فصل: القطب الرابع في حكم المستثمر وهو المجتهد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المستصفى من علم الأصول ***


القطب الرابع في حكم المستثمر وهو المجتهد

ويشتمل هذا القطب على ثلاثة فنون‏:‏ فن في الاجتهاد، وفين في التقليد، وفن في ترجيح المجتهد دليلا على دليل عند التعارض‏.‏

الفن الأول في الاجتهاد والنظر في أركانه وأحكامه

أما أركانه فثلاثة المجتهد والمجتهد فيه نفس الاجتهاد الركن الأول في نفس الاجتهاد‏:‏ وهو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الافعال ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد فيقال اجتهد في حمل حجر الرحا ولا يقال اجتهد في حمل خردلة لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب‏.‏ الركن الثاني المجتهد‏:‏ وله شرطان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون محيطا بمدارك الشرع متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره‏.‏ والشرط الثاني‏:‏ أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة، وهذا يشترط لجواز الاعتماد على فتواه، فمن ليس عدلا فلا تقبل فتواه‏.‏ أما هو في نفسه فلا فكأن العدالة شرط القبول للفتوى لا شرط صحة الاجتهاد، فإن قيل‏:‏ متى يكون محيطا بمدارك الشرع، وما تفصيل العلوم التي لا بد منها لتحصيل منصب الاجتهاد‏؟‏ قلنا‏:‏ إنما يكون متمكنا من الفتوى بعد أن يعرف المدارك المثمرة للاحكام، وأن يعرف كيفية الاستثمار والمدارك المثمرة للاحكام كما فصلناها أربعة‏:‏ الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل‏.‏ وطريق الاستثمار يتم بأربعة علوم‏:‏ اثنان مقدمان، واثنان متممان، وأربعة في الوسط، فهذه ثمانية فلنفصلها ولننبه فيها على دقائق أهملها الاصوليون، أما كتاب الله عزوجل فهو الأصل، ولا بد من معرفته ولنخفف عنه أمرين‏.‏ أحدهما‏:‏ إنه لا يشترط معرفة جميع الكتاب، بل ما تتعلق به الاحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية‏.‏ الثاني‏:‏ لا يشترط حفظها عن ظهر قلبه، بل أن يكون عالما بمواضعها بحيث يطلب فيها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة، وأما السنة فلا بد من معرفة الاحاديث التي تتعلق بالاحكام، وهي وإن كانت زائدة على ألوف فهي محصورة وفيها التخفيفان المذكوران، إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الاحاديث بالمواعظ وأحكام الآخرة وغيرها الثاني‏:‏ لا يلزمه حفظها عن ظهر قلبه بل أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الاحاديث المتعلقة بالاحكام، كسنن أبي داود ومعرفة السنن لاحمد البيهقي أو أصل وقعت العناية فيه بجميع الاحاديث المتعلقة بالاحكام ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى، وإن كان يقدر على حفظه فهو أحسن وأكمل‏.‏ وأما الإجماع فينبغي أن تتميز عنده مواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع كما يلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتي بخلافها، والتخفيف في هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتي فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس مخالفا للإجماع إما بأن يعلم أنه موافق مذهبا من مذاهب العلماء أيهم كان أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لاهل الإجماع فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية، وأما العقل فنعني به مستند النفي الأصلي للاحكام، فإن العقل قد دل على نفي الحرج في الاقوال والافعال، وعلى نفي الاحكام عنها من صور لا نهاية لها، أما ما استثنته الأدلة السمعية من الكتاب والسنة فالمستثناة محصورة، وإن كانت كثيرة، فينبغي أن يرجع في كل واقعة إلى النفي الأصلي والبراءة الأصلية، ويعلم أن ذلك لا يغير إلا بنص أو قياس على منصوص، فيأخذ في طلب النصوص، وفي معنى النصوص الإجماع، وأفعال الرسول بالاضافة إلى ما يدل عليه الفعل على الشرط الذي فصلناه هذه المدارك الاربعة‏.‏ فأما العلوم الاربعة التي بها يعرف طرق الاستثمار فعلمان مقدمان‏:‏ أحدهما‏:‏ معرفة نصب الأدلة وشروطها التي بها تصير البراهين والأدلة منتجة والحاجة إلى هذا تعم المدارك الاربعة‏.‏ والثاني‏:‏ معرفة اللغة والنحو على وجه يتيسر له به فهم خطاب العرب، وهذا يخص فائدة الكتاب والسنة، ولكل واحد من هذين العلمين تفصيل وفيه تخفيف وتثقيل، أما تفصيل العلم الأول فهو أن يعلم أقسام الأدلة وأشكالها وشروطها، فيعلم أن الأدلة ثلاثة عقلية تدل لذاتها وشرعية صارت أدلة بوضع الشرع، ووضعية وهي العبارات اللغوية ويحصل تمام المعرفة فيه بما ذكرناه في مقدمة الاصول من مدارك العقول لا بأقل منه فإن من لم يعرف شروط الأدلة لم يعرف حقيقة الحكم ولا حقيقة الشرع، ولم يعرف مقدمة الشارع، ولا عرف من أرسل الشارع، ثم قالوا‏:‏ لا بد أن يعرف حدوث العالم وافتقاره إلى محدث موصوف بما يجب لهومن الصفات منزه عما يستحيل عليه، وأنه متعبد عباده ببعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات، وليكن عارفا بصدق الرسول، والنظر في معجزته، والتخفيف في هذا عندي أن القدر الواجب من هذه الجملة اعتقاد جازم، إذ به يصير مسلما، والاسلام شرط المفتي لا محالة، فأما مجاوزة حد التقليد فيه إلى معرفة الدليل فليس بشرط أيضا لذاته لكنه يقع من ضرورة منصب الاجتهاد، فإنه لا يبلغ رتبة الاجتهاد في العلم إلا وقد قرع سمعه أدلة خلق العالم وأوصاف الخالق وبعثة الرسل وإعجاز القرآن، فإن كل ذلك يشتمل عليه كتاب الله، وذلك محصل للمعرفة الحقيقية، مجاوز بصاحبه حد التقليد وإن لم يمارس صاحبه صنعة الكلام فهذا من لوازم منصب الاجتهاد حتى لو تصور مقلد محض في تصديق الرسول وأصول الايمان لجاز له الاجتهاد في الفروع‏.‏ أما المقدمة الثانية فعلم اللغة والنحو أعني القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهة ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه، والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو، بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه، وأما العلمان المتممان فأحدهما‏:‏ معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وذلك في آيات وأحاديث مخصوصة، والتخفيف فيه أن لا يشترط أن يكون جميعه على حفظه، بل كل واقعة يفتي فيها بآية أو حديث فينبغي أن يعلم أن ذلك الحديث وتلك الآية ليست من جملة المنسوخ، وهذا يعم الكتاب والسنة‏.‏ الثاني‏:‏ وهو يخص السنة معرفة الرواية، وتمييز الصحيح منها عن الفاسد والمقبول عن المردود، فإن ما لا ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه، والتخفيف فيه أن كل حديث يفتى به مما قبلته الامة، فلا حاجة، به إلى النظر في إسناده، وإن خالفه بعض العلماء فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم، فإن كانوا مشهورين عنده كما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا اعتمد عليه، فهؤلاء قد تواتر عند الناس عدالتهم وأحوالهم والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة، أو بتواتر الخبر، فما نزل عنه فهو تقليد، وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار الصحيحين، وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته فهذا مجرد تقليد، وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع أحوالهم وسيرهم، ثم ينظر في سيرهم أنها تقتضي العدالة أم لا، وذلك طويل، وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير‏.‏ والتخفيف فيه أن يكتفي بتعديل الامام العدل بعد أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح، فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل به ويجرح فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة و المشاهدة في حقه، ولو شرط أن تتواتر سيرته فذلك لا يصادف إلا في الائمة المشهورين، فيقلد في معرفة سيرته عدلا فيما يخبر فنقلده في تعديله، بعد أن عرفنا صحة مذهبه في التعديل فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الائمة رواتها قصر الطريق على المفتي، وإلا طال الامر، وعسر الخطب في هذا الزمان مع كثرة الوسائط، ولا يزال الامر يزداد شدة بتعاقب الاعصار، فهذه هي العلوم الثمانية التي يستفاد بها منصب الاجتهاد ومعظم ذلك يشتمل عليه ثلاثة فنون‏:‏ علم الحديث، وعلم اللغة، وعلم أصول الفقه، فأما الكلام وتفاريع الفقه فلا حاجة إليهما، وكيف يحتاج إلى تفاريع الفقه وهذه التفاريع يولدها المجتهدون ويحكمون فيها بعد حيازة منصب الاجتهاد، فكيف تكون شرطا في منصب الاجتهاد وتقدم الاجتهاد عليها شرط، نعم‏:‏ إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته، فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك، ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا‏.‏ دقيقة في التخفيف يغفل عنها الاكثرون‏:‏ اجتماع هذه العلوم الثمانية، إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع، وليس الاجتهاد عندي منصبا لا يتجزأ بل يجوز أن يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الاحكام دون بعض، فمن عرف طريق النظر القياسي فله أن يفتي في مسألة قياسية وإلم يكن ماهرا في علم الحديث، فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها، وإن لم يكن قد حصل الاخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي، فلا استمداد لنظر هذه المسألمنها، ولا تعلق لتلك الاحاديث بها، فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عمعرفتها نقصا، ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 6‏)‏ وقس عليه ما في معناه، وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كل مسألة، فقد سئل مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها‏:‏ لا أدري، وكم توقف الشافعي رحمه الله، بل الصحابة في المسائل، فإذا لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري، ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري فيتوقف فيما لا يدري ويفتي فيما يدري‏.‏ الركن الثالث المجتهد فيه‏:‏ والمجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام، فإن الحق فيها واحد والمصيب واحد والمخطئ آثم، وإنما نعني بالمجتهد فيه ما لا يكون المخطئ فيه آثما، ووجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الامة من جليات الشرع فيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف فليس ذلك محل الاجتهاد، فهذه هي الاركان، فإذا صدر الاجتهاد التام من أهله وصادف محله كان ما أدى إليه الاجتهاد حقا وصوابا كما سيأتي، وقد ظن ظانون أن شرط المجتهد أن لا يكون نبيا، فلم يجوزوا الاجتهاد للنبي وأن شرط الاجتهاد أن لا يقع في زمن النبوة، فنرسم فيه مسألتين‏.‏

