فصل: ذِكْرُ قَدْحِ الناس في كتاب العين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المزهر في علوم اللغة ***


في أولُ مَنْ صَنَّف في جَمْع اللُّغَةِ

الخليلُ بن أحمد؛ ألّف في ذلك كتابَ العَين المشهور؛ قال الإمام فخر الدين في المحصول‏:‏ أصلُ الكُتب المصنَّفَة في اللغة كتابُ العين؛ وقد أَطْبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه‏.‏ وقال السِّيرافِي في طبقات النحاة- في ترجمة الخليل‏:‏ عملَ أوَّل كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيّأ ضبطُ اللغة، وهذه العبارةُ من السِّيرافي صريحةٌ في أن الخليلَ لم يُكَمِّلْ كتابَ العين، وهو الظَّاهرُ لما سيأتي من نَقْل كلام الناس في الطَّعْن فيه، بل أكثرُ الناس أنْكَرُوا كونَه من تصنيف الخليل‏.‏

قال بعضهم‏:‏ ليس كتابُ العين للخليل، وإنما هو لِلَّيث بن نَصْر بن سيّار الخُرَاساني‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ كان الليثُ رجلاً صالحاً عمِل كتاب العين ونسبَه إلى الخليل ليَنْفُق كتابُهُ باسمِه، ويَرْغب فيه من حوله‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ عَمِلَ الخليلُ من كتاب العين قطعةً من أوَّله إلى حرف الغين، وكَمَّله الليث؛ ولهذا لا يُشْبِهُ أولَه آخرُه‏.‏

وقال ابن المعتزّ‏:‏ كان الخليلُ منقطعاً إلى اللَّيْث، فلما صنَّف كتابه العين خصَّه به، فحظِيَ عنده جدّاً، ووقع منه مَوْقِعاً عظيماً، ووهَبَ له مائة ألف، وأقبل على حِفْظِه ومُلاَزَمَتِهِ؛ فحفظ منه النّصف؛ واتَّفَق أنه اشترى جارية نفيسةً؛ فَغَارَت ابنةُ عمه، وقالت‏:‏ واللّه لأغيظنَّه، وإن غِظْتُه في المال لا يُبَالي؛ ولكني أراهُ مُكِبّاً ليلَه ونهارَه على هذا الكتاب، واللّه لأفجَعَّنه به؛ فأحْرَقتْهُ، فلما عَلِمَ اشتدَّ أسفُه، ولم يكن عند غيرِه منه نسخةٌ، وكان الخليلُ قد مات فأمْلَى النِّصْفَ من حِفْظه، وجمع علماءَ عصره، وأمرهم أن يُكَمِّلُوه على نَمَطه، وقال لهم‏:‏ مَثِّلوا واجتهدوا؛ فعملوا هذا التَّصْنيف الذي بأيْدِي الناس، أَوْرَدَ ذلك ياقوت الحموي في مُعجم الأُدباء‏.‏

وقال أبو الطيِّب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتاب مراتب النحويين‏:‏ أبْدَعَ الخليلُ بَدائع لم يُسْبَق إليها؛ فمن ذلك تأليفُه كلامَ العرب على الحروف في كتابه المُسمَّى كتابَ العين؛ فإنه هو الذي رتَّب أبوابه، وتوفِّيَ من قبل أن يحشوه‏.‏

أخبرنا محمد بن يحيى قال‏:‏ سمعت أحمد بن يحيى ثعْلَبَ يقول‏:‏ إنما وقَع الغلطُ في كتاب العين؛ لأَنَّ الخليلَ رسمَهُ ولم يَحْشه، ولو كان هو حَشاه ما بقيَ فيه شيءٌ؛ لأَن الخليل رجلٌ لم يُرَ مثلُه، وقد حشا الكتاب أيضاً قومٌ علماء، إلاّ أنه لم يُؤخذ منهم روايةً، وإنما وُجد بنقل الورَّاقين؛ فاختلَّ الكتابُ لهذه الجهة‏.‏

وقال محمد بن عبد الواحد الزاهد‏:‏ قال‏:‏ حدَّثني فتًى قَدِمَ علينا من خُراسان، وكان يقرأ عليَّ كتاب العين، قال‏:‏ أخبرني أبي عن إسحاق بن راهَويْه قال‏:‏ كان الليثُ صاحبُ الخليل بن أحمد رجلاً صالحاً، وكان الخليلُ عَمِل من كتاب العين باب العين وحدَه، وأحبَّ الليثُ أن يَنْفُق سوقُ الخليل، فصنَّف باقي الكتاب، وسمَّى نفسه الخليل، وقال لي مرّةً أخرى‏:‏ فسمَّى لسانه الخليل من حبِّه للخليل بن أحمد‏.‏ فهو إذا قالَ في الكتاب‏:‏ قال الخليل بن أحمد‏:‏ فهو الخليل‏.‏ وإذا قال‏:‏ وقال الخليلُ مطلقاً، فهو يحكي عن نفسه، فكلُّ ما في الكتاب من خَلل فإنه منه لا من الخليل‏.‏ انتهى‏.‏

وقال النووي في تحرير التنبيه‏:‏ كتابُ العين المنسوبُ إلى الخليل إنما هو من جَمْع اللّيثِ عن الخليل‏.‏

ذِكْرُ قَدْحِ الناس في كتاب العين

تقدَّمَ في كلام الإمام فخر الدين أنَّ الجمهورَ من أهل اللغة أَطْبَقُوا على القَدْح فيه، وتقدَّم كلامُ ابن فارس في ذلك، في المسألة الرابعة عشرة، وقال ابنُ جني في الخصائص‏:‏ أما كتابُ العين ففيه من التَّخْلِيط والخَلَل والفَساد ما لا يَجُوزُ أن يُحْمَل على أصْغَر أتباع الخليل، فَضْلاً عن نفسه، ولا محالة أن هذا التَّخْليط لَحِق هذا الكتابَ من قِبَل غيره؛ فإن كان للخليل فيه عَمَلٌ فلعلَّه أوْمَأ إلى عمل هذا الكتاب إيماءً ولم يَلِه بنفسه، ولا قرَّره ولا حرَّره، ويدلُّ على أنه كان نحَا نحْوَه أنني أجدُ فيه معاني غامضة، ونَزَوَات للفكر لطيفة، وصيغةً في بعض الأحوال مستحكمة؛ وذاكرتُ به يوماً أبا عليّ فرأيتُه مُنْكِراً له؛ فقلت له‏:‏ إن تصنيفَه مُنْساق متوجّه، وليس فيه التعسُّف الذي في كتاب الجمهرة؛ فقال‏:‏ الآن إذا صنَّف إنسان لغة بالتركية تصنيفاً جيداً يؤخذ به في العربية أو كلاماً هذا نحوه‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو بكر محمد بن حسن الزَّبيدي اللّغوي، مؤلّف مختصر العين في أول كتابه- اسْتِدْرَاكُ الغَلَطِ الواقع في كتاب العَين- وهو مجلَّد لطيف، يخاطب بعضَ إخوانه‏:‏ وصل إلينا أَيَّدَكَ اللّه كتابَك تذكُرُ فيه ما أُولع به قومٌ من ضَعَفَة أهل النَّظر من التحامل علينا، والتسرّع بالقول فينا بما نسبُوه إلينا من الاعتراض على الخليل بن أحمد في كتابه، والتَّخْطِئَة له في كثير من فُضُوله، وقلت‏:‏ إنهم قد استمالوا جماعةً من الحشوية إلى مذهبهم، وعَدَلوا بهم إلى مقالتهم بما لبّسوا به، وشنَّعوا القول فيه، وسألتَ أن أَحْسم ما نَجَم من إفْكِهِم، وأرد ما نَدَر من غَرْبِ ألسنتهم، ببيانٍ من القول مُفْصِح، واحتجاج من النظر مُوضح‏.‏

وقد كنتَ- أَيَّدَك اللّه في صحَّة تمييزك، وعظيم النعمة عليك- في نظرك جديراً ألا تُعرِّج على قوم هم بالحال التي ذَكرتَ، وأن يقعَ لهم العذرُ لديك بوجوه جَمَّة؛ منها‏:‏ تخلّفهم في النظر، وقلةُ مطالعتهم للكتب، وجهلُهم بحُدُودِ الأدب، مع أن العلَّة المُوجبة لمقالتهم، والباعثةَ لتسرُّعِهم علةُ الحسد الذي لا يُدَاوى سَقَمه، ولا يُؤْسَى جرحه، فقد قال الحكيم‏:‏

كلُّ العَداوات قد تُرجى إفاقتها *** إلاَّ عداوةَ مَنْ عاداك من حَسدِ

أوليسَ من العجب العجيب، والنادِر الغريب أن يَتوهَّم علينا مَنْ به مُسْكَة من نظَرٍ، أو رمَق من فَهْم، تخطئةَ الخليل في شيءٍ من نظرِه، والاعتراضَ عليه فيما دقَّ أو جلّ من مذهبه، والخليلُ بنُ أحمد أَوْحَدُ العصر، وقريعُ الدَّهر، وجِهْبِذ الأُُمة، وأستاذُ أهل الفِطْنَة، الذي لم يُرَ نظيرُه، ولا عُرِف في الدنيا عديلُه، وهو الذي بَسط النحوَ، ومَدَّ أطنابَه، وسبَّب عِلَلَه، وفَتَقَ معانيه، وأوضحَ الحِجاج فيه، حتى بلغ أَقْصى حدودِه، وانتهى إلى أبعدِ غاياته؛ ثم لم يرضَ أن يؤلِّفَ فيه حرفاً أو يَرْسُمَ منه رَسْماً؛ نَزَاهَةً بنفسه، وتَرَفُّعاً بقَدْرِه؛ إذ كان قد تقدّم إلى القول عليه والتأليف فيه؛ فَكَرِهَ أن يكونَ لمن تقدّمه تالياً، وعلى نظَرِ مَن سَبَقهُ مُحْتَذِياً، واكتفى في ذلك بما أَوْحَى إلى سيبويه من عِلْمِه، ولقَّنه من دقائقِ نَظره، ونتائج فِكره، ولطائفَ حكمته؛ فحَمل سيبويه ذلك عنه وتقلّده، وألفَّ فيه الكتاب الذي أعجَزَ من تقدَّم قبلَه، كما امتنع على مَنْ تأخَّرَ بعده‏.‏ ثم ألَّف على مذهب الاخْتراع وسبيل الإبداعِ كتابي الفرش والمثال في العَروض؛ فحصرَ بذلك جميعَ أوزانِ الشّعر، وضمَّ كلَّ شيءٍ منه إلى حيِّزه، وأَلْحَقَه بشَكْله، وأقام ذلك عن دوائرَ أَعْجَزَتِ الأذهان، وبَهَرَتِ الفِطَن، وغمرتِ الألباب؛ وكذلك ألَّف كتاب المُوسيقى، فَزَمَّ فيه أصناف النَّغَم، وحََصَر به أنواع اللّحون، وحدَّد ذلك كلّه، ولخّصه، وذكر مَبَالغ أقسامه، ونهاياتِ أعداده؛ فصار الكتابُ عِبرةً للمُعتبرين وآيةً للمتوسِّمين‏.‏

ولما صنعَ إسحاق بن إبراهيم كتابَه في النَّغم واللّحون عَرضه على إبراهيم بن المهدي، فقال له‏:‏ لقد أحسنتَ يا أبا محمد؛ وكثيراً ما تُحْسِنُ فقال إسحاق‏:‏ بل أحسنَ الخليلُ؛ لأَنه جعلَ السبيلَ إلى الإحسان، فقال إبراهيم‏:‏ ما أحسن هذا الكلام فمِمَّنْ أخَذْتَهُ‏؟‏ قال‏:‏ من ابن مُقْبِل، إذ سمع حمامةً فاهْتاج، فقال‏:‏

ولو قَبْلَ مَبْكاها بكيتُ صبابةً *** إذاً لشَفيت النفسَ قبل التندُّم

ولكن بكَتْ قبلي فهاج ليَ البُكا *** بُكاها فقلت‏:‏ الفضلُ للمتقدِّم

ثم ذهب بعد- في حَصْر جمع الكلام- مذهبَهُ من الإحاطة التي لم يتعاطاها غيرُه، ولا تعرّضها أحدٌ سواه؛ فثقَّف الكلام وزمَّ جميعه، وبيّن قيامَ الأبنية من حروف المُعْجم، وتعاقب الحروف لها بنظَرٍ لم يُتَقَدَّم فيه، وإبْداعٍ لم يُسْبَق إليه؛ ورَسَمَ في ذلك رُسُوماً أكملَ قياسها، وأعطى الفائدةَ بها؛ فكان هذا قدرَه في العِلم، ومبلغَه من النفاذ والفَهْم، حتى قال بعضُ أهل العلم‏:‏ إنه لا يجوزُ على الصِّراط بعد الأنبياءِ عليهم السلام أحدٌ أدقُّ ذِهْناً من الخليل؛ ولو أن الطاعنَ علينا يتصفّحُ صَدْر كتابُنا المختصر من كتاب العين لَعَلِمَ أنَّا نَزَّهْنا الخليل عن نِسْبَة المُحال إليه، ونَفَيْنا عنه من القَوْل ما لا يليقُ به، ولم نَعْدُ في ذلك ما كان عليه أهلُ العلم وحذَّاق أهل النظر‏.‏

وذلك أنَّا قلنا في صَدْر الكتاب‏:‏ ونحن نَرْبأُ بالخليل عن نِسْبَة الخَلَل إليه أو التعرّض للمقاومة له؛ بل نقول‏:‏ إن الكتاب لا يصحّ له ولا يثبتُ عنه؛ وأكثرُ الظن فيه أن الخليل سَبَّب أصله، وثقَّف كلام العرب، ثم هلَك قبل كَماله؛ فتعاطى إتمامَه من لا يقومُ في ذلك مقامه؛ فكان ذلك سببَ الخَللِ الواقع فيه والخطأِ الموجود فيه‏.‏

هذا لفظُنا نصّاً؛ وقد وافقْنا بذلك مقالةَ أبي العباس أحمد بن يحيى ثَعْلب قبل أن نُطالِعَها أو نسمعَ بها، حتى ألفيناها بخطّ الصّولي في ذكر فضائل الخليل‏.‏

قال الصولي‏:‏ سمعتُ أبا العباس ثعلباً يقول‏:‏ إنما وقع الغلطُ في كتاب العين لأنَّ الخليل رسَمهُ ولم يحشه؛ ولو أن الخليل هو حشاه ما بقّى فيه شيئاً؛ لأن الخليلَ رجلٌ لم يُرَ مثلُه‏.‏

قال‏:‏ وقد حَشَا الكتاب قومٌ علماء، إلاّ أنه لم يُؤْخذ عنهم رواية، إنما وُجد بنقل الورَّاقين؛ فلذلك اختلَّ الكتاب‏.‏

ومن الدليل على ما ذكره أبو العبّاس من زيادات الناس فيه اختلافُ نُسَخِه، واضطرابُ رواياته؛ إلى ما وقع فيه من الحكايات عن المتأخِّرِين، والاستشهاد بالمرذول من أشعار المُحْدَثين؛ فهذا كتابُ ابنُ مُنذر بن سعيد القاضي الذي كتبه بالقَيْروَان، وقابلَه بمصر بكتابِ ابن وَلاّد، وكتابُ ابن ثابت المُنتسَخ بمكّة قد طالعناهما، فألفينا في كثير من أبوابهما‏:‏ أخبرنا المسعريّ عن أبي عُبيد، وفي بعضها‏:‏ قال ابنُ الأعرابيّ، وقال الأصمعي؛ هل يجوزُ أن يكون الخليل يروي عن الأصمعي، وابن الأعرابي، أو أبي عُبيد، فضلاً عن المسعري‏؟‏ وكيف يروي الخليلُ عن أبي عبيد وقد تُوفِّيَ الخليل سنة سبعين ومائة‏؟‏ وفي بعض الروايات سنة خمس وسبعين ومائة‏؟‏ وأبو عبيد يومئذ ابنُ ست عشرة سنة‏.‏ وعلى الرواية الأخرى ابنُ إحدى وعشرين سنة؛ لأنَّ مَوْلد أبي عبيد سنة أربع وخمسين ومائة، ووفاتَه سنة أربع وعشرين ومائتين؛ ولا يجوز أن يُسْمَع عن المسعري عِلُم أبي عُبيد إلاّ بعد مَوْتِه، وكذلك كان سماعُ الخُشَني منه سنة سبع وأربعين ومائتين؛ فكيف يُسْمَع الموتى في حالِ مَوْتهم، أو يَنْقُلُون عمّن وُلِد مِن بعدهم‏؟‏

