فصل: الفصل السابع والخمسون (تابع المواعظ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات ***


الفصل السابع والخمسون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

إخواني، قد كفت الكفات في العبر، ووعظ من عبر من غبر، وقد فهم الفطن الأمر وخبر، وما عند الغافل من هذا خبر‏.‏

يا أيهـا الـنـاس أين أولـكــم *** أما أتاكم للـذاهـبـين خـبـر

اعتبروا فالمـقـدمـون خـلـوا *** وكلهم للـمـؤخـرين عـبـر

تعبر بالمـصـر عـابـراً فـإذا *** سألت عمن تـود قـيل عـبـر

اصبر على العسر في الزمان فكم *** عسر ويسر أتاك ثـمـت مـر

والصبر أولى بكل من صـحـب *** العيش ومن جرب الزمان صبر

يرفع شأن الكـرام فـعـلـهـم *** والفعل إن خالف الجميل حـذر

كادت شخوص في الأرض بالية *** تنطق حقاً إذا المـقـال غـدر

بالأمس كنا مـن الأنـام فـأمـا *** اليوم في تربنا فـنـحـن مـدر

ابك على نفسك قبل أن يبكى عليك، وتفكر في سهم قد صوب إليك، وإذا رأيت جنازة فاحسبها أنت‏.‏ وإذا عاينت قبراً فتوهمه قبرك وعد باقي الحياة ربحاً‏.‏

لمتمم بن نويرة‏:‏

لقد لامني عند القبور على البكا *** رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقال أتبكي كل قـبـرٍ رأيتـه *** لقبر ثوى بين اللوى فالدكـادك

فقلت له إن الشجا يبعث الشجـا *** فدعني فهذا كله قبر مـالـك

غريب، يا راكباً عجز الهوى وفي يده جنيب، يا ماراً على وجهه قل لي متى تنيب‏؟‏ ألا تأخذ قبل الفوت بعض النصيب‏؟‏ ألا تتزود ليوم شره شر عصيب‏؟‏،

 ألا تخرج عن وادي الجدب إلى الربع الخصيب‏؟‏ أحاضر أنت قل لي، ما أكثر ما تغيب، ألا مريض لبيب يقبل رأي الطبيب، إن الرحيل بلا عدة فج،

 فكيف به على بعد الفج‏؟‏ أحرم عن الحرام وقدر أنه حج، واسكب دموع الأسى واحسبه ثج، واستغث من الزلل ومثله العج،

 وبادر، فقد تفوت الوقفة أهل وج، اقبل نصحي فمثل نصحي لا يمج‏.‏ كم فهم وعظي ذو فطنة فهج، يا من يقول إذا شئت تبت‏.‏

 

اليوم عهدكم فأين الموعد  *** هيهـات لـيس لـيوم عـهــدكـم غـد

إن خرجت اليوم ولم تتب، خرجت من أولي الفهم‏.‏

 

لأيّ مرمى تزجر إلا يانـقـاً  *** إن جاوزت نجداً فلست عاشقاً

وقوع الذنب على القلب كوقوع الدهن على الثوب، إن لم تعجل غسله وإلا انبسط ‏"‏ وإنْ منكُمْ لَيُبْطِئَنَّ ‏"‏‏.‏

 

يدي في قائم العضب  *** فما الإبطاء بالضرب

ما دامت نفسك عند التوبيخ تنكسر، وعينك وقت العتاب تدمع، ففي قلبك بعد حياة، إنما المعاصي أوجبت سكتة، فانشق هواك حراق التخويف وقد عطس، يا من قد أبعدته الذنوب عن ديار الأنس، ابك وطر الوطن عساك ترد‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ رأيت شاباً في سفح جبل عليه آثار القلق ودموعه تتحادر، فقلت‏:‏ من أين‏؟‏، فقال‏:‏ آبق من مولاه، قلت‏:‏ فتعود فتعتذر‏؟‏ فقال‏:‏ العذر يحتاج إلى حجة ولا حجة للمفرط، قلت فتتعلق بشفيع‏؟‏ قال‏:‏ كل الشفعاء يخافون منه، قلت‏:‏ من هو‏؟‏ قال‏:‏ مولى رباني صغيراً فعصيته كبيراً، فوا حيائي من حسن صنعه وقبح فعلي، ثم صاح فمات، فخرجت عجوز فقالت‏:‏ من أعان على قتل البائس الحيران‏؟‏ فقلت‏:‏ أقيم عندك أعينك عليه، فقالت‏:‏ خلّه ذليلاً بين يدي قاتله عساه يراه بغير معين فيرحمه‏.‏

