بعد عين تعـصـرت *** عليك وإن قالت بكيت من الـوجـد

أتطمح أن يشجى لفـقـدك فـاقـد *** لعل سرور الفاقدين مع الـفـقـد

يا من عمره يقضي بالساعة والساعة، يا كثير التفريط‏.‏ في قليل البضاعة، يا شديد الإسراف يا قوي الإضاعة، كأني بك عن قلي ترمى في جوف قاعة، مسلوباً لباس القدرة وبأس الاستطاعة، وجاء منكر ونكير في أفظع الفظاعة، كأنهما أخوان في الفظاظة من لبان الرضاعة، وأمسيت تجني ثمار هذي الزراعة، وتمنيت لو قدرت على لحظة الطاعة وقلت ‏"‏ربِّ ارجعوني‏"‏ ومالك كلمة مطاعة، يا متخلفاً عن أقرانه قد آن أن تلحق الجماعة‏.‏

يا ساهياً لاهياً عمـا يراد بـه *** آن الرحيل وما قدمت من زاد

ترجو البقاء صحيحاً سالماً أبداً *** هيهات أنت غداً فيمن غدا غاد

مركب الحياة تجري في بحر البدن برخاء الأنفاس، ولا بد من عاصف قاصف تفككه وتغرق الركاب‏.‏

حكم المنية في البرية جـار *** ما هذه الدنيا بـدار قـرار

جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذار والأكدار

فاقضوا مآربكم عجالاً إنمـا *** أعماركم سفر من الأسفـار

يا لقم الآجال يا أشباه الدجال، أما تسمعون صريف أنياب الصروف‏؟‏ كم غافل وأكفانه عند القصار‏؟‏ ولبن قدره قد ضرب، يا سخنة عين قرت بالغرور، يا خراب قلب عمر بالمنى، العمر زاد في بادية، يوخد منه ولا يطرح فيه، يا من عمره يذوب ذوبان الثلج توانيك أبرد، كان بعض من يبيع الثلج ينادي عليه‏:‏ ارحموا من يذوب رأس ماله يا مؤخراً توبته حتى شاب وقت الاختيار، يا ابن السبعين لقد أمهل المتقاضي، البدار البدار فنقاض البدن قد عرقب الأساس‏.‏

ولم يبق من أيام جمع إلى منى *** إلى موقف التجمير غير أماني

بادر التوبة من هفواتك قبل فواتك، فالمنايا بالنفوس فواتك، أعجب خلائقَ الخلائق، محسن في شبابه، فلما لاح الفجر فجر، آه لموسم فاتك، لقد ملأ الأكياس الأكياس، رجلت الرباحة فألحقهم في المنزل‏.‏

وكم وقفت وأصحابي بمنـزلة *** يبيت يقظانها ولهان وهـلانـا

فهاجنا حين حيانا النسيم بـمـا *** سقناه يوم التقى بالجزع أحيانـا

تبكي وتسعدنا كوم المطي فهل *** نحن المشوقون فيها أم مطايانا

فلا ومن فطر الأشياء ما وجدت *** كوجدنا العيس بل رقت لبلوانا

يا هذا عقلك يحثك على التوبة وهواك يمنع والحرب بينهما، فلو جهزت جيش عزم فر العدو، تنوي قيام الليل فتنام، وتحضر المجلس فلا تبكي، ثم تقول ما السبب‏؟‏ ‏"‏قل هو مِن عند أنفسكم‏"‏ عصيت النهار فنمت بالليل، أكلت الحرام فأظلم قلبك، فلما فتح باب الوصول للمقبولين طردت، ويحك فكر القلب في المباحات يحدث له ظلمة، فكيف في تدبير الحرام‏؟‏ إذا غير المسك الماء منع التوضوء فكيف بالنجاسة، متى تفيق من خمار الهوى‏؟‏ متى تنته من رقاد الغفلة‏؟‏ للشريف الرضي‏:‏

يا قلبِ ما أطولَ هذا الغرام *** يوم نوى الحيِّ ويوم المُقام

متى تُفيق اليومَ من لـوعةٍ *** وأنت نشوانُ بغير المُـدام

أين أنت من أقوام كشفت عن أبصار بصائرهم أغطية الجهل‏؟‏ فلاحت لهم الجادة فجدوا في السلوك، كان مسروق يصلي حتى تتورم قدماه، فتقعد امرأته تبكي مما تراه يصنع بنفسه‏.‏

أمسى وأصبح من تذكاركم قلقـاً *** يرثي لها المشفقان الأهل والولد

قد خدد الدمع خدي من تذكركـم *** واعتادني المضنيان الشوق والكمد

وغاب عن مقلتي نومي فنافرهـا *** وخانني المسعدان الصبر والجلـد

لا غرو للدمع أن تجري غواربـه *** وتحته والخافقان القلب والكـبـد

كأنما مهجتي نضو بـبـلـقـعة *** يعتاده الضاريان الـذئب والأسـد

لم يبق إلا خفى الروح من جسدي *** فداؤك الباقيان الروح والجـسـد

يا هذا، أول الطريق سهل ثم يأتي الحزن، في البداءة إنفاق البدن وفي التوسط إنفاق النفس، فإذا نزل ضيف المحبة تناول القلب فأملق المنفق قلق القوم بلا سكون، انزعاجهم بلا ثبات، خلقت جفونهم على جفاء النوم، فلو سمعت ضجيجهم في دياجي الليل‏.‏

من لقلب يألف الفـكـرا *** ولعين لا تـذوق كـرى

ولصب بالغرام قـضـى *** ما قضى من حبكم وطرا

أحصر القوم في سبيل المحبة، فأقعدتهم عن كل مطلوب ‏"‏لا يستطيعون ضرباً في الأرض‏"‏‏.‏

رأيت الحب نيراناً تلظـى *** قلوب العاشقين لها وقـود

فلو كانت إذا احترقت تفانت *** ولكن كلما نضجت تعـود

لاحت نار ليلى ليلاً فنهض المجنون، فخبت فضل فضج‏.‏

ردوا الفؤاد كما عهدت إلى الحشى *** والمقلتين إلى الكرى ثم اهجـروا