فصل: النوع الثاني والعشرون: معرفة خصائص اللغة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المزهر في علوم اللغة ***


النوع العشرون‏:‏ معرفة الألفاظ الإسلامية

قال ابن فارس في فقه اللغة- باب الأسباب الإسلامية‏:‏ كانت العربُ في جاهليّتِها على إرْث من إرْث آبائِهم في لُغاتهم وآدابهم ونَسَائِكهم وقَرَابِينهم، فلما جاء اللّه تعالى بالإسلام حالت أحوالٌ، ونُسِخَتْ دِيانات، وأُبْطِلَت أمورٌ، ونُقِلَت من اللغة ألفاظٌ من مواضعَ إلى مواضع أُخَر، بزيادات زِيدَت، وشرائع شُرعت، وشرائط شُرِطت، فعفَّى الآخرُ الأولَ‏.‏

فكان مما جاء في الإسلام ذكرُ المؤمن، والمسلم، والكافر، والمُنَافق، وإن العربَ إنما عرفتْ المؤمنَ من الأمان والإيمان، وهو التصديقُ، ثم زادتَ الشريعةُ شرائطَ وأوصافاً بها سُمِّي المؤمنُ بالإطلاقِ مؤمناً‏.‏ وكذلك الإسلام والمُسْلم، إنما عَرَفَتْ منه إسلامَ الشيء؛ ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء؛ وكذلك كانت لا تعرف من الكُفْر إلا الغطاء والسَّتْر؛ فأما المنافقُ فاسمٌ جاء به الإسلام لقوم أبْطَنوا غيرَ ما أظهروه، وكان الأصل من نافِقاء اليَرْبوع؛ ولم يعرفوا في الفِسْق إلا قولهم‏:‏ فَسَقَتِ الرُّطَبة، إذا خرجت من قِشْرها، وجاء الشرع بأن الفِسْق الإفحاشُ في الخروج عن طاعة اللّه تعالى‏.‏

ومما جاء في الشرع‏:‏ الصلاة، وأصلُه في لغتهم الدّعاء، وقد كانوا يعرفون الرُّكوع والسجودَ، وإن لم يكن على هذه الهيئة‏؟‏ قال أبو عمرو‏:‏ أَسْجََدَ الرجل‏:‏ طَأٌْطَأ رأسَه وانْحَنى، وأنشد‏:‏

فَقُلْنَ له‏:‏ أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدا

يعني البعير إذا طأَطَأ رأسه لتَرْكَبه‏.‏ وكذلك الصيامُ أصلهُ عندهم الإمساك، ثم زادت الشريعةُ النّيّة، وحظَرت الأكلَ والمباشرة وغيرهما، من شرائع الصوم، وكذلك الحجّ، لم يكن فيه عندهم غير القصد، ثم زادت الشريعةُ ما زادَته من شرائط الحج وشعائره، وكذلك الزكاة لم تكن العربُ تعرفُها إلا من ناحيةِ النَّماءِ، وزاد الشرعُ فيها ما زاده‏.‏

وعلى هذا سائر أبواب الفقه؛ فالوَجْه في هذا إذَا سُئل الإنسانُ عنه أن يقول فيه اسمان‏:‏ لُغَوي وشَرْعي، ويذكر ما كانت العربُ تَعرفُهُ، ثم جاء الإسلام به، وكذلك سائر العلوم كالنَّحْو والعروض والشعر، كلُّ ذلك له اسمان‏:‏ لُغوي وصِناعيّ‏.‏ انتهى كلامُ ابنِ فارس‏.‏

وقال في باب آخر‏:‏ قد كانت حدثتْ في صدر الإسلام أسماء، وذلك قولهم لمن أدرك الإسلام من أهل الجاهلية مُخَضْرم‏.‏ فأخبرَنا أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم حدثنا محمد بن عباس الخُشْكي عن إسماعيل بن عبيد اللّه، قال‏:‏ المُخَضْرَمون من الشعراء مَنْ قال الشِّعْر في الجاهلية، ثم أدرك الإسلام؛ فمنهم حَسَّان ابن ثابت، ولَبِيد بنُ رَبيعة، ونابغة بني جعدة، وأبو زيد، وعَمْرو بن شأس، والزِّبْرقان بن بدر، وعَمْرو بن معدي كرب، وكعبُ بن زهير، ومَعْن بن أوس‏.‏

وتأويل المُخَضْرَم من خَضْرَمْتُ الشيء أي قطعتُهُ، وخَضْرَم فلان عطيته أي قَطَعَها، فسمّي هؤلاء مُخضرمين، كأنهم قُطعوا عن الكفر إلى الإسلام، وممكن أن يكونَ ذلك لأن رُتْبَتَهم في الشِّعْر نقَصَتْ؛ لأن حالَ الشعر تطامَنت في الإسلام، لما أنزلَ اللّه تعالى من الكتاب العربي العزيز؛ وهذا عندنا هو الوَجْه؛ لأنه لو كان من القَطْع لكان كلُّ من قُطِع إلى الإسلام من الجاهلية مُخَضْرَماً، والأمر بخلاف هذا‏.‏

ومن الأسماء التي كانت فزالت بزوال معَانيها قولهم‏:‏ المِرْباع، والنَّشِيطة، والفُضول، ولم يذكر الصَّفِّي، لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد اصْطفى في بعض غَزواته، وخُصّ بذلك، وزال اسم الصفّي لمّا توفي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومما ترك أيضاً‏:‏ الإتاوة، والمَكْس، والحُلْوان، وكذلك قولهُم‏:‏ أنْعم صباحاً، وأنعم ظلاماً، وقولهم للملك‏:‏ أَبَيْتَ اللعن‏.‏

وترك أيضاً قول المملوك لمالكه‏:‏ رَبّي، وقد كانوا يخاطبون ملوكهم بالأرباب، قال الشاعر‏:‏

وأسْلَمن فيها ربَّ كِنْدَة وابنه *** وَرَبَّ مَعَدٍّ بين خَبْت وعَرْعَر

وتُرِك أيضاً تسمية مَن لم يحجّ‏:‏ صَرورَة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا صَرُورة في الإسلام‏.‏ وقيل معناه‏:‏ الذي يَدَعُ النّكاح تَبتُّلاً، أو الذي يحدث حَدثاً، ويلجأ إلى الحرم‏.‏

وترك أيضاً قولهم للإبل تُساق في الصَّداق‏:‏ النَّوافج‏.‏

وممّا كُره في الإسلام من الألفاظ قول القائل‏:‏ خَبُثَت نفسي، للنَّهْي عن ذلك في الحديث، وكُرِه أيضاً أن يقال‏:‏ استَأْثََر اللّه بفلان‏.‏

ومما كانت العرب تستعمله ثم تُرِك قولهم‏:‏ حِجْراً مَحْجُوراً، وكان هذا عندهم لمعنيين‏:‏ أحدهما- عند الحِرْمان، إذا سئل الإنسانُ قال‏:‏ حجْراً مَحْجوراً، فيعلمُ السامعُ أنه يريد أن يحرمه، ومنه قوله‏:‏

حنت إلى النَّخْلَة القُصْوَى فقلتُ لها‏:‏ *** حجْرٌ حرامٌ ألا تِلْكَ الدَّهاريس

والوجه الآخر‏:‏ الاستعاذة، كان الإنسانُ إذا سافر فرأى من يخافُه قال‏:‏ حِجْراً محجوراً، أي حرام عليك التعرّض لي، وعلى هذا فسّر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَرَونَ الملائكةَ لا بُشْرَى يَومَئِذٍ لِلْمُجْرِمين ويقولون حِجْراً مَحْجُوراً‏}‏ يقول المجرمون ذلك كما كانوا يقولونه في الدنيا‏.‏ انتهى ما ذكره ابن فارس‏.‏

وقال ابن برهان في كتابه في الأصول‏:‏ اختلف العلماء في الأسامي؛ هل نُقلت من اللغة إلى الشرع‏؟‏ فذهبت الفقهاء والمعتزلة إلى أن من الأسامي ما نُقِل كالصَّوْم، والصلاة، والزكاة، والحج‏.‏

وقال القاضي أبو بكر‏:‏ الأسماء باقيةٌ على وَضْعها اللُّغوي غير منقولة‏.‏

قال ابن برهان‏:‏ والأولُ هو الصحيح؛ وهو أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نَقَلها من اللغة إلى الشرع، ولا تخرجُ بهذا النقل عن أحد قسمي كلام العرب وهو المجازُ، وكذلك كلُّ ما استَحدثه أهل العلوم والصناعات من الأسامي؛ كأهل العَرُوض، والنحو، والفقه، وتَسْميتهم النقضَ والمنعَ والكَسر والقلْب وغيرَ ذلك‏.‏ والرفع والنصب والخفض، والمديد والطويل‏.‏

قال‏:‏ وصاحبُ الشرْع إذا أتى بهذه الغرائب التي اشتملت الشريعةُ عليها من علوم حار الأوّلون والآخرون في معرفتها مما لم يخطْر ببال العرب، فلا بدَّ من أسامي تدل على تلك المعاني‏.‏ انتهى‏.‏

وممن صَحَّح القول بالنقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأَلكْيا؛ قال الشيخ أبو إسحاق‏:‏ وهذا في غير لفظ الإيمان؛ فإنه مُبْقى على موضوعه في اللغة‏.‏ قال‏:‏ وليس من ضرورة النقل أن يكون في جميع الألفاظ، وإنما يكون على حسب ما يقومُ عليه الدليل‏.‏

وقال التاج السبكي‏:‏ رأيت في كتاب الصلاة للإمام محمد بن نصر عن أبي عبيد‏:‏ أنه استدلَّ على أن الشارعَ نَقَل الإيمان عن معناه اللُّغوي إلى الشرعي بأنه نقلَ الصلاة والحجّ وغيرهما إلى معانٍ أخر‏.‏ قال‏:‏ فما بالُ الإيمان‏؟‏ قال السبكي‏:‏ وهذا يدلُّ على تخصيص محلِّ الخِلاف بالإيمان‏.‏

وقال الإمام فخر الدين وأتباعه‏:‏ وقع النقلُ من الشارع في الأسماء دون الأفعال والحروف؛ فلم يوجد النّقل فيهما بطريق الأصالة بالاسْتقْراء؛ بل بطريقِ التَّبعيَّة؛ فإن الصلاةَ تستلزِمُ صَلّى‏.‏

قال الإمامُ‏:‏ ولم يوجد النقلُ في الأسماء المترادِفة، لأنها على خلاف الأصْل؛ فتقدَّر بقدر الحاجة‏.‏

وقال الصفي الهندي‏:‏ بل وُجد فيها في الفَرْض والواجب والتزويج والإنكاح‏.‏

وقال التاج السبكي في شرح المنهاج‏:‏ الألفاظُ المُسْتَعمَلة من الشارع وقع منها الاسمُ الموضوعُ بإزاء الماهيات الجعلية؛ كالصلاة؛ والمصدرُ في أنتِ طلاق؛ واسمُ الفاعل في أنت طالق، وأنا ضامن؛ واسم المفعول في الطلاق والعتْق والوكالة؛ والصفة المشبهة في أنت حرّ، والفعل الماضي في الإنشاءات؛ وذلك في العقود كلّها، والطلاق؛ والمضارع في لفظ أشهد في الشهادة، وفي اللّعان؛ والأمر في الإيجاب والاستيجاب في العقود نحو بعْني واشْترِ مني‏.‏

وقال ابن دُريد في الجمهرة‏:‏ الجوائز‏:‏ العَطَايا، الواحدة جائزة‏.‏

قال‏:‏ وذكر بعضُ أهل اللغة‏:‏ أنها كلمة إسلامية، وأصلها أن أميراً من أمَراء الجيوش واقَفَ العدوّ، وبينه وبينهم نهر، فقال‏:‏ مَن جاز هذا النهرَ فله كذا وكذا؛ فكان الرجلُ يعبرُ النهر فيأخذُ مالاً، فيُقالُ‏:‏ أخذ فلان جائزة فسمِّيت جوائز بذلك‏.‏

وقال فيها‏:‏ لم يكن المحرَّم معروفاً في الجاهلية، وإنما كان يقال له ولصَفر الصِّفَرَيْن، وكان أول الصَّفَرَين من أشهر الحُرُم؛ فكانت العربُ تارةً تحرِّمُه، وتارةً تُقاتل فيه، وتحرِّم صفر الثاني مكانه‏.‏

قلت‏:‏ وهذه فائدةٌ لطيفة، لم أرها إلا في الجمهرة؛ فكانت العرب تسمي صفر الأول، وصفرَ الثاني، وربيعَ الأول، وربيعَ الثاني، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة؛ فلما جاء الإسلام، وأبطل ما كانوا يفعلونه من النَّسِيء، سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم شهرَ اللّه المحرم، كما في الحديث‏:‏ أفضلُ الصيام بعدَ رمضان شهرُ اللَّه المحرم؛ وبذلك عُرفت النكتة في قوله‏:‏ شهر اللّه‏.‏ ولم يَرد مثلُ ذلك في بقية الأشهر ولا رمضان، وقد كنتُ سُئِلت من مدة عن النّكْتة في ذلك ولم تحضرني فيها شيء، حتى وقفتُ على كلام ابنِ دُرَيد هذا؛ فعَرفتُ به النكتة في ذلك‏.‏

وفي الصحاح قال ابنُ دريد‏:‏ الصَّفَران‏:‏ شهران في السنة، سمي أحدهما في الإسلام المحرَّم‏.‏

وفي كتاب ليس لابن خالويه‏:‏ إن لفظ الجاهلية اسمٌ حدَث في الإسلام للزَّمن الذي كان قبلَ البعثة‏.‏ والمنافِق اسمٌ إسلاميٌّ لم يُعْرف في الجاهلية، وهو مَنْ دَخل في الإسلام بلسانه دون قَلْبه؛ سُمِّي منافقاً مأخوذٌ من نافِقاء اليَرْبوع‏.‏

وفي المجمل‏:‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ لم يُسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق‏.‏

قال‏:‏ وهذا عجيبٌ، وهو كلامٌ عربي، ولم يأت في شعرٍ جاهلي، وفي الصحاح نحوُه‏.‏

وفي كتاب ليس‏:‏ لم يعرف تفسير الضّراح إلا من الحديث قال‏:‏ هو بيت في السماء بإزاء الكعْبة‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ التَّفَث في المناسك‏:‏ ما كان من نحو قَصِّ الأظفار، والشارب، وحَلْق الرأس والْعَانَة، ورَمْي الجِمار، ونَحْر البُدْن، وأشباه ذلك‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ ولم يجئ فيه شعرٌ يحتجُّ به‏.‏

وفي فقه اللغة للثعالبي‏:‏ إذا مات الإنسانُ عن غير قتل قيل‏:‏ مات حَتْفَ أَنْفِه، وأولُ من تكلَّم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه‏:‏ إذا كان الفرسُ لا ينقطع جَرْيه فهو بَحْر، شُبِّه بالبحر الذي لا ينقطعُ ماؤه، وأولُ من تكلَّم بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في وَصْف فَرس رَكِبه‏.‏

وقال ابن دريد في المجتبى‏:‏ باب ما سُمع من النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يُسْمع من غيره قبله‏:‏ أخبرنا عبد الأول بن مريد أحد بني أَنْف النَّاقة من بني سعد في إسناد قال‏:‏ قال عليّ رضي اللّه عنه‏:‏ ما سمعتُ كلمةً عربيةً من العرب إلا وقد سمعتُها من النبي صلى الله عليه وسلم وسمعته يقول‏:‏ مات حَتْفَ أَنْفِه وما سمعتها من عربيّ قبله‏.‏

وقال ابنُ دُريد‏:‏ ومعنى حَتْف أنفه‏:‏ أن رُوحه تخرج من أنْفه، بتتابع نفَسه، لأن الميتَ على فراشه من غير قَتْل يَتَنَفَّس، حتى يَنْقَضِي رَمَقُه، فخصَّ الأَنْفَ بذلك؛ لأنَّه من جهته ينقضي الرَّمَق‏.‏

قال ابنُ دريد‏:‏ ومن الألفاظ التي لم تُسْمع من عربيٍّ قبله قوله‏:‏ لا يَنْتَطح فيها عَنْزَان‏.‏

وقوله‏:‏ الآن حَمي الوَطيس‏.‏ وقوله‏:‏ لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ من جُحْرٍ مرتين‏.‏ وقوله‏:‏ الحربُ خَدْعَة‏.‏ وقوله‏:‏ إيّاكم وخَضْراء الدِّمَن، في ألفاظ كثيرة‏.‏

وفي الصحاح قال أبو عبيد‏:‏ الصِّيرُ، في الحديث أنه شَقُّ الباب، ولم يُسْمع هذا الحرف‏.‏ قال‏:‏ والزَّمَّارة في الحديث أنها الزانية‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ولم أسْمع هذا الحرفَ إلا في الحديث، ولا أدري من أي شيء أُخذ‏.‏

وفيه‏:‏ الجُلْهُمة بالضم الذي في حديث أبي سُفْيان‏:‏ ما كِدْتَ تأَْذَنُ لِي حتَّى تأْذَنَ لحجارة الجُلْهُمَتين‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أراد جانبي الوادي، وقال‏:‏ لم أسمعْ بالجُلْهمة إلا في هذا الحديث، وما جاءت إلا ولها أصل‏.‏

وفي تهذيب الإصلاح للتبريزي‏:‏ يقال‏:‏ اجْعَل هذا الشيء بَأْجَاً واحداً مهموزة، أي طريقاً واحداً‏.‏ ويقال‏:‏ إن أول من تكلّم به عثمان بن عفّان‏.‏

وفي شرح الفصيح لابن خالويه‏:‏ أخبرنا ابنُ دُريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال‏:‏ أول ما سُمع مصدر فاضَ الميت من شريح قال هذا أوانُ فوضه‏.‏

وفي كتاب ليس‏:‏ لم يُسْمع جمعُ الدَّجَّال من أحدٍ إلا من مالك بن أنس فقيهِ المدينة، فإنه قال‏:‏ هؤلاء الدَّجَاجِلة‏.‏

النوع الحادي والعشرون‏:‏ معرفة المولد

وهو ما أحْدثه المولَّدون الذين لا يُحْتجّ بألفاظهم؛ والفرق بينه وبين المصنوع أن المصنوع يُورده صاحبه على أنه عربي فصيح، وهذا بخلافه‏.‏