 

بالله عليك يا فـتـى الأعـراب *** إن جزت على مواطن الأحباب

فاشرح سقمي وقل لهم عما بي *** ذاك المضني يموت بالأوصاب

أيها التائبون بألسنتهم ولا يدرون ما تحت نطقهم‏؟‏، لا يحكم بإقراركم ‏"‏ حتَّى تعلَموا ما تقولونَ‏"‏، متى صدقت توبة التائب بنى بيت التعبد بصخور العزائم ولم ينته في أساسه دون الماء، ما ضرب بسيف العزيمة قط إلا قط، التوبة الصادقة تقلع آثار الذنوب، إذا قرئ على التائب عهد ‏"‏ألَسْتُ ‏"‏ ذكر الإقرار وعرف الشهود، فخجل من الخيانة فجرت العين وأطرق الرأس، إن التائبين كاتبوا الله بدموعهم وهم ينتظرون الجواب‏.‏

 

يا حادي الأظعان عج متوقفـاً *** وانظر دموع العاشقين تـراق

صبروا على ألم التهاجر والقلى *** وتجرعوا مر الفراق وذاقـوا

يا معاشر التائبين من أقامكم وأقعدنا‏؟‏ ‏"‏ إنْ نحنُ إلاّ بشرٌ مثلُكُمْ ولكنَّ اللهَ يمُنُّ على مَنْ يشاءُ مِنْ عبادِهِ‏"‏ قفوا لأجل زمن ، ارحموا من قد عطب‏.‏

 

ردّوا المطايا وإلاّ ردها نفسـي ***   وأدمعي فهما سـيلٌ ونـيران

يا سائق الظعن قلبي في رحالهم  *** أمانة رعيها والحفـظ إيمـان

يخيّل لي أن الحيطان تبكي معنا، إن النسيم قد رقّ لحزننا‏.‏

 

فلا ومن فطر الأشياء ما وجدت  *** كوجدنا العيس بل رقت لبلوانا

ما أحسن هؤلاء التوّاب، ما أذل وقوفهم على الباب فاعتبروا ‏"‏ يا أُولي الأَلْبابِ ‏"‏‏.‏

 

بما بيننا من حرمة هـل رأيتـمـا ***   أرق من الشكوى وأقسى من الهجر

وأفضح من عين المحـب لـسـرّه  *** ولا سيّما إن أطلقت عبرة تجـري

وجوههم أضوأ من البدر، جباههم أنور من الشمس، نوحهم أفضل من التسبيح، سكوتهم أبلغ من فصيح، لو علمت الأرض قدر خوفهم تزلزلت، لو سمعت الجبال ضجيجهم تقلقلت‏.‏

لابن المعتز‏:‏

اقني فالبـوم نـشـوان ***   والربى صـاد وريّان

وندامى كالنجوم سطـوا  *** بالمنى والدهر جـذلان

خطروا والسكر ينفضهم  *** وذيول الـقـوم أردان

كلما رأيت تقلقلهم، تقلقل قلبي، وإلاّ لمحت اصفرارهم تبلبل لبي، وإذا شاهدت دموعهم زاد كربي، وإذا سمعت حنينهم تبدد ماء عيني‏.‏

*** ما لي وبانات اللوى *** لولا الصبابة والهيام

الفصل الثامن والخمسون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

ما زالت المنون ترمي عن أقواس حتى طاحت الجسوم والأنفس، وتبدلت النعم بكثرة الأبؤس، واستوى في القبور الأذناب والأرؤس، وصار الرئيس كأنه قط لم يرؤس‏.‏