وحدّثنا إسماعيل بن القاسم البغدادي- وهو أبو عليّ القالي- قال‏:‏ لما وَرَدَ كتابُ العَين من بلد خُراسان في زمن أبي حاتم أنكره أبو حاتم وأصحابه أشدّ الإنكار، ودفعَهُ بأبْلَغِ الدَّفع؛ وكيف لا ينكِرُهُ أبو حاتم على أن يكون بريئاً من الخَلَل سليماً من الزَّلل، وقد غَبر أصحابُ الخليل بعدُ مدةً طويلة لا يعرفون هذا الكتابَ ولا يَسمعون به، منهم النَّضر بن شُميل، ومُؤَرِّج، ونصر بن علي، وأبو الحسن الأخفش وأمثالهم؛ ولو أن الخليل ألَّف الكتاب لَحَمَله هؤلاءِ عنه، وكانوا أَوْلَى بذلك من رجلٍ مجهول الحال غير مشهور في العلم انفرَدَ به، وتوحَّدَ بالنقل له، ثم دَرَجَ أصحابُ الخليل فتوفي النّضر بن شُمَيل سنة ثلاث ومائتين، والأخفش سنة خمس عشرة ومائتين، ومؤَرّج سنة خمس وتسعين؛ ومضت بعدُ مدة طويلة، ثم ظهر الكتابُ بأخَرَةٍ في زمان أبي حاتم وفي حال رياسته، وذلك فيما قارب الخمسين والمائتين؛ لأن أبا حاتم تُوُفِّي سنة خمس وخمسين ومائتين، فلم يلتفت أحدٌ من العلماءِ إليه يومئذ، ولا استجازوا روايةَ حرفٍ منه؛ ولو صحَّ الكتابُ عن الخليل لبَدر الأصمعي واليَزِيديّ وابنُ الأعرابي وأشباههم إلى تزيين كُتُبهم، وتَحْلِيَة علمهم بالحكاية عن الخليل والنَّقْلِ لِعِلْمِه، وكذلك مَنْ بعدهم كأبي حاتم وأبي عُبيد ويعقوب وغيرهم من المصنّفين؛ فما عَلِمنا أحداً منهم نَقَلَ في كتابه عن الخليل من اللغة حَرْفاً‏.‏

ومن الدّليل على صحّة ما ذكرناه أن جميعَ ما وَقَع فيه من معاني النّحو إنما هو على مذهب الكوفيين، وبخلاف مذهب البصريين؛ فمن ذلك ما بُدِئَ الكتابُ به، وبُني عليه من ذكر مَخارج الحروف في تقديمها وتأخيرها؛ وهو على خلاف ما ذكره سيبيويه عن الخليل في كتابه، وسيبويه حاملٌ علمَ الخليل، وأوْثَقُ الناس في الحكاية عنه؛ ولم يكن لِيَخْتَلِف قولُه، ولا لِيتناقَض مذهبُه؛ ولسنا نريدُ تقديم حرفِ العين خاصّة للوَجْه الذي اعتلَّ به؛ ولكن تقديمَ غير ذلك من الحروف وتأخيرها‏.‏ وكذلك ما مضى عليه الكتابُ كلُّه من إدْخال الرُّباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف، وهو مذهبُ الكوفيين خاصة‏.‏ وعلى ذلك استمرَّ الكتابُ من أوّله إلى آخره، إلى ما سنذكره من نحو هذا‏.‏

ولو أن الكتاب للخليل لما أَعْجَزَه ولا أشْكل عليه تثقيفُ الثنائيّ الخفيف من الصحيح والمعتل، والثنائي المضاعف من المعتل، والثلاثي المعتل بعِلّتين؛ ولما جعل ذلك كله في باب سمَّاه‏:‏ اللفيف فأدْخَلَ بعضَه في بعض، وخَلَط فيه خَلْطاً لا ينفصلُ منه شيءٌ عما هو بخلافه، ولوَضع الثُّلاثي المعتل على أقسامه الثلاثة لِيسْتَبينَ معتلُّ الياءِ من معتل الواو والهمزة، ولما خلَط الرباعيّ والخماسي من أولهما إلى آخرهما‏.‏

ونحن على قَدْرنا قد هذَّبْنا جميعَ ذلك في كتابنا المختصَر منه، وجَعَلْنا لكلِّ شيءٍ منه باباً يحصُره، وعدداً يجمعه‏.‏ وكان الخليلُ أَوْلَى بذلك وأَجْدَر، ولم نحْكِ فيه عن الخليل حَرْفاً، ولا نَسَبْنا ما وقع في الكتاب عنه؛ توخِّياً للحق، وقصْداً إلى الصدق، وأنا ذَاكِرٌ الآنَ من الخطأ الواقع في كتاب العَيْن ما لا يذهب على َمنْ شَدَا شيئاً من النَّحو، أو طالَع باباً من الاشتقاق والتّصريف؛ ليقومَ لنا العُذْر فيما نَزَّهْنا الخليل عنه، انتهى كلام الزَّبيدي في صَدْر كتاب الاستدراك‏.‏

قلت‏:‏ وقد طالعتُه إلى آخره، فرأيتُ وَجْهَ التَّخْطِئَة فيما خُطّئ فيه غالبُه من جهة التصريف والاشتقاق؛ كَذِكْرِ حرفٍ مَزِيدٍ في مادّة أصلية، أو مادةٍ ثُلاثية في مادة رُباعية ونحو ذلك، وبعضُه ادّعى فيه التصحيف، وأما أنه يُخَطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال‏:‏ هذه اللفظة كذبٌ، أو لا تُعرف، فمعاذَ اللّه، لم يقع ذلك‏.‏

وحينئذ لا قَدْح في كتاب العين؛ لأن الأولَ الإنكارُ فيه راجعٌ إلى الترتيب والوضْع في التأليف، وهذا أمْرٌ هَيّن؛ لأنَّ حاصله أن يقال‏:‏ الأَوْلَى نقلُ هذه اللفظة من هذا الباب وإيرادُها في هذا الباب، وهذا أمرٌ سَهلٌ، وإن كان مقامُ الخليل يُنزَّه عن ارتكاب مثل ذلك، إلاَّ أنه لا يمنعُ الوثوقَ بالكتاب، والاعتمادَ عليه في نقل اللغة‏.‏ والثاني إن سُلِّم فيه ما ادّعى من التصحيف يقال فيه ما قالته الأئمة‏:‏ ومَنْ ذا الذي سَلِمَ من التصحيف‏؟‏ كما سيأتي في النوع الثالث والأربعين، مع أنه قليل جداً؛ وحينئذ يزول الإشكال الذي يأتي نَقْله عن الإمام فخر الدين في النوع الثالث‏.‏

فائدة‏:‏

ممن ألَّف أيضاً الاستدراك على العين أبو طالب المُفَضَّل بن سَلَمَة بن عاصم الكُوفيّ من تلامذة ثعلب، قال أبو الطيب اللغوي‏:‏ ردَّ أشياء من كتاب العين للخليل أكثرُها غيرُ مَردود؛ وأبو طالب هذا متقدِّم الوفاة على الزَّبيدي‏.‏

فائدة‏:‏

المختصرت التي فُضِّلَت على الأمَّهات أربعة‏.‏

قال أبو الحسن الشَّاري في فهرسته‏:‏ كان شيخُنا أبو ذرّ يقول‏:‏ المختصرات التي فُضِّلَت على الأمَّهات أربعة‏:‏ مختصر العين للزَّبيدي، ومختصر الزَّاهر للزَّجاجي، ومختصر سيرة ابن إسحاق لابن هِشام، ومختصر الواضحة للفضل بن سلمة‏.‏

قال الشاري‏:‏ وقد لهج الناسُ كثيراً بمختصر العين للزَّبيدي فاستعملوه وفضَّلوه على كتاب العَين؛ لكونه حَذَف ما أورده مؤلِّفُ كتاب العَيْن من الشواهد المختلقة، والحروف المصحّفة، والأبنية المختلّة، وفضَّلوه أيضاً على سائر ما أُلِّف على حروف المعجم من كتب اللغة، مثل جمهرة ابن دريد، وكتب كُراع؛ لأجل صِغَر حجمه؛ وأَلْحَق به بعضُهم ما زاده أبو علي البغدادي في البارع على كتاب العين فكَثُرَت الفائدة‏.‏

قال‏:‏ ومَذْهبي، ومذهب شيخي أبي ذرّ الخُشَني، وأبي الحسن بن خَرُوف أن الزَّبيدي أخلَّ بكتاب العَين كثيراً لِحَذْفه شواهدَ القرآن والحديث، وصحيحَ أشعار العرب منه‏.‏

ولما عَلِمَ ذلك من مُخْتَصَر العين الإمام أبو غالب تَمّام بن غالب المعروف بابن التَّيَّاني عمل كتابه العظيم الفائدة، الذي سمَّاه بفَتْح العين، وأتى فيه بما في العَيْن من صحيح اللّغة الذي لا اختِلاف فيه على وجهه، دون إخْلالٍ بشيء من شواهد القرآن، والحديث، وصحيحِ أشعار العرب، وطرَح ما فيه من الشواهد المختلقة، والحروف المُصَحَّفة، والأبنية المختلّة، ثم زاد فيه ما زاده ابنُ دُريد في الجمهرة؛ فصار هذا الديوانُ محتوياً على الكتابين جميعاً، وكانت الفائدةُ فيه فَصْلَ كتاب العين من الجمهرة، وسِياقه بلفظه لِينْسب ما يحكى منه إلى الخليل، إلاّ أن هذا الديوان قليلُ الوجود، لم يعرّج الناسُ على نَسْخه؛ بل مالوا إلى جمهرة ابن دريد، ومُحكم ابن سيده، وجامع ابن القَزَّاز، وصِحَاح الجوهري، ومُجْمَل ابن فارس، وأفعال ابن القُوطيّة وابن طريف، ولم يعرّجوا أيضاً على بارع أبي عليّ البغدادي، ومُوعَبُ أبي غالب بن التَّيَّاني المذكور، وهما من أصحِّ ما أُلِّف في اللغة على حروف المعجم؛ والكتُب التي مالوا إلى الاعتناءِ بها قد تكلَّم العلماءُ فيها؛ إلاّ أن الجمْهرة لابنِ دُريد أثنى عليه كثيرٌ من العلماءِ، ويوجد منه النُّسَخُ الصحيحةُ المروِيَّة عن أكابر العلماء‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنه من أحسن الكتب المؤلَّفة على الحروف، وأصحّها لغة؛ وقد آخذه أبو علي الفارسي النحوي، وأبو عليّ البَغدادي القَالِي، وأبو سعيد السِّيرافي النحوي وغيرهم من الأئمة‏.‏

وأما كتاب العَيْن المنسوب إلى الخليل فهو أصلٌ في معناه، وهو الذي نهج طريقةَ تأليف اللّغة على الحروف؛ وقديماً اعتَنى به العلماء، وقبِلَه الجهَابذة؛ فكان المبرّد يَرْفع مِن قدره، ورواه أبو محمد بن دَرَسْتويه؛ وله كتاب في الردِّ على المفضَّل ابن سلمة فيما نسبَه من الخلَل إليه، ويكادُ لا يوجدُ لأبي إسحاق الزّجاجي حكايةٌ في اللغة إلاّ منه؛ وقد تكلَّم الناس فيه بما هو مشهور؛ وأصحُّ كتابٍ وُضِعَ في اللغة على الحروف بارعُ أبي علي البغدادي ومُوعَب بن التَّيَّاني‏.‏ انتهى‏.‏

فائدة‏:‏

ترتيب كتابُ العين ليس على التَّرتيب المعهود الآن في الحروف، وقد أكْثرَ الأدباءُ من نَظْم الأبيات في بيان ترتيبه؛ من ذلك قول أبي الفرج سلمة بن عبد اللّه المعَافِري الجزيري‏:‏

يا سائلي عن حروف العين دونكَهَا *** في رتبة ضمَّها وزنٌ وإحْصاء

العين والحاء ثم الهاءُ والخاء *** والغين والقاف ثم الكاف أكْفاءُ

والجيم والشين ثم الضادُ يتبعها *** صاد وسين وزاي بَعْدها طاء

والدّال والتاء ثم الطاءُ متَّصِل *** بالظاءِ ذال وثاء بعدها راءُ

واللام والنون ثم الفاء والباء *** والميم والواو والمهموز والياء

قال أبو طالب المفضَّل بن سَلَمة الكوفي‏:‏ ذكر صاحبُ العين أنه بدأ كتابَه بحرف العين؛ لأنها أَقْصى الحروف مَخْرجاً‏.‏ قال‏:‏ والذي ذكره ِسيبَويْه أن الهمزةَ أَقْصى الحروف مخرجاً‏.‏ قال‏:‏ ولو قال بدأتُ بالعين؛ لأنها أكثرُ في الكلام، وأشدُّ اختلاطاً بالحروف، لكان أولى‏.‏

وقال ابن كَيْسان‏:‏ سمعتُ مَنْ يذكر عن الخليل أنه قال‏:‏ لم أبْدَأْ بالهمزة؛ لأنها يلحقها النقصُ والتغييرُ والحذفُ، ولا بالألف؛ لأنها لا تكون في ابتداءِ كلمة ولا في اسم ولا فعل إلاّ زائدة أو مُبْدَلَةً، ولا بالهاءِ؛ لأنها مهموسة خفيَّة لا صوتَ لها؛ فنزلتُ إلى الحيِّز الثاني، وفيه العين والحاء، فوجَدْت العين أنْصَعَ الحرفين؛ فابتدأت به ليكون أحسنَ في التأليف، وليس العلْمُ بتقدّم شيءٍ على شيء؛ لأنه كلَّه مما يُحتاج إلى معرفته؛ فبأيّ بدأت كان حَسناً، وأولاها بالتقديم أكثرُها تصرُّفاً‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو العباس أحمد بن ولاَّد في كتاب المقصور والممدود‏:‏ لعلَّ بعضَ مَنْ يقرأ كتابنا يُنْكِرُ ابتداءنا فيه بالألف على سائر حروف المعجم؛ لأنها حرفٌ معتل؛ ولأن الخليل تَرَك الابتداءَ به في كتاب العين، لأنَّ كتاب العين لا يمكن طالب الحرفِ منه أن يَعلَمَ مَوْضعه من الكتاب، من غير أن يقرأه، إلاّ أن يكونَ قد نظر في التّصريف، وعرفَ الزائد والأصلي، والمعتلَّ والصحيح، والثلاثيّ والرباعيّ والخماسيّ، ومراتبَ الحروف من الحَلْق واللّسان والشَّفَة، وتصريفَ الكلمة على ما يمكنُ من وُجوهِ تصريفها في اللّفظ على وجوه الحركات وإلحاقها ما تحتمل من الزائد، ومواضع الزوائد بعد تصريفها بلا زيادةٍ‏.‏ ويحتاجُ مع هذا إلى أن يعلمَ الطريقَ التي وصلَ الخليل منها إلى حَصْر كلام العرب؛ فإذا عرفَ هذه الأشياءَ عرفَ مَوْضع ما يطلُبُ من كتاب العين‏.‏ قال‏:‏ وكتابُنا قَصَدْنا فيه التّقريب على طالب الحَرْفَ، وأن يستويَ في العلم منه بموضعه العالِم والمتعلّم‏.‏ انتهى‏.‏

تذنيب‏:‏

قال تاج الدين أحمد بن مكتوم في تذكرته‏:‏ سُئل بعضُهم لِم سمِّيَ كتابُ الجيم- تصنيف أبي عمرو إسحاق بن مرار الشّيباني- بهذا الاسم‏؟‏ فقال‏:‏ لأن أوله حرف الجيم، كما سمِّي كتاب العين؛ لأن أولَه حرفُ العين، قال‏:‏ فاستحسنَّا ذلك؛ ثم وقفنا على نسخةٍ من كتاب الجيم فلم نجده مبدوءاً بالجيم‏.‏

فائدة‏:‏

روى أبو علي الغساني كتاب العين عن الحافظ أبي عمر بن عبد البر، عن عبد الوارث بن سفيان، عن القاضي مُنذر بن سعيد، عن أبي العبّاس أحمد بن محمد بن ولاّد النّحوي، عن أبيه، عن أبي الحسن علي بن مهدي، عن أبي معاذ عبد الجبار بن يزيد، عن الليث بن المظفر بن نصر بن سيار، عن الخليل‏.‏

فرع‏:‏

ومِنْ مشاهير كُتب اللّغةِ التي نَسَجَت على مِنْوَال العين كتابُ الجَمْهَرَة لأبي بكر بن دُريد‏.‏