وفي مختصر العين للزبيدي‏:‏ المولّد من الكلام المحدَث‏.‏

وفي ديوان الأدب للفارابي يقال‏:‏ هذه عربية وهذه مولَّدة‏.‏ ومن أمثلته‏:‏ قال في الجمهرة‏:‏ الحُسْبان الذي ترمى به‏:‏ هذه السهامُ الصّغار مولّد، وقال‏:‏ كان الأصمعي يقول‏:‏ النّحْريرُ ليس من كلام العرب وهي كلمة مولّدة‏.‏ وقال‏:‏ الخُمُّ‏:‏ القَوْصَرَّة يُجْعَلُ فيها التبن لتبيضَ فيها الدَّجاجة، وهي مولّدة‏.‏

وقال‏:‏ أيام العَجُوزِ ليس من كلام العرب في الجاهلية؛ إنما وُلِّد في الإسلام، قال في الصحاح‏:‏ وهي خمسة أيام- أول يوم منها يسمى صِنّاً، وثاني يوم يسمى الصِّنَّبْر، وثالث يوم يسمى وَبْراً، والرابع مُطْفِئ الجَمْر، والخامس مُكْفِئُ الظّعْنِ‏.‏ وقال أبو يحيى بن كُناسة‏:‏ هي في نوء الصّرْفَة‏.‏ وقال أبو الغيث‏:‏ هي سبعةُ أيام؛ وأنشدَ لابن أحمر‏:‏

كُسِع الشّتاءُ بسَبْعَةٍ غُبْرِ *** أيام شَهْلَتِنا من الشَّهْرِ

فإذا انْقَضَتْ أيامُها ومَضَتْ *** صِنٌّ وصِنَّبْرٌ مع الوَبْرِ

وَبآمِرٍ وَأَخيه مُؤْتَمِرٍ *** ومُعَلِّلٍ وبمُطْفئِ الجَمْرِ

ذهبَ الشتاءُ مُولّياً عَجِلاً *** وأتَتْكَ واقدةٌ من الحرِّ

وقال ابنُ دُريد‏:‏ تسميتهم الأنثى من القرود منة مولد‏.‏

وقال التبريزي في تهذيب الإصلاح‏:‏ القاقُزَّة مولّدة، وإنما هي القاقُوزة، والقَازُوزة؛ وهي إناءٌ من آنية الشراب‏.‏ وقال الجوهري في الصحاح‏:‏ القَحْبَة كلمة مولّدة‏.‏ وقال‏:‏ الطَّنْز‏:‏ السخرية؛ طَنَزَ يَطْنِزُ فهو طَنَّاز، وأظنه مُولَّداً أو معرّباً، وقال‏:‏ والبُرْجاس، غَرَضٌ في الهواء يُرْمَى فيه، وأظنه مولداً‏.‏ وجزم بذلك صاحب القاموس‏.‏ وقال في الصحاح‏:‏ الجَعْس‏:‏ الرَّجِيع، وهو مولد‏.‏ وقال‏:‏ زعم ابنُ دُريد أن الأصمعي كان يدفع قول العامَّة‏:‏ هذا مُجانِس لهذا، ويقول‏:‏ إنّه مولَّد، وكذا في ذيل الفصيح للموفّق عبد اللطيف البغدادي‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ قول الناس‏:‏ المُجانسة والتجنيس مولّد، وليس من كلام العرب؛ وردَّه صاحب القاموس بأن الأصمعي واضعُ كتاب الأجناس في اللغة، وهو أول من جاء بهذا اللقب‏.‏ وقال ابن دُريد في الجمهرة‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ المَهْبُوت‏:‏ طائر يُرْسَل على غير هداية، وأحسبها مَولّدة‏.‏ وقال‏:‏ أخُّ كلمةٌ تقال عند التأوّه، وأحسبها مُحْدَثة‏.‏

وفي ذيل الفصيح للموفق البغدادي‏:‏ يقال عند التألم‏:‏ أَحّ بحاء مهملة، وأما أخُّ فكلام العجم، وقال ابن دريد‏:‏ الكابوسُ الذي يقعُ على النائم أحسبه مولداً‏.‏

وقال الجوهري في الصحاح‏:‏ الطَّرَش أهونُ الصمم، يقال هو مولّد، والمَاشُ‏:‏ حبٌّ وهو معرّب أو مولد‏.‏ والعَفْصُ الذي يُتَّخَذ منه الحِبْر مولّد، وليس في كلام أهل البادية‏.‏ قال والعُجّة هذا الطعام الذي يُتّخذ من البيض أظنّه مولداً، وجزم به صاحب القاموس‏.‏

وقال عبد اللطيف البغدادي في ذيل الفصيح‏:‏ الفطْرَة لفظٌ مولد، وكلام العرب صَدَقَةُ الفطْر، مع أن القياس لا يدفعه كالفرقة والنّغْبَة لمقدار ما يُؤخذ من الشيء‏.‏ وقال‏:‏ أجمع أهل اللغة على أن التَّشْويش لا أصل له في العربية وأنه مولّد، وخطَّؤوا الليث فيه‏.‏ قال‏:‏ وقولهم‏:‏ سِتّي بمعنى سيدتي مولّد، ولا يقال سِتّ إلا في العدد‏.‏ وقال‏:‏ فلانٌ قرابتي، لم يسمع إنما سمع قريبي أو ذو قَرَابتي‏.‏ وجزم بأنَّ أطْرُوشُ مولّد‏.‏

وفي شرح الفصيح للمرزوقي‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ إن قولهم كَلْبة صارِف بمعنى مُشْتَهية للنكاح ليس في كلام العرب، وإنما ولّده أهلُ الأمصار؛ قال‏:‏ وليس كما قال؛ فقد حكى هذه اللفظة أبو زيد وابن الأعرابي والناس‏.‏

وفي الروضة للإمام النووي في باب الطلاق‏:‏ أن القَحْبة لفظة مولدة ومعناها البغيّ‏.‏

وفي القاموس‏:‏ القَحْبة‏:‏ الفاجرة‏:‏ وهي السعال، لأنها تَسْعُل وتُنَحْنِحُ، أي تَرْمُزُ به، وهي مولّدة‏.‏ وفي تحرير التنبيه للنووي‏:‏ التفرّج لفظة مولدة لعلها من انفراج الغم وهو انكشافه‏.‏ وفي القاموس‏:‏ كَنْدَجَة البَاني في الحُدْرَان والطِّيقَان مولّدة‏.‏

وفي فقه اللغة للثعالبي‏:‏ يقال للرجل الذي إذا أكل لا يُبقي من الطعام ولا يَذَر‏:‏ قَحْطِي، وهو من كلام الحاضرة دون البادية‏.‏

قال الأزهري‏:‏ أظنُّه يُنْسَب إلى القَحْط لكَثْره أكله، كأنه نجا من القَحْط، وفيه‏:‏ الغَضَارَة مولَّدة لأنها من خَزَف، وقِصَاعُ العرب من خشَب‏.‏

وقال الزجاجي في أماليه‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ يقال هو الفَالُوذ، والسّرِطْرَاطُ، والمُزَعْزَعُ، واللَّوَاصُ، واللَّمْصُ؛ وأما الفالوذج فهو أعجمي، والفالوذق مولّد‏.‏

وقال أبو عبيد في الغريب المصنف‏:‏ الجَبَريّة خلاف القَدَرية، وكذا في الصحاح، وهو كلام مولّد‏.‏

وقال المبرّد في الكامل‏:‏ جمع الحاجة حاجٌ وتقديره فَعَلة وفعل، كما تقول‏:‏ هَامَةٌ وهَام، وساعةٌ وسَاع؛ فأما قولهم في جمع حاجةٍ حَوَائج، فليس من كلام العرب على كثرته على أَلْسِنة المولَّدين، ولا قياسَ له‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ كان الأصمعي يُنْكِرُ جمع حاجة على حوائج، ويقول مولّد‏.‏

وفي شرح المقامات لسلامة الأنباري‏:‏ قيل الطُّفَيْلي لغة مُحدَثَة لا توجد في العتيق من كلام العرب‏.‏ كان رجل بالكوفة يقال له طُفَيل يأْتي الولائم من غير أن يُدْعَى إليها فَنُسِب إليه، وفيه‏:‏ قولهم للغَبيِّ والحَرِيف زَبُون كلمة مولّدة ليست من كلام أهل البادية‏.‏

وفي شرح المقامات للمطرزي‏:‏ الزَّبُون‏:‏ الغبي الذي يُزْبَن ويُغْبَن‏.‏ وفي أمثال المولدين‏:‏ الزَّبُون يفرح بلاَ شيء‏.‏

وقال المطرزي أيضاً في الشرح المذكور‏:‏ المخرقة افتعال الكذب، وهي كلمة مولدة، وكذا في الصحاح‏.‏

وقال المطرزي أيضاً‏:‏ قول الأطباء بُحْرَان مولد‏.‏

وفي شرح الفصيح للبطليوسي‏:‏ قد اشتقوا من بغداد فعلاً، فقالوا‏:‏ تَبَغْدَدَ فلان، قال ابن سيده‏:‏ هو مولّد، وفيه أيضاً‏:‏ القَلَنْسُوَة تقول لها العامة الشاشية وتقول لصانعها الشواشي، وذلك من توليد العامة‏.‏

وقال ابن خالويه في كتاب ليس‏:‏ الحوَامِيم ليس من كلام العرب، إنما هو من كلام الصِّبْيان، تقول‏:‏ تعلَّمْنا الحواميم؛ وإنما يُقَال‏:‏ آلُ حاميمَ، كما قال الكميت‏:‏

وَجَدْنَا لَكُمْ في آل حاميمَ آية

ووافقه في الصحاح‏.‏

وقال الموفق البغدادي في ذيل الفصيح‏:‏ يقال‏:‏ قرأتُ آلَ حاميم وآل طاسين، ولا تقل الحواميم‏.‏

وقال الموفّق أيضاً‏:‏ قول العامة‏:‏ هَمْ فَعلتُ مكان أيضاً، وبَسْ مكان حَسْب، وله بخت مكان حظ كلّه مولّد، ليس من كلام العرب‏.‏

وقال‏:‏ السُّرْم بالسين كلمةٌ مولدة، وقال محمد بن المعلى الأزدي في كتاب المشاكهة‏:‏ في اللغة العامة تقول لحديث يستطال بَسْ، والْبَسُّ‏:‏ الخلط، وعن أبي مالك‏:‏ البس‏:‏ القطع، ولو قالوا لمحدثه بسا كان جيداً بالغاً بمعى المصدر أي بس كلامك بساً أي اقطعه قطعاً، وأنشد‏:‏

يحدِّثنا عبيد ما لَقينا *** فبسك يا عبيد من الكلام

وفي كتاب العين‏:‏ بَسْ بمعنى حَسْب، قال الزبيدي في استدراكه‏:‏ بَسْ بمعنى حَسْب غير عربيّة، وفي الصحاح‏:‏ الفَسْرُ‏:‏ نَظَرُ الطبيب إلى الماء، وكذلك التَّفْسِرَة؛ قال‏:‏ وأظنه مولداً‏.‏

قال‏:‏ والطَّرْمَذَة ليس من كلام أهل البادية، والمُطَرْمِذُ‏:‏ الكذَّاب الذي له كلام، وليس له فِعْل‏.‏

وقال‏:‏ الأطباءُ يسمون التغير الذي يحدثُ للعليل دفعةً في الأمراض الحادّة بُحْراناً؛ يقولون‏:‏ هذا يوم بُحْرانٍ بالإضافة، ويومٌ باحُوريٌّ على غير قياسٍ؛ فكأنه منسوب إلى باحُور وباحُوراء، وهو شدّة الحرِّ في تَمُّوزَ، وجميع ذلك مولد‏.‏

وقال ابن دُريد في الجمهرة‏:‏ شُنْطَف كلمةٌ عامية ليست بعربية مَحْضَة‏.‏ قال‏:‏ وخَمَّنْت الشيء‏:‏ قلتُ فيه الحَدْس، أحسبه مولداً، حكاه عنه في المحكم‏.‏

وفي كتاب المقصور والممدود للأندلسي‏:‏ الكيمياء لفظة مولدة يُراد بها الحِذْق‏.‏ وقال السخاوي في سِفر السعادة‏:‏ الرَّقيع من الرجال الواهن المغفل، وهي كلمة مولّدة؛ كأنهم سموه بذلك لأن الذي يُرْقَع من الثياب الواهي الخَلَق‏.‏

وفي القاموس‏:‏ الكُسُّ للْحَرِ ليس هو من كلامهم، إنما هو مولّد‏.‏

وقال سلامة الأنباري في شرح المقامات‏:‏ الكُسّ والسُّرْم لغتان مولّدتان، وليستا بعربيتين، وإنما يقال فرج ودبر‏.‏

قلت‏:‏ في لفظة الكُس ثلاثة مذاهب لأهل العربية‏:‏ أحدها هذا، والثاني أنه عربي، ورجَّحه أبو حيان في تذكرته، ونقله عن الأسنوي في المهمات، وكذا الصغاني في كتاب خلْق الإنسان، ونقله عنه الزركشي في مهمات المهمات، والثالث أنه فارسي معرّب، وهو رأي الجمهور منهم المطرزي في شرح المقامات، وقد نقلت كلامهم في الكتاب الذي ألَّفْته في مراسم النكاح‏.‏

وفي القاموس‏:‏ الفُشَار الذي تستعمله العامة بمعنى الهذيان ليس من كلام العرب‏.‏

وفي المقصور والممدود للقالي‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ يقال صلاة الظهر، ولم أسمع الصلاة الأولى، إنما هي مولّدة، قال‏:‏ وقيل لأعرابي فصيح‏:‏ الصلاة الأولى‏.‏ فقال‏:‏ ليس عندنا إلا صلاة الهاجرة‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ كُنْهُ الشيء‏:‏ نِهايتُه، ولا يشتقّ منه فعل، وقولهم‏:‏ لا يَكتَنِهه الوصفُ بمعنى لا يبلغ كُنْهَه كلام مولّد‏.‏

فائدة- في أمالي ثعلب‏:‏ سُئِل عن التغيير‏:‏ فقال هو كلُّ شيء مولد، وهذا ضابط حسن يقتضي أن كلَّ لفظ كان عربيَّ الأصل، ثم غيّرته العامة بهَمْزِ أو تَرْكه، أو تسكينٍ، أو تحريك، أو نحو ذلك، مولد؛ وهذا يجتمع منه شيء كثير، وقد مشى على ذلك الفارابي في ديوان الأدب، فإنه قال في الشَّمْع والشمْعة بالسكون‏:‏ إنه مولد، وإن العربيّ بالفتح، وكذا فعَل في كثير من الألفاظ‏.‏

قال ابن قتيبة في أدب الكاتب‏:‏ من الأفعال التي تُهْمَز، والعامة تَدَعَ همزها‏:‏ طَأْطَأْت رأسي، وأبطأت، واستبطأت، وتوضَّأْت للصلاة، وهيّأْت، وتهيّأْت، وهنّأْتك بالمولود، وتقرَّأْت، وتوكّأْت عليك، وتَرأّست على القوم، وهنأَني الطعام ومَرَأنِي، وطَرَأْت على القوم، ووطئته بقدمي، وخَبَأْته، واختبأتُ منه، وأطفأْت السِّراج، ولجأت إليه، وألجأته إلى كذا، ونشأت في بني فلان، وتواطأنا على الأمر، وتَجَشَّأْت، وهَزَأْت، واستهزأت، وقرأت الكتاب، وأقرأْته منك السلام، وفقَأْت عينه، ومَلأْت الإناء، وامتلأت، وتَمَلأَّت شبعاً، وحَنَّأْته بالحِنّاء، واستمرأت الطعام، ورَفأت الثوب، وهَرَأت اللحم، وأَهْرَأته‏:‏ إذا أَنْضجته، وكافأته على ما كان منه، وما هَدَأت البارحة‏.‏

ومما يُهْمَز من الأسماء والأفعال والعامة تُبْدِل الهمز فيه أو تسقطه‏:‏ آكلْت فلاناً إذا أكلت معه، ولا تقل‏:‏ واكلته‏.‏ وكذا آزَيْتُه‏:‏ حاذَيته، وآخَذْته بذنبه، وآمَرْته في أمري، وآخَيْتُه، وآسيتُه، وآزرته أي أعنته، وآتيته على ما يريد، والعامة تجعل الهمز في هذا كله واواً، والمُلاءة، والمرآة، والفُجَاءَة، والبَاءَة‏.‏

وإملاك المرأة، والإهْلِيلج، والأُتْرُجّ، والإوز، والأوقية؛ وأَصْحَت السماء، وأشَلْتُ الشيء‏:‏ رفعته‏.‏ وأَرْمَيْت العِدْل عن البعير‏:‏ أَلقيته، وأعقدت الرُّبّ والعَسل، وأزللت إليه زَلَّة، وأجْبَرْتُه على الأمر، وأَحْبَسْت الفرس في سبيل اللّه، وأغلقت الباب، وأقفلته، وأَغْفيت أي نِمْت، وأَعْتَقْت العبد، وأعْيَيْت في المَشْي، والعامّة تُسْقِط الهمْزَ من هذا كله‏.‏

ومما لا يُهْمَز والعامة تهمزه‏:‏ رجل عَزَب، والكُرة، وخير الناس، وشرّ الناس، وأَعْسَر يَسَر، ورَعَبْت الرجل، ووَتَدْت الوَتد، وشَغَلْته عنك، وما نجَع فيه القول، ورَعدت السماء، وبرَقت، وتَعِسه اللّه، وكبَّه لَوجْهه، وقلبت الشيء، وصرفتُه عما أراد، ووقَفْتُه على ذَنْبه، وغِظْته، ورَفَدْته، وعِبْتُه، وحَدَرت السفينة في الماء‏.‏ هذا كلّه بلا ألف والعامة تزيد فيه ألفاً‏.‏

ومما يشدّد والعامة تخففه‏:‏ الفُلُوّ، والأتْرُجّ، والأتْرُجّة، والإجَّاص، والإجَّانة، والقُبَّرة، والنعيّ، والعارِّية، والقوصرّة، وفي خُلقه زَعَارّة، وفُوّهة النهر، والباريّ، ومَرَاقُّ البطن‏.‏