قل للمفرط يسـتـعـد *** ما من ورود الموت بد

قد أخلق الدهر الشباب *** وما مضى لا يستـرد

فإلى مَ يشتغل الفـتـى *** في لهوه والأمر جـد

والعمر يقصر كل يوم *** بي وآمـالـي تـمـد

لقد وعظت الدنيا فأبلغت وقالت، ولقد أخبرت برحيلها قبل أن يقال زالت، وما سقطت جدرانها حتى أنذرت ومالت، قرب الاغتراب في التراب، ودنا سل السيف من القراب، كم غنت رباب برباب، ثم نادت على الباب بتباب يا من زمانه الذي يمضي عليه‏:‏ عليه، يا طويل الأمل وهو يرى الموتى بعينيه، يا من ذنبه أوجب أن لا يلتفت إليه، قد مزجت لك كأس كربة ولا بد والله من تلك الشربة، يا منقولاً بعد الأنس إلى دار غربة، يا طين تربة، وهو يطلب في الدنيا رتبة، هذا مجلس ابن زيد فأين عتبة‏؟‏، أتلهو برند الصبا وبأنه‏؟‏ ويروقك برق الهوى بلمعانه، وتغتر بعيش في عنفوانه، فتمد يد الغفلة إلى جني أغصانه، وتنسى أنك في حريم خطره وامتحانه، أما لقمة أبيك أخرجته من مكانه‏؟‏ أما نودي عليه بالفطر في رمضانه‏؟‏ أما شأنه شانه لولا وكف شانه‏؟‏ أما يستدل على نار العقاب بدخانه‏؟‏ نزل آدم عن مقام المراقبة درجة فنزل فكان يبكي بقية عمره ديار الوفا، برد النفس بالهوى لحظة أثمر حرارة القلق ألف سنة، فاعتبروا، سالت من عينيه عيون، استحالت من الدماء دموع شغلته عن لذات الدنيا هموم‏.‏

للمهيار‏:‏

هل بعد مفترق الأظعان مجتمـعُ *** أم أهل زمانٍ بهم قد فات مرتجعُ

تحملوا تسعُ البـيداءُ ركـبَـهُـمُ *** ويحمل القلب منهم فوق ما يسـعُ

الليلُ بعدهمُ كالهجـر مـتـصـلٌ *** ما شاء والنومُ مثلُ الوصل منقطعُ

اشتاق نعمان لا أرضى بروضتـه *** داراً وإن طاب مصطافٌ ومرتبَعُ

كان آدم كلما عاين الملائكة تنزل تذكر المرتبع في الربع فتأخذ العين أعلى في إعانة الحزين‏.‏

رأى بارقاً من نحو نجـدٍ فـراعـه *** فبات يسح الدمع وجداً على نـجـد

هل الأعصر اللاتي مضين يعدن لي *** كما كن لي أم لا سبيل إلـى الـرد

ما أمر البعد بعد القرب، ما أشد الهجر بعد الوصل، يا مطروداً بعد التقريب أبلغ الشافعين لك البكاء‏.‏

للمتنبئ‏:‏

وكيف التذاذي بالأصائل والضحى *** إذا لم بعد ذاك النسيمَ الذي هبّـا

ذكرت به وصلاً كأن لم أفُزْ بـه *** وعيشاً كأني كنت اقطعه وثبـا

كان لقوم جارية، فأخرجوها إلى النخاس فأقامت أياماً تبكي، ثم بعثت إلى ساداتها تقول‏:‏ بحرمة الصحبة ردّوني فقد ألفتكم‏.‏ يا هذا قف في الدياجي وامدد يد الذلّ، وقل قد كانت لي خدمة، فعرض تفريط أوجب البعد، فبحرمة قديم الوصل ردوني فقد ألفتكم‏.‏

علِّلونا بـوصـالٍ نـافـعٍ *** إننا للبعد كالشيء اللـقـا

أو خذوا أرواحنا خالـصة *** أو ذروا في كل جسمٍ رمقا

وارحموا من تنقضي أيامه *** غمرات والليالـي أرقـا

ويح قلبي ما لقلبي كلـمـا *** خفق البرق اليماني خفقـا

يا هذا لا تبرح من الباب ولو طردت، ولا تزل عن الجناب ولو أبعدت، وقل بلسان التملق إلى من اذهب‏؟‏

يا ربع إن وصلوا وإن صرموا *** فهم الأولى ملكوا الفؤاد هـمُ

شغلوا بحسنهـم نـواظـرنـا *** وعلى القلوب بحبهم ختمـوا

أتبعتهم نظراً فـعـاد جـوى *** ومن الشفاء لذي الهوى سقـم

تمحو دموعي وسم إبـلـهـم *** وزفير أنفاسي لـهـا يسـم

كان الحسن شديد الحزن، طويل البكاء سئل عن حاله، فقال‏:‏ أخاف أن يطرحني في النار ، ولا يبالي‏.‏