مسألة ‏(‏الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏

اختلفوا في جواز التعبد بالقياس والاجتهد في زمان الرسول عليه السلام، فمنعه قوم، وأجازه قوم، وقال قوم‏:‏ يجوز للقضاة والولاة في غيبته لا في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، والذين جوزوا منهم من قال يجوز بالاذن، ومنهم من قال‏:‏ يكفي سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختلف المجوزون في وقوعه، والمختار أن ذلك جائز في حضرته وغيبته، وأن يدل عليه بالاذن أو السكوت، لانه ليس في التعبد به استحالة في ذاته، ولا يفضي إلى محال ولا إلى مفسدة، وإن أوجبنا الصلاح فيجوز أن يعلم الله لطفا يقتضي ارتباط صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد لعلمه بأنه لو نص لهم على قاطع لبغوا وعصوا، فإن قيل، الاجتهاد مع النص محال، وتعرف الحكم بالنص بالوحي الصريح ممكن، فكيف يردهم إلى ورطة الظن‏؟‏ قلنا‏:‏ فإذا قال لهم‏:‏ أوحي إلي أن حكم الله تعالى عليكم ما أدى إليه اجتهادكم، وقد تعبدكم بالاجتهاد، فهذا نص، وقولهم‏:‏ الاجتهاد مع النص محال مسلم، ولكن لم ينزل نص في الواقعة، وإمكان النص لا يضاد الاجتهاد وإنما يضاده نفس النص، كيف وقد تعبد النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء بقول الشهود حتى قال‏:‏ إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وكان يمكن نزول الوحي بالحق الصريح في كل واقعة حتى لا يحتاج إلى رجم بالظن وخوف الخطأ، فأما وقوعه فالصحيح أنه قام الدليل على وقوعه في غيبته بدليل قصة معاذ، فأما في حضرته فلم يقم فيه دليل، فإن قيل‏:‏ فقد قال لعمرو بن العاص‏:‏ أحكم في بعض القضايا، فقال‏:‏ إجتهد وأنت حاضر‏؟‏ فقال‏:‏ نعم إن أصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر وقال لعقبة بن عامر ولرجل من الصحابة‏:‏ اجتهدوا، فإن أصبتما فلكما عشر حسنات، وإن أخطأتما فلكما حسنة قلنا‏:‏ حديث معاذ مشهور قبلته الامة، وهذه أخبار آحاد لا تثبت وأن ثبتت احتمل أن يكون مخصوصا بهما، أو في واقعة معينة، وإنما الكلام في جواز الاجتهاد مطلقا في زمانه‏.‏

مسألة ‏(‏اختلفوا في النبي عليه السلام‏)‏

هل يجوز له الحكم بالاجتهاد فيما لا نص فيه‏؟‏ والنظر في الجواز والوقوع والمختار جواز تعبد بذلك، لانه ليس بمحال في ذاته، ولا يفضي إلى محال ومفسدة، فإن قيل‏:‏ المانع منه أنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح فكيف يرجم الظن‏؟‏ قلنا‏:‏ فإذا استكشف فقيل له‏:‏ حكمنا عليك أن تجتهد وأنت متعبد به فهل له أن ينازع الله فيه أو يلزمه أن يعتقد أن صلاحه فيما تعبد به، فإن قيل‏:‏ قوله نص قاطع يضاد الظن، والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ فهما متضادان، قلنا‏:‏ إذا قيل له ظنك علامة الحكم، فهو يستيقن الظن والحكم جميعا، فلا يحتمل، الخطأ، وكذلك اجتهاد غيره عندنا ويكون كظنه صدق الشهود، فإنه يكون مصيبا وإن كان الشاهد مزورا في الباطن، فإن قيل‏:‏ فإن ساواه غيره في كونه مصيبا بكل حال فليجز لغيره أن يخالف قياسه باجتهاد نفسه، قلنا‏:‏ لو تعبد بذلك لجاز، ولكن دل الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده، كما دل على تحريم مخالفة الامة كافة، وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد الامام الاعظم والحاكم لان‏.‏ صلاح الخلق في اتباع رأي الامام والحاكم وكافة الامة، فكذلك النبي، ومن ذهب إلى أن المنصيب واحد يرجح اجتهاده لكونه معصوما عن الخطأ دون غيره، ومنهم من جوز عليه الخطأ ولكن لا يقر عليه، فإن قيل‏:‏ كيف يجوز ورود التعبد بمخالفة اجتهاده، وذلك يناقض الاتباع وينفر عن الانقياد، قلنا‏:‏ إذا عرفهم على لسانه بأن حكمهم اتباع ظنهم، وإن خالف ظن النبي كان اتباعه في امتثال ما رسمه لهم كما في القضاء بالشهود، فإن لو قضي النبي بشهادة شخصين لم يعرف فسقهما فشهدا عند حاكم عرف فسقهما لم يقبلهما، وأما التنفير فلا يحصل، بل تكون مخالفته فيه كمخالفته في الشفاعة وفي تأبير النخل ومصالح الدنيا، فإن قيل‏:‏ لو قاس فرعا على أصل أفيجوز إيراد القياس على فرعه أم لا إن قلتم لا فمحال لانه صار منصوصا عليه من جهته وإن قلتم نعم، فكيف يجوز القياس على الفرع‏؟‏ قلنا‏:‏ يجوز القياس عليه، وعلى كل فرع أجمعت الامة على إلحاقه بأصل، لانه صار أصلا بالإجماع والنص، فلا ينظر إلى مأخذهم، وما ألحقه بعض العلماء فقد جوز بعضهم القياس عليه وإن لم توجد علة الأصل، أما الوقوع فقد قال به قوم وأنكره آخرون وتوقف فيه فريق ثالث وهو الاصح، فإنه لم يثبت فيه قاطع، احتج القائلون به بأنه عوتب عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر، وقيل‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض‏}‏ ‏(‏الانفال‏:‏ 76‏)‏ وقال النبي عليه السلام‏:‏ ولو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر لانه كان قد أشار بالقتل ولو كان قد حكم بالنص لما عوتب، قلنا‏:‏ لعله كان مخير بالنص في إطلاق الكل أو قتل الكل أو فداء الكل، فأشار بعض الاصحاب بتعيين الاطلاق على سبيل المنع عن غيره، فنزل العتاب مع الذي عينوا لا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ورد بصيغة الجمع، والمراد به، أولئك خاصة، واحتجوا بأنه لما قال‏:‏ يختلي خلاها ولا يعضد شجرها قال العباس‏:‏ إلا الاذخر، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إلا الاذخر وقافي الحج‏:‏ هو للابد، ولو قلت لعامنا لوجب ونزل منزلا للحرب فقيل له‏:‏ إن كان بوحي فسمعا وطاعة‏.‏ وإن كان باجتهاد ورأي فهو منزل مكيدة فقال‏:‏ بل باجتهاد ورأي فرحل‏؟‏ قلنا‏:‏ أما الاذخر فلعله كان نزل الوحي بأن لا يستثنى الاذخر إلا عند قول العباس، أو كان جبريل عليه السلام حاضرا فأشار عليه بإجابة العباس، وأما الحج فمعناه، لو قلت لعامنا لما قلته إلا عن وحي ولوجب لا محالة، وأما المنزل فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا، وذلك جائز بلا خلاف إنما الخلاف في أمور الدين أحتج المنكرون لذلك بأمور‏:‏ أحدها‏:‏ أنه لو كان مأمورا به لاجاب عن كل سؤال ولما انتظر الوحي‏.‏ الثاني‏:‏ أنه لو كان مجتهدا لنقل ذلك عنه واستفاض‏.‏ الثالث‏:‏ أنه لو كان لكان ينبغي أن يختلف اجتهاده ويتغير فيتهم بسبب تغير الرأي‏.‏ قلنا‏:‏ أما انتظار الوحي فلعله كان حيث لم ينقدح له اجتهاد أو في حكم لا يدخله الاجتهاد أو نهي عن الاجتهاد فيه، وأما الاستفاضة بالنقل فعلعه لم يطلع الناس عليه، وإن كان متعبدا به، أو لعله كان متعبدا بالاجتهاد إذا لم ينزل نص وكان ينزل النص فيكون كمن تبعد بالزكاة والحج إن ملك النصاب والزاد، فلم يملك فلا يدل على أنه لم يكن متعبدا، وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليها، فقد اتهم بسب النسخ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا إنما أنت مفتر‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 101‏)‏ ولم يدل ذلك على استحالة النسخ كيف وقد عورض هذا الكلام بجنسه‏؟‏ فقيل لو لم يكن متعبدا بالاجتهاد لفاته ثواب المجتهدين، ولكان ثواب المجتهدين أجزل من ثوابه، وهذا أيضا فاسد، لان ثواب تحمل الرسالة والاداء عن الله تعالى فوق كل ثواب‏.‏ فإن قيل فهل يجوز التعبد بوضع العبادات ونصب الزكوات وتقديراتها بالاجتهاد‏؟‏ قلنا‏:‏ لا محيل لذلك، ولا يفضي إلى محال ومفسدة، ولا بعد في أن يجعل الله تعالى صلاح عباده فيما يؤدي إليه اجتهاد رسوله لو كان الامر مبينا على الصلاح ومنع القدرية هذا وقالوا‏:‏ إن وافق ظنه الصلاح في البعض فيمتنع أن يوافق الجميع، وهذا فساد، لانه لا يبعد أن يلقى الله في اجتهاد رسوله ما فيه صلاح عباده هذا هو الجواز العقلي أما وقوعه فبعيد، وإن لم يكن محالا بل الظاهر أن ذلك، كله كان عن وحي صريح ناص على التفصيل‏.‏ النظر الثاني‏:‏ في أحكام الاجتهاد و النظر في حق المجتهد في تأثيمه وتخطئته وإصابته وتحريم التقليد عليه، وتحريم نقض حكمه الصادر عن الاجتهاد، فهذه أحكام النظر‏.‏ الأول‏:‏ في تأثيم المخطئ في الاجتهاد، والاثم ينتفي عن كل من جمع صفات المجتهدين إذا تمم الاجتهاد في محله، فكل اجتهاد تام إذا صدر من أهله وصادف محله فثمرته حق وصواب، والاثم عن المجتهد منفي، والذي نختاره أن الاثم والخطأ متلازمان، فكل مخطئ آثم وكل آثم مخطئ ومن انتفى عنه الاثم انتفى عنه الخطأ، فلنقدم حكم الاثم أولا فنقول‏:‏ النظريات تنقسم إلى ظنية وقطعية فلا إثم في الظنيات إذ لا خطأ فيها والمخطئ في القطعيات آثم، والقطعيات ثلاثة أقسام‏:‏ كلامية وأصولية وفقهية‏.‏ أما الكلامية‏:‏ فنعني بها العقليات المحضة، والحق فيها واحد، ومن أخطأ الحق فيها فهو آثم، ويدخل فيه حدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته الواجبة، والجائزة والمستحيلة وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات وجواز الرؤية وخلق الاعمال وإرادة الكائنات، وجميع ما الكلام فيه مع المعتزلة والخوارج والروافض والمبتدعة وحد المسائل الكلامية المحضة ما يصح للناظر درك حقيقته بنظر العقل قبل ورود الشرع، فهذه المسائل الحق فيها واحد، ومن أخطأه فهو آثم، فإن أخطأ فيما يرجع إلى الايمان بالله ورسوله فهو كافر، وإن أخطأ فيما لا يمنعه من معرفة الله عزوجل ومعرفة رسوله كما في مسألة الرؤية وخلق الاعمال وإرادة الكائنات وأمثالها فهو آثم من حيث عدل عن الحق وضل، ومخطئ من حيث أخطأ الحق المتيقن، ومبتدع من حيق قال قولا مخالفا للمشهور بين السلف ولا يلزم الكفر‏.‏ وأما الاصولية‏:‏ فنعني بها كون الإجماع حجة وكون القياس حجة وكون خبر الواحد حجة، ومن جملته خلاف من جوز خلاف الإجماع المنبرم قبل انقضاء العصر وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاد ومنع المصير إلى أحد قولي الصحابة والتابعين عند اتفاق الامة بعدهم على القول الآخر، ومن جملته اعتقاد كون المصيب واحدا في الظنيات، فإن هذه مسائل أدلتها قطعية، والمخالف فيها آثم مخطئ وقد نبهنا على القطعيات والظنيات في أدراج الكلام في جملة الاصول‏.‏ وأما الفقهية‏:‏ فالقطعية منها وجوب الصلوات الخمس، والزكاة، والحج والصوم وتحريم الزنا والقتل والسرقة والشرب وكل ما علم قطعا من دين الله فالحق فيها واحد وهو المعلوم والمخالف فيها آثم، ثم ينظر فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشارع‏:‏ كإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم، فهو كافر، لان هذا الانكار لا يصدر إلا عن مكذب بالشرع، وإن علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة ككون الإجماع حجة وكون القياس، وخبر الواحد حجة، وكذلك الفقهيات المعلومة بالإجماع، فهي قطعية فمنكرها ليس بكافر لكنه آثم مخطئ، فإن قيل‏:‏ كيف حكمتم بأن وجوب الصلاة والصوم ضروري، ولا يعرف ذلك إلا بصدق الرسول وصدق الرسول نظري‏؟‏ قلنا‏:‏ نعني به أن إيجاب الشارع له معلوم تواترا أو ضرورة، أما أن ما أوجبه فهو واجب فذلك نظري يعرف بالنظر في المعجزة المصدقة، ومن ثبت عنده صدقه فلا بد أن يعترف به، فإن أنكره فذلك لتكذيبه الشارع ومكذبه كافر، فلذلك كفرناه به، أما ما عداه من الفقهيات الظنية التي ليس عليها دليل قاطع فهو في محل الاجتهاد، فليس فيها عندنا حق معين ولا إثم على المجتهد إذا تمم اجتهاده وكان من أهله، فخرج من هذا أن النظريات قسمان قطعية وظنية، فالمخطئ في القطعيات آثم ولا إثم في الظنيات أصلا لا عند من قال المصيب فيها واحد، ولا عند من قال‏:‏ كل مجتهد مصيب، هذا هو مذهب الجماهير، وقد ذهب بشر المريسي إلى إلحاق الفروع بالاصول وقال فيها حق واحد متعين والمخطئ آثم، وقد ذهب الجاحظ والعنبري إلى إلحاق الاصول بالفروع، وقال العنبري‏:‏ كل مجتهد في الاصول أيضا مصيب، وليس فيها حق متعين، وقال الجاحظ فيها حق واحد متعين لكن المخطئ فيها معذور غير آثم كما في الفروع، فلنرسم في الرد على هؤلاء الثلاثة ثلاث مسائل‏:‏