قال في خطبته‏:‏ قد ألَّف أبو عبد الرحمن الخليلُ بنُ أحمد الفَرْهُودِي رضوان اللّه عليه كتابَ العين؛ فأَتْعَبَ مَنْ تَصَدَّى لغَايته، وعَنَّى من سَما إلى نهايته، فالمُنْصِفُ له بالغَلب مُعْترف، والمُعَاند متكلِّف، وكلُّ مَنْ بَعْدَه له تَبَع، أقرَّ بذلك أم جَحَد؛ ولكنَّه رحمه اللّه- ألَّف كتابَه مُشاكِلاً لِثُقُوب فَهْمِه، وذَكَاءِ فِطْنَتِه، وحِدَّةِ أذهان أهل دَهْرِه‏.‏

وأمْلينا هذا الكتاب والنَّقْص في الناس فاشٍ، والعَجْزُ لهم شامل، إلاّ خصائص كَدَرَارِيِّ النُّجوم في أَطْرَافِ الأُفق، فسهَّلنا وَعْرَه، ووطَّأْنا شَأْزَه، وأَجْرَيْنَاه على تأليف الحروف المُعْجمة؛ إذ كانت بالقلوب أَعْلَق، وفي الأَسْماع أَنْفَذ، وكان عِلْمُ العامَّة بها كعلم الخاصة، وسَمَّيْناه كتاب الجمهرة؛ لأنا اخْتَرْنا له الجمهور من كلام العرب، وأَرْجَأْنا الوَحْشِيّ المستنكر‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابنُ جنِّي في الخصائص‏:‏ وأما كتابُ الجمهرة ففيه أيضاً من اضْطِراب التَّصْنيف، وفسادِ التَّصْريف، مما أَعْذِرُ واضعَه فيه لبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر، ولمَّا كتبتُه وقعتُ في مَتونه وحواشيه جميعاً من التنبيه على هذه المواضع ما اسْتَحْيَيْت من كَثْرَته؛ ثم إنه لما طال عليّ أوْمَأْتُ إلى بعضه وضربتُ البَتَّةَ عن بعضه‏.‏

قلت‏:‏ مقصودُه الفسادُ من حيث أبنية التصريف، وذكرُ الموادّ في غير محالّها كما تقدم في العَيْن؛ ولهذا قال‏:‏ أعذر واضعَه فيه لِبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر، يعني أن ابنَ دُريد قصيرُ الباع في التصريف وإن كان طويلَ الباعِ في اللغة‏.‏ وكان ابنُ جنّي في التصريف إماماً لا يشُقُّ غبارُه؛ فلذا قال ذلك‏.‏

وقال الأزهري ممن ألَّف الكتبَ في زماننا فَرُمِي بافتعالِ العربيَّةِ وتوليد الألفاظ أبو بكر بن دُريد؛ وقد سألتُ عنه إبراهيمَ بن محمد عرفة- يعني- نِفْطَويه فلم يَعْبَأْ به ولم يُوَثِّقْه في روايته‏.‏

قلت‏:‏ معاذَ اللّه‏!‏ هو بَريءٌ مما رُمِي به، وَمَنْ طالَع الجمهرة رأى تحرِّيه في روايته؛ وسَأَذْكرُ منها في هذا الكتاب ما يُعْرَفُ منه ذلك، ولا يُقْبل فيه طعنُ نِفْطَويه؛ لأنه كانَ بينهما مُنافرةٌ عظيمةٌ، بحيث إنَّ ابنَ دُرَيد هجاه بقَوْله‏:‏

لَوْ أُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى نِفْطَويْه *** لكان ذاك الوَحْيُ سُخْطاً عَلََيه

وشَاعِرٍ يُدْعَى بِنصْفِ اسْمِه *** مُسْتَأْهلٌ للصَّفْعِ في أَخْدَعَيْه

أَحْرَقَهُ اللّهُ بنِصفِ اسْمِه *** وَصَيَّرَ الباقي صُرَاخاً عَلَيْه

وهجا هو ابنَ دُرَيد بقوله‏:‏

ابنُ دُرَيْدٍ بَقَرَه *** وفيه عِيّ وَشَرَه

وَيَدَّعِي مِنْ حُمْقِه *** وَضْعَ كِتَابِ الْجَمْهَرَه

وهو كتابُ الْعَيْن إلاَّ أَنَّهُ قدْ غَيَّرَه

وقد تقرّر في علم الحديث أنَّ كلامَ الأقرانِ في بعضهم لا يقدح‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أمْلَى ابنُ دُرَيْد الجمهرَة في فارس، ثم أَمْلاها بالبَصْرة وببَغْداد مِنْ حِفْظه، ولم يستَعِنْ عليها بالنظر في شيءٍ من الكُتُب إلاَّ في الهَمزةِ واللفيف؛ فلذلك تختلف النسخ، والنُّسْخَة المعوَّل عليها هي الأخيرة، وآخرُ ما صحَّ نسخة عبيد اللّه بن أحمد جَخْجَخْ، لأنه كتبها من عِدَّةِ نسخ وقَرَأَها عليه‏.‏

قلت‏:‏ ظَفِرْتُ بنسخة منها بخطِّ أبي النمر أحمد بن عبد الرحمن بن قابوس الطرابلسي اللُّغوي، وقد قرأها على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دُرَيد، وكتب عليها حواشي من استدراك ابن خالويه على مواضع منها، ونبَّه على بعض أوهامٍ وتصحيفات‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كان لأبي عليّ القالي نسخةٌ من الجمهرة بخطِّ مؤلفها، وكان قد أُعْطِي بها ثلاثمائة مثقال فأبى، فاشتدَّت به الحاجةُ؛ فباعها بأربعين مثقالاً، وكتبَ عليها هذه الأبيات‏:‏

أَنِسْتُ بها عشرين عاماً وبعتُها *** وقد طال وَجْدِي بعدَها وحَنيني

وما كان ظنِّي أنني سأبيعها *** ولو خَلَّدَتْني في السجون دُيوني

ولكن لِعَجْزٍ وافتقارٍ وصِبْيَة *** صغارٍ عليهم تستهلّ شؤوني

فقلت ولم أملك سوابقَ عَبْرتي *** مقالةَ مكوى الفؤاد حَزين

وقد تُخْرِجُ الحاجاتُ يا أم مالك *** كرائمَ من ربٍّ بِهِنَّ ضَنِين

قال‏:‏ فأَرْسَلها الذي اشتراها، وأرسل معها أربعين ديناراً أُخْرى، رحمهم اللّه‏.‏

وجدت هذه الحكاية مكتوبةً بخطّ القاضي مجد الدين الفيروزابادي صاحبِ القاموس، على ظَهْرِ نسخة من العُبَاب للصَّغَاني، ونقلها من خَطِّه تلميذُه أبو حامد محمد بن الضياءِ الحنفي، ونقلتُها من خطِّه‏.‏

وقد اختصر الجمهرةَ الصاحبُ إسماعيلُ بنُ عبَّاد في كتابٍ سماه الجوهرة، وفي آخره يقول‏:‏

لما فَرَغْنا من نِظَامِ الجَوْهره *** أعورت العَيْن ومات الجَمْهَرَه

ووقف التَّصنيف عند القَنْطره

وألَّفَ أتباعُ الخليل وأتباعُ أتباعه وهلّم جَرًّا كُتُباً شتى في اللّغة ما بين مُطَوَّلٍ ومختَصر، وعامٍّ في أنْواع اللغة وخاصٍّ بنوع منها؛ كالأجناس للأصمعي، والنوادر واللُّغات لأبي زيد، والنوادر للكسائي، والنوادر واللغات للفرَّاءِ، واللغات لأبي عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى، والجيم والنوادر والغريب لأبي عَمْرو إسحاق بن مرار الشيباني، والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام، والنوادر لابن الأعرابي، والبَارِع للمفضّل بن سلمة، واليواقيت لأبي عمر الزاهد غلام ثعلب‏.‏ والمنضد لكُراع، والتهذيب للأزهري، والمُجْمَل لابنِ فارس، وديوان الأدب للفارابي، والمحيط للصاحب ابن عبَّاد، والجامع للقزَّاز، وغير ذلك مما لا يُحْصى حتى حُكِي عن الصاحب ابن عبّاد أن بعضَ الملوك أرسل إليه يسألهُ القدومَ عليه فقال له في الجواب‏:‏ أحتاجُ إلى ستين جمَلاً أنقل عليها كتبَ اللغة التي عندي، وقد ذهب جلُّ الكتب في الفِتَنِ الكائنة من التَّتار وغيرهم، بحيث إن الكتبَ الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدّمين والمتأخرين لا تجيء حِمْل جملٍ واحدٍ؛ وغالبُ هذه الكتب لم يََلتزم فيها مؤلّفوها الصحيحَ، بل جمعُوا فيها ما صحَّ وغيرَه، وينبِّهون على ما لم يثبت غالباً‏.‏

وأولُ مِن التزمَ الصحيح مقتصراً عليه الإمامُ أبو نصر إسماعيل بن حمّاد الجَوْهَري؛ ولهذا سمَّى كتابه بالصحاح، وقال في خطبته‏:‏ قد أوْدَعْتُ هذا الكتاب ما صحَّ عندي من هذه اللغة التي شرَّف اللّه منزلتَها، وجعل عِلْم الدِّين والدنيا مَنُوطاً بمعرفتها، على ترتيبٍ لم أُسْبَق إليه، وتهذيبٍ لم أُغلبْ عليه، بعد تحصيلها بالعراق روايةً، وإتقانها دِراية، ومُشافهتي بها العربَ العاربة في ديارهم بالبادية، ولم آل في ذلك نُصْحاً، ولا ادَّخَرتُ وسعاً‏.‏

قال أبو زكريا الخطيب التِّبريزي اللّغوي‏:‏ يقال كتاب الصِّحاح بالكسر وهو المشهور، وهو جمع صحيح كظريف وظراف، ويقال‏:‏ الصَّحاح بالفتح، وهو مفرد نعت كصحيح، وقد جاءَ فَعال بفتح الفاءِ لغةً في فعيل كصحيح وصَحاح، وشحيح وشَحاح، وبريءٍ وبَراءٍ‏.‏ قال‏:‏ وكتاب الصّحاح هذا كتابٌ حسنُ الترتيب، سَهلُ المطلبِ لِما يُراد منه، وقد أتى بأشياءَ حسنة، وتفاسير مشكلات من اللغة، إلاّ أنه مع ذلك فيه تصحيفٌ لا يُشَكُّ في أنه من المصنِّف لا من الناسخ، لأنَّ الكِتاب مبنيٌّ على الحروف، قال‏:‏ ولا تخلو هذه الكتبُ الكِبار من سهْوٍ يقعُ فيها أو غلطٍ‏.‏ وقد رد على أبي عبيد في الغريب مواضع كثيرة منه، غير أن القليل من الغَلط الذي يقع في الكُتب إلى جنبِ الكثير الذي اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفوٌّ عنه‏.‏ هذا كلام الخطيب أبي زكريا‏.‏

وقال أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي اللغوي في كتابه يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر‏:‏ كان الجوهريُّ من أعاجيبِ الزمان، وهو إمام في اللغة، وله كتاب الصحاح، وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوسٍ النيسابوري‏:‏

هذا كتابُ الصِّحاح سيّدُ ما *** صُنِّف قبل الصحاح في الأدبِ

تَشْمَلُ أبوابهُ وَتَجْمَعُ ما *** فُرِّق في غيره من الكُتُبِ

وقال ابنَ برِّي‏:‏ الجوهري أَنْحَى اللغويين‏.‏

وقال ياقوت الحموي في معجم الأدباء‏:‏ كتاب الصحاح هو الذي بأيْدي الناس اليوم، وعليه اعتمادُهم، أحْسنَ الجوهري تصنيفَه، وجوَّدَ تأليفَه، هذا مع تصحيف فيه في عدّة مواضع؛ تَتَبَّعَهَا عليه المحققون‏.‏

وقيل‏:‏ إن سببه أنه لما صنَّفَهُ سُمِع عليه إلى باب الضاد المعجمة، وعَرَضَ له وسْوَسَة؛ فألْقى نفسه من سَطْحٍ فمات، وبقي سائر الكتاب مسوَّدة غيرَ مُنَقَّح ولا مبيَّض؛ فبيَّضَه تلميذُه إبراهيم بن صالح الورَّاق؛ فَغَلِطَ فيه في مواضع غلطاً فاحشاً؛ وكان وفاة الجوهري في حدود الأربعمائة‏.‏

وقد ألَّف الإمام أبو محمد عبد اللّه بن برِّي الحواشيَ على الصِّحاح؛ وصَلَ فيها إلى أثناء حرف الشين، فأكملها الشيخ عبد اللّه بن محمد البسطي‏.‏

وألَّف الإمام رضيّ الدين حسن بن محمد الصَّغَاني التَّكْمِلَة على الصحاح، ذَكَرَ فيها ما فاته من اللّغة، وهي أكبرُ حجماً منه، وكان في عَصْر صاحب الصَّحاح ابنُ فارس فالتزم أن يذكرَ في مُجْمَله الصحيح‏.‏

قال في أوله‏:‏ قد ذَكرنا الواضحَ من كلام العرب والصحيحَ منه، دون الوَحْشيّ المُسْتَنْكر، ولم نألُ في اجتباءِ المشهور الدَّالِّ على غُرَر، وتفسير حديث، أو شعر؛ والمقصودُ في كتابنا هذا من أوّله إلى آخره التقريبُ والإبانةُ عما ائْتَلف من حروف العربية، فكان كلاماً، وذِكْرُ ما صحَّ من ذلك سماعاً، أو من كتابٍ لا يشكُّ في صحَّةِ نَسَبه، لأنَّ مَنْ عَلِم أن اللّه تعالى عند مَقَالِ كلِّ قائل فهو حَرِيٌّ بالتَّحَرُّج من تطويل المؤلَّفات وتكثيرها، بمُسْتَنْكَرِ الأقاويل، وشنيع الحكايات، وبُنَيَّات الطُّرُق؛ فقد كان يُقال‏:‏ مَنْ تتبَّع غرائبَ الأحاديث كَذَب، ونحن نعوذ باللّه من ذلك‏.‏

وقال في آخر المجمل‏:‏ قد توخَّيْتُ فيه الاختصارَ، وآثرتُ فيه الإيجازَ واقتصرتُ على ما صحَّ عندي سماعاً، ومن كتابٍ صحيح النسب مشهورٍ، ولولا توخِّي ما لم أشككّ فيه من كلام العرب لَوَجَدْتُ مقالاً‏.‏

وأعظمُ كتابٍ أُلِّفَ في اللغة بعد عَصْرِ الصّحاح كتابُ المُحْكَم والمحيط الأعظم لأبي الحسن علي بن سِيدَه الأندلسي الضَّرير، ثم كتابُ العُباب للرضي الصَّغاني، ووصل فيه إلى فصل بكم، حتى قال القائل‏:‏

إن الصّغاني الذي *** حاز العلوم والحكم

كان قُصَارى أَمْرِه *** أن انتهى إلى بكم

ثم كتابُ القاموس للإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفَيْرُوزَابادي شيخ شيوخنا، ولم يصل واحدٌ من هذه الثلاثة في كَثرَة التَّدَاول إلى ما وصل إليه الصّحاح، ولا نقصت رتبةُ الصحاح ولا شُهْرَته بوجود هذه، وذلك لالتزامه ما صحَّ؛ فهو في كُتب اللغة نظيرُ صحيح البخاري في كُتب الحديث؛ وليس المَدَارُ في الاعتماد على كَثَرة الجمع، بل على شرْط الصحة‏.‏

قال صاحبُ القاموس في خُطْبته‏:‏ وكنتُ بُرْهَةً من الدَّهْر أَلتْمسُ كتاباً جامعاً وصحيحاً بسيطاً، ومُصَنَّفاً على الفُصُح والشوَارد مُحيطاً، ولما أعياني الطّلاب شرعتُ في كتابي الموسوم باللامع المُعْلَم العُجَاب، الجامعِ بين المُحْكَم والعُبَاب، فهما غُرَّتا الكُتب المصنّفة في هذا الباب، ونَيِّرَا بَرَاقِع الفضل والآداب، وضَمَمْتُ إليهما زيادات امْتَلأَ بها الوطِاب، واعْتَلَى منها الخِطَاب؛ ففاقَ كلَّ مؤلف في هذا الفن هذا الكتابُ، غيرَ أني خَمَّنْتُه في ستين سِفْراً يُعْجز تحصيلُه الطُّلاب، وسُئِلْتُ تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام، وعَمَلٍ مُفَرَّغ في قالَبِ الإيجاز والإحكام، مع التزام إتمام المعاني، وإبرام المباني؛ فصرفت صوبَ هذا القصد عِناني، وألَّفتُ هذا الكتاب محذوفَ الشواهد، مطروحَ الزوائد مُعْرِباً عن الفُصُحِ والشَّوارد، وجعلت بتوفيق اللّه زُفَرَاً في زِفْر، ولَخَّصتُ كلَّ ثلاثين سِفراً في سِفْر، ثم قال‏:‏ ولما رأيت إقْبالَ الناس على صحاح الجوهري، وهو جدير بذلك، غيرَ أنه فاتَه ثلثا اللغة أو أكثر، إما بإهمال المادة أو بترك المعاني الغريبة النَّادّة، أردتُ أن يظهر للناظر بادئَ بدءٍ فَضْلَ كتابي عليه، ونَبَّهْت فيه على أشياء ركب الجوهريّ رحمه اللّه فيها خلاف الصواب، غير طاعنٍ فيه، ولا قاصد بذلك تَنْدِيداً له وإزراءً عليه، وَغضّاً منه، بل استيضاحاً للصواب، واسْتِرْباحاً للثواب، وتحرّزاً وحذاراً من أن ينمى إليّ التصحيف، أو يُعْزَى إليّ الغلط والتحريف‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ واخْتَصَصْتُ كتابَ الجوهري من بين الكتب اللُّغَوية، مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة، والأغلاط الفاضحة؛ لِتَدَاوُله واشتهارِه بخصوصه، واعتماد المدرسين على نُقُوله ونصوصه‏.‏ انتهى‏.‏