يعزُّ عليَّ فراقـي لـكـمُ *** وإن كان سهلاً عليكم يسيرا

 يا من كان له قلب فمات، يا من كان له وقت ففات، استغث في بوادي القلق ردّوا عليَّ لياليَّ التي سلفتن أحضر في السحر فإنه وقت الإذن العام، واستصحب رفيق البكاء فإنه مساعد صبور، وابعث سائل الصعداء فقد أقيم لها من يتناول‏.‏

للمصنف‏:‏

عبرت بريحكم الصبا سـحـراً *** فارتاح قلبي المدنف الحرض

ما لي أراك سـقـيمة بـهـم *** يا ريح عندي لا بك المـرض

أتبعتها نـفـسـاً أشـيّعـهـا *** فإذا جروح القلب تنتـقـض

قف صاحبي إن كنت تسعدنـي *** عند الكثيب فثمَّ لـي غـرض

وانشد فؤادي عنـد كـاظـمة *** في كل ركب راح يعتـرض

أشكو ومني مبـتـدى ألـمـي *** عيني رمت وفؤادي الغـرض

فرضوا على الأجفان إذ هجروا *** لا تلتقي فاصبر لما فرضـوا

كيف اصطباري بعد فرقتـهـم *** يا جيرة ما عنـهـم عـوض

الفصل التاسع والخمسون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

يا من سيب قلبه في مراعي الهوى، وألقى حبله على الغارب، سلم من يطول نشدانه للضلال‏؟‏‏.‏

للمهيار‏:‏

دع ملامي بالحمى أو رح ودعني *** واقفاً أطلب قلباً ضـاع مـنـي

ما سألت الدارَ أبغي رجـعـهـا *** ربَّ مسئول سواها لم يجبـنـي

أنا يا دار أخـو وحـشِ الـفـلا *** فيكِ من خان فعزمي لم يخنـي

ولئن غال مغـانـيك الـبـلـى *** عادة الدهر فشخصُ منك يُغنـي

إن خَبَتْ نارٌ فـهـذي كـبـدي *** أو جفا الغيثُ فهذا لك جفـنـي

أكثر فساد القلب من تخليط العين، مادام باب العين موثقاً بالغض فالقلب سليم من آفة، فإذا فتح الباب طار طائر وربما لم يعد، يا متصرفين في إطلاق الأبصار جاء توقيع العزل ‏"‏ قُلْ للمؤمنينَ يَغُضُّوا من أبصارِهِم ‏"‏ إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور والقلب كعبة ‏"‏ويسعني ‏"‏ وما يرضي المعبود بمزاحمة الأصنام‏.‏

عيناي أعاننا على سفك دمـي *** يا لذة لحظة أطالت ألـمـي

كم أندم حين ليس يغني ندمـي *** ويلي ثبت الهوى وزلت قدمي

يا مطلقاً طرفه لقد عقلك، يا مرسلاً سبع فمه لقد أكلك، يا مشغولاً بالهوى مهلاً قتلك، بادر رمقك فقد رمقك، بالرحمة من عذلك‏.‏

للمهيار‏:‏

عثرتَ يومَ العذيب فاسـتـقـلِ *** ما كلُّ ساعٍ يُحسُّ بـالـزلـل

ما سلمتْ قبلك القلوب عـلـى *** الحسن ولا الراجمونَ بالمقـلِ

سافر طرفي يوم الظعائن بالسَّفْ *** حِ وآبَ الفـؤادُ بـالـخـبـلِ

نظرة غرٍّ جـنـت مـقـارعة *** يفتك فيها الجبان بـالـبـطـل

حصلت منها على جراحتـهـا *** واستأثر الظاعنون بالـنـفـل

إذا لاحت للتائب نظرة لا تحل، فامتدت عين الهوى، فزلزلت أرض التقى ونهض معمار الإيمان ‏"‏ وأَلْقَى في الأرضِ رواسيَ أنْ تميدَ بكُمْ ‏"‏ لاحت نظرة لبعض التائبين، فصاح‏:‏