ومما يخفف والعامة تشدده‏:‏ الرّباعية للسن التي بين التثنية والناب، والكرَاهيَة، والرفاهية، والطَّوَاعِيَة، ورجل يَمانٍ وامرأة يمَانيَة، وشآم وشآميَة، والطماعِيَة، والدّخان، وحُمَة العقرب،، والقَدُوم، وغَلَفْتُ لحيته بالطيب، ولِثَةُ الأسنان، وأرضٌ دويَة ونديَة، ورجل طَوِي البطن، وقَذِي العين، ورَدٍ أي هالك، وصَدٍ أي عَطْشان، وموضع دَفِيء، والسُّمَانى، والقُلاعة، وقصَرْت الصَّلاة، وكنَيْتُ الرجل، وقَشَرت الشيء، وأُرْتِجَ عليه، وبَرَدْت فؤادي بشرْبةٍ من ماءٍ، وبَرَدْتُ عيني بالبَرُود، وطِنِ الكِتاب والحائط‏.‏

ومما جاء ساكناً والعامّة تحرّكه‏:‏ في أسنانه حَفْر، وفي بطنه مَغْس ومَغْص، وشَغْب الجند، وجبل وَعْر، ورجل سَمْح، وحَمْش الساقين، وبلد وَحْش، وحلْقة الباب والقوم، والدَّبر‏.‏

ومما جاء متحرِّكاً والعامة تسكّنه‏:‏ تُحَفة، وتُخَمة، ولُقَطة، ونُخَبَة، وزُهَرة للنجم، وهم في الأمر شَرَع واحد، والصَّبِر للدَّواء، وقَرَبوس السَّرْج، وعجَمُ التَّمر والرّمان للنَّوَى والحبّ‏.‏ والصَّلَعة، والنَّزَعة، والفَرَعة، والقَطَعة موضع القطع من الأقطع، والورَشان للطائر، والوَحَل، والأَقِط، والنَّبِق، والنَّمِر، والكَذِب، والحَلِف، والحبِقُ، والضَّرِط، والطِّيرَة، والخِيرَة، والضِّلَع، والسَّعَف، والسَّحَنة، والذُّبَحة، وذهب دمه هدَراً، واعمل بحَسَبِ ذلك أي بقَدْرِه‏.‏

ومما تبدل فيه العامة حرفاً بحرف‏:‏ يقولون‏:‏ الزُّمُرُّد وهو بالذال المُعْجمة، وفُسْكل للرَّذل وإنما هو فِسْكل، ومِلْح دراني، وإنما هو ذَرآني بفتح الراء وبالذال معجمة‏.‏ ونعَق الغراب، وإنما هو نَغَق بالغين معجمة‏.‏ ودابة شموص، وإنما هو شَمُوس بالسين، والرّصغ، وإنما هو الرُّسْغ بالسين، وسنجة الميزان وهي صَنْجَة بالصاد‏.‏ وسماخ الأُذن وهو صِمَاخ‏.‏ والسندوق وهو الصُّنْدُوق‏.‏

ومما جاء مفتوحاً والعامةُ تكسره‏:‏ الكَتّان، والطَّيْلسان، ونَيْفَق القميص، وأَلْية الكَبْش والرجل، وأَلْيَة اليد، وفقار الظهر، والعِقار، والدّرهم، والجَفْنة، والثدي، والجَدْي، وبَضْعة اللحم، واليَمين واليَسار، والغَيْرة، والرَّصاص، وكسب فلان، وجَفْن العين، وفَصّ الخاتم، والنَّسر، ودمَشْق‏.‏

ومما جاء مكسوراً والعامة تفتحه‏:‏ السِّرْداب، والدِّهْليز، والإنفَحة، والدِّيوان، والدِّيباج، والمِطْرَقة، والمِكْنسة، والمِغْرفة، المِقْدحة، والمِرْوحة، وقتَله شرّ قِتلة، ومفرِق الطريق، ومرفق اليد، والحِبْر‏:‏ العالم، والزِّئبِق، والجنازة، والجِراب، والبطّيخ، وبصل حرِّيف، والمِنْدِيل، والقِنْديل، ومليخ جداً، وسورتا المُعوِّذتين، وفي دعاء القنوت‏:‏ إن عذابك الجد بالكافرين مُلْحِق، ومما جاء مفتوحاً والعامة تضمّه‏:‏ على فلان قَبُول، والمَصُوص، وخَصُوصِيّة، وكلب سَلُوقي، والأَنْمَلة، والسَّعُوط، وتَخُوم الأرض، وشَلَّت يدُه‏.‏

ومما جاء مضموماً والعامة تفتحه‏:‏ على وجهه طُلاوة، وثياب جدُد بضم الدال الأولى، وأما الجُدَد بالفتح فهي الطرائق، وأعطيته الشيء دُفْعة، والنُّقَاوة، والنُّقَاية، وجعلته نُصْب عيني، ونُضْج اللحم‏.‏

ومما جاء مضموماً والعامةُ تكسره‏:‏ الفُلفل، ولُعبة الشِّطْرَنج والنَّرد، وغير ذلك، والفُسطاط، والمُصْران وجمعه مَصَارين، والرُّقَاق بمعنى رقيق، والظُّفر‏.‏

ومما جاء مكسوراً والعامةُ تضمّه‏:‏ الخِوان، وقِمَاص الدَّابة، والسِّواك، والعِلو، والسِّفِل‏.‏

ومما عدّ من الخطأ قولهم‏:‏ ماءٌ مالح، وإنما يقال مِلْح، وقولهم‏:‏ أخوه بِلَبن أمّه، وإنما يقال‏:‏ بلِبَان أمه، واللّبن ما يُشْرَب من ناقةٍ أو شاة أو غيرهما من البهائم‏.‏

وقولهم‏:‏ دابةٌ لا تُرْدَف، وإنما يقال لا تُرَادَف‏.‏

وقولهم‏:‏ نثر دِرْعه، وإنما يقال نثَلَ، أي ألقاها عنه‏.‏ وقولهم‏:‏ هو مطّلع بحِمْله، وإنما يقال‏:‏ مُضْطلع‏.‏ وقولهم‏:‏ ما به من الطّيبَة، وإنما يقال من الطيب‏.‏ وقولهم‏:‏ للنبت المعروف‏:‏ اللِّبلاب وإنما هو الحِلْبِلاَب‏.‏ وقولهم‏:‏ مؤخرة الرّحل والسرج، وإنما يقال آخره‏.‏ وقولهم‏:‏ هذا لا يسوى درهماً، وإنما يقال‏:‏ لا يساوي‏.‏ وقولهم‏:‏ هو منِّي مدّ البصر‏.‏ وإنما يقال‏:‏ مَدَى البصر أي غايته‏.‏ وقولهم‏:‏ شَتَّان ما بينهما، وإنما يقال‏:‏ شَتَّان ما هما‏.‏ وقولُهم‏:‏ هو مُسْتَأْهل لِكَذا، إنما يقال‏:‏ هو أهلٌ لكذا‏.‏ وقولهم‏:‏ لم يكن ذاك في حسابي، إنما يقال‏:‏ في حِسْبَاني أي ظني‏.‏ وقولهم‏:‏ فَبِها ونِعْمَه، إنما يُقال‏:‏ ونِعْمَت‏.‏ وقولهم‏:‏ سألتُه القيلولة في البيع، إنما يقال الإقالة‏.‏

وقولهم‏:‏ رميتُ بالقوس، وإنما يُقال‏:‏ رميتُ عن القوس‏.‏

وقولهم‏:‏ اشتريت زوج نِعال، وإنما يُقال زَوْجي نعال‏.‏ وقولهم‏:‏ مِقرَاض ومِقَص وتوأم، وإنما يُقال‏:‏ مِقْراضان، ومِقَصَّان وتَوْأَمان‏.‏

وقال ابن السكّيت في الإصلاح والتبريزي في تهذيبه‏:‏ يقال‏:‏ غَلَت القدر، ولا يقال غَليت‏.‏ وأنشد لأبي الأسود‏:‏

ولا أقول لِقدْر القوم قد غليت *** ولا أقولُ لبابِ الدَّار مَغْلُوق

أخبر أنه فصيح لا يلحن، وقول العامة‏:‏ غليت لحنٌ قبيح، وكذلك قولهم‏:‏ باب مغلوق، والصواب مُغْلق‏.‏

وقال ابن السكّيت أيضاً‏:‏ تقول‏:‏ لقيته لقَاءً ولُقْيَانَاً ولُقِيَّاً ولُقًى ولِقْيَانة واحدة، ولُقْية ولِقَاءَة واحدة، ولا تقل لَقاةً؛ فإنها مولّدة ليست من كلام العرب‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ يقال افعلي ذاك زيادة ولا تقل زوادة‏.‏ وجسبي من كذا بَسّي‏.‏

قال‏:‏ وقال الأصمعي‏:‏ تقول‏:‏ شتَّان ما هما، وشتان ما عمرٌو وأخوه، ولا تقل‏:‏ شتان ما بينهما‏.‏ قال‏:‏ وقول الشاعر‏:‏

لشتَّان ما بين اليَزيْدَين في النّدى *** يزيدِ سُلَيمٍ والأغرِّ بن حاتم

ليس بحجة، إنما هو مولَّد، والحجة قول الأعشى‏:‏

شتَّانَ ما نومي على كُورِها *** ونوم حَيَّانَ أخي جابِر

قال ابنُ السكّيت‏:‏ ومما تضعُه العامةُ في غير موضعه قولهم‏:‏ خَرجْنا نَتَنَزَّه إذا خرجوا إلى البساتين، وإنما التنزّه التباعُد عن المياه والأرياف؛ ومنه قيل‏:‏ فلان يتنزه عن الأقذار‏.‏

قال‏:‏ وتقول‏:‏ تعلمت العلم قبل أن يُقْطَع سُرّك وسَرَرك، وهو ما يُقْطع من المولود مما يكون متعلقاً بالسُّرَّة، ولا تقل‏:‏ قبل أن تُقْطَع سرتك، إنما السرة التي تبقى‏.‏

قال‏:‏ وتقول‏:‏ كانا مُتَهاجرين فأصبحا يتكالمان، ولا تقل يتكلَّمان‏.‏

وتقول‏:‏ هذه عَصَاي، وزعم الفرّاء أن أول لحْن سُمِع بالعراق‏:‏ هذه عَصَاتي‏.‏ وتقول‏:‏ هذه أتان ولا تَقُلْ‏:‏ أتانة‏.‏ وهذا طائر وأنثاه، ولا تقُلْ‏:‏ وأنثاته‏.‏ وهذه عَجَوز، ولا تَقُلْ‏:‏ عجوزة‏.‏ وتقول‏:‏ الحمد للّه إذ كان كذا وكذا، ولا يُقال‏:‏ الحمد للّه الذي كان كذا وكذا حتى تقول به، أو منه، أو بأمره‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ يقال للمرأة إنسان، ولا يُقَال إنْسانة، والعامة تقوله‏.‏

وفي كتاب ليس لابْنِ خالويه‏:‏ العامّةُ تقول‏:‏ النُّقْل بالضم، للَّذي يُتَنَقّلُ به على الشراب، وإنما هو النَّقْل بالفتح، ويقولون‏:‏ سوسن، وإنما هو سَوْسَن، ويقولون‏:‏ مُشمشة لهذه الثمرة وإنما هي مِشْمشة‏.‏

وقال الموفق البغدادي في ذَيْل الفصيح‏:‏ اللَّحْنُ يتولد في النواحي والأمم بحسب العادات والسيرة، فمّما تَضَعُه العامةُ في غير مَوْضعه قولهم‏:‏ قدور بِرَام، والبرَام هي القدور، واحدها بُرْمة، وقول المتكلمين‏:‏ المحْسوسات، والصواب المحسَّات، من أحسَسْتُ الشيء أدركته، وكذا قولهم‏:‏ ذَاتِيَّ والصفات الذاتيَّة، مخالفة للأوضاع العربية؛ لأن النسبةَ إلى ذات ذوويّ‏.‏ ويقال للسائل‏:‏ شحاذ، ولا يقال شحاث بالثاء، وكُرَة ولا يقال أُكْرة‏.‏ واجترَّ البعير، ولا يجوز بالشين‏.‏ وفي النسبة إلى الشافعي شافعي ولا يجوزُ شفعوي‏.‏ وفي فلان ذَكا، ولا يجوز ذكاوة‏.‏ والخُبَّازَى والخُبَّازُ ولا يُقال‏:‏ الخُبَّيْز‏.‏ وأَرَاني يُرِيني، ولا يجوز أوراني‏.‏ والسَّلْجَم بالسين المهملة ولا يجوز بالمعجمة‏.‏ وشِرْذِمة، وطَبْرَزذ، وذَحْل للحِقْد؛ كلّه بالذال المعجمة، وهَنُ المرأةِ وحَرُها بالتخفيف والعامَّةُ تشدِّدُهما‏.‏

النوع الثاني والعشرون‏:‏ معرفة خصائص اللغة

من ذلك‏:‏ أنها أفضلُ اللغات وأوسعُها؛ قال ابنُ فارس في فقه اللغة‏:‏ لغةُ العرب أفضلُ اللغات وأوسعُها؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيلُ ربِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتكُونَ مِنَ المُنْذِرين بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبِينٍ‏}‏ فوصفه- سبحانه- بأبلغ ما يُوصَف به الكلامُ، وهو البيان، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَق الإنسانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ‏}‏ فقدَّم- سبحانه- ذِكْرَ البيان على جميع ما توحَّد بخَلْقه، وتفرَّد بإنشائه؛ من شمسٍ وقمر، ونجْم وشجر، وغير ذلك من الخلائق المُحْكَمَة، والنشايا المتقنة، فلما خصَّ- سبحانه- اللسانَ العربي بالبيان عُلم أن سائرَ اللغات قاصرةٌ عنه وواقعة دونه‏.‏

فإن قال قائلٌْ‏:‏ فقد يقع البيانُ بغير اللسان العربي؛ لأن كلَّ من أفهمَ بكلامه على شرط لُغته فقد بيَّن‏.‏ قيل له‏:‏ إن كنتَ تريد أنّ المتكلم بغير اللغة العربية قد يُعْرِب عن نفسه حتى يفهَم السامعُ مُراده، فهذا أخسُّ مراتب البيان؛ لأن الأبْكم قد يدلُّ بإشارات وحركات له على أكثر مراده، ثم لا يُسمى متكلماً، فضلاً عن أن يُسمى بَيِّناً أو بليغاً، وإن أردت أنَّ سائرَ اللغات تُبِين إبانَةَ اللغة العربية فهذا غلط؛ لأنا لو احتجنا إلى أن نُعَبِّر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفاتٍ كثيرة، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء والمُسَمَّياتِ بالأسماء المترادفة‏.‏ فأين هذا من ذاك‏؟‏ وأين لسائر اللغات من السّعة ما للغة العرب‏؟‏ هذا ما لا خفاء به على ذي نُهْية‏.‏

وقد قال بعض علمائنا- حين ذكر ما للعرب من الاستعارة والتمثيل، والقَلْب والتقديم والتأخير وغيرها من سنن العرب في القرآن، فقال‏:‏ وكذلك لا يقدرُ أحدٌ من التَّراجم على أن ينقلَه إلى شيء من الألْسِنة، كما نُقِل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية، وترجمت التوراة والزَّبور، وسائر كتب اللّه عزّ وجلّ بالعربية؛ لأنَّ غيرَ العرب لم تتسع في المجاز اتساعَ العرب؛ ألا ترى أنك لو أردتَ أن تنقلَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإما تَخَافَنَّ من قومٍ خيانةً فانبِذْ إليهم على سواءٍ‏}‏‏.‏ لم تستطع أن تأتي لهذه بألفاظ مؤدِّية عن المعنى الذي أودِعَتْه حتى تبسط مجموعها، وتصلَ مقطوعها، وتُظهرَ مَسْتُورها؛ فتقول‏:‏ إن كان بينك وبين قوم هُدْنة وعَهْد، فخِفْت منهم خيانةً ونقضاً فأعْلمهم أنك قد نقضتَ ما شرطته لهم، وآذنْهم بالحرب؛ لتكونَ أنتَ وهم في العلم بالنَّقْض على الاستواء‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضَرَبْنَا على آذانهم في الكَهْف‏}‏‏.‏

وقد تأتي الشعراء بالكلام الذي لو أراد مريد نَقْلَه لاعْتاصَ، وما أمكن إلا بمبسوط من القول وكثير من اللَّفظ؛ ولو أراد أن يُعبِّر عن قول امرئ القيس‏:‏

فدع عنك نَهْباً صِيحَ في حَجَراته

بالعربية فَضْلاً عن غيرِها لطالَ عليه، وكذا قول القائل‏:‏ والظنُّ على الكاذب‏.‏ ونِجَارُها نارها‏:‏ وعَيَّ بالأسْناف‏.‏ وإنشأي يرم لك، وهو باقِعَة‏.‏ وقلبٌ لو رَفع‏.‏ وعلى يدي فاخْضَم‏.‏ وشأنك إلا تركه مُتفاقم‏.‏ وهو كثير بمثله طالت لغةُ العرب دون اللغات، ولو أراد معبِّرٌ بالأعجمية أن يعبر عن الغنيمة والإخْفاق، واليقين، والشك، والظاهر، والباطن، والحق، والباطل، والمُبين، والمُشْكل، والاعتزاز، والاستسلام، لعيَّ به، واللّه تعالى أعلم حيث يجعل الفضل‏.‏

ومما اختصَّت به العربُ بعد الذي تقدم ذكرُه‏:‏ قَلْبُهم الحروفَ عن جهاتها؛ ليكون الثاني أخفَّ من الأول؛ نحو قولهم مِيعاد، ولم يقولوا مِوْعاد، وهما من الوعد، إلا أن اللفظ الثاني أخف، ومن ذلك‏:‏ تركُهم الجمع بين الساكِنَيْن، وقد يجتمعُ في لغة العجم ثلاثة سواكن، ومنه قولهم‏:‏ يا حارِ، ميلاً إلى التخفيف‏.‏

ومنه‏:‏ اختلاسُهم الحركات في مثل‏:‏

فاليوم أشْرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ

ومنه الإدغامُ وتخفيفُ الكلمة بالحذف، نحو‏:‏ لم يَكُ، ولم أُبَلْ‏.‏

ومن ذلك إضمارُهم الأفعال نحو‏:‏ امرأً اتَّقى اللّه، وأمْرَ مُبْكياتك لا أمْر مُضْحكاتك‏.‏

ومما لا يمكنُ نقلهُ البتَّة أوصافُ السيف، والأسد، والرُّمح، وغير ذلك من الأسماء المُترادفة، ومعلوم أن العجمَ لا تعرفُ للأسد أسماء غيرَ واحد، فأما نحن فنخرج له خمسين ومائة اسم‏.‏