مسألة ‏(‏مخالفة أهل الكتاب للاسلام‏)‏

ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الاسلام من اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندا على خلاف اعتقاده فهو آثم، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور، وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط، لان الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة، وهذا الذي ذكره ليس بمحال عقلا لو ورد الشرع به، وهو جائز ولو ورد التعبد كذلك لوقع، ولكن الواقع خلاف هذا فهو باطل بأدلة سمعية ضرورية، فإنا كما نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة والزكاة ضرورة فيعلم أيضا ضرورة أنه أمر اليهود والنصارى بالايمان به واتباعه، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم، ولذلك قاتل جميعهم، وكان يكشف عن مؤتزر من بلغ منهم ويقتله ويعلم قطعا أن المعاند العارف مما يقل وإنما الاكثر المقلدة الذين اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول عليه السلام وصدقه والآيات الدالة في القرآن على هذا لا تحصى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 72‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم‏}‏ ‏(‏فصلت‏:‏ 32‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏(‏45‏)‏ إن هم إلا يظنون‏}‏ ‏(‏الجاثية‏:‏ 42‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحسبون أنهم على شئ‏}‏ ‏(‏المجادلة‏:‏ 81‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 01‏)‏ أي شك، وعلى الجملة ذم الله تعالى والرسول عليه السلام المكذبين من الكفار مما لا ينحصر في الكتاب والسنة، وأما قوله‏:‏ كيف يكلفهم ما لا يطيقون قلنا‏:‏ نعلم ضرورة أنه كلفهم، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون فلننظر فيه، بل نيه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل، ونصب من الأدلة وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات الذين نبهوا العقول، وحركوا دواعي النظر حتى لم يبق على الله لاحد حجة بعد الرسل‏.‏

مسألة ‏(‏الاجتهاد في العقليات‏)‏

ذهب عبد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع، فنقول له‏:‏ إن أردت أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه وهو منتهى مقدورهم في الطلب‏.‏ فهذا غير محال عقلا ولكنه باطل إجماعا وشرعا كما سبق رده على الجاحظ، وإن عنيت به أن ما أعتقده فهو على ما اعتقده فنقول‏:‏ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا وإثبات الصانع ونفيه حقا وتصديق الرسول وتكذيبه حقا، وليست هذه الاوصاف وضعية كالاحكام الشرعية‏؟‏ إذ يجوز أن يكون الشئ حراما على زيد وحلالا لعمرو إذا وضع كذلك، أما الامور الذاتية فلا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها، فهذا المذهب شر من مذهب الجاحظ، فإنه أقر بأن المصيب واحد، ولكن جعل المخطئ معذورا بل هو شر من مذهب السوفسطائية لانهم نفوا حقائق الاشياء، وهذا قد أثبت الحقائق ثم جعلها تابعة للاعتقادات، فهذا أيضا لو ورد به الشرع لكان محالا بخلاف مذهب الجاحظ، وقد استبشع إخوانه من المعتزلة هذا المذهب فأنكروه وأولوه وقالوا أراد به اختلاف المسلمين في المسائل الكلامية التي لا يلزم فيها تكفير، كمسألة الرؤية، وخلق الاعمال، وخلق القرآن، وإرادة الكائنات لان الآيات والاخبار فيها متشابهة وأدلة الشرع فيها متعارضة، وكل فريق ذهب إلى ما رآه أوفق لكلام الله وكلام رسوله عليه السلام وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه، فكانوا فيه مصيبين ومعذورين، فنقول أن زعم أنهم فيه مصيبون فهذا محال عقلا لان هذه أمور ذاتية لا تختلف بالاضافة، بخلاف التكليف فلا يمكن أن يكون القرآن قديما ومخلوقا أيضا، بل أحدهما، والرؤية محالا وممكنا أيضا، والمعاصي بإرادة الله تعالى وخارجة عن إرادته، أو يكون القرآن مخلوقا في حق زيد قديما في حق عمرو، بخلاف الحلال والحرام، فإن ذلك لا يرجع إلى أوصاف الذوات، وإن أراد أن المصيب واحد لكم المخطئ معذور غير آثم، فهذا ليس بمحال عقلا لكنه باطل بدليل الشرع، واتفاق سلف الامة على ذم المبتدعة ومهاجرتهم وقطع الصحبة معهم وتشديد الانكار عليهم، مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه، فهذا من حيث الشرع دليل قاطع، وتحقيقه أن اعتقاد الشئ على خلاف ما هو به جهل، والجهل بالله حرام مذموم، والجهل بجواز رؤية الله تعالى وقدم كلامه الذي هو صفته وشمول إرادته المعاصي وشمول قدرته في التعلق بجميع الحوادث، كل ذلك جهل بالله وجهل بدين الله فينبغي أن يكون حراما، ومهما كان الحق في نفسه واحدا متعينا كان أحدهما معتقدا للشئ على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلا فإن قيل‏:‏ يبطل هذا بالجهل في المسائل الفقهية وبالجهل في الامور الدنيوية كجهل إذا اعتقد أن الامير في الدار وليس فيها وأن المسافة بين مكة والمدينة أقل أو أكثر مما هي عليها، قلنا‏:‏ أما الفقهيات، فلا يتصور الجهل فيها، إذ ليس فيها حق معين وأما الدنيويات فلا ثواب في معرفتها ولا عقاب على الجهل فيها، أما معرفة الله تعالى ففيها ثواب وفي الجهل بها عقاب، والمستند فيه الإجماع دون دليل العقل وإلا فدليل العقل لا يحيل حط المأثم عن الجاهل بالله فضلا عن الجاهل بصفات الله تعالى وأفعاله، فإن قيل‏:‏ إنما يأثم بالجهل فيما يقدر فيه على العلم ويظهر عليه الدليل والأدلة غامضة والشبهات في هذه المسائل متعارضة، قلنا‏:‏ وكذلك في مسألة حدوث العالم وإثبات النبوات وتمييز المعجزة عن السحر ففيها أدلة غامضة، ولكنه لم ينته الغموض إلى حد لا يمكن فيه تمييز الشبهة عن الدليل، فكذلك في هذه المسألة عندنا أدلة قاطعة على الحق، ولو تصورت مسألة لا دليل عليها لكنا نسلم أنه لا تكليف على الخلق فيها‏.‏