حلفت بدين الحب لا خنت عهدكم *** وتلك يمين لو علمت غمـوس

إذا خيم سلطان المعرفة بقاع القلب، بث جنده في بقاع البدن، فصارت السباخ رياضاً لرياضة ساكن في القلب يعمره إذا نزل الحبيب ديار القلب لم يبق فيه نزالة‏.‏

وكان فؤادي خالياً قبـل حـبـكـم *** وكان بذكر الخلق يلهـو ويمـرح

فلما دعا قلـبـي هـواك أجـابـه *** فلست أراه عـن فـنـائك يبـرح

رميت ببعد منك إن كنـت كـاذبـاً *** وإن كنت في الدنيا بغـيرك أفـرح

فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل *** فلست أرى قلبي لغيرك يصـلـح

أول منازل القوم، عزفت نفسي عن الدنيا، وأوسطها لو كشف الغطاء، ونهايتها ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه‏.‏

وما تطابقت الأجفان عـن سـنة *** إلا وجدتك بين الجفن والحـدق

وهل ينام حزينٌ موجـعٌ قـلـقٌ *** أجفانه وكلت بالسـهـد والأرق

شغلت نفسي عن الدنيا ولذتـهـا *** فأنت والروح شيء غير مفترق

فلم تعذبها بالـصـد يا أمـلـي *** ارحم بقية ما فيها من الرمـق

أرواح المحبين خرجت بالرياضة من أبدانها العادات، وهي في حواصل طير الشوق ترفرف على أطلال الوجد، وتسرح في رياض الأنس عند المحبين شغل عن الجنة فكيف يلتفتون إلى الدنيا‏؟‏، ما ترى عين المحبين إلا المحبوب، فبي يسمع وبي يبصر‏.‏

أنت عين العين إن نظرت *** ولسان الذكر إن ذكـرا

أنت سمعي إن سمعت به *** أنت سر السر إن خطرا

ما بقي لي فيك جـارحة *** كلها يا قاتـلـي أسـرا

باتت قلوبهم يقلقها الوجد، فأصبحت دموعهم يسترها الجفن، فإذا سمعوا ناطقاً يهتف بذكر الحبيب، أخذ جزر الدمع في المد، من أقلقه الخوف، كيف يسكن‏؟‏ من أنطقه الحب، كيف يسكت‏؟‏، من آلمه البعد، كيف يصبر‏؟‏ سل عنهم الليل فعنده الخبر، أتدري كيف مر عليهم‏؟‏ أبلغك ما جرى لهم‏؟‏ أيعلم سال كيف بات المتيم‏؟‏، افترشوا بساط قيس، وباتوا بليل النابغة، إن ناحوا فأشجى من متيم، وإن ندبوا فأفصح من خنساء، اجتمعت أحزاب الأحزان، على قلب الخائف، فرمت كبداء الخوف الكبد فوصل نصل القلق ففلق حبة القلب فانقلب فصاح الوجد من شاء اقتطع، فلو رأيت فعل النهاية لرحمت المتمزق‏.‏

للمهيار‏:‏

أيها الرامي وما أجرى دماً *** لا تجنب قد أصبتُ الغرضا

اطلبوا للعين فـي أثـنـائه *** نظرةً تكحِلُها أو غُمُـضـا

طال حبس المحبين في الدنيا عن الحبيب، فضجت ألسن الشوق فلو تيقظت في الدجى سمعت أصوات أهل الحبوس‏.‏

للمصنف‏:‏

طال ليلـي ودامـا *** ومنعت المنـامـا

وجد الوجد عنـدي *** منذ بانوا مقـامـا

ليتهم حين راحـوا *** ودعوا مستهـامـا

سار قلبي وجسمي *** لم يسر بل أقامـا

لست أدري فؤادي *** إذ غذوا أين هامـا

حبهم قرت قلبـي *** منذ كنت غلامـا

حملوا ضعف قلبي *** يذبلا وشمـامـا

كم رموني برشـقٍ *** وأحدوا سهـامـا

ما لعيني تبـكـي *** إن سمعت حمانـا

كلما نـاح رشـت *** فظننت الغمـامـا

هل نسيم لكـربـي *** أين ريح الخزامى

هجركم يا حبيبـي *** كان موتاً زؤامـا

أكل اللحم مـنـي *** ثُم أبلى العظامـا

صار ليلي نهـاراً *** ونهاري ظـلامـا

إنما بـتُّ أشـكـو *** لوعتي والغرامـا

فاعذروا أو فلوموا *** ما أبالي الملامـا

إفرجوا عن طريقي *** قد خلعت اللجامـا

ورميت سـلاحـي *** وكشفت اللثـامـا

أسعدوني فـإنـي *** قد فنيت سقـامـا

الفصل الستون ‏[‏تابع المواعظ‏]‏

إخواني، تفكروا في الذين رحلوا، أين نزلوا، وتذكروا أن القوم نوقشوا وسئلوا، واعلموا أنكم كما تعذلون، عذلوا ولقد ردوا بعد الفوات لو قبلوا‏.‏