وحدثني أحمد بن محمد بن بندار قال‏:‏ سمعتُ أبا عبد اللّه بن خالَويْه الهمذاني يقول‏:‏ جمعت للأسد خمسمائة اسم، وللحيَّة مائتين‏.‏

قلت‏:‏ ونظيرُ ذلك ما في فقه اللغة للثعالبي‏:‏ قد جمع حمزة بن حسن الأصبهاني من أسماء الدواهي ما يزيد على أربعمائة، وذكر أن تكاثر أسماء الدواهي من الدواهي‏.‏

قال‏:‏ ومن العجائب أن أمةً وسَمت معنى واحداً بمئين من الألفاظ‏.‏

ثم قال ابن فارس‏:‏ وأخبرني عليُّ بن أحمد بن الصبّاح قال‏:‏ حدثنا أبو بكر بنُ دُريد قال‏:‏ حدثنا ابن أخي الأصمعي عن عمِّه أن الرشيد سألَه عن شعر لابن حزام العُكْلي، ففسَّره فقال‏:‏ يا أصمعي؛ إن الغريب عندك لغيرُ غريب‏.‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين، ألا أكون كذلك وقد حفِظت للحَجَر سبعين اسماً‏؟‏

قال ابن فارس‏:‏ فأين لسائر الأُمم ما للعرب‏؟‏ ومن ذا يُمكنُه أن يُعبّر عن قولهم‏:‏ ذَات الزُّمَين، وكثرة ذات اليد، ويد الدّهر، وتخَاوَصَت النجوم، ومجَّت الشمسُ ريقَها، ودَرَأ الفيء، ومَفاصل القول، وأتى بالأمر من فصّه، وهو رَحْب العَطَن، وغَمْرُ الرِّداء، ويَخْلق ويَفْرِي، وهو ضيّق المَجَم، قَلِق الوضِين، رابط الجأش، وهو ألْوى، بعيد المُسْتَمَرّ، وهو شَرَّاب بأنقُع، وهو جُذَيلُها المُحَكّك، وعُذَيقُها المرَجَّب، وما أشبه هذا من بارع كلامهم، ومن الإيماء اللطيف، والإشارة الدالة‏.‏

وما في كتاب اللّه تعالى من الخطاب العالي أكثر وأكثر؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكُمْ في القِصاص حياةٌ‏}‏‏.‏ و ‏{‏يحسبون كلَّ صَيحةٍ عليهم‏}‏‏.‏ ‏{‏وأُخْرَى لم تَقْدِرُوا عليها قد أحاطَ اللّهُ بها‏}‏، و ‏{‏إن يتَّبعون إلاَّ الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى من الحقّ شيئاً‏}‏‏.‏ ‏{‏ولا يحيقُ المكرُ السَّيِّئُ إلا أإهله‏}‏‏.‏ وهو أكثر من أن نأتي عليه‏.‏

وللعرب بعد ذلك كَلَِم تلوح في أثناء كلامهم كالمصابيح في الدُّجى؛ كقولهم للجَمُوع للخير قَثوم‏.‏ وهذا أمر قاتِم الأعماق، أسودُ النَّواحي‏.‏ واقْتَحَفَ الشرابَ كلَّه‏.‏ وفي هذا الأمر مصاعب وقُحَم‏.‏ وامرأة حَييَّة قَدِعة‏.‏ وقد تقادعوا تقادُع الفراش في النار‏.‏ وله قدمُ صِدق‏.‏ وذا أمر أنت أدرته ودبَّرته‏.‏ وتقاذَفَتْ بنا النَّوى‏.‏ واشْتَفَّ الشراب‏.‏ ولك قُرْعة هذا الأمر‏:‏ خياره‏.‏ وما دخلت لفلان قَرِيعة بيت‏.‏ وهو يَبْهَرُ القرينة، إذا جاذبته‏.‏ وهم على قَرْو واحد‏:‏ أي طريقة واحدة‏.‏ وهؤلاء قرابين الملك‏.‏ وهو قَشْع‏:‏ إذا لم يثبت على أمرٍ‏.‏ وقَشَبه بقبيح‏:‏ لطخه‏.‏ وصبي قصيع‏:‏ لا يكاد يشبّ‏.‏ وأقبلت مقاصر الظلام‏.‏ وقطَّع الفرس الخيلَ تقطيعاً‏:‏ إذا خلّفها‏.‏ وليلٌ أقْعس‏:‏ لا يكاد يبرح‏.‏ وهو منزول قفز‏.‏

وهذه كلمات من قدحة واحدة؛ فكيف إذا جال الطّرْف في سائر الحروف مجاله؛ ولو تقصَّينا ذلك لجاوزنا الغَرضَ، ولما حوته أجْلاد وأجلاد، هذا ما ذكره ابن فارس في هذا الباب‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ باب ذكر ما اختصّت به العربُ‏:‏ من العلوم الجليلة التي اختصتْ بها؛ الأعرابُ الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يُعْرف الخبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه ما مُيِّزَ فاعلٌ من مفعول، ولا مضافٌ من منعوت، ولا تعجّب من استفهام، ولا صَدْر من مصدر، ولا نعتٌ من تأْكيد‏.‏ وزعم ناسٌ يُتَوَقَّفُ عن قبول أخبارهم أن الفلاسفة قد كان لهم إعرابٌ ومؤلفاتُ نحو، وهو كلامٌ لا يُعَرَّج على مثله، وإنما تشبَّه القوم آنفاً بأهل الإسلام، فأخذوا من كتب علمائنا، وغيَّروا بعضَ ألفاظها، ونسبُوا ذلك إلى قومٍ ذوي أسماء مُنكرة، بتراجم بَشِعة، لا يكاد لسانُ ذي دينٍ ينطق بها، وادَّعَوا مع ذلك أن للقوم شعراً، وقد قرأناه فوجدناه قليل المآثر والحلاوة، غير مستقيم الوَزْن‏.‏ بلى الشعرُ شعرُ العرب، وديوانُهم وحافظُ مآثرهم، ومقيِّد حسابهم‏.‏

ثم للعرب العَرُوض التي هي ميزان الشِّعْرِ، وبها يُعْرَف صحيحُه من سقيمه، ومَن عَرف دقائقه وأسرارَه وخفاياه علم أنه يُرْبي على جميع ما يحتجُّ به هؤلاء الذين ينتحلون معرفة حقائق الأشياء من الأعداد والخُطوط والنُّقَط التي لا أعرف لها فائدة، غيرَ أنها مع قلَّة فائدتها تُرِقّ الدين، وتنتجُ كلَّ ما نعوذُ باللّه منه‏.‏ هذا كلام ابن فارس‏.‏

ثم قال‏:‏ وللعرب حفظُ الأنساب وما يُعْلمُ أحدٌ من الأمم عُنيَ بحفظ النسب عناية العرب، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناسُ إنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ‏}‏‏.‏ فهي آيةٌ ما عمِل بمضمونها غيرُهم‏.‏

فصل- قال ابنُ فارس‏:‏ انفردت العرب بالهَمْزِ في عَرض الكلام مثل قرأَ، ولا يكون في شيء من اللغات إلا ابتداء‏.‏

قال‏:‏ ومما اختصت به لغة العرب الحاءُ والطاء، وزعم قومٌ أن الضادَ مقصورةٌ على العرب دونَ سائرِ الأمم‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ قد انفردت العربُ بالألف واللام التي للتَّعريف كقولنا‏:‏ الرجل والفرس؛ فليستا في شيء من لغات الأمم غير العرب‏.‏ انتهى‏.‏

فصل- وقال ابن فارس في فقه اللغة في موضع آخر‏:‏ باب الخطاب الذي يقعُ به الإفهامُ من القائل، والفهمُ من السامع‏:‏ يقع ذلك من المُتَخاطبين من وجهين‏:‏ أحدهما الإعرابُ، والآخر التَّصْريف‏.‏

فأما الإعراب فَبِه تميَّزُ المعاني، ويُوقَف على أغراض المتكلمين، وذلك أنَّ قائلاً لو قال‏:‏ ما أَحْسن زيد، غيرَ مُعْرِبٍ، لم يُوقف على مراده، فإذا قال‏:‏ ما أحسَنَ زيداً أو ما أحسنُ زيدٍ أو ما أحْسَنَ زَيْدٌ، أبانَ بالإعرابِ عن المعنى الذي أرادَه، وللعرب في ذلك ما ليس لغيرِهم؛ فهم يَفرقُون بالحركات وغيرِها بين المعاني؛ يقولون‏:‏ مِفْتَح للآلةِ التي يُفْتح بها، ومَفْتح لموضع الفتحِ، ومِقَص لآلة القص، ومَقصّ للموضع الذي يكون فيه القص، ومِحْلب للقدَح يُحْلَب فيه، ومَحْلَب للمكان يُحْتَلب فيه ذَواتُ اللبن، ويقولون‏:‏ امرأةٌ طاهرٌ من الحيض؛ لأن الرجل لا يَشْرَكها في الحيض، وطاهرةٌ من العيوب؛ لأن الرجلَ يشْرَكُها في هذه الطهارة، وكذلك قاعدٌ من الحَبَل، وقاعِدةٌ من القعود‏.‏ ويقولون‏:‏ هذا غلاماً أحسنُ منه رجلاً، يريدون الحالَ في شخص واحد‏.‏ ويقولون‏:‏ هذا غلامٌ أحسنُ منه رجلٌ، فهما إذن شخصان، ويقولون‏:‏ كم رجلاً رأيت‏؟‏ في الاسْتخبار‏.‏ وكم رجلٍ رأيت في الخبر يراد به التكثير‏.‏ وهُنَّ حَوَاجُّ بيتِ اللّه، إذا كنَّ قد حَجَجْنَ‏.‏ وحَوَاجّ بيتَ اللّه إذا أردنَ الحجّ‏.‏ ويقولون‏:‏ جاء الشتاء والحطبَ إذا لم يرد أنَّ الحطَب جاء، إنما أريدَ الحاجةُ إليه‏.‏ فإن أريد مجيئُهما قال‏:‏ والحطبُ‏.‏

وأما التصريف فإن مَنْ فاته عِلْمُه فاتَه المُعْظَم؛ لأنا نقول‏:‏ وَجَد، وهي كلمة مُبْهمة، فإذا صرفت أَفْصَحْت؛ فقلت في المال‏:‏ وُجْداً، وفي الضَّالة‏:‏ وِجْداناً، وفي الغضب‏:‏ مَوْجِدَةً، وفي الحُزْن‏:‏ وَجْداً‏.‏ ويقال‏:‏ القاسِط للجائر، والمُقْسطُ للعادل؛ فتحوَّلَ المعنى بالتصريف من الجَوْر إلى العَدْل‏.‏ ويقولون للطريقة في الرَّمْل‏:‏ خِبَّة، وللأرض بين المخْصبَة والمجْدبة خُبَّة، ونقول في الأرض السهلة الخوّارة‏:‏ خارت تخور خَوراً وخُؤوراً، وفي الإنسان إذا ضعُف‏:‏ خَار خَوَراً، وفي الثور‏:‏ خارَ خُوَاراً، وللمرأة الضخمة‏:‏ ضِنَاك، وللزُّكْمَة‏:‏ ضُنَاك‏.‏ ويقولون للإبل التي ذهبتْ ألبانها‏:‏ شَوْل، وهي جمع شائلة، وللتي شالَتْ أَذْنَابُها لِلَّقْح‏:‏ شُوَّل؛ وهي جمع شائل، ولبَقيَّةِ الماء في الحوض‏:‏ شَوْل‏.‏ ويقولون للعاشق‏:‏ عَمِيد، وللبعير المتأكّل السَّنَام‏:‏ عمِد إلى غير ذلك من الكلام الذي لا يُحْصَى‏.‏

فصل- وقال ابنُ فارس في موضع آخر‏:‏ بابُ نظم للعرب لا يقولُه غيرهم‏:‏ يقولون‏:‏ عادَ فلانٌ شيخاً، وهو لم يكن شيخاً قط‏.‏ وعاد الماء آجناً، وهو لم يكن آجناً فيعود‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى عادَ كالعُرْجُون القديم‏}‏‏.‏ فقال‏:‏ عاد ولم يكن عُرْجوناً قبلُ، وقال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَد افْتَرَينا على اللّه كَذِباً إنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُم‏}‏‏.‏ ولم يكن في ملّتهم قط‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏يُرَدُّ إلى أرْذَل العُمر‏}‏ وهو لم يكن في ذلك قطّ‏.‏‏:‏ ‏{‏يُخْرِجونهم من النُّور إلى الظلمات‏}‏‏.‏ وهم لم يكونوا في نورٍ قطُّ‏.‏

فصل- في جملة من سنن العرب التي لا توجد في غير لغتهم‏:‏ قال ابنُ فارس‏:‏ فمن سنن العرب مخالفةُ ظاهر اللفظ معناه؛ كقولهم عند المدح‏:‏ قاتله اللّه ما أشعره فهم يقولون هذا، ولا يُريدون وقوعَه‏.‏ وكذا هَوَت أُمُّه، وهَبِلَتْه، وثكِلَتْه‏.‏ وهذا يكون عند التعجّب من إصابة الرَّجل في رَمْيه، أو في فعل يفعله‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب‏:‏ الاستعارة، وهي أن يَضَعوا الكلمة للشيء مُسْتعارةً من موضع آخر؛ فيقولون‏:‏ انشقَّتْ عَصَاهم، إذا تفرَّقُوا، وكشَفَتْ عن ساقها الحربُ‏.‏ ويقولون للبليد‏:‏ هو حِمَار‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب الحذفُ والاختصار؛ يقولون‏:‏ واللّه أفعلُ ذاك؛ تريدُ لا أفعل‏.‏ وأتانا عند مَغِيب الشمس، أو حين أرادت، أو حين كادت تَغْرُب، قال ذو الرّمة‏:‏

فلما لَبسْن الليل أو حين نصَّبتْ *** له من خَذَا آذانها وهو جانحُ

قال‏:‏ ومن سنن العرب الزيادةُ، إما للأسماء أو الأفعال أو الحروف، نحو ‏{‏ويبقى وجهُ ربّك‏}‏ أي ربّك، ‏{‏ليس كَمِثِله شيء‏}‏‏.‏ ‏{‏وشَهِد شَاهِدٌ من بني إسرائيل على مثله‏}‏‏.‏ أي عليه‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب الزيادةُ في حروف الاسم؛ إما للمبالغة، وإما للتسوئة والتقبيح؛ نحو رَعْشَن للذي يرتعش، وزُرْقُم للشديد الزَّرَق، وشَدْقَم للواسع الشدق، وصِلْدِم للناقة الصُّلبة، والأصل صَلْد‏.‏ ومنه كُبّار، وطُوَّال، وطِرِمَّاح للمفرط الطول، وسِمْعَنَّةٌ نِظْرَنّة، للكثيرة التسَمُّع والتَّنَظُّر‏.‏

ومن سننهم الزيادةُ في حروفِ الفعل مُبالغةً، يقولون‏:‏ حلا الشيء، فإذا انتهى قالوا‏:‏ احْلَوْلَى، ويقولون‏:‏ افْلَوْلَى، واثْنَوْنَى‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب‏:‏ التكريرُ والإعادة؛ إرادةَ الإبلاغ بحسب العناية بالأمر؛ قال الحارث بن عبّاد‏:‏

قَرِّبا مَربط النَّعامةِ منِّي *** لَقَحَتْ حربُ وائلٍ عن حِيال

فكرّر قوله‏:‏ قرّبا مربط النعامة مني في رؤوس أبياتٍ كثيرة؛ عنايةً بالأمر، وإرادةَ الإبلاغ في التنبيه والتحذير‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب إضافةُ الفعل إلى ما ليس فاعلاً في الحقيقة يقولون‏:‏ أراد الحائطُ أن يقعَ‏:‏ إذا مال، وفلان يريد أن يموت‏:‏ إذا كان مُحْتضراً‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب ذِكْرُ الواحد والمراد الجمع؛ كقولهم للجماعة‏:‏ ضَيْف، وعَدُوّ؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏هؤلاءِ ضَيْفِى‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ثم يُخْرجكُم طِفْلاً‏}‏‏.‏

وذكرُ الجمع والمراد واحد أو اثنان؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنْ نَعْف عن طائفة‏}‏‏.‏ والمراد واحد‏.‏ ‏{‏إنَّ الذين يُنادونك من وراء الحُجُرات‏}‏‏.‏ والمنادى واحد، ‏{‏بِمَ يَرْجِع المُرْسلون‏}‏ وهو واحد، بدليل ارجع إليهم، ‏{‏ فقد صَغَتْ قلوبكما‏}‏‏.‏ وهما قلبان‏.‏

وصفة الجمع بصفة الواحد، نحو ‏{‏وإن كنتُم جُنُباً‏}‏‏.‏ ‏{‏والملائكةُ بعد ذلك ظَهِير‏}‏‏.‏

وصفة الواحد أو الاثنين بصفة الجمع؛ نحو بُرْمَةٌ أعشارٌ، وثوبٌ أهْدام، وحَبْلٌ أحْذَاق، قال‏:‏

جاء الشّتاء وقَمِيصِي أخلاقْ

وأرض سَبَاسِبٌ، يسمُّون كلَّ بُقعة منها سَبْسَباً لاتِّساعها‏.‏

قال‏:‏ ومن الجمع الذي يُراد به الاثنان قولهم‏:‏ امرأة ذات أوْراكٍ ومآكِم‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب مخاطبةُ الواحد بلَفْظِ الجمع؛ فيقال للرجل العظيم‏:‏ انظُرُواْ في أمْري، وكان بعضُ أصحابنا يقول‏:‏ إنما يُقال هذا؛ لأن الرجلَ العظيم يقول‏:‏ نحنُ فَعَلْنا؛ فعلى هذا الابتداء خُوطبوا في الجواب‏.‏ ومنه في القرآن‏:‏ ‏{‏قال ربِّ ارْجعون‏}‏‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تذكر جماعة وجماعة، أو جماعة وواحداً، ثم تخبر عنهما بلفظِ الاثنين، كقوله‏:‏