مسألة ‏(‏إثم المجتهد في الفروع‏)‏

ذهب بشر المريسي إلى أن الاثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع بل فيها حق معين، وعليه دليل قاطع، فمن أخطأه فهو آثم كما في العقليات لكن المخطئ قد يكفر كما في أصل الالهية والنبوة، وقد يفسق كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن ونظائرها، وقد يقتصر على مجرد التأثيم كما في الفقهيات، وتابعه على هذا من القائلين بالقياس ابن علية وأبو بكر الاصم، ووافقه جميع نفاة القياس، ومنهم الامامية وقالوا‏:‏ لا مجال للظن في الاحكام لكن العقل قاض بالنفي الأصلي في جميع الاحكام إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع فما أثبته قاطع سمعي فهو ثابت بدليل قاطع، وما لم يثبته فهو باق على النفي الأصلي قطعا ولا مجال للظن فيه، وإنما استقام هذا لهم لانكارهم القياس وخبر الواحد، وربما أنكروا أيضا القول بالعموم والظاهر المحتمل حتى يستقيم لهم هذا المذهب، وما ذكروه هو اللازم على قول من قال‏:‏ المصيب واحد، ويلزمهم عليه منع المقلد من استفتاء المخالفين، وقد ركب بعض معتزلة بغداد رأسه في الوفاء بهذا القياس وقال‏:‏ يجب على العامي النظر وطلب الدليل، وقال بعضهم‏:‏ يقلد العالم أصاب المقلد أم أخطأ، ويدل على فساد هذا المذهب دليلان‏:‏ الأول‏:‏ ما سنذكره في تصويب المجتهدين، ونبين أن هذه المسائل ليس فيها دليل قاطع ولا فيها حكم معين والأدلة الظنية لا تدل لذاتها، وتختلف بالاضافة، فتكليف الاصابة لما لم ينصب عليه دليل قاطع تكليف ما لا يطاق وإذا بطل الايجاب بطل التأثيم فانتفاء الدليل القاطع ينتج نفي التكليف ينتج نفي الاثم، ولذلك يستدل تارة بنفي الاثم على نفي التكليف، كما يستدل في مسألة التصويب، ويستدل في هذه المسألة بانتفاء التكليف على انتفاء الاثم، فإن النتيجة تدل على المنتج كما يدل المنتج على النتيجة‏.‏ الدليل الثاني‏:‏ إجماع الصحابة على ترك النكير على المختلفين في الجد والاخوة ومسألة العول ومسألة الحرام وسائر ما اختلفوا فيه من الفرائض وغيرها، فكانوا يتشاورون ويتفرقون مختلفين ولا يعترض بعضهم على بعض، ولا يمنعه من فتوى العامة، ولا يمنع العامة من تقليده ولا يمنعه من الحكم باجتهاده، وهذا متواتر تواترا لا شك فيه وقد بالغوا في تخطئة الخوارج وما نعي الزكاة ومن نصب إماما من غير قريش أو رأى نصب إمامين بل لو أنكر منكر وجوب الصلاة والصوم وتحريم السرقة والزنا لبالغوا في التأثيم والتشديد، لان فيها أدلة قاطعة، فلو كان سائر المجتهدات كذلك لاثموا وأنكروا، فإن قيل لهم‏:‏ لعلهم أثموا ولم ينقل إلينا وأضمروا التأثيم ولم يظهروا خوف الفتنة والهرج‏؟‏ قلنا‏:‏ العادة تحيل اندراس التأثيم والانكار لكثرة الاختلاف والوقائع، بل لو وقع لتوفرت الدواعي على النقل، كما نقلوا الانكار على مانعي الزكاة ومن استباح الدار، وعلى الخوارج في تكفير علي وعثمان، وعلى قاتلي عثمان، ولو جاز أن يتوهم إندراس مثل هذا لجاز أن يدعي أن بعضهم نقض حكم بعض وأنهم اقتتلوا في المجتهدات ومنعوا العوام من التقليد للمخالفين أو للعلماء، أو أوجبوا على العوام النظر أو اتباع إمام معين معصوم، ثم نقول‏:‏ تواتر إلينا تعظيم بعضهم بعضا مع كثرة الاختلافات إذ كان توقيرهم وتسليمهم للمجتهد العمل باجتهاده، وتقريره عليه أعظم من التوقير والمجاملة والتسليم في زماننا ومن علمائنا، ولو اعتقد بعضهم في البغض التعصية والتأثيم بالاختلاف لتهاجروا ولتقاطعوا وارتفعت المجاملة وامتنع التوقير والتعظيم، فأما امتناعهم من التأثيم للفتنة فمحال، فإنهم حيث اعتقدوا ذلك لم تأخذهم في الله لومة لائم ولا منعهم ثوران الفتنة وهيجان القتال حتى جرى في قتال مانعي الزكاة، وفي واقعة علي وعثمان والخوارج ما جرى، فهذا توهم محال، فإن قيل‏:‏ فقد نقل الانكار والتشديد والتأثيم، حتى قال ابن عباس‏:‏ ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الاب أبا وقال أيضا‏:‏ من شاء باهلته أن الله لم يجعل في المال النصف والثلثين‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب‏.‏ قلنا‏:‏ ما تواتر إلينا من تعظيم بعضهم بعضا وتسليمهم لكل مجتهد أن يحكم ويفتي ولكل عامي أن يقلد من شاء جاوز حدا لا يشك فيه فلا يعارضه أخبار آحاد لا يوثق بها ثم نقول‏:‏ من ظن بمخالفه أنه خالف دليلا قاطعا فعليه التأثيم والانكار، وإنما نقل إلينا في مسائل معدودة ظن أصحابها أن أدلتها قاطعة، فظن ابن عباس أن الحساب مقطوع به، فلا يكون في المال نصف وثلثان وظنت عائشة رضي الله عنها أن حسم الذرائع مقطوع به فمنعت مسألة العينة، وقد أخطأوا في هذا الظن، فهذه المسائل أيضا ظنية، ولا يجب عصمتها عن مثل هذا الغلط، أما عصمة جملة الصحابة عن العصيان بتعظيم المخالفين وترك تأثيمهم لو أثموا فواجب الحكم الثاني في الاجتهاد والتصويب والتخطئة وقد اختلف الناس فيها، واختلفت الرواية عن الشافعي وأبي حنيفة، وعلى الجملة قد ذهب قوم إلى أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وقال قوم‏:‏ المصيب واحد، واختلف الفريقان جميعا في أنه هل في الواقعة التي لا نص‏:‏ فيها حكم معين لله تعالى هو مطلوب المجتهد‏؟‏ فالذي ذهب إليه محققو المصوبة أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه، وهو المختار، وإليه ذهب القاضي، وذهب قوم من المصوبة إلى أن فيه حكما معينا يتوجه إليه الطلب، إذ لابد للطلب من مطلوب، لكن لم يكلف المجتهد إصابته، فلذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين الذي لم يؤمر بإصابته بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه، وأما القائلون بأن المصيب واحد فقد اتفقوا على أن فيه حكما معينا لله تعالى لكن اختلفوا في أنه هل عليه دليلا أم لا‏؟‏ فقال قوم‏:‏ لا دليل عليه، وإنما هو مثل دفين يعثر الطلب عليه بالاتفاق فلمن عثر عليه أجران ولمن حاد عنه أجر واحد لاجل سعيه وطلبه، والذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا اختلفوا في أن عليه دليلا قاطعا أو ظنيا، فقال قوم‏:‏ وهو قاطع ولكن الاثم محطوط عن المخطئ لغموض الدليل وخفائه، ومن هذا تمادي بشر المريسي في إتمام هذا القياس فقال‏:‏ إذا كان الدليل قطعيا أثم المخطئ كما في سائر القطعيات، وهو مام الوفاء بقياس مذهب من قال‏:‏ المصيب واحد، ثم الذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا ظنيا اختلفوا في أن المجتهد هل أمر قطعيا بإصابة ذلك الدليل فقال قوم‏:‏ لم يكلف المجتهد إصابته لخفائه وغموضه، فلذلك كان معذورا ومأجورا، وقال قوم‏:‏ أمر بطلبه، وإذا أخطأ لم يكن مأجورا، لكن حط الاثم عنه تخفيفا‏.‏ هذا تفصيل المذاهب، والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطئ المخالف فيه أن‏:‏ كل مجتهد في الظنيات مصيب، وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى، وسنكشف الغطاء عن ذلك بفرض الكلام في طرفين‏:‏ الطرف الأول‏:‏ مسألة فيها نص للشارع وقد أخطأ مجتهد النص فنقول‏:‏ ينظر فإن كان النص مما هو مقدور على بلوغه، لو طلبه المجتهد بطريقه فقصر ولم يطلب فهو مخطئ وآثم بسبب تقصيره، لانه كلف الطلب المقدور عليه فتركه فعصى وأثم وأخطأ حكم الله تعالى عليه، أما إذا لم يبلغه النص لا لتقصير من جهته لكن لعائق من جهة بعد المسافة وتأخير المبلغ والنص قبل أن يبلغه ليس حكما في حقه فقد يسمى مخطئا مجازا على معنى أنه أخطأ بلوغ ما لو بلغه لصار حكما في حقه، ولكنه قبل البلوغ ليس حكما في حقه، فليس مخطئا حقيقة، وذلك أنه لو صلى النبي عليه السلام إلى بيت المقدس بعد أن أمر الله تعالى جبريل أن ينزل على محمد عليه السلام ويخبره بتحويل القبلة فلا يكون النبي مخطئا لان خطاب استقبال الكعبة بعد لم يبلغه، فلا يكون مخطئا في صلاته، فلو نزل فأخبره وأهل مسجد قباء يصلون إلى بيت المقدس ولم يخرج بعد إليهم النبي عليه السلام ولا مناد من جهته فليسوا مخطئين، إذ ذلك ليس حكما في حقهم قبل بلوغه، فلو بلغ ذلك أبا بكر وعمر واستمر سكان مكة على استقبال بيت المقدس قبل بلوغ الخبر إليهم فليسوا مخطئين، لانهم ليسوا مقصرين، وكذلك نقل عن ابن عمر أنا كنا نخابر أربعين سنة، حتى روى لنا رافع بن خديج النهي عن المخابرة، فليس ذلك خطأ منهم قبل البلوغ لان الراوي غاب عنهم أو قصر في الرواية، فإذا ثبت هذا في مسألة فيها نص فالمسألة التي لا نص فيها كيف يتصور الخطأ فيها، فإن قيل‏:‏ فرضتم المسألة حيث لا دليل على الحكم المنصوص و نحن نخطئه إذا كان عليه دليل ووجب عليه طلبه فلم يعثر عليه، قلنا‏:‏ عليه دليل قاطع أو دليل ظني، فإن كان عليه دليل قاطع فلم يعثر عليه وهو قادر عليه فهوآثم عاص ويجب تأثيمه، وحيث وجب تأثيمه وجبت تخطئته كانت المسألة فقهية أو أصولية أو كلامية، وإنما كلامنا في مسائل ليس عليها دليل قاطع، ولو كان لنبه عليه من عثر عليه من الصحابة غيره ولشدد الانكار عليهم فإن الدليل القاطع في مثل هذه المسألة نص صريح أو في معنى المنصوص على وجه يقطع به ولا يتطرق الشك إليه والتنبيه على ذلك سهل، أفيقولون لم يعثر عليه جميع الصحابة رضي الله عنهم فأخطأ أهل الإجماع الحق، أو عرفه بعضهم وكتمه أو أظهره فلم يفهمه الآخرون أو فهموه فعاندوا الحق وخالفوا النص الصريح وما يجري مجراه، وجميع هذه الاحتمالات مقطوع ببطلانها، ومن نظر في المسائل الفقهية التي لا نص فيها علم ضرورة انتفاء دليل قاطع فيها، وإذا انتفى الدليل فتكليف الاصابة من غير دليل قاطع تكليف محال، فإذا انتفى التكليف انتفى الخطأ، فإن قيل عليه دليل ظني بالاتفاق فمن أخطأ الدليل الظني فقد أخطأ‏؟