لأبي العتاهية‏:‏

سألت الدار تخبرنـي *** عن الأحباب ما فعلوا

فقالت لي أناخ القـوم *** أياماً وقـد رحـلـوا

فقلت فأين أطلبهـم‏؟‏ *** وأيّ منازلٍ نـزلـوا

فقالت بالقبـور وقـد *** لقوا والله ما فعلـوا

أناسٌ غـرّهـم أمـلٌ *** فبادرهم بـه الأجـل

فنوا وبقي على الأيام *** ما قالوا وما عملـوا

وأثبت في صحائفهـم *** قبيح الفعل والزلـل

فلا يستعتـبـون ولا *** لهم ملجـأ ولا حـيل

ندامى في قبـورهـم *** وما يغني وقد حصلوا

أين من كانت الألسن تهذي بهم لتهذيبهم، وأصبحت فلك الاختبار تجري بهم لتجريبهم، أقامت قيامتهم منادي الرحيل لتغري بهم لتغرييهم، فباتوا في القبور وحدانا لا أنيس لغريبهم، أين أهل الوداد الصافي في التصافي، أين الفصيح الذي إن شاء أنشأ في القول الصافي، أين قصورهم التي تضمنتها مدايح الشعراء صار ذكر القوى في القوافي، لقد نادى الموت أهل العوالي والقصور العوالي الطوافي، تأهبوا لقدومي فكم غرثان طوى في طوافي، رحل ذو المال وما أوصى في تفريق كدر أو صافي ، ولقي في مره أمراً مراً لا تبلغه أوصافي، ذاقوا طعام الآمال فانتزع من أفواههم يوم المآل، وعاد الخوى في الخوافي، عوى في ديارهم ذئب السقام، بتكذيب العوافي، انقطعت آمالهم، وصار كل المنى في دفع المنافي، تزلزل ود أحبابهم والتوى وبت ألتوي في التوافي، تالله لقد نال الدود والبلى، ما أرادا منهم وألفيا في الفيافي‏.‏

آلت قبورهم إلى الخراب أولا، فلا يدري أهذا قبر المولى أولا، وهم سواءٌ في السوافي، كم أعرضوا عن نصيحٍ وقد رفعوا ما تلافى التلافي، كم ندموا على ضياع زمانهم الذي خلا في خلافي، كم رأيت عاصيهم قد أعرض عني إلى عدوي والتجا في التجافي، أما أخبرتهم بوصف النار إنها ‏"‏ نزَّاعةٌ للشَّوى ‏"‏ في الشوافي، فاعتبر بحالهم فإنه يكف كف الهوى وهو الواعظ الكافي، أين الأبصار الحدائد قبل إحضار الشدائد، أما استلبت القلائد من ترائب الولائد، لا بد من إزعاج هذا الراقد، فيقع الفراق بين فريق الفراقد، يا موثقاً في حبالة الصائد، والله ما كذبك الرائد، يا عمي البصيرة ولا قائد، كم أضرب في حديد بارد‏.‏

أليلى وكلٌّ أصبح ابن ملـوّح *** ولبنى وما فينا سوى ابن ذريح

ذهبت أعماركم في طلاب الشهوة والموت قد دنا، فما هذه السهوة والقلوب غافلة فإلام القسوة‏؟‏ والصلح معرض فختام الجفوة، أين رب المال ابن ذو الثروة‏؟‏، أما فرس الموت ذا الفرس‏؟‏ وأخلى الصهوة‏.‏