إنَّ المنيَّة والحتوفَ كلاهما *** يُوفِي المخارمَ يَرْقُبان سَوادي

وفي التنزيل‏:‏ ‏{‏إنَّ السَّمَوات والأرضَ كانت رَتْقَاً ففَتَقْنَاهُما‏}‏‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تخاطب الشاهدَ، ثم تحوِّل الخطاب إلى الغائب، أو تخاطب الغائبَ، ثم تحوِّله إلى الشاهد، وهو الالْتِفاتُ، وأن تخاطبَ المخاطب ثم يرجع الخطاب لغيره؛ نحو‏:‏ ‏{‏فإن لم يَسْتَجيبوا لكم‏}‏‏.‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال للكفار‏:‏ ‏{‏فاعْلَمُوا أنما أُنْزِل بعلم اللّه‏}‏‏.‏ يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مُسلمون‏}‏‏.‏

وأن يُبتدأ بشيءٍ ثم يُخبَر عن غيره؛ نحو‏:‏ ‏{‏والّذين يُتَوَفَّوْنَ منكم ويَذَرون أزْواجاً يَتَرَبَّصْن‏}‏‏.‏ فخبَّر عن الأزواج، وترك الذين‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تَنْسُِب الفعل إلى اثنين وهو لأحدهما؛ نحو‏:‏ ‏{‏مَرَجَ الْبَحْرَين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَخْرُجَ منهما اللُّؤْلُؤُ والمَرْجان‏}‏‏.‏ وإنما يخرَجان من المِلْح لا العَذْب‏.‏

وإلى الجماعة وهو لأحدهم؛ نحو‏:‏ ‏{‏إذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادّرَأْتُمْ فيها‏}‏ والقاتل واحد‏.‏

وإلى أحد اثنين وهو لهما؛ نحو‏:‏ ‏{‏واللَّه ورسولُه أحقُّ أن يُرْضُوه‏}‏‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تأمرَ الواحد بلفظ أمرِ الاثنين؛ نحو‏:‏ افعلا ذلك، ويكون المخاطبُ واحداً‏.‏

أنشد الفرَّاء‏:‏

فقلتُ لصاحبي لا تَحْبِسَنَّا *** بنَزْع أُصوله واجْدَزَّ شِيحا

وقال‏:‏

فإن تزجراني يا بن عَفّان أنْزَجِر *** وإن تَدَعاني أحْمِ عِرْضاً ممنَّعا

وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ألقِْيَا في جهنم‏}‏، وهو خطاب لخزنة النار والزَّبانِية‏.‏ قال‏:‏ ونرى أن أصلَ ذلك أن الرُّفقَة أدنى ما تكون ثلاثة نفَر، فجرى كلامُ الواحد على صاحبيْه؛ ألا ترى أن الشعراء أكثرُ الناس قولاً‏:‏ يا صاحبيّ ويا خَلِيليّ‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تأتي بالفعل بلفْظِ الماضي، وهو حاضر أو مستقبل، أو بلفظ المستقبل وهو ماضٍ؛ نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمرُ اللّه‏}‏‏.‏ أي يأتي‏.‏ ‏{‏كنتُم خيرَ أُمَّة‏}‏، أي أنتم، ‏{‏واتَّبعوا ما تَتْلو الشياطينُ‏}‏، أي ما تَلَت‏.‏

وأن تأتي بالمفعول بلفظِ الفاعل؛ نحو‏:‏ سرٌّ كاتم، أي مكتوم‏.‏ وماء دافق، أي مَدفوق‏.‏ وعيشة راضية، أي مرْضيّ بها‏.‏ وحرَماً آمِناً، أي مأموناً فيه‏.‏ وبالفاعل بلفظ المفعول؛ نحو عيش مغبون، أي غابِن؛ ذكره ابن السِّكيت‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب وصفُ الشيء بما يقعُ فيه؛ نحو‏:‏ يوم عاصِف، وليل نائمٌ، وليلٌ ساهر‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب التوهّم والإيهام، وهو أن يتوهّم أحدهم شيئاً، ثم يجعل ذلك كالحقِّ، منه قولهم‏:‏ وقفتُ بالرَّبع أسأله‏.‏ وهو أكملُ عقلاً من أن يسأل رَسْماً، يعلمُ أنه لا يسمعُ ولا يَعْقِلُ، لكنه تفجَّع لما رأى السَّكْن رَحلوا، وتوهَّم أنه يسأل الرَّبع أين انْتَأوْا، وذلك كثيرٌ في أشعارهم‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب الفرقُ بين ضدّين بحرف أو حركة؛ كقولهم‏:‏ يَدْوَى من الداء، ويُدَاوي من الدواء، ويُخْفِر إذا نَقض، من أخفر، ويخفِر إذا أجار، مِنْ خَفَر، ولُعَنَة إذا أكثر اللَّعن، ولُعْنَة إذا كان يَُلْعَن؛ وهُزَأَة وهُزْأة، وسُخَرة وسُخْرة‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب البسطُ بالزيادة في عدد حروف الاسمِ والفعل، ولعل أكثر ذلك لإقامة وزْن الشعر، وتَسْوية قوافيه؛ كقوله‏:‏

وليلةٍ خامِدةٍ خُمُودا *** طخْياءِ تُعْشِي الجَدْي والفُرْقودا

إذا عميرهم أن يرقودا

فزاد في الفَرْقد الواو، وضمَّ الفاء؛ لأنه ليس في كلامهم، فَعْلول؛ وكذلك زاد الواو في قوله‏:‏

لو أنَّ عمراً همّ أن يَرْقُودا

أي يَرْقد‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب القَبْضُ، محاذاةً للبسْطِ، وهو النُّقْصانُ من عدد الحروف؛ كقوله‏:‏

غَرْثَى الوِشاحَيْن صَموتُ الخَلْخَل

أي الخَلْخال‏.‏

ويقولون‏:‏ دَرَس المَنا، يريدون المنازل، ونار الحُباحب‏.‏

ومنه بابُ الترْخيم في النداء وغيره، ومنه قولهم‏:‏ لاه ابن عمِّك؛ أي للّه ابنُ عمك‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب الإضمارُ، إما للأسماء، نحو ألا يا اسْلَمى، أي يا هذه، أو للأفعال نحو‏:‏ أثعلباً وتفرّ‏:‏ أي أترى ثعلباً، ومنه إضمار القول كثيراً، أو للحروف نحو‏:‏

ألا أيّهذا الزَّاجري أشهدَ الوَغى

أي أن أشْهد‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب التعويضُ، وهو إقامةُ الكلمة مقامَ الكلمة، كإقامة المصدر مقامَ الأمر، نحو ‏{‏فَضَرْبَ الرِّقاب‏}‏ والفاعل مقامَ المصدر، نحو ‏{‏ليس لوَقْعتها كاذبة‏}‏؛ أي تكذيب‏.‏ والمفعول مقامَ المصدر نحو ‏{‏بِأيّيِكُمُ المَفْتُون‏}‏؛ أي الفتنة‏.‏ والمفعول مقام الفاعل، نحو‏:‏ ‏{‏حجاباً مَسْتوراً‏}‏‏.‏ أي ساتراً‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب تقديمُ الكلام وهو في المعنى مؤخّر، وتأخيرهُ وهو في المعنى مقدّم، كقوله‏:‏

ما بالُ عينيك منها الماءُ يَنْسَكِب

أراد ما بالُ عينك ينسكبُ منها الماء؛ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا كلمةٌ سَبقَتْ من رَبّك لكان لِزاماً وأجَلٌ مسمّى‏}‏، فأجل معطوفة على كلمة، والتأويل‏:‏ ولولا كلمةٌ سبقت من ربِّك، وأجل مسمّى لكان العذابُ لازِماً لهم‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العربِ أن يَعْترضِ بين الكلام وتمامِه كلام، نحو‏:‏ اعملْ- واللّه ناصِري- ما شئت‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تُشيرَ إلى المعنى إشارةً، وتومئُ إيماءً دون التصريح، نحو طويلُ النِّجاد، يريدون طولَ الرَّجل، وغَمْر الرِّداء‏:‏ يُومِئون إلى الجُود، وطَرِب العِنان‏:‏ يُومِئون إلى الخفَّةِ والرَّشاقة‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب الكفُّ، وهو أن تكفَّ عن ذكر الخبر اكتفاءً بما يدلُّ عليه الكلامُ، كقوله‏:‏

إذا قلتُ سيروا نحو ليلى لعلَّها *** جرى دونَ ليلى مائلُ القَرْن أعْضَبُ

ترك خَبَر لعلها‏.‏

قال‏:‏ ومن سُنَن العرب أن تُعيرَ الشيءَ ما ليس له، فتقول‏:‏ مرَّ بين سَمْع الأرض وبَصَرِها‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب أن تُجْري المواتَ وما لا يَعْقل في بعض الكلام مَجْرى بني آدم، كقوله في جمعِ أرض أرضون، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كلٌّ في فَلَكٍ يسبَحون‏}‏‏.‏

قال‏:‏ ومن سنن العرب المُحاذاة، وذلك أن تجعل كلاماً ما بِحذاء كلام، فيُؤْتى به على وزنه لفظاً، وإن كانا مختَلِفَين؛ فيقولون‏:‏ الغَدَايا والعَشايا‏.‏ فقالوا‏:‏ الغَدَيا، لانضمامها إلى العَشايا‏.‏ ومثلُه قولهم‏:‏ أعوذُ بك من السامَّةِ واللامّة‏.‏ فالسامَّة من قولك‏:‏ سمَّت النعمة إذا خصَّتْ، واللاّمّة أصلها من ألمَّت، لكن لما قُرِنت بالسامَّة جُعِلتْ في وزنها‏.‏

قال‏:‏ وذكر بعضُ أهل العلم أن من هذا الباب كتابه المصحف، كتبوا‏:‏ ‏(‏والليل إذا سَجَى‏)‏، بالياء، وهو من ذوات الواو، لمَّا قُرِن بغيره، ممَّا يُكْتَب بالياء‏.‏

قال‏:‏ ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء اللّهُ لسلَّطَهم عليكم‏}‏، فاللام التي في ‏{‏ لَسَلَّطَهُمْ‏}‏ جوابُ لو‏.‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلقَاتَلُوكُم‏}‏؛ فهذه حُوذِيتْ بتلك اللام، وإلا فالمعنى لسلَّطهم عليكم، فقاتلوكم‏.‏

ومثلُه‏:‏ ‏{‏لأُعَذِّبَنَّه عذاباً شديدًا أو لأذْبَحَنَّه‏}‏‏.‏ فهما لاما قَسَمٍ، ثم قال‏:‏ ‏{‏أو لَيَأْتيني‏}‏، فليس ذا موضعَ قسم؛ لأنه عُذْر للهُدْهد؛ فلم يكن ليُقْسِمَ على الهدهد أن يأتيَ بُعذْر، لكنّه لما جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجْراه مَجْراه؛ فكذا باب المحاذاة‏.‏

قال‏:‏ ومن الباب وزَنْتُه فاتَّزَن، وكِلْته فاكْتال، أي استوفاه كَيْلاً ووَزْناً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لكم عليهنّ من عِدَّةٍ تعتدُّونها‏}‏، أي تستوفونها، لأنها حقّ للأزواج على النساء‏.‏

قال‏:‏ ومن هذا الباب الجزاءُ عن الفِعْل بمثل لفظه، نحو‏:‏ ‏{‏إنما نَحْن مُستهزئون اللّهُ يستهزئ بهم‏}‏‏.‏ أي يجازيهم جزاء الاستهزاء، ‏{‏مَكرُوا ومَكَرَ اللّه‏}‏‏.‏ ‏{‏فَيَسْخَرُون منهم سَخِر اللّهُ منهم‏}‏‏.‏ ‏{‏ونَسُوا اللّه فنَسيهم‏}‏‏.‏ ‏{‏وجزاءُ سيِّئةٍ سيئةٌ مثلُها‏}‏‏.‏ ومثلُ هذا في شعر العرب قول القائل‏:‏

ألا لا يَجْهلن أحدٌ علينا *** فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا

انتهى ما ذكره ابن فارس‏.‏

ومن نظائر الغَدَايا والعشايا ما في الجمهرة؛ تقول العربُ للرجل إذا قدم من سفَر‏:‏ أوْبَةً وطَوْبة، أي أُبْتَ إلى عيش طيِّب ومآبٍ طيّب، والأصل طيبَة؛ فقالوه بالواو لمحاذاة أوبة، وقال ابن خالويه إنما قالوا‏:‏ طَوْبة، لأنهم أزْوَجوا به أوْبة‏.‏

وفي ديوان الأدب‏:‏ يقال‏:‏ بِفيهِ البَرَى، وحُمّى خَيْبَرَى، وشرُّ ما يُرَى، فإنّه خَيْسَرى، يعني الخسران، وهو على الازدواج‏.‏

وفيه‏:‏ يقال أخذني من ذلك ما قَدُم وما حَدُث، لا يُضَمّ حدَث في شيء من الكلام إلا في هذا الموضع، وذلك لمكان قدم على الازدواج‏.‏

وفي أمالي القالي‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال خيرُ المال سِكَّةٌ مأبُورة أو مُهْرة مأْمُورة، أي كثيرةُ الولد، وكان ينبغي أن يقال‏:‏ مُؤْمَرة، ولكنه اتبع مَأْبورة‏.‏ والسكة‏:‏ السطر من النَّخْل‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ قال الفراء يقال‏:‏ هَنأني الطعام ومَرأني، إذا أتبعوها هَنأني قالوها بغير ألف، فإذا أفردوها قالوا‏:‏ أمرأني‏.‏

وفيه‏:‏ يقال له عندي ما ساءه وناءه، قال بعضهم‏:‏ أراد ساءه وأناءه، وإنما قال ناءه- وهو لا يتعدّى- لأجل ساءه ليزْدَوِج الكلام، كما يقال‏:‏ إني لآتيه بالغَدَايا والعشايا، والغَداةُ لا تجمع على غدايا‏.‏

وفيه‏:‏ جمعوا الباب على أبوبة للازدواج، قال‏:‏

هَتَّاكِ أخْبِيَةٍ ولاّج أبْوبِة

ولو أفرده لم يجز‏.‏

وفيه يقال‏:‏ تَعْساً له ونَكْساً‏.‏ وإنما هو نُكس بالضم، وإنما فُتح هنا للازدواج‏.‏

وقال الفراء‏:‏ إذا قالوا‏:‏ النجس مع الرجس أتْبَعوه إياه، فقالوا‏:‏ رِجْس نِجْس بالكسر، وإذا أفردوه قالوا‏:‏ نَجس بالفتح‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المشْركون نَجَس‏}‏‏.‏

وفي الصحاح يقال‏:‏ لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ؛ تزْويجاً للكلام، والأصلُ ولا ائتليت، وهو افتعلت من قولك‏:‏ ما ألَوْتُ هذا‏:‏ أي ما استطعته، أي ولا استطعْتَ‏.‏

قال ابن فارس‏:‏ ومن سنن العرب الاقتصارُ على ذكر بعض الشيء وهم يُريدونه كلَّه؛ فيقولون‏:‏ قَعد على صَدْر رَاحلِته ومضى‏.‏ ويقول قائلهم‏:‏

الواطِئِين على صُدُور نعالهم ***

ومن هذا الباب‏:‏ ‏{‏ويَبْقَى وجْهُ رَبِّك‏}‏‏.‏ ‏{‏ويُحَذِّرُكم اللّهُ نفسَه‏}‏ أي إياه، وتواضعت سورُ المدينة‏.‏

قال‏:‏ وقد جاء القرآن بجميع هذه السنن؛ لتكون حجة اللّه عليهم آكد، ولئلا يقولوا‏:‏ إنما عجزنا عن الإتيان بمثله لأنه بغير لُغَتِنا، وبغير السنن التي نستنّها؛ فأنزله جلَّ ثناؤه بالحروفِ التي يعرفونها، وبالسنن التي يسلكونها في أشعارهم ومخاطباتهم، ليكون عجزُهم عن الإتيان بمثله أظْهر وأشعر‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الفارابي في ديوان الأدب‏:‏ هذا اللسانُ كلامُ أهل الجنة وهو المُنَزَّه من بين الألسنةِ من كلِّ نقيصة، والمعلى من كلّ خسيسة، والمهذَّب مما يُسْتَهجن، أو يُسْتَشْنع، فبنى مباني باينَ بها جميع اللغات من إعراب أوْجده اللّه له، وتأليف بين حركة وسكون حلاَّه به، فلم يجمع بين ساكنين أو متحرِّكين متضادّين، ولم يلاقِ بين حرفين لا يأْتلفان ولا يعذب النطق بهما، أو يشنع ذلك منهما في جَرْس النّغمة، وحسّ السمع؛ كالغَيْن مع الحاء، والقاف مع الكاف، والحرف المُطْبَق مع غير المطبق مثل تاء الافتعال مع الصاد، والضاد في أخوات لهما، والواو الساكنة مع الكسرة قبلها، والياء الساكنة مع الضمّة قبلها، في خلالٍ كثيرة من هذا الشكل لا تُحْصى، وقال في موضع آخر‏:‏ العربُ تَميل عن الذي يُلْزِم كلامها الجفاء إلى ما يُلين حواشيه ويُرِقّها، وقد نزّه اللّه لسانَها عما يجفيه، فلم يجعل في مباني كلامها جيماً تُجاورها قاف متقدّمة ولا متأخرة، أو تجامعها في كلمة صاد أو كاف، إلا ما كان أعجمياً أُعرب، وذلك لجُسْأة هذا اللَّفظ، ومباينته ما أسَّس اللّهُ عليه كلام العرب من الرَّونق والعُذوبة؛ وهذه علة أبواب الإدغام، وإدخالُ بعضِ الحروف في بعض، وكذلك الأمثلة والموازين اختِير منها ما فيه طِيبُ اللّفظ، وأُهْمِل منها ما يجفُو اللسانُ عن النطقِ به أوّلا مكرَهاً، كالحرْفِ الذي يُبْتدأ به لا يكون إلا متحرّكاً، والشيء الذي تتوالى فيه أربعُ حركات أو نحو ذلك يسكّن بعضها‏.‏

فائدة جليلة- قال الزمخشري في ربيع الأبرار، قالوا‏:‏ لم تكن الكُنَى لشيءٍ من الأمم إلا للعرب، وهي من مفاخرها، والكُنية إعظام، وما كان يُؤْهَل لها إلا ذو الشرف من قومهم قال‏:‏