وفي القاموس يقولُ بعضُ الأُدبَاء‏:‏

مذ مدَّ مجدُ الدين في أيامه *** من بعض بحر علومه القاموسا

ذهبت صحاح الجوهري كأنها *** سحر المدائن حين القى موسى

قلت‏:‏ ومع كَثرةِ ما في القاموس من الجمع للنَّوادّ والشوارد، فقد فاته أشياءُ ظفِرتُ بها في أثناء مطالعتي لكُتُب اللغة حتى هَمَمْتُ أن أجْمَعَها في جُزءِ مُذَيِّلاً عليه؛ وهذا آخر الكلام في هذا النوع، ونشرعُ بعده إن شاء اللّه تعالى في بقية الأنواع‏.‏

النوع الثاني‏:‏ معرفة ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت

هذا النوع يقابلُ النوعَ الأولَ الذي هو الصحيح الثابتُ؛ والسبب في عدم ثبوت هذا النوع عدمُ اتصال سَنَدِه لسقوطِ راوٍ منه، أو جهالته، أو عدم الوثوق بروايته؛ لفَقْدِ شَرْطِ القَبول فيه، كما سيأتي بيانُه في نوع مَنْ تُقْبَلُ روايته، ومَنْ تُرَدُّ؛ أو للشكِّ في سَمَاعه‏.‏

أمثلة هذا النوع كثيرةٌ‏.‏

منها ما في الجمهرة لابن دُرَيد‏:‏

قال‏:‏ زَعموا أن الشَّطْشاط‏:‏ طائر، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ في بعض اللغات‏:‏ ثَبَطَت شفةُ الإنسان ثَبْطَاً إذا ورِمت، وليس بثَبْت‏.‏

وفيها‏:‏ استعمل ضَبَجَ ضبجاً إذا ألقى نفسه بالأرض من كلال أو ضرب، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ الجَبْجَاب‏:‏ الماء الكثير،، وكذلك ماءٌ جُبَاجب، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ الرُفَف‏:‏ الرقَّة في الثوب وغيره، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ بتأ َيَبْتَأُ بَتأً‏:‏ إذا أقام بالمكان، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ هَتأَ الشيء يَهْتَوُه إذا كسره وَطْأً برجله، زعموا، وليس يثبت‏.‏

وفيها‏:‏ أرض حَثْواء‏:‏ كثيرة التراب، زعموا، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ الخَثْوَاء‏:‏ المسترخيةُ أسفل البطن من النساء، امرأة خثواء، ورجل أخثى؛ وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ ناقة رَجَّاء ممدود زعموا، إذا كانت مرتجة السنام، ولا أدري ما صحّته‏.‏

وفيها‏:‏ الدَّنْحَبَة‏:‏ الخِيانة، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ ذكر بعضُ أهل اللغة أن الكَسْحَبَة‏:‏ مَشْيُ الخائف المُخْفِي نفسه، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ الحَبْشَقة والحُبْشُوقة‏:‏ دُويّبة، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ كَنْحَب، قالوا‏:‏ نبت، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ يقال‏:‏ زَلْدَبْتُ اللُّقمة إذا ابتلعتُها، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ يقال‏:‏ رجل بُرْزُل‏:‏ إذا كان ضخماً، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ القَهْبَسَة‏:‏ الأتانُ الغليظةُ، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ القُشْلُب، والقِشْلِب، قالوا‏:‏ نبت، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ العَضْبَل‏:‏ الصُّلب، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ الهَنْقب‏:‏ القصير، وليس بثبت‏.‏

وفيها حَثْرَفْتُ الشيء‏:‏ زعزعته، وليس بثبت‏.‏

الثُّخْروط‏:‏ نبت زعموا، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ الثَّطْعَمةَ، زعموا يقال‏:‏ تَثَطْعَمَ الرجلُ على أصحابه إذا علاهم في كلام، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ العَنْطث، زعموا‏:‏ نبت، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ القَنطَثَة، زعموا العَدْوُ بفَزَع، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ السَّحْجَلَةُ، زعموا صَقْلُك الشيء، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ سَبّود، ذكر بعض أهل اللغة أنه الشَّعر، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ جَزالاء بمعنى الجزل، وليس بثبت، قال‏:‏ وجاء أيضاً مِمّا لا يُعْرَف قِصَاصَاء بمعنى القِصاص، وزعموا أن أعرابيّاً وقف على بعض الأمراءِ بالعراق فقال‏:‏ القِصَاصاء أصلحك اللّه أي خُذْلِي بالقِصَاص‏.‏

وفيها‏:‏ في بعض اللغات حُسُن الشيء وحَسَن، وصَلَح وصُلح، وليس بثبت، وفيها‏:‏ زعم قومٌ من أهل اللغة أن القِشْبَة‏:‏ ولدُ القِرْد، ولا أدري ما صِحَّته‏.‏

وفيها‏:‏ العلب، زعموا، الذي لأُمه زوج، ولا أعرف ما صحّة ذلك، وفيها‏:‏ الهَبَق نبت زعموا، ولا أدري ما صحّته‏.‏

وفيها‏:‏ اللَّقْعُ‏:‏ الضربُ، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ القَلْس‏:‏ حبل من ليفٍ أو خُوص، ولا أدري ما صحَّتُه‏.‏

وفيها‏:‏ ما ذكر أبو مالك أنه سمع من العرب حِمْلاق وحُمْلاق، وليس الضم بثبتَ وفيها‏:‏ يقال تَفَكَّن القوم إذا تندّموا، وتفكهنُوا، وليس بثبت، فأما تفكَّهوا تعجَّبوا فصحيح، وكذلك فسِّر في التنزيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَظلْتُم تَفَكَّهُونَ‏}‏، أي تَعْجَبون، وتميم تقول‏:‏ وتَفَكَّنُونَ‏:‏ تندمون، وفيها‏:‏ يقال إن الكُلاَم بضم الكاف‏:‏ أرضٌ غليظة، وما أدري ما صحَّته‏.‏

وفيها‏:‏ الهَرْوُ لا أصل له في العربية، إلاّ أن أبا مالك جاء بحرفٍ أنْكَرَه أهلُ اللغة قال‏:‏ هَرَوْتُ اللحم أنضجته، وإنما هو هَرَأْتُه‏.‏

وفيها‏:‏ خَذَعْرَب‏:‏ اسمٌ جاء به أبو مالك، ولا أدري ما صحَّته‏.‏

وفيها‏:‏ عذَج الماء يعذِجه عذْجاً جرَعه، ولا أَدري ما صِحَّتها‏.‏

وفيها‏:‏ البَيْظُ‏:‏ زعموا، مستعمل، وهو ماء الفَحْل، ولا أدري ما صِحَّته‏.‏

وفيها‏:‏ زعموا أن المِنْطَبَة‏:‏ مِصْفَاة يصفَّى بها الخمر، ولا أدري ما صحَّته‏.‏

وفيها‏:‏ قال قوم‏:‏ الوَقْواق‏:‏ طائرٌ بَعيْنه، وليس بثَبْت‏.‏

وفيها‏:‏ كرى‏:‏ نجم، زَعموا، من الأنواء، وقالوا‏:‏ هو النسر الواقع، لغة يمانية، وليس بثبت‏.‏

وفيها يقال‏:‏ طِفْل بيِّن الطُّفولة، وقال قوم‏:‏ الطَّفَالة، وليس بثبت، وصارم بيِّن الصَّرامة، وحازم بيِّن الحزَامة، وقال قوم‏:‏ الصُّرومة والحُزُومة، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ اللَّغْلَغُ‏:‏ طائر، ولا أحسبه صحيحاً‏.‏

وفيها‏:‏ الطائر الذي يسمى اللَّقْلق ما أدري ما صِحَّته‏.‏

وفيها‏:‏ الغُنْبُول، والغُنْبُول‏:‏ طائر، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ البَغْز أَصْلُ بنْيَة البَاغِز وهو المُقْدِم على الفجور، زعموا، ولا أُحقِّه‏.‏

وفيها‏:‏ البَاغِز‏:‏ موضع تُنْسَب إليه الأكسِية والثياب، ولا أعرف صحَّته ما هو‏.‏

وفيها‏:‏ قد اختُلف في المثل الذي يقال‏:‏ الكِرابَ على البقر، فقالوا‏:‏ إنما هو الكلابُ على البقر، ولا أدري ما صحَّته‏.‏

وفيها زعم قوم أنَّ بعض العرب يقولون في الأخِ والأُخت أخٌّْ وأخَة، ذكره ابنُ الكلبي، ولا أدري ما صحَّةُ ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ الخَلاة‏:‏ الأرض الكثيرة الشجر بغير هَمْزٍ، وليس بثبت‏.‏

و فيها‏:‏ الخِضَاء‏:‏ تفتُّت الشيء الرَّطْب وانْشِدَاخُه خاصة، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ العَشْجَب‏:‏ الرجل المُسْتَرخي، وقالوا‏:‏ الخبول من جُنون أو نحوه، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ الفَظِيظُ‏:‏ زعم قوم أنه ماء الفَحْل، أو ماء المرأة، وليس بثبت‏.‏

وفيها‏:‏ الخُعْخُع‏:‏ ضربٌ من النبت، وليس بثبت‏.‏

وقال‏:‏ زعم قومٌ من أهل اللغة أن الحرَّ- يعني خلاف البَرْد- يُجْمَعُ أَحَارِر، ولا أعْرَف ما صحّته، وقال‏:‏ المُحَاح في بعض اللغات‏:‏ الجوع، ولا أدري ما صحته‏.‏

وقال‏:‏ قال بعض أهل اللغة‏:‏ العَلُّ مثل الزِّير‏:‏ الذي يُحِبُّ حديث النساء، ولا أدري ما صحته‏.‏

وقال‏:‏ ذكر قوم أن الوَحْوح ضربٌ من الطير، ولا أدري ما صحَّته‏.‏

وقال‏:‏ الزُّغْزُغ‏:‏ ضربٌ من الطير، زعموا، ولا أعرف ما صحَّته‏.‏

وقال ابن دريد قال أبو حاتم‏:‏ الأَتانُ‏:‏ مَقَامُ المُسْتَقِي على فَمِ الرَّكِيَّة، فسألت عبد الرحمن فقال‏:‏ الإتان بكسر الألف، قال ابنُ دُرَيد‏:‏ والكفُّ عنها أحبُّ إليّ لاختلافهما‏.‏

وقال‏:‏ سمعت عبد الرحمن بن أخي الأصمعي يقول‏:‏ أرض جِلْحِظاء- الظاء معجمة والحاء غير معجمة- وهي الصُّلْبَة التي لا شَجَرَ بها، وخالفه أصحابُنا فقالوا‏:‏ الجِلْخِطَاء بالخاء معجمة، فسألته فقال‏:‏ هذا رأيتُه في كتاب عمِّي، قال ابنُ دريد‏:‏ وأنا أَوْجَل من هذا الحَرْف، وأخافُ ألا يكون سَمِعه‏.‏

وقال سيبويه‏:‏ جِلْخِطاء بالجيم والخاء والطاء، فلا أدري ما أقولُ فيه‏.‏

وقال‏:‏ زعم قومٌ من أهل اللغة أن الضُّؤْضُؤ هذا الطائر الذي يسمى الأَخْيَل، ولا أدري ما صحَّته‏.‏

وقال‏:‏ الجُمُّ زعموا‏:‏ صَدف من صدَف البحر، ولا أعرفُ حقيقته‏.‏

وقال‏:‏ المُجُّ والبُجُّ‏:‏ فرخ الحمام ولا أعرف ما صحَّته‏.‏

وقال‏:‏ الحَوْبَجَة زعموا‏:‏ وَرَمٌ يصيب الإنسان في جَسده لغة يمانية، لا أدري ما صِحَّته‏.‏

وقال‏:‏ يقال للقناة التي يجري فيها الماءُ في باطن الأرض إرْدبّ، ولا أدري ما صحَّته‏.‏

وقال‏:‏ البَيْقَرَان‏:‏ نَبْتٌ، ذكره أبو مالك، ولا أدري ما صحَّته‏.‏

وقال ابنُ دُريد قال بعض أهل اللغة‏:‏ تُسمى الفَأْرة غُفَّة؛ لأنها قُوتُ السنَّوْر، وأنشد هذا البيت عن يونس، لا أدري ما صحَّته‏:‏

يديرُ النَّهَار بحَشْر له *** كما عَالَج الغُفَّة الخَيْطَل

النهار‏:‏ وَلَدُ الحُبَارى، والخَيْطل‏:‏ السِّنَّوْر، والحَشْر‏:‏ سهم صغير‏.‏

وقال أبو عبيد في الغريب المصنّف‏:‏ قال الأموي‏:‏ المنيّ، والمذيّ، والوديّ، ومشدَّادات الياء،، والصواب عندنا قول غيره أن المنيَّ وحده بالتشديد، والآخران مخففان‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ البُصْع الجمع سمعتُه من بعض النَّحويين، ولا أدري ما صحَّتُه‏.‏ والنحيجة‏:‏ زبد رقيق ويقال‏:‏ النَّجيحة بتقديم الجيم، ولا أدري ما صحته‏.‏

وفي الصحاح يقول‏:‏ في فلان تَيْسِيَّةٌ، وناس يقولون تَيْسُوسِيَّة وكَيفُوفِيّة، ولا أدري ما صحتهما‏.‏

وفي التهذيب للأزهري‏:‏ قال الليث‏:‏ أَسَد قَصْقَاص نعْتٌ له في صوته، وحيَّة قَصْقاص نعتٌْ لها في خُبْثِها، قال الأزهري‏:‏ وهذا الذي في نَعْت الأسد والحيَّة لا أعرِفه، وأنا بريء من عُهْدته‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ يقال‏:‏ وَرضَت الدَّجاجة إذا كانت مرخمة على البيض؛ ثم قامت فذرقت بمَرَّةٍ واحدة ذرقاً كثيراً، قال الأزهري في التهذيب؛ بعد أن حكَى هذه المقالة عن الليث وزاد وكذلك التَّوْريض في كلِّ شيء‏:‏ هذا الحرفُ عندي مريب، والذي يصحُّ فيه التَّوْريص بالصاد‏.‏ أخبرني المنذريّ عن ثعلب عن سلمة عن الفرّاء، ورَّص الشيخ بالصاد إذا استرخى حِتَار خَوْرَانِه فأبدى‏.‏ وحُكي عن ابن الأعرابي نحوه؛ قال‏:‏ أَوْرَص ووَرَّص إذا رمى بغطائه، قال الأزهريّ‏:‏ فهذا هو الصحيح، ولا أعرف الحرف بالضاد‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ الضِّفة بالكسر‏:‏ جانب النهر، ونقله الأزهري في التهذيب عن اللَّيث، ثم قال‏:‏ لم أَسْمع ضِفَّة لغير اللَّيث، والمعروف الضَّفة والضِّيفُ الجانب النهر‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ زَبَق شعره يزِبقُهُ زبقاً‏:‏ نتفه، قال أبو زكريا التَّبريزي قال أبو سهل‏:‏ هكذا رواه أبو عبيد في الغريب المصنَّف، عن أبي زيد بالباء‏.‏ وأخبرنا أبو أُسامة عن أبي منصور الأزهري، عن أبي بكر الإيادي، عن ابن حمدويه، قال‏:‏ الصواب زَنقه بالنون يزنقه، ومنه زنق ما تحت إبطِه من الشَّعر إذا نَتَفَه، قال‏:‏ وأما زَبقه بالباء فمعناه حبَسه‏.‏ والزابوقاء‏:‏ الحبس‏.‏ وقال أبو أُسامة يصحِّح قولَ ابن حمدويه أن الأصمعي قال‏:‏ زَلَقَ رأسه إذا حلقه باللام، والنون تُبْدَلُ من اللام في مواضع كثيرة، فكأن زنقه بالنون بمعنى زَلَقه باللام‏.‏