‏ قلنا‏:‏ الامارات الظنية ليست أدلة بأعيانها، بل يختلف ذلك بالاضافات، فرب دليل يفيد الظن لزيد وهو بعينه لا يفيد الظن لعمرو مع إحاطته به، وربما يفيد الظن لشخص واحد في حال دون حال بل قد يقوم في حق شخص واحد في حال واحدة في مسألة واحدة دليلان متعارضان كان كل واحد لو انفرد لافاد الظن، ولا يتصور في الأدلة القطعية تعارض، وبيانه أن أبا بكر رأى التسوية في العطاء إذ قال‏:‏ الدنيا بلاغ، كيف وإنما عملوا لله عزوجل وأجورهم على الله، حيث قال عمر‏:‏ كيف تساوي بين الفاضل والمفضول، ورأى عمر التفاوت ليكون ذلك ترغيبا في طلب الفضائل، ولان أصل الاسلام، وإن كان لله فيوجب الاستحقاق، والمعنى الذي ذكره أبو بكر فهمه عمر رضي الله عنهما، ولم يفده غلبة الظن وما رآه عمر فهمه أبو بكر ولم يفده غلبة الظن ولا مال قلبه إليه، وذلك لاختلاف أحوالهما، فمن خلق خلقة أبي بكر في غلبة التأله وتجريد النظر في الآخرة غلب على ظنه لا محالة ما ظنه أبو بكر، ولم ينقدح في نفسه إلا ذلك، ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته في الالتفات إلى السياسة ورعاية مصالح الخلق وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير، فلا بد أن تميل نفسه إلى ما مال إليه عمر مع إحاطة كل واحد منهما بدليل صاحبه، ولكن اختلاف الاخلاق والاحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون، فمن مارس علم الكلام ناسب طبعه أنواعا من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه، ولذلك من مارس الوعظ، صار مائلا إلى جنس ذلك الكلام بل يختلف باختلاف الاخلاق، فمن غلب عليه الغضب مالت نفسه إلى كل ما فيه شهامة وانتقام، ومن لان طبعه ورق قلبه نفر عن ذلك ومال إلى ما فيه الرفق والمساهلة، فالامارات كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها، كما يحرك المغناطيس الحديد دون النحاس بخلاف دليل العقل، فإنه موجب لذاته، فإن تسليم المقدمتين على الشكل الذي ذكرناه في مدارك العقول يوجب التصديق ضرورة بالنتيجة‏.‏ فإذا لا دليل في الظنيات على التحقيق، وما يسمى دليلا فهو على سبيل التجوز بالاضافة إلى ما مالت نفسه إليه، فإذا أصل الخطأ في هذه المسألة إقامة الفقهاء للأدلة الظنية وزنا حتى ظنوا أنها أدلة في أنفسها لا بالاضافة، وهو خطأ محض يدل على بطلانه البراهين القاطعة‏.‏ فإن قيل‏:‏ لم تنكرون على من يقول فيه أدلة قطعية، وإنما لم يؤثم المخطئ لغموض الدليل‏؟‏ قلنا‏:‏ الشئ ينقسم إلى معجوز عنه ممتنع وإلى مقدور عليه على يسر، وإلى مقدور عليه على عسر فإن كان درك الحق المتعين معجوزا عنه ممتنعا فالتكليف به محال وإن كان مقدورا على يسر فالتارك له ينبغي أن يأثم قطعا لانه ترك ما قدر عليه وقد أمر به، وإن كان مقدورا على عسر فلا يخلوا إما أن يكون العسر صار سببا للرخصة وحط التكليف‏.‏ كإتمام الصلاة في السفر، أو بقي التكليف مع العسر، فإن بقي التكليف مع العسر فتركه مع القدرة إثم كالصبر على قتل الكفار مع تضاعف عددهم، فإنه شديد جدا وعسير، و لكن يعصى إذا تركه، لان التكليف لم يزل بهذا العسر، وكذلك صبر المرأة على الضرات وحسن التبعل، مع أن ذلك جهاد شديد على النفس‏.‏ ولكنها تأثم بتركه مع ضعفها وعجزها، وكذلك التمييز بين الدليل، والشبهة في مسألة حدوث العالم ودلالة المعجزة وتمييزها عن السحر في غاية الغموض، ومن أخطأ فيه أثم بل كفر واستحق التخليد في النار، وكذلك الحق في المسائل الفقهية مع العسران أمر به، فالمخطئ آثم فيه وإن لم يؤمر بإصابة الحق، بل بحسب غلبة الظفقد أدى ما كلف، وأصاب ما هو حكم في حقه وأخطأ ما ليس حكما في حقه، بل هو بصدد أن يكون حكما في حقه، لو خوطب به أو نصب على معرفته دليل قاطع، فإذا الحاصل أن الاصابة محال أو ممكن، ولا تكليف بالمحال، ومن أمر بممكن فتركه عصى وأثم، ومحال أن يقال‏:‏ هو مأمور به، لكن إن خالف لم يعص ولم يأثم وكان معذورا، لان هذا يناقض حد الامر والايجاب، إذ حد الايجاب ما يتعرض تاركه للعقاب والذم‏.‏ وهذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل منصف، ويرد النزاع إلى عبارة وهو‏:‏ إن ما ليس حكما في حقه قد أخطأه، وذلك مسلم، ولكنه نوع مجاز، كتخطئة المصلي إلى بيت المقدس قبل بلوغ الخبر، ثم هذا المجاز أيضا إنما ينقدح في حكم نزل من السماء ونطق به الرسول كما في تحويل القبلة ومسألة المخابرة، أما سائر المجتهدات التي يلحق فيها المسكوت بالمنطوق قياسا واجتهادا فليس فيها حكم معين أصلا، إذا الحكم خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع، وليس فيها خطاب ونطق، فلا حكم فيها أصلا إلا ما غلب على ظن المجتهد، وسنفرد لهذا مسألة ونبين أنه ليس في المسألة أشبه عند الله عزوجل، ونذكر الآن شبه المخالفين وهي أربع‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قولهم هذا المذهب في نفسه محال، لانه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو أن يكون قليل النبيذ مثلا حلالا حراما، والنكاح بلا ولي صحيحا باطلا والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا، إذ ليس في المسألة حكم معين، وكل واحد من المجتهدين مصيب، فإذا الشئ ونقيضه حق وصواب وتبجح بعضهم بهذا الدليل حتى قال‏:‏ هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة، لانه في الابتداء يجعل الشئ ونقيضه حقا وبالآخر يرفع الحجر ويخير المجتهد بين الشئ ونقيضه عند تعارض الدليلين ويخير المستفتى لتقليد من شاء وينتقي من المذاهب أطيبها عنده‏.‏ والجواب‏:‏ أن هذا كلام فقيه سليم القلب جاهل بالاصول وبحد النقيضين وبحقيقة الحكم، ظان أن الحل والحرمة وصف للاعيان فيقول‏:‏ يستحيل أن يكون النبيذ حلالا حراما، كما يستحيل أن يكون الشئ قديما حادثا، وليس يدري أن الحكم خطاب لا يتعلق بالاعيان بل بأفعال المكلفين، ولا يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم على عمرو، كالمنكوحة تحل للزوج وتحرم على الاجنبي، وكالميتة تحل للمضطر دون المختار، وكالصلاة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض، وإنما المتناقض أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد، فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شئ من هذه الجملة انتفى التناقض حتى نقول‏:‏ الصلاة في الدار المغصوبة حرام قربة في حالة واحدة لشخص واحد، لكن من وجه دون وجه، فإذا اختلاف الاحوال ينفي التناقص، ولا فرق بين أن يكون اختلاف الاحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر، أو بالعلم والجهل، أو غلبة الظن، فالصلاة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا، ولو قال الشارع‏:‏ يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه السلامة، ويحرم على من غلب على ظنه الهلاك، فغلب على ظن الجبان الهلاك وعلى ظن الجسور السلامة، حرم على الجبان وحل للجسور لاختلاف حالهما، وكذلك لو صرح الشارع وقال‏:‏ من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه، ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض، فصريح مذهبنا إن لو نطق به الشرع لم يكن متناقضا ولا محالا، ومذهب الخصم لو صرح به الشرع كان محالا وهو أن يقول‏:‏ كلفتك العثور على ما لا دليل عليه، أو يقول‏:‏ كلفتك العثور على ما عليه دليل، لكن لو تركته مع القدرة لم تأثم، فيكون الأول محالا من جهة تكليف ما لا يطاق، ويكون الثاني محالا من جهة تناقض حد الامر إذ حد الامر ما يعصى تاركه‏.‏ الجواب الثاني‏:‏ أن نقول‏:‏ لو سلمنا أن الحل والحرمة وصف للاعيان أيضا لم يتناقض، إذ يكون من الاوصاف الاضافية، ولا يتناقض أن يكون الشخص الواحد أبا وأبنا، لكن لشخصين، وأن يكون الشئ مجهولا ومعلوما لكن لاثنين، وتكون المرأة حلالا حراما لرجلين، كالمنكوحة حرام للاجنبي حلال للزوج والميتة حرام للمختار حلال للمضطر‏.