أكْنيه حين أُناديه لأكْرِمَه *** ولا ألقّبه، والسوءة اللَّقب

والذي دعاهم إلى التكنية الإجلال عن التصريح بالاسم بالكناية عنه، ونظيرهُ العدولُ عن فعلٍ إلى فعل في نحو قوله‏:‏ ‏{‏وغِيضَ الماءُ وقُضِي الأمر‏}‏‏.‏ ومعنى كَنَيْتُه بكذا‏:‏ سمَّيتُه به على قَصْد الإخفاء والتورية، ثم ترقَّوْا عن الكُنَى إلى الألقاب الحسنة، فقلَّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام مَنْ ليس له لقب، إلا أن ذلك ليس خاصّاً بالعرب، فلم تزل الألقابُ في الأمم كلِّها من العرب والعجم‏.‏

خاتمة‏:‏- قال المطرّزي في شرح المقامات‏:‏ كان يقال‏:‏ اختصَّ اللّهُ العرب بأربع‏:‏ العمائمُ تيجانها، والحِبا حِيطانها، والسيوف سِيجانها، والشِّعر ديوانها‏.‏

قال‏:‏ وإنما قيل‏:‏ الشعرُ ديوان العرب؛ لأنهم كانوا يرجعون إليه عند اختلافهم في الأنساب والحروب، ولأنه مستودعُ علومهم، وحافظُ آدابهم، ومعدنُ أخبارهم؛ ولهذا قيل‏:‏

الشعرُ يحفظ ما أودى الزمانُ به *** والشعرُ أفخر ما يُنْبي عن الكرم

لولا مقال زهير في قصائده *** ما كنت تعرف جوداً كان في هَرِم

وأخرج ابنُ النجار في تاريخه، من طريق إبراهيم بن المنذر‏.‏ قال‏:‏ حدثني أبو سعيد المكي عمَّن حدّثه، عن ابن عباس‏:‏ أنه دخل على معاوية، وعنده عمرو بن العاص فقال عمرو‏:‏ إنَّ قريشاً تزعمُ أنك أعلمُها؛ فلم سمِّيَت قريشٌ قريشاً‏؟‏ قال‏:‏ بأمرٍ بيِّنٍ، قال‏:‏ فسِّرْه لنا‏.‏ ففسَّرَه قال‏:‏ هل قال أحدٌ فيه شعراً‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ سمِّيت قريش بدابّة في البحر‏.‏ وقد قال المشمرج بن عمرو الحميري‏:‏

وقُرَيشٌ هي التي تَسْكُنَ البَحْرَ *** بها سُمِّيت قُرَيشٌ قُرَيْشا

تأكل الغثَّ والسمين ولا تتركُ *** فيه لذي الجناحين ريشا

هكذا في البلاد حيّ قريش *** يأكلون البلادَ أكلاً كميشا

ولهم آخرُ الزمان نبيّ *** يكثر القَتْل فيهم والخموشا

تملأُ الأرض خيلُه ورجالٌ *** يحشرون المطيّ حشراً كشيشا

وأخرج ابنُ عساكر في تاريخه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أبي ريحانة العامري قال‏:‏ قال معاوية لابنِ عباس‏:‏ لِمَ سُمِّيتْ قريشٌ قريشاً‏؟‏ قال‏:‏ بدابّة تكون في البحر من أعْظم دوابِّه، يقال لها القِرْش لا تمرُّ بشيء من الغثِّ والسمين إلا أكلَتْه، قال‏:‏ فأنشدني في ذلك شيئاً، فأنشده شعرَ الحميري، فذكر الأبيات‏.‏

النوع الثالث والعشرون‏:‏ معرفة الاشتقاق

قال ابن فارس في فقه اللغة‏:‏ باب القول على لغة العرب؛ هل لها قياس‏؟‏ وهل يشتق بعضُ الكلام من بعض‏؟‏ أجمع أهل اللغة- إلاَّ من شذَّ منهم- أن للغةِ العرب قياساً، وأنّ العرب تشتقُّ بعض الكلام من بعض، واسم الجنِّ مشتقٌّ من الاجْتِنان، وأن الجيم والنون تَدُلاّن أبداً على السّتر؛ تقول العرب للدِّرْع‏:‏ جُنَّة، وأجَنَّه الليلُ، وهذا جَنين، أي هو في بَطْن أمِّه‏.‏ وأن الإنس من الظهور؛ يقولون‏:‏ آَنسْتُ الشيء‏:‏ أبْصَرْتُه‏.‏ وعلى هذا سائرُ كلام العرب، عَلِم ذلك مَن عَلِم، وجَهِله من جهل‏.‏

قال‏:‏ وهذا مبنيٌّ أيضاً على ما تقدَّم من أن اللغة توقيف؛ فإنّ الذي وَقَّفَنا على أن الاجتِنان‏:‏ الستر، هو الذي وقّفنا على أن الجنَّ مشتقٌّ منه؛ وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غيرَ ما قالوه، ولا أن نقيس قياساً لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبُطلانَ حقائقها‏.‏

قال‏:‏ ونكتةُ الباب أن اللغة لا تُؤْخذ قياساً نقيسه الآن نحن، انتهى كلام ابن فارس‏.‏

وقال ابن دحية في التنوير‏:‏ الاشتقاقُ من أغْرَب كلام العرب، وهو ثابت عن اللّه تعالى بنَقْل العُدول عن رسول اللّه، لأنه أُوتي جَوامعَ الكَلِم، وهي جمعُ المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة؛ فمن ذلك قوله فيما صح عنه‏:‏ يقولُ اللّه‏:‏ أنا الرحمن خلقتُ الرُّحم وشققت لها من اسمي، وغير ذلك من الأحاديث‏.‏

وقال في شرح التسهيل‏:‏ الاشتقاقُ أخْذُ صيغةٍ من أخرى مع اتفاقهما معنًى ومادةً أصلية، وهيئةً تركيب لها؛ لَيدلّ بالثانية على معنى الأصل، بزيادة مفيدة، لأجلها اختلفا حروفاً أو هيئة؛ كضارب من ضرب، وحَذِرٌ من حَذِر‏.‏

وطريقُ معرفته تقليبُ تصاريفِ الكلمة، حتى يرجع منها إلى صيغة هي أصل الصِّيغ دلالة اطراد أو حروفاً غالباً، كضرب فإنه دال على مُطلق الضرب فقط، أما ضارب، ومضروب، ويَضْرب، واضْرِب، فكلُّها أكثرُ دلالة وأكثرُ حروفاً، وضرَب الماضي مساوٍ حروفاً وأكثرُ دلالة، وكلها مشتركة في ض ر ب وفي هيئة تركيبها، وهذا هو الاشتقاق الأصْغر المحتجُّ به‏.‏

وأما الأكبرُ فيحفظ فيه المادّةُ دون الهيئة، فيجعل ‏(‏ق و ل‏)‏ و ‏(‏و ل ق‏)‏ و ‏(‏و ق ل‏)‏ و ‏(‏ل ق و‏)‏ وتقاليبها الستة، بمعنى الخفّة والسرعة‏.‏ وهذا مما ابتدعه الإمامُ أبو الفتح ابن جنّي، وكان شيخه أبو علي الفارسي يأنس به يسيراً، وليس معتَمداً في اللغة، ولا يصحّ أن يُستنبط به اشتقاق في لغة العرب؛ وإنما جعله أبو الفتح بياناً لقوة ساعده وردّه المختلفات إلى قَدْرٍ مشترك، مع اعترافه وعِلْمِه بأنه ليس هو موضوع تلك الصّيغ، وأن تراكيبها تفيد أجناساً من المعاني مغايرةً للقَدْر المشترك؛ وسببُ إهمال العرب وعدمِ التفات المتقدمين إلى معانيه أن الحروف قليلةٌ، وأنواع المعاني المتفاهمة لا تكادُ تتناهى؛ فخصُّوا كلّ تركيب بنوعٍ منها؛ ليفيدوا بالتراكيب والهيئات أنواعاً كثيرة؛ ولو اقتصروا على تغاير الموادّ، حتى لا يدلّوا على معنى الإكرام والتعظيم إلا بما ليس فيه من حروف الإيلام والضّرب؛ لمنافاتهما لهما، لضاق الأمرُ جداً، ولاحْتاجوا إلى ألوف حروفٍ لا يجدونها، بل فرّقوا بين مُعْتِق ومُعْتَق بحركةٍ واحدة حصل بها تمييزٌ بين ضدّين‏.‏

هذا، وما فعلوهُ أخْصر وأنسب وأخفّ؛ ولسنا نقولُ‏:‏ إن اللغةَ أيضاً اصطلاحيةٌ؛ بل المرادُ بيان أنها وقعت بالحكمة كيف فرضت؛ ففي اعتبار المادة دون هيئة التركيب من فساد اللغة ما بيّنت لك؛ ولا يُنْكَر مع ذلك أن يكونَ بين التراكيب المتّحدة المادّة معنى مشترَكٌ بينها هو جنسٌ لأنواع موضوعاتها؛ ولكن التحيُّل على ذلك في جميع موادّ التركيبات كطلبٍ لعنقْاء مُغرب، ولم تُحْمل الأوضاعُ البشريّة إلا على فهوم قريبةٍ غير غامضة على البديهة؛ فلذلك إن الاشتقاقات البعيدة جداً لا يقبلُها المحققون‏.‏

واختلفوا في الاشتقاق الأصغر؛ فقال سيبويه، والخليل، وأبو عمرو، وأبو الخطاب، وعيسى بن عمر، والأصمعي، وأبو زيد، وابن الأعرابي، والشيباني، وطائفة‏:‏ بعضُ الكَلِم مشتقٌّ، وبعضُه غيرُ مشتقّ‏.‏ وقالت طائفة من المتأخرين اللغويين‏:‏ كلُّ الكلم مشتقٌّ؛ ونُسِب ذلك إلى سيبويه والزّجاج، وقالت طائفة من النظار‏:‏ الكلم كلُّه أصلٌ، والقول الأوسط تخليط لا يعدُّ قولاً؛ لأنه لو كان كل منها فرعاً للآخر لدار أو تسلسل، وكلاهما محال؛ بل يلزم الدَّور عيناً، لأنه يثبت لكلّ منها أنه فرْع، وبعضُ ما هو فرعٌ لا بدَّ أنه أصل؛ ضرورة أن المشتقَّ كلَّه راجع إليه أيضاً‏.‏ لا يقال‏:‏ هو أصلٌ وفرع بوجهين؛ لأن الشرط اتحادُ المعنى، والمادة، وهيئة التركيب؛ مع أن كلاًّ منها مفرَّع عن الآخر بذلك المعنى‏.‏

ثم التغييرات بين الأصل المشتقّ منه والفرع المشتق خمسة عشر‏:‏ الأول- زيادة حركة، كعلم وعلم‏.‏

الثاني- زيادة مادة، كطالب وطلب‏.‏

الثالث- زيادتهما، كضارب وضرب‏.‏

الرابع- نقصان حركة، كالفرس من الفرس‏.‏

الخامس- نقصان مادة، كثبت وثبات‏.‏

السادس- نقصانهما، كنَزَا ونزوان‏.‏

السابع- نقصان حركة وزيادة مادة، كغضبى وغضب‏.‏

الثامن‏:‏- نقص مادة وزيادة حركة، كحرم وحرمان‏.‏

التاسع- زيادتهما مع نقصانهما، كاسْتَنْوقَ من الناقة‏.‏

العاشر- تغاير الحركتين، كبَطِر بَطَراً‏.‏

الحادي عشر- نقصان حركة وزيادة أخرى وحرف، كاضْرِب من الضرب‏.‏

الثاني عشر- نقصان مادة وزيادة أخرى، كراضع من الرّضاعة‏.‏

الثالث عشر- نَقْص مادة بزيادة أخرى وحركة، كخاف من الخوف؛ لأن الفاء ساكنة في خوف لعدم التركيب‏.‏

الرابع عشر- نقصان حركة وحرف وزيادة حركة فقط، كعِدْ من الوَعْد؛ فيه نقصان الواو وحركتها وزيادة كسرة‏.‏

الخامس عشر- نقصان حركة وحرف وزيادة حرف، كفاخَر من الفخار، نقصت ألف، وزادت ألف وفتحة‏.‏

وإذا تردّدت الكلمةُ بين أَصْلين في الاشتقاق طلب الترجيح، وله وجوه‏:‏ أحدها- الأمكنية؛ كمَهْدَد علماً من الهد أو المهد، فيرد إلى المهد؛ لأن باب كرم أمْكنُ وأوسع وأفصحُ وأخفّ من باب كرّ فيرجح بالأمكنية‏.‏

الثاني- كون أحد الأصلين أشرف؛ لأنه أحقّ بالوضْع له والنفوس أذكر له وأقبل، كدَوَران كلمة اللّه- فيمن اشتقّها- بين الاشتِقاق من أَلِه أو لوه أو وَلِه؛ فيقال‏:‏ من أله أشرف وأقرب‏.‏

الثالث- كونه أظهر وأوضح؛ كالإقبال والقبل‏.‏

الرابع- كونه أخصّ فيرجّح على الأعم، كالفضل والفضيلة، وقيل عكسه‏.‏

الخامس- كونه أسهل وأحسن تصرفاً؛ كاشتقاق المعارضة من العرض بمعنى الظّهور أو من العُرْض وهو الناحية؛ فمن الظهور أولى‏.‏

السادس- كونه أَقْرب، والآخر أبعد؛ كالعُقار يردّ إلى عَقْر الفهم لا إلى أنها تسكر فتعقر صاحبها‏.‏

السابع- كونه أليق؛ كالهِدَاية بمعنى الدلالة لا بمعنى التقدّم، من الهَوَادي بمعنى المتقدّمات‏.‏

الثامن- كونه مطلقاً فيُرجّح على المقيّد؛ كالقُرب والمقاربة‏.‏

التاسع- كونه جوهراً والآخر عرَضاً لا يصلح للمصدرية، ولا شأنه أن يشتقَّ منه؛ فإن الردَّ إلى الجوهر حينئذ أولى؛ لأنه الأسبق؛ فإن كان مصدراً تعيّن الردُّ إليه؛ لأن اشتقاق العرب من الجواهر قليلٌ جداً، والأكثر من المصادر، ومن الاشتقاق من الجواهر قولهم‏:‏ استَحْجَر الطين، واستَنْوق الجمل‏.‏

فوائد- الأولى- قال في شرح التسهيل‏:‏ الأعلام غالبُها منقولٌ بخلاف أسماء الأجناس؛ فلذلك قلّ أن يُشتقّ اسمُ جنس؛ لأنه أصل مُرْتَجَل‏.‏ قال بعضهم‏:‏ فإن صحّ فيه اشتقاقٌ حمل عليه، قيل‏:‏ ومنه غُرَاب من الاغتراب، وجراد من الجَرْد‏.‏

وقال في الارتشاف‏:‏ الأصل في الاشتقاق أن يكونَ من المصادر، وأصدقُ ما يكون في الأفعال المزيدة، والصفات منها، وأسماء المصادر، والزّمان، والمكان، ويغلبُ في العَلَم، ويقلّ في أسماء الأجناس، كغُراب يمكن أن يُشتق من الاغتراب، وجراد من الجَرْد‏.‏

الثانية- قال في شرح التسهيل أيضاً‏:‏ التصريفُ أعمُّ من الاشتقاق؛ لأن بناء مثل قردد من الضّرب يسمى تصريفاً، ولا يسمى اشتقاقاً؛ لأنه خاصٌّ بما بنَتْه العرَب‏.‏

الثالثة- أَفْرَد الاشتقاق بالتأليف جماعةٌ من المتقدّمين، منهم الأصمعي وقُطْرب، وأبو الحسن الأخفش، وأبو نصر الباهلي، والمفضّل بن سلمة، والمبرّد، وابن دُريد، والزَّجاج، وابن السراج، والرماني، والنحاس وابن خالويه‏.‏

الرابعة- قال الجواليقي في المعرب قال ابن السراج في رسالته في الاشتقاق‏:‏ مما ينبغي أن يُحْذَر كلّ الحذَر أن يشتق من لغة العرب لشيء من لغة العَجَمِ، قال‏:‏ فيكونُ بمنزلةِ مَن ادَّعى أن الطيرَ وَلَد الحوت‏.‏

الخامسة- في مثال من الاشتقاق الأكبر‏:‏ مما ذكره الزّجاج في كتابه قال‏:‏ قولهُم‏:‏ شجَرتُ فلاناً بالرّمح، تأويله جعلته فيه كالغُصْن في الشجرة، وقولهم‏:‏ للحلقوم وما يتصل به شَجْر؛ لأنه مع ما يتصل به كأغصان الشجرة، وتشاجر القوم، إنما تأويلُه اختلفوا كاختلاف أغصان الشجرة، وكل ما تفرّع من هذا الباب فأصله الشجرة‏.‏

ويروى عن شيبة بن عثمان قال‏:‏ أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، فإذا العباس آخذ بلجام بَغْلَته قد شجَرَها‏.‏

قال أبو نصر صاحب الأصمعي‏:‏ معنى قوله‏:‏ قد شجرها أي رفع رأسها إلى فوق‏.‏ يقال‏:‏ شجرَتُ أغصان الشجرة إذا تدلّت فرفعتُها‏.‏ والشِّجار مَرْكب يُتَّخذ للشيخ الكبير، ومَنْ مَنَعَته العِلّة من الحركة ولم يؤمَن عليه السقوط؛ تشبيهاً بالشجرة الملتفّة، والنخل يسمى الشجر، قال الشاعر‏:‏

وأخبث طَلْع طلعكنّ لأهله *** وأنكر ما خيرت من شَجَرات

والمرعى يقال له الشجر لاختلاف نَبته، وشجر الأمر إذا اختلط، وشجَرني عن الأمر كذا وكذا، معناه صَرَفني؛ وتأويله أنه اختلَف رأيي كاختلاف الشجر، والباب واحد، وكذلك شجر بينهم فلان أي اختلف بينهم، وقد شجر بينهم أمرٌ، أي وقع بينهم‏.‏ انتهى‏.‏

وفي قوله‏:‏ والنخلُ يسمى الشجر فائدة لطيفة؛ فإني رأيت في كتاب عمل من طب لمن حب للشيخ بدر الدين الزركشي بخطّه‏:‏ إن النخلة لا تسمى شجرة، وأن قوله صلى الله عليه وسلم فيها‏:‏ إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، على سبيل الاستعارة، لإرادة الإلغاز، وما ذكره الزّجاجي يردّه، ويمشي الحديثُ على الحقيقة‏.‏

فائدة- قال ابن فارس في المجمل‏:‏ اشتَبه عليّ اشتقاقُ قولهم‏:‏ لا أبالي به غاية الاشتباه، غيرَ أني قرأت في شعر ليلى الأخيلية‏:‏