وفي المُحْكَم لابن سِيده‏:‏ التَّتْنِيخ‏:‏ المقام، ولستُ من الحرف على ثقة‏.‏

وفي العين‏:‏ احْوَنْصَل الطائر إذا ثَنَى عُنقُه، وأخرج حَوْصَلَته‏.‏ قال الزَّبيدي في كتاب الاستدراك‏:‏ احْوَنْصَلَ مُنْكَرَةٌ، ولا أعلم شيئاً على مثال أفونعل من الأفعال‏.‏

وفي العَين‏:‏ التُّحْفة مُبَدلة من الواو، وفلان يتوحَّف‏.‏ قال الزَّبيدي‏:‏ ليست التاء في التحفة مبدلة من الواو؛ لوجودها في التصاريف‏.‏ وقوله‏:‏ يتوحَّف منكَر عندي‏.‏

وقال ابن القوطية‏:‏ في كتاب الأفعال‏:‏ أَنْهَبْتُ الشيءَ‏:‏ جعلته نهباً يغار عليه، ونَهَبْتُه لغة ذكرها قُطْرب، وهو غير ثِقَة‏.‏ انتهى‏.‏

و في المجمل لابن فارس‏:‏ الحَتْرُ‏:‏ ذكر الثّعالب، وفيه نظر‏.‏

وقال‏:‏ العِلَّوش‏:‏ الذئب، وفيه نظر؛ لأن الشين لا تكون بعد اللام‏.‏

وقال‏:‏ الوَلاَّس‏:‏ الذئب، فيما يقال، وفيه نظر‏.‏

وقال‏:‏ يقولون‏:‏ القَلْخ‏:‏ الحمار، والقلخ‏:‏ الفَحْل إذا هاج وفيهما نظر‏.‏

وقال‏:‏ يقال‏:‏ نَأَتَ الرجل‏:‏ إذا اجتهد، وفيه نظر، وقال‏:‏ رجل أَنْبَس‏:‏ كريه الوجهِ، وفيهِ نظر، وقال‏:‏ يقال النَّسْك‏:‏ المكان الذي تألفهُ، وفيه نظر وقال‏:‏ يقال شيء وافلٌ أي وافر، وفيه نظر‏.‏

وقال يقال‏:‏ المَعْفِس‏:‏ المَفْصِل من المفاصل، وفي هذه الكلمة نظر‏.‏

وقال‏:‏ يقال العُمْشُوش‏:‏ العنقود إذا أُخِذ ما عليه، وفيه نظر‏.‏

وقال‏:‏ يقال إن غُنَجَة معرفة بلا ألف ولام‏:‏ القُنفذ لا تنصرف وفيه نظر‏.‏

وقال‏:‏ عَمَشْتُ الرجل بالعصا‏:‏ ضربتُه، وفيه نظر‏.‏

وقال‏:‏ العتار قرحة لا تجفّ، وفي ذلك نظر‏.‏

وقال يقال‏:‏ إن العَاذِرَة المرأة المستحاضة‏.‏

وقال‏:‏ حَكى بعض مَنْ في قوله نظَر أن الاعْتِذَال‏:‏ الاعتزام على الشيء يقال‏:‏ اعتذل على الأمر إذا اعتزم عليه‏.‏

وقال يقال‏:‏ عَرَّز عني أَمْرَه‏:‏ أي أخفاه، واعْتَرَز‏:‏ أي انقبص، وفيه نظر‏.‏

وقال‏:‏ قال ابن دريد‏:‏ القَزَب‏:‏ الصَّلاَبة والشدة، قَزِبَ الشيء‏:‏ صلب لغة يمانية‏.‏

قال‏:‏ ولولا حُسْنُ الظنّ بأهل العلم لتُرك كثير مما حكاه ابنُ دريد‏.‏

النوع الثالث‏:‏ معرفة المتواتر والآحاد

قال الكمال أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنْبَاري في كتابه لمع الأدلة في أصول النحو‏:‏

تقسيم النقل إلى قسمين تواتر وآحاد

اعلم أن النَّقْل ينقسم إلى قسمين‏:‏ تواتر وآحادفأما التواترُ فلغةُ القرآن وما تواترَ من السّنة، وكلام العرب؛ وهذا القسم دليل قطعيّ من أدلة النَّحْو يفيدُ العلم، واختلفَ العلماء في ذلك العلم؛ فذهب الأَكْثرون إلى أنه ضروريّ، واستدلّوا على ذلك بأن العلم الضروريَّ هو الذي بينه وبين مَدْلولِه ارتباطٌ معقول؛ كالعلم الحاصل من الحواسِّ الخمسِ‏:‏ السمع، والبَصر، والشمّ، والذَّوْق، واللَّمْس؛ وهذا موجود في خَبر التواتر، فكان ضروريّاً‏.‏

وذهب آخرون إلى أنه نظريّ، واستدلُّوا على ذلك بأن بينَه وبين النَّظَر ارتباطاً؛ لأنه يُشْتَرط في حصوله نقلُ جماعةٍ يستحيلُ عليهم الاتفاقُ على الكَذِب دونَ غيرهم؛ فلما اتَّفَقوا عُلِمَ أنه صِدْق‏.‏

وزعمت طائفةٌ قليلة أنه لا يُفْضِي إلى عِلْمٍ البتَّة، وتمسكت بشُبْهَة ضعيفةٍ؛ وهي أن العلمَ لا يَحْصُلُ بنَقْلِ كلِّ واحد منهم؛ فكذلك بنَقْلِ جماعتهم؛ وهذه شُبْهَةٌ ظاهرةُ الفسادِ؛ فإنه يَثْبُت للجماعة ما لا يثبُت للواحد؛ فإن الواحدَ لو رَامَ حَمْل حِمْلٍ ثقيل لم يُمْكِنْه ذلك؛ ولو اجتَمَع على حَمْله جماعةُ لأمكن ذلك؛ فكذلك هاهنا‏.‏

وأما الآحاد فما تَفَرَّد بنَقْلِه بعضُ أهل اللغة، ولم يُوجَدْ فيه شرطُ التواتر؛ وهو دليلٌ مأخوذٌ به، واختَلفوا في إفادته‏:‏ فذهب الأكثرون إلى أنه يفيدُ الظنَّ، وزعم بعضُهم أنه يفيدُ العلم؛ وليس بصحيح لتَطَرُّق الاحتمال فيه، وزعم بعضُهم أنه إن اتصلت به القرائنُ أَفاد العلمَ ضرورةً؛ كخبر التَّواتر لوجودِ القرائن‏.‏

ثم قال‏:‏ واعلم أن أكثرَ العلماء ذهبوا إلى أن شَرْط التواتر أن يبلغَ عددُ النَّقَلَة إلى حدٍّ لا يجوزُ على مثلهم الاتفاقُ على الكذب، كَنَقلة لغةِ القرآن، وما تواترَ من السُّنة، وكلامِ العرب؛ فإنهم انْتَهَوْا إلى حدٍّ يستحيل على مثلِهم الاتفاقُ على الكذب‏.‏

وذهب قومٌ إلى أن شَرْطَهُ أن يبلغوا سبعين‏.‏ وذهب آخرون إلى أن شَرْطَه أن يبلغوا أربعين‏.‏ وذهب آخرون إلى أن شَرْطه أن يبلغوا اثني عشر‏.‏ وذهب آخرون إلى أن شَرْطه أن يبلغوا خمسة‏.‏ والصحيح هو الأول‏.‏ وأما تعيينُ تلك الأعداد فإنما اعتمدُوا فيها على قِصَص ليس بينها وبين حصول العلم بأخبار التواتر مُناسبةٌ؛ وإنما اتَّفَق وجودها مع هذه الأعداد، فلا يكون فيها حجةٌ، انتهى ما ذكره ابن الأنباري‏.‏

الطريق إلى معرفة اللّغة النقلُ المحض

وقال الإمام فخر الدين الرّازي في كتاب المحصول‏:‏ الطريقُ إلى معرفة اللّغة النقلُ المحض، وهو إما تواتر أو آحاد، وعلى كل منهما إشكالات‏:‏ أما التواتر فالإشكال عليه من وجوه‏:‏ أحدُها- أنَّا نجدُ الناسَ مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثرُ الألفاظِ تداوُلاً ودَوَرَاناً على ألْسِنَة المسلمين اختلافاً شديداً لا يمكنُ فيه القَطْعُ بما هو الحقُّ؛ كلَفْظة اللّه؛ فإن بعضَهم زعم أنها عِبْرية، وقال قومٌ‏:‏ سُرْيانية، والذين جعلوها عربيةً اختلفوا‏:‏ هل هي مشتَقَّة أَوْلاً؛ والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافاً شديداً، ومن تأمَّل أدلَّتهم في ذلك علم أنها مُتعَارِضة، وأنَّ شيئاً منها لا يُفيد الظنَّ الغالب فَضْلاً عن اليقين‏.‏

وكذلك اختلفوا في لَفْظ الإيمان والكُفْر، والصَّلاة والزكاة؛ فإذا كان هذا الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهرُ الألفاظ، والحاجةُ إليها ماسَّة جدّاً، فما ظنّك بسائر الألفاظ‏؟‏ وإذا كان كذلك ظهر أن دَعْوَى التواتر في اللُّغة والنَّحْو متعذّرٌ‏.‏

وأُجيب عنه بأنه وإن لم يُمْكِن دَعْوى التواتر في معانيها على سبيل التَّفصيل؛ فإنَّا نعلمُ معانَيها في الجملة؛ فنعلم أنهم يطلقون لفظة اللّه على الإله المعبود بحقّ، وإن كنا لا نعلمُ مُسَمَّى هذا اللفظ؛ أَذَاته، أم كونه معبوداً، أم كونه قادراً على الاختراع، أم كونه مَلْجَأ للخَلْق، أم كونه بحيث تتحيَّر العقول في إدْراكه، إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ، وكذا القولُ في سائر الألفاظ‏.‏

الإشكال الثاني- أن من شَرْط التواتر استواءَ الطَّرَفين والواسطة، فهَبْ أنَّا علمنا حصولَ شَرْط التَّواتر في حُفَّاظ اللّفة والنَّحْو والتصريف في زماننا، فكيف نعلمُ حصولها في سائر الأزمنة، وإذا جهلنا شَرْط التواتر جهلنا التواتر ضرورة؛ لأن الجهلَ بالشرط يوجب الجهلَ بالمشروط‏.‏

فإن قيل‏:‏ الطريق إليه أَمْران‏:‏ أحدهما- أن الذين شاهَدْناهم أخبرونا أن الذين أخبرُوهم بهذه اللغات كانوا موصوفين بالصفاتِ المُعتَبَرَةِ في التواتر، وأن الذين أخبروا مَنْ أَخْبَروهم كانوا كذلك إلى أن يتَّصل النَّقْل بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

والآخرُ- أن هذه لو لم تكن موضوعة لهذه اللغات، ثم وضَعَها واضعٌ لهذه المعاني لاشتهَر ذلك وعُرِف؛ فإن ذلك مما تَتَوَفَّر الدَّواعي على نَقْلِه‏.‏

قلنا‏:‏ أما الأول فغيرُ صحيح؛ لأنَّ كلَّ واحد منَّا حين سمع لغةً مخصوصة من إنسانٍ فإنه لم يسمع منه أنه سَمِعه من أهل التواتر، وهكذا؛ بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه مما لا يَفْهمه كثيرٌ من الأدباء؛ فكيف يُدَّعى عليهم أنهم علموه بالضرورة‏؟‏ بل الغايةُ القصوى في راوي اللغة أن يسنده إلى كتاب صحيح، أو إلى أُسْتاذٍ مُتْقن، ومعلومٌ أن ذلك لا يفيدُ اليقين‏.‏

وأما الثاني فضعيفٌ أيضاً؛ لأن ذلك الاشتهارَ إنما يَجبُ في الأمور المهمَّة، وتغييرُ اللفظةِ الواحدة ليس من المهمّات العظيمة، حتى يُشْتهر ويُنْقل؛ وأيضاً فهو منقوض بالكلمات الفاسدة والإعرابات المعوجَّة الجارية في زماننا، مع أن تَغيَّرها ومُغَيُّرها غير معلوم‏.‏

الثالث- إنه قد اشتهر، بل بلغ مَبْلغَ التواتر، أن هذه اللغاتِ إنما أُخِذَت عن جمع مخصوص؛ كالخليل، وأبي عمرو، والأصمعي، وأَقْرَانهم؛ ولا شكَّ أنَّ هؤلاء ما كانوا مَعْصومين ولا بالِغين حدَّ التواتر، وإذا كان كذلك لم يحصل القَطْع واليقينُ بقولهم‏.‏

أَقْصى ما في الباب أن يقال‏:‏ نعلم قطعاً أن هذه اللغاتِ بأسْرها غيرُ منقولة على سبيل الكذب، ويقطع بأن فيها ما هو صدقٌ قطعاً، لكن كلّ لفظة عيَّناها فإنا لا يمكننا القطعُ بأنها من قبيل ما نُقل صِدْقاً؛ وحينئذ لا يبقى القَطْع في لفظِ معيَّن أصلاً؛ وهذا هو الإشكال على مَن ادّعى التواتر في نقل اللّغات‏.‏

وأما الآحاد فالإشكالُ عليه من جهةِ أن الرُّواة له مَجْروحون ليسوا سالمين عن القَدْح بيانُه أن أصلَ الكتب المصنّفة في النّحو واللغة كتابُ سيبويه وكتابُ العَيْن؛ أما كتابُ سيبويه فَقَدْحُ الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهرُ من الشمس، وأيضاً فالمبرّد كان من أجلِّ البصْريين وهو أَفْرَد كتاباً في القَدْح فيه، وأما كتابُ العين فقد أطبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه، وأيضاً فإن ابنَ جنِّي أورد باباً في كتاب الخصائص في قَدْح أكابر الأدباءِ بعضهم في بعض، وتكذيبِ بعضهم بعضاً، وأورد باباً آخر في أن لغة أهل الوَبر أصحُّ من لغة أهل المَدر؛ وغرضُه من ذلك القَدْحُ في الكوفيين، وأورد باباً آخر في كلماتٍ من الغريب لا يُعلم أحدٌ أتى بها إلاّ ابن أحمر الباهلي، وروي عن رُؤْبة وأبيه أنهما كانا يَرْتجلان ألفاظاً لم يَسْمَعاها، ولا سُبِقا إليها، وعلى ذلك قال المازني‏:‏ ما قِيس على كلام العرب فهو من كلامهم‏.‏ وأيضاً فالأصمعي كان منسوباً إلى الخَلاعة، ومشهوراً بأنه كان يَزِيد في اللغة ما لم يكن منها‏.‏ والعَجَبُ من الأصوليين أنهم أقاموا الدّلائل على خَبَر الواحد أنه حجّةٌ في الشّرع، ولم يقيموا الدّلالة على ذلك في اللغة؛ وكان هذا أَوْلى، وكانوا من الواجب عليهم أن يَبْحَثوا عن أحوال اللّغات والنّحو، وأن يفحصوا عن جَرْحهم وتعديلهم، كما فعلوا ذلك في رُواة الأخبار، لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدةِ الحاجةِ إليه؛ فإن اللغة والنحو يجريان مَجْرَى الأصل للاستدلال بالنصوص‏.‏

ثم قال الإمام‏:‏ والجواب عن الإشكلالات كلّها أن اللغةَ والنّحو والتصريف تنقسم إلى قسمين‏:‏ قسم منه متواتر، والعلمُ الضروريّ حاصلٌ بأنه كان في الأزمنة الماضية موضوعاً لهذه المعاني؛ فإنا نجد أنفسنا جازمة بأن السماء والأرض كانتا مُسْتعَملَتين في زَمَنه صلى الله عليه وسلم في معناهما المعروف، وكذلك الماء والهواء والنار وأمثالها، وكذلك لم يَزَل الفاعلُ مرفوعاً، والمفعولُ منصوباً، والمضافُ إليه مجروراً‏.‏

وقسم منه مَظنون؛ وهو الألفاظ الغريبة، والطريق إلى معرفتها الآحادُ، وأكثرُ ألفاظِ القرآن ونحوه وتصريفِه من القسم الأول، والثاني فيه قليلٌ جدّاً فلا يُتَمَسَّك به في القَطْعيات، ويُتَمَسَّك به في الظّنيات‏.‏

هذا كله كلام الإمام فخر الدين، وقد تابعهُ عليه صاحبُ الحاصل، فأوردَه برُمَّته، ولم يتعقّب منهُ حرفاً‏.‏