طوبى للمتيقظين إنهم لقدوة، علموا عيب الدنيا فما أمسكوا عروة، وأنت في حبها كقيس وعروة، أيحسن بعد الشيب لهو وصبوة، أأبقى نأي الزمان طيب ناي وقهوة‏؟‏ قربت نوق الرحيل، مساء وغدوة، جذبت أيدي المنون كرها وعنوة، يا قليل التدبير ولا عقول النسوة، إلى كم عيب وعتب، أما فيكم نخوة‏؟‏ واعجباً لتاجر يرضى بتعب شهر ليتمتع بربحه سنة، فكيف لا يصبر أيام عمره القليلة ليلتذ بربحها أبداً‏.‏

يا من يروح ويغدو في طلب الأرباح، ويحك اربح نفسك، يا أطفال الهوى طال مكثكم في مكتب التعليم، فهل فيكم من أنجب‏؟‏ أقروا أدلة التوحيد من ألواح أشباحكم، وتلقفوها من أنفاس أرواحكم، قبل أن يستلب الموت من أيدي اللاهين ألواح الصور، ويمحو سطور التركيب بكف البلى وما فهم المكتوب بعد، كم يلبث مصباح الحياة على نكباء النكبات، من رأى بعين فكره معاول النقض، في هذا المنزل ناح على السكان‏.‏

يا هذا مشكاة بدنك في مهاب قواصف الهلاك، وزجاجة نفسك في معرض الانكسار، فاغتنم زمان الصفو فأيام الوصل قصار، كم يلبث قنديل الحياة على عواصف الآفات، أنفاس الحي خطاه إلى اجله، درجات الفضائل كثيرة المراقي وفي الأقدام ضعف وفي الزمان قصر، فمتى تنال الغاية‏؟‏‏.‏

وقف قوم على راهب، فقالوا‏:‏ إنا سائلوك أفمجيبنا أنت‏؟‏ قال‏:‏ سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع، والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه ذو اجتهاد، قالوا‏:‏ فأوصنا، قال‏:‏ تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية‏.‏

إخواني، الأيام صحائف الأعمار فخلدوها أحسن الأعمال، الفرص تمر مر السحاب والتواني من أخلاق الخوالف، من استوطأ مركب العجز عثر به، تزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران‏.‏ كان عمر وعائشة يسردان الصوم، وسرد أبو طلحة أربعين سنة، وصام منصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، وكان عامر بن عبد الله يصلي كل يوم ألف ركعة، وختم أبو بكر بن عياش في زاوية بيته ثماني عشر ألف ختمة، وكان لكهمش في كل شهر تسعون ختمة، وكان عمير بن هاني يسبح كل يوم مائة ألف تسبيحة‏:‏

صافحوا النجم على بعد المنـال *** واستطابوا القيظ من برد الظلال

واستذلوا الوعر من أخطـارهـا *** إنما الأخطار أثمان المعـالـي

كبوا الضـرر إلـيهـا ربـمـا *** صحت الأجسام يوماً بالهـزال

جروا يوماً إلـى غـاياتـهـا *** بالعوالي السمر والقب العوالي

وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر ويصفر، وكان ابن أدهم كأنه سفود من العبادة، وكانت رابعة كأنها شن بال، ومات حسان بن أبي سنان فكان على المغتسل كالخيط، وكان محمد بن النضر لو كشط جميع لحمه لم يبلغ رطلاً‏:‏

جزى الله المسير إليه خيراً *** وإن ترك المطايا كالمزاد

أكبر دليا على الحب نحول الجسم واصفرار اللون‏.‏

للحارثي‏:‏

سلبت عظامي كلها فتركـتـهـا *** مجردة تضحي لديك وتخـضـرّ

وأخليتها من مخهـا فـكـأنـهـا *** أنابيب في أجوافها الريح تصفـر

إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعـت *** مفاصلها من خوف ما تنتـظـر

خذي بيدي ثم ارفعي الثوب تنظري *** ضنى جسدي لكننـي أتـسـتـر

وليس الذي يجري من العين ماؤها *** ولكنها روحٌ تذوب فتـقـطـر‏.‏

قال الجنيد‏:‏ دخلت على سري السقطي فمد جلدة ذراعه وقد يبست على العظم، فما امتدت، فقال‏:‏ والله لو شئت أن أقول هذا من محبته لقلت‏:‏

وهواك ما أبقى هواك *** على فيك ولا تـرك

أيلومني فـيك الـذي *** يزري علي ولم يرك

رفقاً بعبـدك سـيدي *** هذا عبيدك قد هلك‏.‏