تبالى رواياهم هبالة بعد ما *** ورَدْن وحول الماء بالجمّ يرتمي

وقالوا في تفسير التبالي‏:‏ المبادرة بالاستقاء، يقال تبالى القوم‏:‏ إذا تبادروا الماء فاستقَوْه؛ وذلك عند قلّة الماء‏.‏ وقال بعضهم تبالى القوم‏.‏ وذلك إذا قلّ الماء ونزح، استقى هذا شيئاً، وينتظر الآخر حتى يَجُمّ الماء فيستقي، فإن كانَ هذا هكذا فلعلّ قولهم لا أبالي به‏:‏ أي لا أبادر إلى اقتنائه والانتظار به، بل أنبذه ولا أعتدّ به‏.‏

فائدة- قال ابن دريد‏:‏ قال أبو عثمان‏:‏ سمعتُ الأخفش يقول‏:‏ اشتقاقُ الدُّكان من الدَّكْدَك، وهي أرضٌ فيها غلظ وانبساط، ومنه اشتقاق ناقة دَكَّاء، إذا كانت مفترشة السَّنام في ظهرها أو مجْبُوبَته‏.‏

لطيفة- قال أبو عبد اللّه محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص‏:‏ حدّثني هارون بن زكريا عن البلعيّ عن أبي حاتم قال‏:‏ سألت الأصمعي لِمَ سُمِّيت مِنًى منى‏؟‏ قال‏:‏ لا أدْري‏.‏ فلقيت أبا عبيدة فسألته، فقال‏:‏ لم أكن مع آدم حين علَّمه اللّه الأسماء؛ فأسأله عن اشتقاق الأسماء، فأتيت أبا زيد فسألته‏.‏ فقال‏:‏ سمِّيت منى لما يُمْنى فيها من الدّماء‏.‏

وقال ابن خالويه في شرح الدريدية‏:‏ سمعتُ ابنَ دريد يقول‏:‏ سألت أبا حاتم عن ثَادِق اسم فرس؛ من أي شيء اشتقّ‏؟‏ فقال‏:‏ لا أدري، فسألت الرياشي عنه، فقال‏:‏ يا معشر الصِّبيان؛ إنكم لتتعمقَّون في العلم فسألت أبا عثمان الأشنانداني عنه، فقال‏:‏ يُقال‏:‏ ثَدَق المطر إذا سال وانصبَّ فهو ثادِق؛ فاشتقاقُه من هذا‏.‏

فائدة- قال أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين‏:‏ سُئِل أبو عمرو بن العلاء عن اشتقاق الخيل، فلم يعرف، فمرَّ أعرابي مُحرِم فأراد السائلُ سؤالَ الأعرابي، فقال له أبو عمرو‏:‏ دعْني فإني ألطفُ بسُؤَاله وأعرف، فسأله‏.‏ فقال الأعرابي‏:‏ استفاد الاسمَ من فِعْل السير، فلم يعرف مَنْ حَضَر ما أراد الأعرابيُّ، فسألوا أبا عمرو عن ذلك، فقال‏:‏ ذهبَ إلى الخُيَلاء التي في الخيل والعُجْب، ألا تراها تمشي العََرضْنَة خيلاء وتكبّراً

فائدة- قال حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب الموازنة‏:‏ كان الزَّجَّاج يزعُم أن كل لفظتين اتفقتا ببعض الحروف، وإن نَقَصت حروفُ إحداهما عن حروف الأخرى، فإنّ إحداهما مشتقةٌ من الأخرى؛ فتقول‏:‏ الرّحل مشتق من الرحيل، والثور إنما سُمّي ثوراً لأنه يُثير الأرض، والثوب إنما سُمِّي ثوباً لأنه ثاب لباساً بعد أن كان غزلاً، حسيبه اللّه كذا قال‏.‏

قال‏:‏ وزعم أن القَرْنان إنما سُمّي قَرْناناً لأنه مُطيق لفجور امرأته، كالثور القَرْنان، أي المُطيق لحَمْل قرونه؛ وفي القرآن‏:‏ ‏{‏وما كُنَّا له مُقْرِنين‏}‏‏.‏ أي مُطيقين‏.‏

قال‏:‏ وحكى يحيى بن علي بن يحيى المنجم أنه سأله بحَضْرة عبد اللّه بن أحمد بن حمدون النديم‏:‏ من أيّ شيء اشتُقّ الجِرْجير‏؟‏ فقال‏:‏ لأن الريح تجرجره‏.‏ قال‏:‏ وما معنى تُجرجره‏؟‏ قال‏:‏ تجرره‏.‏ قال‏:‏ ومِنْ هذا قيل للحبل الجرير؛ لأنه يجرّ على الأرض‏.‏ قال‏:‏ والجرّة لِمَ سميت جرّة‏؟‏ قال‏:‏ لأنها تجرّ على الأرض‏.‏ فقال‏:‏ لو جُرّت على الأرض لانكسرت قال‏:‏ فالمجرَّة لم سميت مجرة‏؟‏ قال‏:‏ لأن اللّه جرَّها في السماء جرّاً‏.‏ قال فالجُرْجور الذي هو اسم المائة من الإبل‏.‏ لِمَ سُميت به‏؟‏ فقال‏:‏ لأنها تجر بالأزمّة‏.‏ وتُقاد، قال‏:‏ فالفصيل المجَرّ الذي شُق طرفُ لسانه لئلا يرضع أمّه، ما قولك فيه‏؟‏ قال‏:‏ لأنهم جرّوا لسانه حتى قطعوه‏.‏ قال‏:‏ فإن جروا أذنه فقطعوها تُسمّيه مُجَرّاً‏؟‏ قال‏:‏ لا يجوز ذلك فقال يحيى بن علي‏:‏ قد نَقَضْتُ العلّة التي أتيتَ بها على نفسك‏.‏ ومن لم يدر أن هذا مناقضة فلا حسّ له‏.‏ انتهى‏.‏

النوع الرابع والعشرون‏:‏ معرفة الحقيقة والمجاز

قال ابن فارس في فقه اللغة‏:‏ الحقيقة من قَوْلنا‏:‏ حقَّ الشيء إذا وَجَب، واشتقاقُه من الشيء المحقق، وهو المحكم؛ يقال‏:‏ ثَوبٌ محقّقُ النَّسج‏:‏ أي مُحْكَمُه، فالحقيقةُ‏:‏ الكلامُ الموضوعُ موضعه الذي ليس باستعارة، ولا تمثيل، ولا تقديم فيه، ولا تأخير؛ كقول القائل‏:‏ أحمد اللّه على نِعَمه وإحسانه، وهذا أكثر الكلام، وأكثَرُ آي القرآن وشعرُ العرب على هذا‏.‏

وأما المجاز فمأخوذٌ من جازَ يجوز إذا استَنَّ ماضياً، تقول‏:‏ جاز بنا فلان، وجاز علينا فارسٌ؛ هذا هو الأصل، ثم تقول‏:‏ يجوز أن تفعل كذا‏:‏ أي يَنْفُذ ولا يُردّ ولا يُمْنع‏.‏ وتقول‏:‏ عندنا دراهم وَضَح وازنة، وأخرى تجوزُ جَواز الوازِنة‏:‏ أي إن هذه وإن لم تكن وازِنة فهي تجوز مجازَها وجوازها لقُرْبها منها‏.‏

فهذا تأويلُ قولنا مجاز يعني أن الكلام الحقيقي يمضي لسَنَنه لا يُعترَض عليه، وقد يكون غيره يجوزُ جوازَه لقُربه منه، إلا أن فيه من تشبيهٍ واستعارةٍ وكفٍّ ما ليس في الأول؛ وذلك كقولنا‏:‏ عطاء فلان مزْنٌ واكِف، فهذا تشبيه، وقد جاز مجاز قوله‏:‏ عطاؤُه كثيرٌ وافٍ‏.‏ ومن هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنَسِمُه عَلَى الخُرْطُومِ‏}‏‏.‏ فهذا استعارة‏.‏

وقال ابن جني في الخصائص‏:‏ الحقيقية ما أُقِرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجازُ‏:‏ ما كان بضدّ ذلك، وإنما يقع المجازُ ويُعْدَل إليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاثة‏:‏ وهي الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، فإن عُدِمت الثلاثة تعيَّنت الحقيقة؛ فمن ذلك قوله في الفرس‏:‏ هو بحر فالمعاني الثلاثة موجودة فيه‏:‏ أما الاتساع، فلأنه زاد في أسماء الفرس- التي هي‏:‏ فرَس، وطِرْف، وجَواد ونحوها- البحر، حتى إنه إن احتِيج إليه في شعر أو سجع أو اتِّساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء، لكن لا يفضي إلى ذلك إلا بقرينة تُسْقِط الشبهة، وذلك كأن يقول الشاعر‏:‏

عَلوت مطا جوادك يوم يوم *** وقد ثمد الجياد فكان بحرا

وكأن يقول الساجع‏:‏ فرسك هذا إذا سما بغُرَّته كان فجراً، وإذا جرى إلى غايته كان بحراً، فإن عَرِي من دليل فلا؛ لئلا يكون إلباساً وإلغازاً‏.‏

وأما التشبيه، فلأنّ جَرْيه يجري في الكثرة مَجْرى مائه‏.‏

وأما التوكيد، فلأنه شبّه العَرَض بالجوْهر، وهو أثبت في النفوس منه‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ وأدْخَلْناهُ في رحمتِنا هو مجاز، وفيه المعاني الثلاثة‏:‏ أما السعة، فلأنه كأنه زاد في اسم الجهات والمحالّ اسماً هو الرّحمة‏.‏

وأما التشبيه، فلأنه شبَّه الرحمة- وإن لم يصح دخولها- بما يجوزُ دخولهُ؛ فلذلك وضعَها موضعه‏.‏

وأما التوكيد، فلأنه أخْبر عن المعنى بما يُخْبرَ به عن الذات‏.‏

وجميعُ أنواع الاستعارات داخلةٌ تحت المجاز كقوله‏:‏

غَمْر الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكاً *** غَلِقَت لضَحْكَتِه رِقَابُ المالِ

وقوله‏:‏

ووجه كأنَّ الشمس حَلَّت رِدَاءها *** عليه نقي الخدّ لم يَتَخَدّد

جعل للشمس رداء، استعارة للنور؛ لأنه أبلغ‏.‏ وكذلك قولك‏:‏ بنيتُ لك في قلبي بيتاً مجاز واستعارة لما فيه من الاتّساع، والتوكيد، والتشبيه؛ بخلاف قولك‏:‏ بنيت داراً فإنه حقيقة لا مجازَ فيه ولا استعارة، وإنما المجاز في الفعل الواصل إليه‏.‏

قال‏:‏ ومن المجاز في اللغة أبوابُ الحذف، والزيادات، والتقديم، والتأخير والحَمْل على المعنى، والتحريف‏:‏ نحو ‏{‏واسأل القرية‏}‏؛ ووجه الاتّساع فيه أنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة سؤاله، والتشبيه أنها شُبّهت بمن يصحّ سؤاله لِمَا كان بها، والتوكيد أنه في ظاهر اللفظ أحالَ بالسؤال على مَنْ ليس من عادته الإجابة؛ فكأنهم ضمنوا لأبيهم أنه إن سأل الجمادات والجِمَال أَنبأتْهُ بصحةِ قولهم؛ وهذا تناهٍ في تصحيح الخبر‏.‏

قال‏:‏ واعلم أن أكثر اللغة مع تأمّله مجاز لا حقيقة، ألا ترى أن نحو قام زيد معناه كان من القيام، أي هذا الجنس من الفعل؛ ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام، وكيف يكون ذلك وهو جنسٌ، والجنسُ يُطْلَق على جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتي من الكائنات من كلّ مَنْ وُجِدَ منه القيام‏؟‏ ومعلوم أنه لا يجتمعُ لإنسان واحد في وقتٍ واحد، ولا في أوقاتٍ القيامُ كلُّه الداخل تحت الوهم، هذا محال؛ فحينئذ قام زيد مجاز لا حقيقة على وضع الكلِّ موضع البعض للاتساع، والمبالغة، وتشبيه القليل بالكثير؛ ويدلُّ على انتظام ذلك لجميع جنسِه أنك تقولهُ في جميع أجزاء ذلك الفعل؛ فتقول‏:‏ قمتُ قومة، وقومتين، وقياماً حسناً، وقياماً قبيحاً؛ فإعمالُك إياه في جميع أجزائه يدل على أنه موضوعٌ عندهم على صَلاَحه لتناول جميعها، وكذلك التأكيد في قوله‏:‏ لعمري لقد أَحْبَبْتُك الحبّ كلّه، وقوله‏:‏

يَظُنّان كلَّ الظَّنّ أنْ لا تَلاَقِيَا

يدلان على ذلك‏.‏

قال لي أبو علي‏:‏ قولنا‏:‏ قام زيد بمنزلة قولنا‏:‏ خرجتُ فإذا الأسد، ومعناه أن قولهم‏:‏ خرجت فإذا الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس؛ كقولك‏:‏ الأسد أشدُّ من الذئب‏.‏ وأنت لا تُريد أنك خرجتَ وجميعُ الأُسْد التي يتناولها الوَهْم على الباب‏.‏ هذا محال؛ وإنما أردتَ‏:‏ فإذا واحد من هذا الجنس بالباب؛ فوضعتَ لفظ الجماعة على الواحد مجازاً؛ لما فيه من الاتّساع والتوكيد والتشبيه‏:‏ أما الاتّساع، فلأنك وضعتَ اللفظ المعتادَ للجماعة على الواحد‏.‏

وأما التوكيد، فلأنك نَظَمْت قدرَ ذلك الواحد، بأن جئتَ بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة‏.‏

وأما التشبيه، فلأنك شبَّهتَ الواحد بالجماعة، لأن كلَّ واحد منها مثلُه في كونه أسداً، وإذا كان كذلك فمثلُه‏:‏ قعد زيد، وانطلق وجاء الليل و انصرم النهار‏.‏ وكذلك ضربت زيداً، مجازاً أيضاً من جهة أخرى، سوى التجوّز في الفعل؛ وذلك لأن المضروب بعضُه لا جميعُه؛ وحقيقة الفعل ضرب جميعه؛ ولهذا يؤتى عند الاستظهار ببدل البعض، نحو ضربت زيداً رأسَه‏.‏

وفي البدل أيضاً تجوُّز؛ لأنه قد يكون المضروب بعضَ رأسه لا كلَّ الرأس‏.‏

قال‏:‏ ووقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليلاً على شيوع المجاز فيها‏.‏ انتهى كلامُ ابن جني- ملخصاً‏.‏

فصل- قال الإمامُ فخرُ الدين وأتباعُه‏:‏ جهاتُ المجاز يحضرُنا منها اثنا عشَر وجهاً‏:‏ أحدها‏:‏ التجوُّز بلفظ السبب عن المسبّب، ثم الأسباب أربعة‏:‏ القابل كقولهم‏:‏ سال الوادي‏.‏ والصورى، كقولهم لليد‏:‏ إنها قدرة، والفاعل، كقولهم‏:‏ نزل السحاب أي المطر، والغائي؛ كتسميتهم العِنَب بالخمر‏.‏

الثاني- بلفظ المسبب عن السبب؛ كتسميتهم المرض الشديد بالموت‏.‏

الثالث- المشابهة؛ كالأسد للشجاع‏.‏

الرابع- المضادّة؛ كالسّيئة للجزاء‏.‏

الخامس والسادس- اسم الكلّ للجزء؛ كالعام للخاص، واسم الجزء للكلّ؛ كالأسود للزّنجي‏.‏

السابع- اسمُ الفعل على القوة؛ كقولنا للخَمْرة في الدّن‏:‏ إنها مُسْكِرة‏.‏

الثامن- المشتق بعد زوال المصدر‏.‏

التاسع- المجاورة، كالرَّاوِية للقِرْبة‏.‏

العاشر- المجاز العرفي، وهو إطلاق الحقيقة على ما هُجِر عُرْفاً؛ كالدابَّة للحِمَار‏.‏

الحادي عشر- الزيادة والنقصان؛ كقوله‏:‏ ‏{‏ليس كَمِثْلِه شيءٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏واسْأَل القَرْية‏}‏‏.‏

الثاني عشر- اسم المتعلق على المتعلّق به، كالمخلوق بالخَلْق‏.‏

قالوا‏:‏ ولا يدخل المجاز بالذات إلا على أسماء الأجناس، أما الحَرْف فلا يفيد وحده، بل إنْ قُرِن بالملائم كان حقيقةً، وإلا كان مجازاً في التركيب؛ وأما الفعل فإنه يدلّ على المصدر واستناده إلى موضوع‏.‏ والمجاز في الإسناد عقلي، وفي المصدر يستتبع تجوّز العقل، فلا يكون بالذات‏.‏

وأما الأسماء فالأعلام منها لم تُنْقل بعلاقة، فلا مجاز فيها، والمشتقات تَتْبع الأصول؛ فلم يبق إلا أسماءُ الأجناس‏.‏

قالوا‏:‏ والمجازُ إما لأجل اللفظ، أو المعنى، أو لأجلهما، فالذي لأجل اللفظ إما لأَجْل جَوْهره بأن تكون الحقيقة ثقيلة على اللسان؛ إما لِثِقل الوزن، أو تنافر التركيب، أو ثقل الحروف أو عوارضه، بأن يكون المجازُ صالحاً لأصْناف البديع دون الحقيقة‏.‏

والذي لأجل المعنى إما لعظَمةٍ في المجاز، أو حقارة في الحقيقة، أو لبيان في المجاز، أو لِلُطف فيه‏:‏ أما العظمة فكالمجلس، وأما الحقارة، فكقضاء الحاجة بدلاً عن التغوُّط، وأما زيادة البيان؛ فإما لتَقْويةِ حال المذكور كالأسد للشجاع، أو للذّكر وهو المجاز في التأكيد‏.‏

وأما التلطيف فنقولُ‏:‏ إنه لا شوقَ إلى الشيء مع كمال العلم به، ولا كمالِ الجهل به؛ بل إذا عُلم من وجهٍ شَوَّق ذلك الوجهُ إلى الآخر؛ فتتعاقب الآلام واللذات؛ ويكونُ الشعورُ بتلك اللذات أتمّ؛ وعند هذا فالتعبيرُ بالحقيقة يفيدُ العلم،، والتعبير بلوازم الشيء الذي هو المجاز لا يفيدُ العلم بالتمام، فيحص دَغْدَغة نَفْسانية، فكان المجاز آكَدَ وألطف‏.‏ انتهى‏.‏