وتعقَّب الأصبهاني في شرح المحصول بعضَه فقال‏:‏ أما قوله‏:‏ وأورد ابنُ جنّي باباً في كلمات من الغريب لم يأتِ بها إلاّ الباهلي‏.‏ فاعلمْ أن هذا القدرَ، وهو انفرادُ شخصٍ بنَقْل شيَء من اللغة العربية، لا يقدَح في عدالته، ولا يلزمُ من نَقْل الغريب أن يكون كاذباً في نَقْله، ولا قصدَ ابنُ جنّي ذلك‏.‏

وأما قول المازني‏:‏ ما قِيس‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره، فإنه ليس بكذبٍ ولا تجويز لِلْكذِب؛ لجوازِ أن يرى القياس في اللغات، أو يُحْمَل كلامه على هذه القاعدة وأمثالها؛ وهي أن الفاعل في كلام العرب مرفوعٌ، فكلُّ ما كان في معنى الفاعل فهو مرفوع‏.‏

وأما قوله‏:‏ إن الأصوليين لم يقيموا *** إلى آخره، فضعيف جداً؛ وذلك أن الدليلَ الدالَّ على أن خبرَ الواحد حجةٌ في الشّرع يمكن التمسّك به في نَقْل اللغة آحاداً إذا وُجدت الشرائط المعتبرة في خبر الواحد؛ فلعلهم أهملوا ذلك اكْتِفاءً منهم بالأدلة الدَّالة على أنه حجةٌ في الشرع‏.‏

وأما قوله‏:‏ كان الواجب أن يبحثوا عن حال الرُّواة *** إلى آخره، فهذا حق؛ فقد كان الواجب أن يُفْعَل ذلك، ولا وجْه لإهماله، مع احتمال كذب من لم تُعْلَم عدالتُه‏.‏

وقال القَرَافي‏:‏ في شرح المحصول في هذا الأخير‏:‏ إنما أهملوا ذلك؛ لأن الدواعيَ متوفِّرة على الكذب في الحديث لأسْبابِه المعروفةِ الحاملةِ للواضعين على الوَضْعِ؛ وأما اللغةُ فالدَّواعي إلى الكذب عليها في غاية الضّعْف، وكذلك كتبُ الفقهِ لا تكادُ تجد فروعاً موضوعة على الشافعي أو مالك أو غيرهما؛ وكذلك جَمَع الناس من السنّة موضوعاتْ كثيرة وجَدُوها، ولم يجدوا من اللغة وفروع الفقهِ مثل ذلك ولا قريباً منه‏.‏ ولما كان الكذبُ والخطأُ في اللغة وغيرها في غاية النّدرة اكْتَفَى العلماءُ فيها بالاعتماد على الكتب المشهورة المُتَدَاولَة؛ فَإنَّ شُهْرَتها وتداولها يَمْنَعُ من ذلك مع ضعف الداعية له؛ فهذا هو الفرق‏.‏ انتهى‏.‏

وأقول‏:‏ بل الجوابُ الحقُّ عن هذا‏:‏ أن أهلَ اللّغة والأخبار لم يُهْمِلُوا البحثَ عن أحوال اللغات وَرُوَاتها جَرْحاً وتعديلاً؛ بل فحصوا عن ذلك وبيَّنوه، كما بيّنوا ذلك في رُواة الأخبار؛ ومَنْ طالَعَ الكتبَ المؤلفة في طبقات اللغويين والنُّحاة وأخبارِهم وجدَ ذلك‏.‏ وقد ألَّف أبو الطيب اللَّغوي كتابَ مراتب النحويين بيَّن فيه ذلك، وميَّزَ أهلَ الصدق من أهل الكذب والوَضْع، وسيمرُّ بك في هذا الكتاب كثيرٌ من ذلك في نَوْع الموضوع؛ ونَوْع معرفة الطبقات والثِّقات والضعفاءِ وغيرها من الأنواع‏.‏

وأما قول الإمام في القَدْح في كتاب العَيْن فقد قدَّمتُ الجوابَ عنه في أواخر النوع الأول‏.‏

وفي الملخص في أُصول الفقه للقاضي عبد الوهاب المالكي‏:‏ في ثبوت اللغة بأخبار الآحاد طريقان لأصحابنا‏:‏ أحدُهما- أن اللغة تَثْبُتُ به؛ لأنَّ الدليل إذا دلَّ على وجوب العمل به في الشرع كان في ثبوت اللُّغة واجباً؛ لأن إثْبَاتهَا إنما يُراد للعمل في الشرع‏.‏ والثاني- لا تثبت لغةٌ بإخبار الآحاد‏.‏

وهذه أمثلةٌ من المتواتر مما تواتَر على أَلْسِنَةِ الناس من زمن العرب إلى اليوم، وليس هو في القرآن؛ من ذلك‏:‏ أسماء الأيام، والشهور، والربيع، والخريف، والقَمْح، والشعير، والأرز، والحَِمِّص، والسِّمْسِم، والسُّمَّاق، والقَرْع، والبِطِّيخ، والمِشْمِش، والتّفاح، والكُمَّثْرَي، والعُنَّاب، والنَّبقْ، والخَوْخ، والبَلَح، والبُسْر، والخِيار، والخَسُّ، والنَّعْنَع، قال ابن دريد‏:‏ الظهر أنه عربي‏.‏ والكُرَّاث، والخَشْخَاش، قال الخليل‏:‏ هو عربي صحيح، والخِرْبِز، قال فيِ القاموس‏:‏ الخربز بالكسر‏:‏ البطيخ عربي صحيح وقيل‏:‏ أصلُه فارسي، والزبد، والسمن، والعَسَل، والدِّبْس والخَلّ، والخُبْز، والجُبْن، والدَّقيق، والنُّخَالة، والدَّجاج، والإوَزّ، والنَّعام، والحَمام، والقُمْرِي، والعَنْدَليب، والكَرَوان، والوَرَشان، والوَطْوَاط، والخُطَّاف، والعُصْفُور، والحِدَأَة، وابن عِرْس، والفَأْرَة، والهِرَّة، والعَقْرَب، والخُنْفَسَاءُ، والوَزغ، والسَّرَطَان؛ والضّفْدع، والضَّبُعْ، والفَهدْ، والنَّمِر، والثَّعْلَب، والأرْنب، والغَزَال، والظّبْي، والدُّب‏.‏ قال ابن دريد‏:‏ عربي صحيح، والزَّرَافة، والسِّدْر، والحِنَّاء، والفَاغِية، والزَّعْفَرَان‏.‏ قال ابن دريد‏:‏ عربي معروف‏.‏ قال‏:‏ والعُصْفُر عربي معروف، تكلَّمت به العرب قديماً، والزَّهرة، وعُطَارد، قال ابن دريد‏:‏ عربي فصيح‏.‏ والشَّمَع، والعَرُوس، والقَمِيص، والكُمّ، والعِمامة، والفَرْوَة، والكَتَّان، والمِنديل، وفَصّ الخاتم، والإزَار، والمِئْزر، والنَّعْل، والقَوْس، والنُّشَّاب، والرُّمح، والسَّيف، والدِّرع، والبَيْضَة، والكلاب، والخَيْزُرَان، وَالقِنَّب، ورَزَّة الباب، والمَكْسُ، والوَخشُ بمعنى الرُّذَال والرَّديء، والصُّدَاع، والإسهال، والرَّمد، واليَرَقان، والاستسقاء والحُمَّى، والوَبَاء، والطَّاعون، والجُدَري، والحَصْبَة، والجَرَب، والجَذَام، والدرَّة، والرَّصَاص، قال ابن دريد‏:‏ عربي صحيح، والبَلاط، والمِدْمَاك، ورَفّ البيت، والدَّرْب، وَالبِرْدَعَة؛ والفأس والدَّلْو، والقِدْر، والرَّحى، والعُكَّة، والكُرّ والإرْدَبُّ قال الأَخطل‏:‏

وَالخُبْزُ كالعَنْبَرِ الهِنْدِيّ عِنْدَهُم *** والقَمْحُ سَبْعُونَ إرْدَبّاً بِدينَارِ

والزَّبَرْجَد، قال في الجمهرة‏:‏ عربيٌّ معروف؛ فكلُّ هذه الألفاظ عربيةٌ صحيحة متواتِرةٌ على أَلْسنَةِ الخلق من زَمن العرب إلى وقتنا هذا‏.‏

وثَمَّ ألفاظ شائعة على الألْسنة، لكنها أعجمية الأصل تأتي في نوع المُعَرَّب‏.‏

وقال الثعالبي في فقه اللغة‏:‏ فصل في سياقِه أسماء فارسيَّتُها مَنْسِيَّة وعربيَّتها مَحْكِيَّة مُسْتعمَلة

الكَفُّ، السَّاق، الفَرّاشُ، البزَّازُ، الوزَّان، الكَيَّال، المسَّاحُ، البَيَّاع، الدَّلاَّل، الصَّرَّاف، البَقَّال، الجمَّال، الحمَّال، القَصَّاب، الفَصَّاد، البَيْطَار، الرَّائِض، الطَّرَّاز، الخَرَّاطُ، الخيَّاط، القَزَّاز، الأَمِير، الخليفَةُ، الوزيرُ، الحاجِبُ، القاضي، صاحبُ البريد، صاحبُ الخبَر، الوَكيل، السَّقَّاء، السَّاقي، الشَّرَاب، الدَّخْل، الخَرْج، الحَلال، الحَرَام، البَرَكة، البِرْكة، العِدَّة، الصَّوابُ، الخَطَأُ، الغَلَط، الوَسْوَسَةُ، الحَسَدُ، الكَسَادُ، العَارِيَّةُ، النَّصِيحة، الفَضِيحة، الصُّورة، الطَّبيعة، النّد، العادة، الَبَخور، الغَالية، الخَلوق، الحِنَّاء، اللَّخْلَخة، الجُبَّةُ، الجثَّة، المِقنَعَة، الدُّرَّاعة، الإزَار، المُضَرَّبةُ، اللِّحاف، المِخَدّة، النَّعْل، الفَاخِتة، القُمْرِي، اللَّقلق؛ الخطُّ، القَلَم، المِدَاد، الحِبْر، الكِتاب، الصُّندوق، الحُقَّة، الرَّبْعَة، المُقَدّمة، السَّفَطُ، الخُرْجُ، السُّفْرَةُ، اللَّهْوُ، القِمَار، الجَفَاء، الوَفَاء، الكُرْسيُّ، القَنَص، المِشْجَبُ؛ الدَّوَاةُ المِرْفع، القِنِّينَة، الفَتيلة، الكَلْبَتَانِ، القُفْل، الحَلْقة، المِنْقلَة، المِجْمَرَة، المِزْرَاق، الحَرْبَة، الدَّبُّوس، المِنْجَنِيق، العَرَادة، الرِّكاب، العَلَم، الطَّبْلُ، اللِّوَاءُ، الغَاشِيَة، النصْلُ، القُطري، الجُلُّ، البُرْقُع، الشِّكالُ، العِنَان، الجَنِيبَة، الغِذَاء، الحَلْوَاء، القَطَائف، القَلِيَّةُ، الهَرِيسَةُ، العَصِيدَةُ، المُزَوَّرَةُ، الفَتِيتُ، النُّقْل، النِّطع، العِلْم، الطِّرَاز، الرِّدَاء، الفَلك، المَشْرِق، المَغْرِب، الطَّالِع، الشَّمَالُ، الجَنُوب، الصَّبَا، الدُّبُور، الأَبْلَه، الأحْمَقُ، النَّبيل، اللَّطيف، الظَّرِيف، الجَلاَّد، السَّيَّاف، العَاشِق، الجَلاَّب‏.‏

هذا كلُّه كلام الثعالبي‏.‏

قد توقَّف ابنُ دريد في النَّدِّ، فقال في الجمهرة‏:‏ المستعمل من هذا الطِّيب، لا أحسبه عربياً صحيحاً، وتوقَّف صاحب الصحاح في الدَّبُّوس فقال‏:‏ بعد أن أنشد قول لقيط بن زُرَارة‏:‏

لو سمعوا وقع الدبابيس ***

واحدها دبوس، أراه مُعَرّباً‏.‏

النوع الرابع‏:‏ معرفة المرسل والمنقطع

قال الكمال بن الأنباري في لمع الأدلة‏:‏ المُرْسل هو الذي انقطع سنَدُه نحو أن يَرْويَ ابنُ دريد عن أبي زيد، وهو غيرُ مقبول؛ لأن العَدالة شرطٌ في قبول النَّقْل، وانقطاعُ سَنَد النَّقْل يوجب الجَهْل بالعَدَالة، فإن من لم يُذْكَر لا يُعرف عدالته، وذهب بعضُهم إلى قَبُول المُرَسل؛ لإن الإرسال صدَر ممن لو أُسند لقُبِل ولم يُتّهم في إسناده، فكذلك في إرساله؛ لأن التّهمة لو تطرَّقت إلى إرساله لتطَرَّقت إلى إسناده، وإذا لم يتهم في إسناده فكذلك في إرساله‏.‏

قلنا‏:‏ هذا اعتبار فاسد؛ لأن المسند قد صُرِّح فيه باسم الناقل؛ فأمكن الوقوف على حقيقة حاله، بخلاف المرسل؛ فبانَ بهذا أنه لا يلزم من قبول المُسْند قبولُ المرسل، انتهى ما ذكره ابن الأنباري‏.‏

ومن أمثلة ذلك ما في الجمهرة لابن دُريد‏:‏ يقال فَسَأْتُ الثوبَ أفسؤه فسْأً إذا مَدَدتُه حتى يتفزَّر، وأخبر الأصمعي عن يونس قال‏:‏ رآني أعرابيٌّ محتبياً بطيلسان فقال‏:‏ علام تفسؤه‏؟‏- ابن دريد لم يُدْرِك الأصمعي‏.‏

وقال ابنُ دريد في أماليه‏:‏ أخبرنا الأشْنانْدَاني عن التَّوزي عن أبي عُبيدة قال‏:‏ اجتمع عند يزيد بن معاوية أبو زُبَيد الطائي، وجَميل بن مَعْمر العُذْري، والأخطل التَّغْلبي، فقال لهم‏:‏ أيكم يصفُ لي الأسدَ صفة في غير شِعْر‏؟‏ فقال أبو زُبَيد‏:‏ أنا يا أمير المؤمنين؛ لونه وَرْد، وزئير رَعْد- وقال مرة أخرى‏:‏ زَغْد- ووثْبُه شَدّ، وأَخْذه جِدّ، وهَوْلُه شَدِيد، وشرُّه عَتِيد، ونَابُه حَدِيد، وأنفُه أَخْثَم، وخدّه أَدْرم، ومِشْفَرُه أَدْلَم، وكفَّاه عُرَاضَتان، ووجْنَتاه ناتِئتان، وعيناه وقَّادَتان، وكأنهما لَمْحٌ بارق، أو نجمٌ طارق، إذا استقبلتَه قلتَ أَفْدَع؛ وإذا استعرضتَه قلت أَكْوَع، وإذا استدبرتَه قلت أَصْمَع، بَصِير إذا استغْضَى، هَمُوس إذا مَشَى، إذا قَفَّى كَمَشَ، وإذا جَرى طَمَش، بَرَاثِينُه شَثنَة، ومَفَاصِله مُتْرَصَة، مُصْعِقٌ لقَلْبِ الجَبَان، مُرَوِّع لماضي الجَنَان، إذا قاسَمَ ظَلَم، وإن كابَر دَهَمَ، وإن نازل غَشَم، ثم أنشأ يقول‏:‏

خُبَعْثِنٌ أَشْوَسُ ذو تَهَكُّمِ *** مُشْتَبِك الأنياب ذو تَبَرْطُمِ

وذُو أَهَاويلَ وذو تَجَهُّم *** ساطٍ على اللَّيث الهِزَبْر الضَّيْغَم

وعَيْنُهُ مثل الشِّهاب المُضْرَم *** وهامُهُ كالحَجرِ المُلَمْلَم

فقال‏:‏ حسبك يا أبا زُبيد ثم قال‏:‏ قُلْ يا جميل، فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين‏:‏ وجهُه فَدْغم، وشَدْقُه شَدْقَم، ولُغْدُه مُعْرَنْزِم، مُقَدَّمَه كثيف، ومُؤَخَّرُه لطيف، ووثْبُه خفيف، وأخْذه عنيف، عَبْل الذراع، شديد النُّخَاع، مُرْدٍ للسباع، مُصْعِق الزَّئير، شديد المَرِير، أَهْرَت الشِّدْقين، مُتْرَص الحَصِيرين يركب الأهوال، ويَهتِصر الأبطال، ويمنع الأشبال، ما إن يزال جاثماً في خِيس، أو رابضاً على فَرِيس، أو ذَا وَلْغٍ ونَهِيس، ثم قال‏:‏