‏ الجواب الثالث‏:‏ هو أن التناقض ما ركبه الخصم، فإنه اتفق كل محصل لم يهذ هذيان المريسي، أن كل مجتهد يجب عليه أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده، ويعصي بتركه، فالمجتهدان في القبلة يجب على أحدهما استبقال جهة يحرم على الآخر استقبالها، فإن المصيب لا يتميز عن المخطئ، فيجب على كل واحد منهما العمل بنقيض ما يعمل به الآخر‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ قولهم إن سلمنا لكم أن هذه المذهب ليس بمحال في نفسه لو صرح الشرع به، فهو مؤد إلى المحال في بعض الامور، وما يؤدي إلى المحال فهو محال، فأداؤه إلى المحال فهو في حق المجتهد بأن يتقاوم عنده دليلان، فيتحير عندكم بين الشئ ونقيضه في حالة واحدة، وأما في حق صاحب الواقعة فإذا نكح مجتهد مجتهدة ثم قال لها‏:‏ أنت بائن وراجعها والزوج شفعوي يرى الرجعة والزوجة حنفية ترى الكنايات قاطعة للعصمة والرجعة، فيسلط الزوج على مطالبتها بالوطئ، ويجب عليها مع تسلط الزوج عليها منعه، وكذلك إذا نكح بغير ولي أولا ثم نكح آخر بولي، فإن كان كل واحد من المذهبين حقا فالمرأة حلال للزوجين، وهذا محال، ويمكن أن يستعمل هذا في نصرة الشبهة الأولى، والاعتراض على ما ذكرنا من دفع التناقض ورده إلى شخصين، فقد تكلفوا تقريره في حق شخص واحد‏.‏ والجواب من أوجه، وحاصله أنه لا إشكال في هذه المسائل ولا استحالة، وما فيه من الاشكال فينقلب عليهم ولا يختص إشكاله بهذا المذهب، أما المجتهد إذا تعارض عنده دليلان قلنا فيه رأيان‏:‏ أحدهما وهو الذي ننصره في هذه المسألة أنه يتوقف ويطلب الدليل من موضع آخر، لانه مأمور باتباع غالب الظن ولم يغلب على ظنه شئ، فقولنا فيه قولكم، فإنه وإن كان أحدهما حقا عندكم فقد تعذر عليه الوصول إليه، وهذا يقطع مادة الاشكال، وعلى رأيي نقول‏:‏ يتخير بأي دليل شاء، وسنفرد هذه المسألة بالذكر وننبه على غورها‏.‏ أما الثانية‏:‏ فقولنا فيها أيضا قولكم، فإن المصيب وإن كان واحدا عندهم فلا يتميز عن المخطئ، ويجب على المخطئ في الحال العمل بموجب اجتهاده لجهله بكونه مخطئا، إذا لا يتميز عن صاحبه، فقد أوجبوا عليها المنع، وأباحوا للزوج الطلب، فقد ركبوا المحال إن كان هذا محالا فسيقولون إنه ليس بمحال، وهو جوابنا الثاني ووجهه أن إيجاب المنع عليها لا يناقض إباحة الطلب للزوج ولا إيجابه، بل للسيد أن يقول لاحد عبديه، أوجبت عليك سلب فرس الآخر، ويقول للآخر أوجبت عليك منعه ودفعه ويقول لهذا‏:‏ إن لم تسلب عاقبتك، ويقول للآخر‏:‏ إن لم تحفظ عاقبتك، وكذلك يجب على ولي الطفل أن يطلب غرامة مال الطفل إذا أخبره عدلان بأنه أتلفه طفل آخر، ويجب على ولي الطفل المنسوب إلى الاتلاف إذا عاين صدور الاتلاف من غير الطفل أو علم كذب الشاهدين أن يمنع ويدفع، فيجب الطلب على أحدهما والدفع على الآخر مؤاخذة لكل واحد بموجب اعتقاده، نعم‏:‏ هذا السؤال يحسن من منكري الاجتهاد من التعليمية وغيرهم إذ يقولون‏:‏ أصل الاجتهاد باطل لادائه إلى هذا النوع من التناقض وجوابه ما ذكرناه، ونقابله على مذهبه أيضا بما لا يجد عنه محيصا فنقول‏:‏ إن أنكرت الظنون لم تنكر القواطع، وسعي الانسان في هلاك نفسه أو إهلاك غيره حرام بالقواطع، فلو اضطر شخصان إلى قدر من الميتة لا يفي إلا بسد رمق أحدهما، ولو قسماه أو تركاه ماتا، ولو أخذه أحدهما هلك الآخر، ولو وكله إليه أهلك نفسه فماذا يجب عليه وكيفما قال فهو مناقض ولا مخلص، فإن أوجب على كل واحد أن يأخذ فقد أوجب الاخذ على هذا وأوجب الدفع عن ذاك، فإن أوجب عليهما الترك فقد أوجب إهلاكهما جميعا، وإن خص أحدهما بالاخذ فهو تحكم، وإن قال يتخير كل واحد منهما بين الاخذ والترك فقد سلط هذا على الاخذ وذاك على الدفع، فإن أحدهما لو اختار الاخذ واختار الآخر الدفع جاز، وهو أيضا متناقض بزعمهم فماذا يقولون‏:‏ والمختار عندنا في هذه الصورة التخيير لكل واحد، فإنه إنما يجب الاخذ إذا لم يهلك غيره، وإنما يجب الترك والايثار إذا لم يهلك نفسه، فإذا تعارضا تخيرا ويحتمل أن يقرع بينهما كبينتين متعارضتين‏.‏ وأما المسألة الثانية إذا نشب الخصام بين الزوج وزوجته احتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يقول‏:‏ يلزمهما الرفع إلى حاكم البلد فإن قضى بثبوت الرجعة لزم تقديم اجتهاد الحاكم على اجتهاد أنفسهما وحل لهما مخالفة اجتهاد أنفسهما إذ اجتهاد الحاكم أولى من اجتهادهما لضرورة رفع الخصومات فإن عجزا عن حاكم فعليهما تحكيم عالم فيقضي بينهما، فإن لم يفعلا أثما وعصيا وكل ذلك احتمالات فقهية، ويحتمل أن يتركا متنازعين ولا يبالي بتمانعهما، فإنه تكليف بنقيضين في حق شخصين فلا يتناقض‏.‏ وأما المسألة الثالثة وهي‏:‏ أن تنكح بولي من نكحت بغير ولي فنقول‏:‏ إن كان النكاح بلا ولي صدر من حنفي يعتقد ذلك فقد صح النكاح في حقه، والنكاح الثاني بعده باطل قطعا، لانها صارت زوجة للاول، وإن كان الحنفي عقده بإجتهاد نفسه واتصل به قضاء حنفي فذلك أوكد، فإن كان مقلدا فقد صح أيضا في حقه، وإن صدر العقد من شفعوي على خلاف معتقده احتمل أمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن نقطع ببطلانه، فإنا إنما نجعله حقا إذا صدر من معتقده عن تقليد أو اجتهاد حيث لا يأثم ولا يعصي، وهذا قد عصى فهو مخطئ، ويحتمل أن يقال‏:‏ ما لم يطلق أو لم يقض حاكم ببطلانه فلا تحل لغيره لانه نكاح بصدد أن يقضي به حنفي فينحسم سبيل نقضه، فلا يعقد نكاح آخر قبل نقضه، وقد اختلفوا في أن الحنفي لو قضى لشفعوي بشفعة الجار أو بصحة النكاح بلا ولي، فهل يؤثر قضاؤه في الاحلال باطنا، فغلا أبو حنيفة وجعل القضاء بشهادة الزور يغير الحكم باطنا فيما للقاضي فيه ولاية الفسخ والعقد، وغلا قوم فقالوا‏:‏ لا يحل القضاء شيئا بل يبقى على ما كان عليه، وإن كان قضاؤه في محل الاجتهاد‏.‏ وقال قوم‏:‏ يؤثر في محل الاجتهاد ويغير الحكم باطنا ولا يؤثر حيث قاله أبو حنيفة، وهذه احتمالات فقهية لا يستحيل شئ منها، فنختار منها ما نشاء، فلا يتناقض ولا يلزمنا في الاصول تصحيح واحد من هذه الاختيارات الفقهية، فإنها ظنيات محتملة كل مجتهد أيضا فيها مصيب‏.‏ الشبهة الثالثة‏:‏ تمسكهم بطريق الدلالة بقولهم‏:‏ لو صح ما ذكرتموه لجاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة والاناءين إذا اختلف اجتهادهما أن يقتدي بالآخر، لان صلاة كل واحد صحيحة، فلم لا يقتدي بمن صحت صلاته، وكذلك ينبغي أن يصح اقتداء الشافعي بحنفي إذا ترك الفاتحة أيضا صحيحة، لانه بناها على الاجتهاد، فلما اتفقت الامة على فساد هذا الاقتداء دل على أن الحق واحد‏؟‏ والجواب‏:‏ أن الاتفاق في هذا غير مسلم، فمن العلماء من جوز الاقتداء مع اختلاف المذاهب، وهو منقدح، لان كل مصل يصلي لنفسه، ولا يجب الاقتداء إلا بمن هو في صلاة، وصلاة الامام غير مقطوع ببطلانها، فكيف يمتنع الاقتداء، ولو بان كون الامام جنبا ربما لم يجب قضاء الصلاة، ولو سلمنا فنقول‏:‏ إنما يجوز الاقتداء بمن صحت صلاته في حق المقتدي، وللمقتدي أن يقول صلاة الامام صحيحة في حقه، لانها على وفق اعتقاده فاسدة في حقي، لانها على خلاف اعتقادي فظهر أثر صحتها في كل ما يخص المجتهد، أما ما يتعلق بمخالفته فينزل منزلة الباطل، والاقتداء يتعلق بالمقتدي، فصلاته لا تصلح لقدوة من يعتقد فسادها في حق نفسه، وإن كان يعتقد صحتها في حق غيره، والدليل عليه أن الامام وإن صلى بغير فاتحة فيحتمل صلاته الصحة بالاتفاق، إذ الشافعي لا يقطع بخطئه، فلم فسد اقتداؤه بمن تجوز صحة صلاته ويجوز بطلانها، وكل إمام فيحتمل أن تكون صلاته باطلة بحدث أو نجاسة لا يعرفها المقتدي ولا تبطل صلاته بالاحتمال، فلا سبب لها إلا أنها باطلة في اعتقاده وبموجب اجتهاده ونحن نقول هي باطلة بموجب اعتقاده في حقه لا في حق إمامه، وبطلانها في حقه كاف لبطلان اقتدائه‏.‏ الشبهة الرابعة‏:‏ قولهم إن صح تصويب المجتهدين فينبغي أن نطوي بساط المناظرات في الفروع، لان مقصود المناظرة دعوة الخصم إلى الانتقال عن مذهبه، فلم يدع إلى الانتقال، بل ينبغي أن يقال‏:‏ ما اعتقدته فهو حق فلازمه، فإنه لا فضل لمذهبي على مذهبك، فالمناظرة إما واجبة وإما ندب وإما مفيدة، ولا يبقى لشئ من ذلك وجه مع التصويب‏.‏ والجواب‏:‏ أنا لا ننكر أن جماعة من ضعفة الفقهاء يتناظرون لدعوة الخصم إلى الانتقال لظنهم أن المصيب واحد، بل لاعتقادهم في أنفسهم أنهم المصيبون، وأن خصمهم مخطئ على التعيين، أما المحصلون فلا يتناظرون في الفروع، لذلك لكن يعتقدون وجوب المناظرة لغرضين واستحبابها لستة أغراض، أما الوجوب ففي موضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يجوز أن يكون في المسألة دليل قاطع من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع فيما يتنازع فيه في تحقيق مناط الحكم، ولو عثر عليه لامتنع الظن والاجتهاد، فعليه المباحثة والمناظرة حتى ينكشف انتفاء القاطع الذي يأثم ويعصي بالغفلة عنه‏.‏ الثاني‏:‏ أن يتعارض عنده دليلان ويعسر عليه الترجيح، فيستعين بالمباحثة على طلب الترجيح، فإنا وإن قلنا على رأي أنه يتخير فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة‏.‏ وأما الندب ففي مواضع‏:‏ الأول‏:‏ أن يعتقد فيه أنه معاند فيما يقوله غير معتقد له، وأنه إنما يخالف حسدا أو عنادا أو نكرا فيناظر ليزيل عنهم معصية سوء الظن ويبين أنه يقوله عن اعتقاد واجتهاد‏.‏ الثاني‏:‏ أن ينسب إلى الخطأ وأنه قد خالف دليلا قاطعا فيعلم جهلهم، فيناظر ليزيل عنهم الجهل كما أزال في الأول معصية التهمة‏.‏ الثالث‏:‏ أن ينبه الخصم على طريقه في الاجتهاد، حتى إذا فسد ما عنده لم يتوقف ولم يتخير، وكان طريقه عنده عتيدا يرجع إليه إذا فسد ما عنده وتغير فيه ظنه‏.