وذكر القاضي تاج الدين السبكي في شرح منهاج الأصول‏:‏ أن المجاز يدخُل في الأعلام التي تُلْمَح فيها الصفة كالأسْوَد، والحرث؛ ونقَله عن الغزالي؛ فيُسْتَثنى هذا مما تَقَّدّم‏.‏

تنبيه- قال الإمام وأتباعه‏:‏ المجازُ خلافُ الأصل؛ لأنه يتوقَّف على الوَضْع الأول، والمناسبة، والنقل؛ وهي أمورٌ ثلاثة‏.‏ والحقيقة على الوَضْع وهو أحدُ الثلاثة، فكان أكثر؛ ولأن المجاز لو ساوى الحقيقة لكانت النصوص كُلُّها مجملة، بل المخاطبات‏.‏ فكان لا يحصلُ الفهمُ إلا بعد الاستفهام‏.‏ وليس كذلك، ولأن لكل مجاز حقيقةً ولا عكس؛ يدلُّ عليه أن المجاز هو المنقول إلى معنى ثان لمناسبة شاملة، والثاني له أول، وذلك الأوّل لا يجب فيه المناسبة‏.‏

قال القاضي تاج الدين السبكي في شرح المنهاج‏:‏ الأصلُ تارة يُطْلَق ويُرادُ به الغالب، وتارة يرادُ به الدليل، فقولهم‏:‏ المجازُ خلافُ الأصل؛ إما بمعنى خلاف الغالب، والخلاف في ذلك مع ابن جنيّ، حيث ادّعى أن المجاز غالب على اللغات، أو بالمعنى الثاني، والفرض أن الأصل الحقيقة، والمجازُ خلاف الأصل؛ فإذا دار اللفظ بين احتمال المجاز واحتمال الحقيقة فاحتمالُ الحقيقة أرجح‏.‏

فصل- قال القاضي عبد الوهاب في كتاب الملخص‏:‏ اعلم أنّ الفرق بين الحقيقة والمجاز لا يُعْلم من جهة العقل ولا السمع، ولا يُعلم إلا بالرجوع إلى أهل اللغة؛ والدليل على ذلك أن العقلَ متقدّم على وَضْع اللغة، فإذا لم يكن فيه دليل على أنهم وضعوا الاسم لمسمًّى مخصوص امتنع أن يُعْلم به أنهم نقلوه إلى غيره؛ لأن ذلك فرعُ العلم بوضعه، وكذلك السمع إنما يَرِد بعد تقرّر اللغة، وحصول المواظبة، وتمهيد التخاطب، واستمرار الاستعمال، وإقرار بعض الأسماء فيما وُضع له، واستعمال بعضها في غير ما وُضِع له؛ فيمتنع لذلك أن يُقال إنه يعلم به أن استعمال أهل اللغة لبعض الكلام هو في غير ما وُضع له لامتناع أن يُعلم الشيء بما يتأخر عنه‏.‏

قال‏:‏ فمن وجوه الفرق بين الحقيقة والمجاز أن يُوقِفنا أهلُ اللغة على أنه مجاز ومستعمل في غير ما وُضع له، كما وَقَفونا في استعمال أسد، وشجاع، وحمار، في القويّ والبليد، وهذا من أقوى الطرق في ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ أنْ تكون الكلمةُ تصرَّف بتثنية وجمع واشتقاق وتعلَّق بمعلوم، ثم تجدها مستعملةً في موضع لا يثبت ذلك فيه؛ فيُعْلم بذلك أنها مجاز؛ مثل لفظة أمْر، فإنها حقيقةٌ في القول لتصرفها بالتثنية والجمع والاشتقاق؛ تقول‏:‏ هذان أمران، وهذه أوامر اللّه، وأوامر رسوله، وأمَر يأمر أمراً، فهو آمر‏.‏ ويكون لها تعلّق بآمر، ومَأْمور به، ثم تجدها مستعملةً في الحال، والأفعال، والشأن، عاريةً من هذه الأحكام؛ فيُعْلم أنها فيه مجاز، مثلٌ‏:‏ ‏{‏وما أَمْرُ فِرْعَوْنَ برَشيد‏}‏ يريدُ جملة أفعاله وشأنه‏.‏

ومنها‏:‏ أن تطَّرد الكلمةُ في موضع ولا تطَّرد في موضع آخر من غير مانع، فيستدلّ بذلك على كونها مجازاً؛ وذلك لأن الحقيقة إذا وُضِعت لإفادة شيء وجب اطرّادها، وإلا كان ذلك ناقضاً للغة، فصار امتناع الاطّراد مع إمكانه دالاً على انتقال الحقيقة إلى المجاز؛ وذلك كتسمية الجدّ أباً فإنه لا يطّرد، وكذا تَسْمية ابن الابن ابناً‏.‏

قال‏:‏ ومنها ما ذكره القاضي أبو بكر من أن تقوية الكلام بالتأكيد من علامات الحقيقة دون المجاز؛ لأن أهل اللغة لا يقوّون المجاز بالتأكيد؛ فلا يقولون أراد الجدارُ إرادة، ولا قالت الشمس قولاً، كطلعت طلوعاً؛ وكذلك ورد الكلام في الشّرع لأنه على طريق اللغة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكلَّمَ اللَّه مُوسَى تكليماً‏}‏؛ فتأكيدُه بالمصدر يفيد الحقيقةَ، وأنه أسمعه كلامه، وكلّمه بنفسه، لا كلاماً قام بغيره، انتهى ما ذكره القاضي عبد الوهاب‏.‏

وقال الإمام وأتباعه‏:‏ الفرقُ بين الحقيقة والمجاز إما أن يقعَ بالتنصيص أو بالاستدلال‏.‏ أمَّا التَّنصيصُ فمن وجهين‏:‏ أحدهما- أن يقول الواضِعُ‏:‏ هذا حقيقةٌ وذاك مجاز، أو يقول ذلك أئمةُ اللغة، قال الصفي الهندي‏:‏ لأن الظاهرَ أنهم لم يقولوا ذلك إلا عن ثقة‏.‏ والثاني- أن يقول الواضعُ هذا حقيقة، أو هذا مجاز؛ فيثبت بهذا أحدهما، وهو ما نصّ عليه‏.‏

وأما الاستدلال فبالعلامات؛ فمن علامات الحقيقة تبادرُ الذّهن إلى فَهم المعنى، والعَراء عن القرينة، أي إذا سمعنا أهل اللغة يعبِّرون عن معنى واحد بعبارتين، ويستعملون إحداهما بقرينة دون الأخرى؛ فنعرفُ أن اللفظَ حقيقةٌ في المستعملة بدون القرينة؛ لأنه لولا استقرار أنفسهم على تعيّن ذلك اللفظ لذلك المعنى بالوَضْع لم يقتصروا عادة‏.‏

ومنْ علامات المجاز‏:‏ إطلاقُ اللفظ على ما يستحيل تَعَلُّقه به، واستعمال اللفظ في المعنى المنسي، كاستعمال لفظ الدابَّة في الحمار، فإنه موضوع في اللغة لكل ما يدبّ على الأرض‏.‏

وفي تعليق أَلِكْيَا‏:‏ قد ذكر القاضي أبو بكر فروقاً بين الحقيقة والمجاز؛ فمن ذلك أن الحقيقة يُقاسُ عليها، والمجازُ لا يقاسُ عليه، فإنَّ من وجد منه الضَّرب يقال‏:‏ ضرب يضرب فهو ضارب؛ فيُطْلَق هذا الاسم على كل ضارب، إذ هو حقيقةٌْ، فيُطْلَق ذلك على من كان في زَمَن واضِع اللغة، وعلى مَنْ يأتي بعدَه، ولا يُقال‏:‏ اسأل البساط، واسأل الحصير، واسأل الثوب بمعنى صَاحبه قياساً على ‏"‏ واسأل القَرْيةَ ‏"‏‏.‏

الثاني- إنّ الحقيقة يشتق منها النعوت، يقال أمر يأمر فهو آمر، والمجازُ لا يشتق منه النعوت والتفريعات‏.‏

الثالث- إنَّ الحقيقة والمجاز يفترقان في الجمع، فإن جمع أمْر الذي هو ضدّ للنهي، أوَامر، وجمع الأمر الذي هو بمعنى القَصْد والشأن أمور‏.‏

فوائد‏:‏ الأولى- قال ابنُ برهان في كتابه في الأصول‏:‏ اللغة مشتملة على الحقيقة والمجاز، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني‏:‏ لا مجازَ في لغة العرب‏.‏

وعُمْدَتنا في ذلك النقلُ المتواتر عن العرب؛ لأنهم يقولون‏:‏ استوى فلان على مَتْن الطريق، ولا مَتْنَ لها، وفلان على جناح السفر ولا جناح للسفر، وشابَتْ لمَّةُ الليل، وقامت الحَرْبُ على ساق، وهذه كلُّها مجازات؛ ومنكرُ المجاز في اللغة جاحدٌ للضرورة، ومبطل محاسن لغةِ العرب‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

فقلتُ له لمّا تَمَطَّى بصُلبه *** وأردَف أعجازاً وناء بِكَلْكَلِ

وليس لليلٍ صُلْب ولا أرْداف، وكذلك سموا الرّجل الشجاع أسداً، والكريم والعالم بحراً، والبليد حماراً؛ لمقابلة ما بينه وبين الحمار في معنى البلادة، والحمارُ حقيقةٌ في البهيمة المعلومة‏.‏ وكذلك الأسدُ حقيقة في البهيمة؛ ولكنه نُقل إلى هذه المستعارات تجوّزاً‏.‏

وعمدة الأستاذ أن حدَّ المجاز عند مُثْبتيه أنه كلُّ كلام تجوّزَ به عن موضوعه الأصلي إلى غير موضوعه الأصلي لنوع مقارنةٍ بينهما في الذات أو في المعنى‏:‏ أما المقارنة في المعنى فكَوَصْف الشجاعة والبلادة، وأما في الذات فكتسمية المطر سماءً، وتسمية الفَضلة غائطاً، وعَذِرَة، والعَذِرَة‏:‏ فناء الدار، والغائط‏:‏ الموضع المطمئن من الأرض، كانوا يرتادونه عند قضاء الحاجة؛ فلما كَثُر ذلك نُقِل الاسمُ إلى الفَضْلة، وهذا يستدعي منقولاً عنه متقدّماً ومنقولاً إليه متأخراً؛ وليس في لغة العرب تقديمٌ وتأخير؛ بل كلُّ زمان قُدِّر أن العرب قد نطقَتْ فيه بالحقيقة فقد نطقت فيه بالمجاز؛ لأن الأسماء لا تدلّ على مدلولاتها لذاتها؛ إذ لا مُناسبة بين الاسمِ والمسمَّى؛ ولذلك يجوز اختلافها باختلاف الأمم، ويجوز تغييرها، والثوب يسمى في لغة العرب باسم، وفي لغة العَجَم باسم آخر، ولو سمّي الثوب فرساً، والفرس ثوباً ما كان ذلك مستحيلاً؛ بخلاف الأدلة العقلية؛ فإنها تدلُّ لذواتها، ولا يجوزُ اختلافها؛ أما اللغة فإنها تدلُّ بوضعٍ واصطلاح؛ والعرب نطقَتْ بالحقيقة والمجاز على وجهٍ واحدٍ؛ فجعلُ هذا حقيقة وهذا مجازاً ضربٌ من التحكم، فإن اسمَ السبع وضع للأسد كما وضع للرجل الشجاع‏.‏

وطريق الجواب عن هذا أنا نسلّم له أن الحقيقةَ لا بدَّ من تقديمها على المجاز؛ فإن المجاز لا يُعْقل إلا إذا كانت الحقيقة موجودةً، ولكن التاريخَ مجهولٌ عندنا، والجهلُ بالتاريخ لا يدلُّ على عدم التقديم والتأخير‏.‏

وأما قوله‏:‏ إنَّ العربَ وضعت الحقيقة والمجاز وضعاً واحداً فباطلٌ؛ بل العربُ ما وَضعت الأسد اسماً لعين الرجل الشجاع؛ بل اسم العَين في حقّ الرجل هو الإنسانُ، ولكن العربَ سمَّت الإنسانَ أسداً لمشابهته الأسد في معنى الشجاعة؛ فإذاً ثبت أن الأسامي في لغة العرب انقسمت انقساماً معقولاً إلى هذين النوعين؛ فسمَّيْنا أحدَهما حقيقة، والآخر مجازاً، فإنْ أنكَرَ المعنى فقد جحد الضرورة، وإن اعترف به ونازع في التسمية فلا مشاحّة في الأسامي بعد الاعتراف بالمعاني؛ ولهذا لا يفهَم من مُطْلَق اسم الحمار إلا البهيمة، وإنما ينصرف إلى الرجل بقرينة، ولو كان حقيقة فيهما لتناولهما تناولاً واحداً‏.‏ انتهى‏.‏

وقال إمام الحرمين في التلخيص، والغزالي في المنخول‏:‏ الظنّ بالأستاذ أنه لا يصحّ عنه هذا القول‏.‏

وقال التاج السبكي في شرح منهاج الأصول‏:‏ نقلت من خط ابن الصلاح أن أبا القاسم بن كج حكى عن أبي علي الفارسي إنكارَ المجاز، كما هو المحكيّ عن الأستاذ‏.‏

قلت‏:‏ هذا لا يصحُّ أيضاً، فإن ابنَ جني تلميذُ الفارسي، وهو أعلم الناس بمذهبه، ولم يحكِ عنه ذلك، بل حكى عنه ما يدلُّ على إثباته‏.‏

قال ابن السبكي‏:‏ وليس مرادُ مَنْ أنكرَ المجازَ في اللغة أن العربَ لم تَنْطق بمثل قولك للشجاع‏:‏ إنه أسدٌ فإن ذلك مُكابرةٌ وعنادٌ؛ ولكن هو دائرٌ بين أمرين، إما أن يَدَّعي أنَّ جميع الألفاظ حقائق، ويكتفي في الحقيقة بالاستعمال وإن لم يكن بأصْل الوضع‏.‏ وهذا مسلّم، ويعود البحثُ لفظياً، وإن أراد استواءَ الكلِّ في أصل الوضع، قال القاضي في مختصر التقريب‏:‏ فهذه مُرَاغَمَةٌ للحقائق؛ فإنا نعلمُ أن العرب ما وضعت اسم الحمار للبليد‏.‏

الثانية- قال الإمام وأتباعه‏:‏ اللفظُ يجوز خلوّه عن الوصفين؛ فيكون لا حقيقة ولا مجازاً لغويّاً، فمن ذلك اللفظُ في أول الوَضع قبل استعماله فيما وُضع له، أو في غيره، ليس بحقيقة ولا مجاز؛ لأنَّ شرط تحقق كلّ واحد من الحقيقة والمجاز الاستعمالُ؛ فحيث انْتَفَى الاستعمال انتفيا، ومنه الأعلام المتجدِّدة بالنسبة إلى مسمّياتها؛ فإنها أيضاً ليست بحقيقةٍ لأن مستعمِلَها لم يستَعْمِلها فيما وُضعت له أولاً؛ بل إما أنه اختَرعها من غير سَبْق وَضع، كما في الأعلام المُرْتجلة، أو نقلها عما وُضعتْ له، كالمنقولة؛ وليست بمجازٍ، لأنها لم تنقل لعلاقة‏.‏

قال القاضي تاج الدين السبكي‏:‏ وقد ظهر أنَّ المراد بالأعلام هنا الأعلامُ المتجدّدة دون الموضوعة بوَضع أهل اللغة، فإنها حقائق لغوية، كأسماء الأجناس؛ وقد ألحق بعضُهم بذلك اللفظ المستعمل في المشاكلة، نحو‏:‏ ‏{‏وجزاءُ سيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلها‏}‏‏.‏ فذكر أنه واسطةٌ بين الحقيقة والمجاز، وهو ممنوعٌ كما بيَّنْتُه في الإتقان وغيره‏.‏

الثالثة- قد يجتمع الوصفان في لفظٍ واحد؛ فيكون حقيقةً ومجازاً إمَّا بالنسبة إلى مَعْنيين وهو ظاهر، وإما بالنسبة إلى معنى واحد؛ وذلك من وَضْعين؛ كاللفظ الموضوع في اللغة لمَعْنًى، وفي الشرع أو العرف لمعنًى آخر، فيكون استعماله في أحد المعنيين حقيقةً بالنسبة إلى ذلك الوَضع، مجازاً بالنسبة إلى الوَضع الآخر‏.‏

قال الإمام وأتْبَاعُه‏:‏ ومن هذا يُعرف أن الحقيقة قد تصيرُ مجازاً وبالعكس؛ فالحقيقةُ متى قلَّ استعمالها صارت مجازاً عُرْفاً، والمجاز متى كثرَ استعمالهُ صار حقيقة عُرْفاً، وأما بالنسبة إلى معنى واحد من وَضْع واحد فمحال لاسْتحالة الجمع بين النفي والإثبات‏.‏

الرابعة- قال أهل الأصول‏:‏ اللفظُ والمعنى إما أن يتّحدا فهو المُفْرَد كلفظة اللّه، فإنها واحدة، ومَدْلولها واحد، ويسمّى هذا بالمفرد؛ لانفراد لفظه بمعناه؛ أو يتعَدَّدا فهي الألفاظ المتباينة كالإنسان والفرس وغير ذلك من الألفاظ المختلفة، الموضوعة لمعانٍ مختلفة؛ وحينئذ إما أن يمتنع اجتماعُهما؛ كالسَّواد والبياض، وتسمَّى المُتباينة المُتَفاضلة؛ أو لا يمتنع كالاسم والصّفة؛ نحو السيف والصارم، أو الصفة وصفة الصفة كالناطق والفصيح، وتسمى المتباينة المتواصلة؛ أو يتعدّد اللَّفظُ والمعنى واحدٌ فهو الألفاظ المُترادفة؛ أو يتّحد اللفظ ويتعدَّد المعنى؛ فإن كان قد وُضع للكل فهو المشترك، وإلا فإن وُضع لمعنًى ثم نُقل إلى غيره لا لِعلاقةٍ فهو المُرْتجل، أو لعلاقة فإن اشتهر في الثاني كالصَّلاة سُمِّي بالنسبة إلى الأول منقولاً عنه، وإلى الثاني منقولاً إليه؛ وإن لم يشتهر في الثاني كالأسد فهو حقيقة بالنسبة إلى الأول مجازٌ بالنسبة إلى الثاني‏.‏