ليْثُ عَرِينٍ صَيْغَمٌ غَضَنْفَرُ *** مُداخَلٌ في خَلْقِه مُضَبَّر

يُخَافُ من أنْيابه ويُذْعَرُ *** ما إن يزالُ قائماً يُزَمْجِر

له على كلِّ السباع مَفْخَرُ *** قُضاقِض شَنْن البَنَان قَسْوَر

فقال‏:‏ حسبُك يا بن مَعْمر، ثم قال‏:‏ قلْ يا أخطل، فقال‏:‏ ضَيْغَمٌ ضِرغام، غَشَمْشَم هَمْهَام، على الأهوَال مِقْدَام، وللأقران هَضَّام، رِئْبال عَنْبس، جَريء دلَهْمَس، ذو صَدْر مُفَرْدَس، ظلوم أَهْوَس، لَيْث كَرَوَّس، ثم قال‏:‏

شَرَنْبَتُ الكَفَّيْن حامي أشْبُل *** إذا لَقَاه بَطَلٌ لم يَنْكَل

قُضَاقِضٌ جَهْمٌ شديد المَفْصِلَ *** مُضَبَّر الساعد، ذو تَعَثْكُلِ

مُلَمْلَم الهامةِ، كَمْشُ الأرجُل *** ذو لِبَدٍ يَغْتَالُ في تمهّلِ

أنيابُه في فِيه مثلُ الأَنْصُل *** وَعَيْنُهُ مثل الشِّهابِ المُشْعَل

فقال له‏:‏ حسبُك، وأَمَرَ لهم بجوائز‏.‏ هذا منقطع أبو عبيدة لم يدرك يزيد‏.‏

النوع الخامس‏:‏ معرفة الأفراد

وهو ما انْفَرَدَ بروايته واحدٌ من أهل اللغة، ولم ينقله أحدٌ غيره، وحكْمُه القبول إن كان المنفرّد به من أهل النَّبْط والإتقان، كأبي زيد، والخليل، والأصمعي، وأبي حاتم، وأبي عبيدة، وأضرابهم؛ وشرْطُه ألاَّ يخالفه فيه مَنْ هو أكثر عدداً منه، وهذه نبذةٌ من أمثلته‏:‏ فمن أفراد أبي زيد الأوسي الأنصاري- قال في الجمهرة‏:‏ المَنْشَبة‏:‏ المال، هكذا قال أبو زيد، ولم يقله غيرُه‏.‏، وفيها‏:‏ رجل ثَطّ ولا يقال أَثَطّ، قال أبو حاتم‏:‏ قال أبو زيد مرةً أَثَطّ‏.‏، فقلت له‏:‏ أتقول‏:‏ أثط‏؟‏ فقال‏:‏ سمعتها، والثَّطَط‏:‏ خفَّة اللِّحية من العارضين‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ البِدَاوة‏:‏ الإقامةُ في البادية يُفْتَح ويكسر، قال ثعلب‏:‏ لا أعرف البَداوة بالفتح إلاّ عن أبي زيد وحْدَه‏.‏

ومن أفراد الخليل- قال في الجمهرة‏:‏ الرَّتُّ، الجمع رُتُوت، وهي الخنازير الذكور، ولم يجئ به غيرُ الخليل، وقال‏:‏ الحُضَض والحُضُض‏:‏ دواءٌ معروف، وذكروا أنَّ الحليل كان يقول الحُضُظ بالضاد والظاءِ، ولم يعْرِفه أصحابُنا‏.‏ وقال‏:‏ يوم بُعَاث، سمعناه من علمائنا بالعين وضمّ الباء، وذُكِرَ عن الخليل بغَين معجمة، ولم يُسْمَع من غيره‏.‏

ومن أفراد يونس بن حبيب الضبي- قال في الجمهرة‏:‏ الصِّنْتِيت بمعنى الصِّنْدِيد، هكذا يقول يونس ولم يقلْه غيره‏.‏

ومن أفراد أبي الحسن الكسائي- قال ثعلب في أماليه‏:‏ قال الكسائي‏:‏ سمعت لجَبَة ولَجَبَات،وَلجِبَة ولَجبَات، فجاءَ بها على القياس، ولم يحكها غيره‏.‏

وقال القالي في كتاب المقصور والممدود‏:‏ السَّبَأُ على وزن جبل مقصور مهموز‏:‏ الحمْرُ عن الكسائي، ولم يَرْوِ هذا غيرُه‏.‏

ومن أفراد أبي صاعد- قال ابن السكِّيت في إصلاح المنطق، والخطيب التبريزي في تهذيبه‏:‏ يقال‏:‏ لم يعطهم بَازِلة أي لم يعطهم شيئاً، وعن ابن الأنباري وحده بَارِلة بالراء، والصوابُ بالزاي، وقال الأصمعي‏:‏ لم يجئ ببارلة غير أبي صاعد الكلابي، ولم يَدْر ما هي، حتى قلت له‏:‏ أهي من بُرَائل الديك‏؟‏ فقال‏:‏ أَخْلق بها‏.‏

ومن أفراد أبي الخطاب الأخفش الكبير- في الجمهرة‏:‏ الجُثّ‏:‏ ما ارتَفع من الأرض حتى يكون له شخص؛ مثل الأُكَيْمَة الصغيرة ونحوها، قال الشاعر‏:‏

وأَوْفَى على جُثٍّ، ولِلَّيْلِ طُرَّةٌ *** على الأُفْق لم يَهْتِكْ جوانبَها الفَجْرُ

قال‏:‏ وأحسب أن جثة الإنسان من هذا اشتقاقها، وقال قوم من أهل اللغة‏:‏ لا نُسمى جُثَّة إلاّ أن يكون قاعداً أو نائماً، فأما القائم فلا يقال جثته؛ إنما يقال قِمته، وزعموا أن أبا الخطاب الأخفش كان يقول‏:‏ لا أقول جثة الرجل إلاّ لشخصه على سَرْج أو رَحْل ويكون معتمّاً؛ ولم يُسْمَع من غيره‏.‏

وفيها‏:‏ ذُكِر عن أبي الخطاب الأخفش أنه قال‏:‏ الخَفْخُوف‏:‏ طائر‏.‏ وما أدري ما صحَّته، ولم يذكره أحدٌ من أصحابنا غيره‏.‏

ومن أفراد جمال الدين أبي مالك- في الجمهرة قال أبو مالك‏:‏ الجَمْش‏:‏ الصَّوْت، لم يجئ به غيره‏.‏

وفيها‏:‏ قال أبو مالك جارية لَعَّة‏:‏ خفيفة مليحة، لم يجئ بها غيره، والمعروف أن لَعَّ أُمِيت وأُلحق بالرباعي‏.‏

وفيها‏:‏ حكى أبو مالك‏:‏ الحُضْحُض‏:‏ ضَرْب من النبت، ولم يجئ به غيره‏.‏

وفيها‏:‏ حكى عن أبي مالك أنه قال‏:‏ الرَّطْرَاط‏:‏ الماءُ الذي أَسْأَرَتْه الإبل في الحياض، ولم يعرفه أصحابنا‏.‏

وفيها‏:‏ أحسب أن أبا مالك قال‏:‏ واحد الجناجين جُنْجُون، وهذا شيء لا يُعْرَف، والمعروف جِنْجِن، وهي عِظام الصدر‏.‏

وفيها‏:‏ ذكر أبو مالك‏:‏ أنه سمع طعام بَرِيك في معنى مبارك فيه‏.‏

وفيها‏:‏ قال أبو مالك‏:‏ الشِّنْقَاب‏:‏ طائر، ولم يجئ به غيره، فإن كان هذا صحيحاً فإن اشتقاقه من الشَّقْب، وهو صَدْعٌ ضَيِّق في الجبل، والألف والنون زائدتان‏.‏

وفيها‏:‏ قال أبو مالك‏:‏ البُصْم‏:‏ للْفَوْت بين الخِنْصر والبِنْصر، ولم يجئ به غيره‏.‏

ومن أفراد أبي عبيدة- قال ابن دُريد‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الدَّأْدَاء‏:‏ ما استوى من الأرض، ولم يجئ به غيره، وقال‏:‏ يوم الأرْبِعاء بكسر الباء، وزعم قوم أنهم سمعوا الأربَعَاء بفتح الباء، وأخبرنا أبو عثمان الأشْنَانْدَاني عن التَّوّزيّ عن أبي عبيدة الأَربُعَاء بالضم، وزعم أنهم فصيحة‏.‏

ومن أفراد أبي زكريا الفرّاء- قال أبو عبيد في الغريب المصنّف قال الفرّاء‏:‏ الثَّأْدَاء، والدَّأْثاء‏:‏ الأَمَة، والسَّحَنَاء‏:‏ الهيئة على فَعلاء بفتح العين، ولم أسمع أحداً يقول ذلك غيرُه، والمعروف عندنا بجزم العين‏.‏

وفي الصحاح المَوْضَع بفتح الضاد لغة في الموضِع سمعها الفرّاء‏.‏

وفي شرح المقصورة لابن خالويه‏:‏ الجَهَام‏:‏ السَّحاب الذي قد هَرَاق ماءه، ومثله الهِفّ والجُِلْب، والسَّيّق، والصُّرَّاد، والنَّجْو، والنِّجَاء، والجَفْل، والزِّعْبَج، ذكره الفراء، قال أبو عبيد‏:‏ وأنا أنكر أن يكون الزعبج من كلام العرب، والفراء عندي ثقة‏.‏ انتهى‏.‏

ومن أفراد الأصمعي- قال فِي الجمهرة قال الأصمعي‏:‏ سمعتُ العرب تقول‏:‏ هم يَحْلُبون ويَحلِبون، ولم يقل هذا غيرُ الأصمعي، وقال‏:‏ أرض قِرْواح وقِرْياح وقِرْحِيَاء ممدودة‏:‏ قفراء ملساء، قِرْحِياء لم يجئ به غيره‏.‏

وفي كتاب ليس لابن خالويه‏:‏ لم يقل أحد من أصحاب اللغة قرياح وقِرْحِياء إلاَّ الأصمعي، قال في الجمهرة‏:‏ ويقال‏:‏ هسَّ الشيء إذا فتَّه وكسره، والهسيس مثل الفَتُوت، كذا قال الأصمعي وحدَه‏.‏

وفي الصحاح- قال الأصمعي‏:‏ ما سَمِعْنا العام قابّة‏:‏ أي صوت رَعْد‏.‏

قال ابن السكِّيت‏:‏ ولم يَرْو هذا الحرفَ أحدٌ غيره، والناسُ على خلافه؛ إنما يُقال‏:‏ ما أصابتنا العام قابّة أي قَطْرة‏.‏

ومن أفراد أبي حاتم- في الجمهرة‏:‏ كان أبو حاتم يقول‏:‏ سمعتُ بعضَ مَنْ أثقُ به يقول‏:‏ الكَيْكَة‏:‏ البَيْضَة، ولم يسمع من غيره‏.‏

ومن أفراد أبي عثمان الأشْنانداني‏:‏ ذبيت شُفَتُه كما يقال ذَبّت بمعنى ذبلت من العَطَش، ولم أسمعها من غيره‏.‏ فإذا كان هذا صحيحاً فمنه اشتقاق ذُبيَان‏.‏

وفيها‏:‏ يقال مُدْعَنْكر إذا تدرّأ بالسُّوء والفُحْش، قال الشاعر‏:‏

قد ادْعَنْكَرت بالسُّوء والفُحْشِ والأَذى *** أُسَيْمَاء كادْعِنْكار سَيْلٍ على عَمْرِو

قال ابن دُريد‏:‏ هذا البيتُ لم يعرفْه البَصريون، وزعم أبو عثمان أنه سمعه ببغداد، ولا أدري ما صحَّته‏.‏

أفراد جماعة- قال أبو عليّ القالي في أماليه قال أبو المياس‏:‏ الفِجْرِم‏:‏ الجَوْز، قال‏:‏ ولم أجد هذه الكلمة في كتب اللغويين، ولا سمعتُها من أحد من أشياخنا غيره‏.‏

قال‏:‏ وقال أبو نصر‏:‏ الكَتيفة‏:‏ بيضة الحديد، ولا أعرف هذه الكلمة عن غيره‏.‏

قال‏:‏ قولُ ذي الرمة‏:‏

ما بالُ عَيْنِك منها الماءُ يَنْسَكِبُ *** كأنه مِن كُلَى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ

قال الأُمَوي‏:‏ السَّرَب‏:‏ الخُرَز، وهو شاذ لم يَقُلْه أحدٌ غيرُه‏.‏

وقال أبو بكر بن الأنباري‏:‏ الطَّخاء‏:‏ الغيم الكثيف، ولم أسمع ذلك إلاّ منه، والذي عليه عامة اللغويين أن الطَّخاء‏:‏ الغيم الذي ليس بكثيف‏.‏

وفي أمالي ثعلب قال أبو الحسن الطوسي‏:‏ إن المشايخ كانوا يقولون‏:‏ كل ما رأيتَه بعينك فهو عَوَج بالفتح، وما لم تر بعينك يقال فيه عِوَج بالكسر، وحكى عن أبي عمرو أنه قال في مصدر عَوِج عَوجاً بالفتح، ويقال في الدِّين عِوَج، وفي العصا والحائط عَوَج، إلاّ أن تقول عَوِج عَوجاً حينئذ نفتح، ولم يقل هذا غيرُ أبي عمرو من علمائنا، وهو الثِّقة‏.‏

وفيها‏:‏ يقال‏:‏ ثوب شَبَارِق ومُشَبْرَق أي خَلَق، وحكى أبو صفوان ثوب شَمَارق بالميم ومُشَمْرق، ولم يعرفه أصحابُنا‏.‏

وفي شرح المقامات لأبي جعفر النحاس‏:‏ حكى الأَخفش سعيد بن مسعدة‏:‏ ناقةٌ بِلِزٌ للضخمة، ولم يَحْكِه غيره‏.‏

وفي تهذيب التبريزي يقال‏:‏ ما أصابتنا العام قطرة وقَابَّة، بمعنى واحدة‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ ما سمعنا لها العام رعدة وقَابَّة يُذْهب به إلى القَبِيب، أي الصوت، ولم يَرْوِ أحدٌ هذا الحرفَ غيره، والناسُ على خلافه‏.‏

وفي المحكم‏:‏ حكى القشيري، عن أبي زيد، جَنَقُونا بالمَنْجَنيق، أي رَمَوْنا به، لم أرها لغيره‏.‏

وفي كتاب العين التَّاسوعاء‏:‏ اليوم التاسع من المحرّم‏.‏

وقال أبو بكر الزَّبيدي في كتاب الاستدراك على العَين‏:‏ لم أسمع بالتَّاسوعاء، وأهلُ العلم مختلفون في عاشوراء؛ فمنهم من قال‏:‏ إنه اليوم العاشر من المحرّم، ومنهم من قال‏:‏ إنه اليوم التاسع‏.‏

وقال القالي في كتاب المقصور والممدود قال اللحياني‏:‏ يقال قعد فلان الأُرْبُعاء والأُبُعَاوى أي مُتَرَبِّعاً، وهو نادر لم يأت به أحدٌ غيره‏.‏

فائدة- قد يُتَابَع المنفرد على روايته فيقوَى، قال في الجمهرة‏:‏ فلان مُزَخْلِبٌ إذا كان يَهْزَأُ بالناس، هذا عن أبي مالك، وذكر أيضاً عن مَكْوَزة الأعرابي‏.‏

وقال ابنُ فارس في المُجْمَل‏:‏ مَقَوْتُ السيفَ‏:‏ جَلَوْته، وكذلك المرآة، جاء بهما يونس وأبو الخطاب‏.‏

فائدة- قال الجوهري في الصحاح‏:‏ سائرُ الناس جميعُهم‏.‏

قال ابن الصلاح في مشكلات الوسيط، قال الأزهري في تهذيبه‏:‏ أهلُ اللغة اتَّفقوا على أن معنى سائر الباقي، ولا الْتِفات إلى قول الجوهري؛ فإنه ممَّن لا يُقْبَل ما يَنْفَرِد به‏.‏ انتهى‏.‏

وقد انتصر للجوهري بأنه لم ينفرد به، فقد قال الجواليقي في شرح أدب الكتاب‏:‏ إن سائر الناس بمعنى الجميع، وقال ابنُ دُريد‏:‏ سائر الناس يقع على مُعْظَمِه، وجُلِّه‏.‏