‏ الرابع‏:‏ أن يعتقد أن مذهبه أثقل وأشد، وهو لذلك أفضل وأجزل ثوابا فيسعى في استجرار الخصم من الفاضل إلى الافضل، ومن الحق إلى الاحق‏.‏ الخامس‏:‏ أنه يفيد المستمعين معرفة طرق الاجتهاد ويذلل لهم مسلكه ويحرك دواعيهم إلى نيل رتبة الاجتهاد ويهديهم إلى طريقه، فيكون كالمعاونة على الطاعات والترغيب في القربات‏.‏ السادس‏:‏ وهو الاهم، وهو أن يستفيد هو وخصمه تذليل طرق النظر في الدليل حتى يترقى من الظنيات إلى ما الحق فيه واحد من الاصول فيحصل بالمناظرة نوع من الارتباض وتشحيذ الخاطر وتقوية المنة في طلب الحقائق ليترقى به إلى نظر هو فرض عينه إن لم يكن في البلد من يقوم به أو كان قد وقع الشك في أصل من الاصول، أو إلى ما هو فرض على الكفاية، إذ لا بد في كل بلد من عالم ملئ بكشف معضلات أصول الدين وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب متعين إن لم يكن إليه طريق سواه، وإن كان إليه طريق سواه فيكون هو إحدى خصال الواجب، فهذا في بعض الصور يلتحق بالمناظرة الواجبة، فهذه فوائد مناظرات المحصلين دون الضعفاء المغترين حين يطلبون من الخصم الانتقال، ويفتون بأنه يجب على خصمهم العمل بما غلب على ظنه، وأنه لو وافقه على خلاف اجتهاد نفسه عصى وأثم، وهل في عالم الله تناقض أظهر منه‏؟‏ فهذه شبههم العقلية‏.‏ أما الشبه النقلية فخمس‏:‏ الأولى‏:‏ تمسكهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين الانعام‏}‏ ‏(‏الانبياء‏:‏ 87 - 79‏)‏ وهذا يدل على اختصاص سليمان بمدرك الحق وأن الحق واحد‏.‏ الجواب من ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أنه من أين صح أنهما بالاجتهاد حكما ومن العلماء من منع اجتهاد الانبياء عقلا، ومنهم من منعه سمعا، ومن أجاز أحال الخطأ عليهم، فكيف ينسب الخطأ إلى داود عليه السلام، ومن أين يعلم أنه قال ما قال عن اجتهاد‏؟‏ الثاني‏:‏ أن الآية أدل على نقيض مذهبهم إذ قال‏:‏ ‏{‏وكلا آتينا حكما وعلما‏}‏ والباطل والخطأ يكون ظلما وجهلا لا حكما وعلما، ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى لا يوصف بأنه حكم الله، وأنه الحكم والعلم الذي آتاه الله، لا سيما في معرض المدح والثناء، فإن قيل‏:‏ فما معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏ ‏(‏الانبياء‏:‏ 97‏)‏ قلنا‏:‏ لا يلزمنا ذكر ذلك بعد أن أبطلنا نسبة الخطأ إلى داود‏.‏ الجواب الثالث‏:‏ التأويل، وهو أنه يحتمل أنهما كانا مأذونين في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد سليمان، فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي على سليمان بخلافه، لكن لنزوله على سليمان أضيف إليه، ويتعين تنزيل ذلك على الوحي، إذ نقل المفسرون أن سليمان حكم بأنه يسلم الماشية إلى صاحب الزرع حتى ينتفع بدرها ونسلها وصوفها حولا كاملا، وهذا إنما يكون حقا وعدلا إذا علم أن الحاصل منه في جميع السنة يساوي ما فات على صاحب الزرع، وذلك يدركه علام الغيوب ولا يعرف بالاجتهاد‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 38‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 7‏)‏ فدل على أن في مجال النظر حقا متعينا يدركه المستنبط، وهذا فاسد من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه ربما أراد به الحق فيما الحق فيه واحد من العقليات والسمعيات القطعيات إذ منها ما يعلم بطريق قاطع نظري مستنبط‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ليس فيه تخصيص بعض العلماء، فكل ما أفضى إليه نظر عالم فهو استنباطه وتأويله، وهو حق مستنبط وتأويل أذن للعلماء فيه دون العوام، وجعل الحق في حق العوام الحق الذي استنبطه العلماء بنظرهم وتأويلهم، فهذا لا يدل على تخطئة البعض‏.‏ الشبهة الثالثة‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر فدل أن فيه خطأ وصوابا، وقد ادعيتم استحالة الخطأ في الاجتهاد، والجواب من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أن هذا هو القاطع على أن كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطئ الحاكم بغير حكم الله تعالى كيف يستحق الاجر‏؟‏ الثاني‏:‏ هو أنا لا ننكر إطلاق اسم الخطأ على سبيل الاضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه، فإن الحاكم يطلب رد المال إلى مستحقه، وقد يخطئ ذلك فيكون مخطئا فيما طلبه مصيبا فيما هو حكم الله تعالى عليه، وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود، وكذلك كل من اجتهد في القبلة يقال أخطأ أي أخطأ ما طلبه، ولم يجب عليه الوصول إلى مطلوبه، بل الواجب استقبال جهة يظن أن مطلوبه فيها، فإن قبل‏:‏ ولم كان للمصيب أجران وهما في التكليف وأداء ما كلفا سواء‏؟‏ قلنا‏:‏ لقضاء الله تعالى وقدره وإرادته فإنه لو جعل للمخطئ أجرين لكان له ذلك، وله أن يضاعف الاجر على أخف العملين، لان ذلك منه تفضل، ثم السبب فيه أنه أدى ما كلف وحكم بالنص إذ بلغه، والآخر حرم الحكم بالنص إذ لم يبلغه ولم يكلف إصابته لعجزه ففاته فضل التكليف والامتثال، وهذا ينقدح في كل مسألة فيها نص، وفي كل اجتهاد يتعلق بتحقيق مناط الحكم، كأروش الجنايات، وقدر كفاية الاقارب فإن فيها حقيقة متعينة عند الله تعالى وإن لم يكلف المجتهد طلبها، وهو جار في المسائل التي لا نص فيها عند من قال‏:‏ في كل مسألة حكم متعين، وأشبه عند الله تعالى، وسيأتي وجه فساده بعد هذا إن شاء الله تعالى‏.‏ الشبهة الرابعة‏:‏ تمسكهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 301‏}‏ ‏(‏تنازعوا فتفشلوا‏}‏ ‏(‏الانفال‏:‏ 64‏}‏ ‏(‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 501‏}‏ ‏(‏‏(‏84‏)‏ وكذلك‏}‏ ‏(‏هود‏:‏ 811 - 911‏)‏ والإجماع منعقد على الحث على الالفة والموافقة والنهي عن الفرقة، فدل أن الحق واحد ومذهبكم أن دين الله مختلف، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا والجواب من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن اختلاف الحكم باختلاف الاحوال في العلم والجهل والظن كاختلافه باختلاف السفر والاقامة والحيض والطهر والحرية والرق والاضطرار والاختيار‏.‏ الثاني‏:‏ أن الامة مجمعة على أنه يجب على المختلفين في الاجتهاد أن يحكم كل واحد بموجب اجتهاده، وهو مخالف لغيره، والامر باتباع المختلف أمر بالاختلاف، فهذا ينقلب عليكم إشكاله وإنما يصح هذا السؤال من منكري أصل الاجتهاد‏.‏ الثالث‏:‏ وهو جواب منكري أصل الاجتهاد أيضا أنه لو كان المراد ما ذكروه لما جاز للمجتهدين في القبلة أن يصلوا إلى جهات مختلفة، مع أن القبلة عند الله تعالى واحدة ولما جاز في الكفارات المختلفة أن يعتق واحد ويصوم آخر، ولما جاز للمضطرين إلى ميتة لا تفي برمق جميعهم أن يتقارعوا، ولما جاز الاجتهاد في أروش الجنايات وتقدير النفقات وفي مصالح الحرب، وكل ما سميناه بتحقيق مناط الحكم وذلك كله ضروري في الدين، وليس مرادنا الاختلاف المنهي عنه، بل المنهي عنه الاختلاف في أصول الدين وعلى الولاة والائمة‏.‏ الشبهة الخامسة‏:‏ قولهم حسمتم إمكان الخطأ في الاجتهاد، والصحابة مجمعون على الحذر من الخطأ، حتى قال ابو بكر رضي الله عنه‏:‏ أقول في الكلالة برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن الشيطان‏.‏ وقال علي لعمر رضي الله عنهما‏:‏ إن لم يجتهدوا فقد غشوا، وإن اجتهدوا فقد أخطأوا، أما الاثم فأرجو أن يكون عنك زائلا، وأما الدية فعليك‏.‏ ولما كتب أبو موسى كتابا عن عمر كتب فيه‏:‏ هذا ما أرى الله عمر، فقال‏:‏ امحه واكتب، هذا ما رأى عمر، فإن يك خطأ فمن عمر‏.‏ وقال في جواب المرأة التي ردت عليه في النهي عن لمبالغة في المهر حيث ذكرت القنطار في الكتاب‏:‏ أصابت امرأة وأخطأ عمر‏.‏ وقال ابن مسعود في المفوضة، إن كانت خطأ فمني ومن الشيطان بعد أن اجتهد شهرا‏؟‏‏.‏ الجواب‏:‏ إنا نثبت الخطأ في أربعة أجناس‏:‏ أن يصدر الاجتهاد من غير أهله، أو لا يستتم المجتهد نظره أو يضعه في غير محله بل في موضع فيه دليل قاطع أو يخالف في اجتهاده دليلا قاطعا كما ذكرناه في باب مثارات إفساد القياس، وإنا ذكرنا عشرة أوجه تبطل القياس قطعا لا ظنا‏:‏ فجميع هذا محال الخطأ، وإنما ينتفي الخطأ متى صدر الاجتهاد من أهله وتم في نفسه ووضع في محله ولم يقع مخالفا لدليل قاطع، ثم مع ذلك كله يثبت اسم الخطأ بالاضافة إلى ما طلب لا إلى ما وجب، كما في القبلة وتحقيق مناط الاحكام، فمن ذكره من الصحابة فإما إن كان اعتقد أن الخطأ ممكن وذهب، مذهب من قال‏:‏ المصيب واحد أو خاف على نفسه أن يكون قد خالف دليلا قاطعا غفل عنه أو لم يستتم نظره ولم يستفرغ تمام وسعه، أو يخاف أن لا يكون أهلا للنظر في تلك المسألة أو أمن ذلك كله، لكن قال ما قال إظهارا للتواضع والخوف من الله تعالى كما يقولون أنا مؤمن بالله إن شاء الله، مع أنهم لم يشكوا في إيمانهم، ثم جميع ما ذكروا أخبار آحاد لا يقوم بها حجة ويتطرق إليها الاحتمال المذكور فلا يندفع بها البراهين القاطعة التي ذكرناها‏.‏