وقال ابن برّي‏:‏ يدلُّ على صِحَّة قول الجوهري قول مضرّس‏:‏

فما حسنٌ أن يعذرَ المرءُ نفسَه *** وليس له من سائرِ الناسِ عاذرُ

في شواهد أُخَر‏.‏

فائدة‏:‏

قال الجوهريُّ أيضاً‏:‏ تقولُ كان ذلك عامَ كذا، وهلمَّ جرّاً إلى اليوم، ذكر مثلَه الصَّغاني في عُبَابه، وكذر ابن الأنباري هلمَّ جرّاً في كتاب الزاهر، وبَسط القولَ فيه‏.‏ قال الشيخ جمال الدين بن هشام في تأليف له‏:‏ عندي توقّف في كون هذا التركيب عرَبيّاً محضاً؛ لأنَّ أئمةَ اللغةِ المعتمَد عليهم لم يتعرَّضوا له، حتى صاحب المُحْكم مع كَثرة استيعابه وتتبّعه، وإنما ذكره صاحب الصحاح‏.‏ وقال الشيخ تقي الدين بن الصلاح في شرح مشكلات الوسيط‏:‏ إنه لا يقبل ما تفرَّد به، وكان علَّة ذلك ما ذكره في أوّل كتابه من أنه يَنْقُل من العرب الذين سمع منهم، فإنَّ زمانَه كانت اللغة فيه قد فسدت، وأما صاحب العُباب فإنه قلَّد صاحب الصحاح فنسَخ كلامه، وأما ابنُ الأنباريِّ فليس كتابُه موضوعاً لتفسير الألفاظ المسموعة من العرب؛ بل وضْعه أن يتكلم على ما يجري في محاورات الناس، ولم يصرّح بأنه عربي هو ولا غيره من النُّحاة‏.‏ انتهى‏.‏

وفي المحكم في مُصَنَّفِ ابن أبي شيبة عن جابر بن سَمُرة أنه صلى الله عليه وسلم في جِنَازة ابن الدَّحْدَاح ركب فرساً وهو يَتَقَوْقَس به ونحن حوله، فسَّرَه أصحابُ الحديث أنه ضَرْبٌ من عَدْوِ الخيل، وبه سمّي المُقَوْقِس صاحبُ مصر‏.‏ قال‏:‏ ولم يذكر أحدٌ من أهل اللغة هذه الكلمة فيما انتهى إلينا‏.‏

النوع السادس‏:‏ معرفة من تُقْبَل روايته ومَن تُرَد

فيه مسائل‏:‏

الأولى- قال ابن فارس في فقه اللغة‏:‏ تؤخذ اللغة سَمَاعاً من الرُّوَاة الثقاتِ ذوي الصِّدق والأمانة، ويُتَّقَى المظنون؛ فحدَّثنا علي بن إبراهيم عن المَعْدَاني، عن أبيه، عن معروف بن حسان، عن الليث، عن الخليل، قال‏:‏ إن النَّحَارير ربما أَدْخَلوا على الناس ما ليس من كلام العرب؛ إرادةَ اللَّبْسِ والتَّعْنيت‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ فَلْيَتَحَرَّ آخذُ اللغةِ أهل الأمانة والصِّدْق والثِّقة والعَدالة؛ فقد بلغنا من أمر بعض مَشْيَخة بَغْداد ما بَلَغَنا‏.‏

وقال الكمال بن الأنباري‏:‏ في لُمَع الأدلّة في أُصول النَّحْو‏:‏ يُشْتَرط أن يكونَ ناقلُ اللغةِ عَدْلاً، رَجلاً كان أو امرأة، حرّاً كان أو عبداً؛ كما يُشْترط في نقل الحديث؛ لأن بها معرفةَ تفسيره وتأويله، فاشْتُرِطَ في نقلها ما اشتُرِط في نقله، وإن لم تكن في الفضيلة من شكله؛ فإن كان ناقُل اللغة فاسقاً لم يقَبل نقله‏.‏

الثانية- قال ابنُ الأنباري‏:‏ يُقْبل نقْل العَدْل الواحد، ولا يُشْترط أن يُوافِقَه غيرُه في النَّقل؛ لأن الموافقة لا يخلو إما أن تُشْترط لحصول العلم، أو لغَلبة الظَّن‏:‏ بطل أن يُقال لِحُصُول العلم؛ لأنه لا يحصلُ العلمُ بنَقْل اثنين؛ فوجب أن يكونَ لغَلَبة الظنّ، وإذا كان لغَلَبة الظنَّ فقد حصلَ غلبةُ الظنّ بخبَرِ الواحد من غير مُوافقة، وزعم بعضُهم أنه لا بد من نَقْل اثنين، كالشهادة؛ وهذا ليس بصحيح؛ لأن النَّقْل مَبْنَاه على المُسَاهلة بخلاف الشهادة؛ ولهذا يُسْمع من النساءِ على الانفراد مطلقاً، ومن العبيد، ويُقبل فيه العَنْعَنَة، ولا يشترط فيه الدّعوى، وكلُّ ذلك معدوم في الشهادة؛ فلا يُقاسُ أحدُهما بالآخر‏.‏ انتهى‏.‏

ومن أمثلة ما رُويَ في هذا الفنّ عن النساء والعبيد، قال أبو زيد في نَوَادره‏:‏ قلت لأعرابية بالعُيون ابنة مائة سنة‏:‏ مالك لا تأتين أهل الرققة‏؟‏ فقالت‏:‏ إني أَخْزى أن أمشي في الزّقاق‏:‏ أي أستحي‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ زعموا أن امرأةً قالت لابنتها‏:‏ احفظي بيتك ممن لا تنشرين؛ أي لا تَعْرِفين‏.‏

وفي الجهمرة‏:‏ قال عبد الرحمن عن عمه قال‏:‏ سمعتُ أعرابيّة تقول لابنتها‏:‏ همِّمي أصابعك في رأسي؛ أي حرِّكي أصابعك فيه‏.‏

وفي الجمهرة‏:‏ المنيئة‏:‏ الدِّباغ يُدْبغ به الأديم، والنَّفْس‏:‏ كفٌّ من الدباغ‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ جاءت جاريةٌ من العرب إلى قوم منهم، فقالت‏:‏ تقول لكم مولاتي‏:‏ أعطوني نَفْساً أو نَفْسَين أمْعَس به مَنيئتي فإني أَفِدَة، أي مُسْتَعجلة‏.‏

وفيها‏:‏ قال أبو حاتم‏:‏ قلتُ لأم الهيثم‏:‏ ما الوَغْد‏؟‏ فقالت‏:‏ الضعيف، فقلت‏:‏ إنك قلت مرّة الوغد‏:‏ العبد فقالت‏:‏ ومن أَوْغد منه‏.‏

وفي الغريب المصنف‏:‏ قال الأصمعي أخبرني أبو عمرو بن العََلاَء قال‏:‏ قال لي ذو الرّمة‏:‏ ما رأيت أفصح من أمَة بني فلان قلت لها‏:‏ كيف كان مطركم‏؟‏ فقالت‏:‏ غِثْنا ما شِئْنا‏.‏

الثالثة- قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه‏:‏ اعْتُمِد في العربية على أشعار العرب، وهم كُفّار؛ لبُعْدِ التَّدليس فيها، كما اعتُمِد في الطّب، وهو في الأصل مأخوذ عن قوس كفّار لذلك‏.‏ انتهى‏.‏

ويُؤخذ من هذا أن العربيَّ الذي يُحْتَجُّ بقوله لا يشترط فيه العَدَالة؛ بخلافِ رَاوي الأشعار واللّغات، وكذلك لم يشترطوا في العربيّ الذي يُحتجّ بقوله البلوغ، فأخذوا عن الصّبيان‏.‏

وقال ابنُ دُريد في أماليه‏:‏ أخبرنا عبدُ الرحمن عن عمّه الأصمعي قال‏:‏ سمعتُ صِبْية بحِمَى ضَرِيّة يتراجزون، فوقفتُ وصدُّوني عن حاجتي، وأقبلتُ أكتب ما أسمعُ إذ أقبل شيخٌ فقال‏:‏ أتكتبُ كلامَ هؤلاء الأقزام الأدناع‏؟‏ وكذلك لم أرَهم توقَّوا أشعار المجانين من العرب؛ بل رَوَوْها واحتجُّوا بها؛ وكُتبُ أئمة اللغة مشحونة بالاستشهاد بأشعار قيس بن ذريح مجنون ليلى، لكن قال أبو محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص‏:‏ أخبرنا أبو حفص قال أخبرنا أبو بكر الثعلبي، عن أبي حاتم، قال‏:‏ قال أبو العلاء العماني الحارثي‏:‏ لرجل يرقّص ابنته‏:‏

محكوكة العَيْنَيْن مِعْطَاءُ القَفَا *** كأنما قدّت على متن الصفا

تمشي على متن شِراك أعْجَفَا *** كأنما تَنشر فيه مُصحفا

فقلت لأبي العلاء‏:‏ ما معنى قول هذا الرجل‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري قلت‏:‏ إن لنا علماء بالعربية لا يَخْفَى عليهم ذلك، قال‏:‏ فأْتهم، فأتيتُ أبا عُبيدة فسألته عن ذلك فقال‏:‏ ما أَطْلَعَني اللّه على عِلْم الغيب فلقيتُ الأصمعي فسألتُه عن ذلك، فقال‏:‏ أنا أحسب أن شاعرها لو سُئل عنه لم يَدْرِ ما هو، فلقيتُ أبا زيد فسألتهُ عنه، فقال‏:‏ هذا المرقّص اسمه المجنون بن جندب، وكان مجنوناً، ولا يَعْرِف كلامَ المجانين إلاّ مجنونٌ، أسألتَ عنه أحداً قلت‏:‏ نعم، فلم يعرفه أحدٌ منهم‏.‏

الرابعة- قال ابنُ الأنباري‏:‏ نَقْل أهلِ الأهواء مقبول في اللغة وغيرها، إلاَّ أن يكونوا ممن يتدينَّون بالكَذِب كالخَطَّابيّة من الرَّافِضَة، وذلك لأن المُبْتدع إذا لم تكن بدعتُه حاملةً له على الكَذب فالظاهرُ صِدْقه‏.‏

الخامسة- قال الكمال بن الأنباري‏:‏ المجهولُ الذي لم يُعْرف ناقله نحوُ أن يقول أبو بكر بن الأنباري‏:‏ حدّثني رجلٌ عن ابنِ الأعرابي، غيرُ مقبول؛ لأن الجهلَ بالناقل يُوجب الجهلَ بالعَدالة، وذهب بعضُهم إلى قبوله، وهو القائل بقبول المُرسَل، قال‏:‏ لأنه نَقْلٌ صدَر ممن لا يُتَّهم في نَقْله؛ لأن التهمة لو تطرَّقت إلى نَقْله عن المجهول لتطرّقت إلى نَقْله عن المعروف‏.‏ وهذا ليس بصحيح؛ لأن النقل عن المجهول لم يصرَّح فيه باسم الناقل، فلم يمكن الوقوفُ على حقيقة حَاله، بخلاف ما إذا صُرّح باسم الناقل‏.‏ فَبان بهذا أنه لا يلزم من قبول المعروف قبولُ المجهول، هذا كلامُ ابن الأنباري في اللُّمع‏.‏ وذكر في الإنصاف أنه لا يحتجّ بشعر لا يُعرَف قائلُه؛ يعني خوفاً من أن يكون لمولّد؛ فإنه أورد احتجاج الكوفيين على ذلك‏.‏

وذكر ابنُ هشام في تعليقه على الألفية مثلَه، فإنه أورد الشّعر الذي استدلّ به الكوفيون على جَواز مدّ المقصور للضرورة وهو قوله‏:‏

قد علمت أخت بني السِّعْلاء *** وعلمت ذاك مع الجزاء

أن نعم مأكول على الخَوَاءِ *** يا لَك من تَمْرٍ ومن شِيشَاءِ

يَنْشَبُ في المَسْعَل واللَّهَاءِ

وقال‏:‏ الجواب عندنا أنه لا يُعلَم قائله، فلا حجّة فيه؛ لكن ذكر في شرح الشواهد ما يُخَالفه، فإنه قال‏:‏ طعن عبد الواحد الطّرّاح صاحب كتاب بغية الآمل في الاستشهاد بقوله‏:‏

لا تكثرن إني عسِيتُ صائما

وقال‏:‏ هو بيتٌ مجهول، لم يَنسبْه الشرَّاح إلى أحد؛ فسقط الاحتجاج به‏.‏

قال ابنُ هشام‏:‏ ولو صحَّ ما قاله لسقَطَ الاحتجاج بخمسين بيتاً من كتاب سيبويه، فإن فيه ألفَ بيت قد عُرِف قائلوها، وخمسين مجهولة القائلين‏.‏

ومن أمثلة المجهولِ ناقلٌ، قال أبو علي القالي في أماليه‏:‏ أخبرَنا بعض أصحابنا، عن أحمد بن يحيى أنه قال‏:‏ حكي لنا عن الأصمعي أنه قيل له‏:‏ إن أبا عبيدة يحكي وَقَع في رُوعي ووقع في جَخِيفي، فقال‏:‏ أما الرُّوع فنعم، وأما الجَخيف فلا‏.‏

السادسة- التعديلُ على الإبهام‏:‏ نحو أخبرني الثقةُ، هل يُقبل فيه خلاف بين العلماء‏؟‏ وقد استعمل ذلك سيبويه كثيراً في كتابه، يَعني به الخليل وغيره، وذكر المرْزُباني عن أبي زيد قال‏:‏ كلُّ ما قال سيبويه في كتابه أخبرني الثّقة، فأنا أخبرته‏.‏ وذكر أبو الطيّب اللغوي في كتاب مراتب النحويين‏:‏ قال أبو حاتم عن أبي زيد‏:‏ كان سيبويه يأتي مَجْلسي، وله ذُؤَابتان، فإذا سمعته يقول‏:‏ وحدّثني مَن أثقُ بعربيَّته فإنما يريدُني‏.‏

وقال ثعلب في أماليه‏:‏ كان يونس يقول‏:‏ حدَّثني الثّقة عن العرب، فقيل له‏:‏ مَن الثقة‏؟‏ قال‏:‏ أبو زيد، قيل له‏:‏ فلِمَ لا تسمّيه‏؟‏ قال‏:‏ هو حيّ بعدُ؛ فأنا لا أسميّه‏.‏

السابعة- إذا قال‏:‏ أخبرني فلان وفلان وهما عَدْلان احتجّ به، فإن جهل عدالة أحدهما، أو قال فلان أو غيره لم يحتجّ‏.‏

مثال ذلك قال في الجمهرة‏:‏ قال الأصمعي، قال ابنُ دريد، أحسبه يرويه عن يونس، قال‏:‏ سألتُ بعضَ العرب عن السَّبَخَة النَّشَّاشة؛ فوصفَها لي، ثم ظنَّ أني لم أفهم، فقال‏:‏ التي لا يجفّ ثراها، ولا يَنْبُتُ مَرْعاها‏.‏ وقال في موضع آخرَ‏:‏ أحسبه عن أبي مَهْدِيّة، أو عن يونس، وقال‏:‏ أنشد الأصمعي عن أبي عمرو، أو عن يونس‏:‏

عَدَانِي أن أزورَكِ أمَّ بَكْر *** دَيَاوِينٌ تَشَقَّقُ بالمِدَاد

يريد تشقيق الكلام، والدياوين جمع ديوان في لغة، وجمعوا على هذه اللغة ديباجاً على ديابيج‏.‏

وقال أبو علي القالي في أماليه‏:‏ أنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدنا أبو حاتم، أو عبد الرحمن عن الأصمعي- الشك من أبي علي‏:‏

اقْرَأ على الوَشَل السَّلامَ وقُل له‏:‏ *** كلُّ المَشَاربِ مُذْ هَجِرتَ ذَمِيمُ

سَقْياً لِظلِّك بالعَشِيّ وبالضُّحَى *** ولِبَرْدِ مائكَ والمِيَاهُ حَمِيم

فرع- إذا سُئل العربيِّ أو الشيخ عن معنى لفظٍ فأجاب بالفعل لا بالقول يكفي، قال في الجمهرة‏:‏ ذكر الأصمعي عن عيسى بن عمر قال‏:‏ سألتُ ذا الرّمة عن النَّضْنَاض، فلم يزدني على أن حرّك لسانه في فيه‏.‏ انتهى‏.‏ قال ابنُ دريد يقال‏:‏ نَضنَضَ الحيةُ لسانه في فيه إذا حرَّكه، وبه سمى الحية نَضْنَاضاً‏.‏

وقال الزجاجي في شرح أدب الكاتب‏:‏ سُئل رُؤْبَة عن الشَّنَبِ، فأراهم حبَّة رُمّان‏.‏

وقال القالي في أماليه‏:‏ سُئل الأصمعي عن العارِضَين من اللحية؛ فوضَع يدَه على ما فوق العوارضِ من الأسنان‏.‏