مسألة ‏(‏الخطأ والاصابة في الاجتهاد‏)‏

القول في نفي حكم معين في المجتهدات، أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فقد وضع في كل مسألة حكما معينا هو قبلة الطالب ومقصد طلبه فيصيب أو يخطئ، أما المصوبة فقد اختلفوا فيه، فذهب بعضهم إلى إثباته، وإليه تشير نصوص الشافعي رحمه الله، لانه لا بد للطالب من مطلوب، وربما عبروا عنه بأن مطلوب المجتهد الاشبه عند الله تعالى، والاشبه معين عند الله، والبرهان الكاشف للغطاء عن هذا الكلام المبهم هو أنا نقول‏:‏ المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نص وإلى ما لم يرد، أما ما ورد فيه نص فالنص كأنه مقطوع به من جهة الشرع، لكن لا يصير حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه وعثر عليه أو كان عليه دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم يقصر في طلبه، فهذا مطلوب المجتهد وطلبه واجب وإذا لم يصب فهو مقصر آثم، أما إذا لم يكن إليه طريق متيسر قاطع كما في النهي عن المخابرة وتحويل القبلة قبل بلوغ الخبر، فقد بينا أن ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه، لكنه عرضة أن يصير حكما فيه حكم بالقوة لا بالفعل، وإنما يصير حكما بالبلوغ أو تيسر طريقه على وجه يأثم من لا يصيبه، فمن قال في هذه المسائل حكم معين لله تعالى وأراد به أنه حكم موضوع ليصير حكما في حق المكلف إذا بلغه وقبل البلوغ وتيسر الطريق ليس حكما في حقه بالفعل بل بالقوة، فهو صادق، وإن أراد به غيره فهو باطل، أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم أنه لا حكم فيها، لان حكم الله تعالى خطابه، وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي عليه السلام أو سكوته، فإنه قد يعرفنا خطاب الله تعالى من غير استماع صيغة، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم، فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراما، فمعنى تحريمه أنه قيل فيه لا تشربوه، وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطبا والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون، ولا بد أن يكون المخاطب به هم المكلفون من الآدميين، ومتى خوطبوا ولم ينزل فيه نص بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق، فإذا لا يعقل خطاب لا مخاطب به، كما لا يعقل علم لا معلوم له، وقتل لا مقتول له، ويستحيل أن يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل قاطع، فإن قيل‏:‏ عليه أدلة ظنية‏؟‏ قلنا‏:‏ قد بينا أن تسمية الامارات أدلة مجاز، فإن الامارات لا توجب الظن لذاتها، بل تختلف بالاضافة، فمما لا يفيد الظن لزيد فقد يفيد لعمرو، وما يفيد لزيد حكما فقد يفيد لعمرو ونقيضه، وقد يختلف تأثيره في حق زيد في حالتين، فلا يكون طريقا إلى المعرفة، ولو كان طريقا لعصى إذا لم يصبه، فسبب هذا الغلط إطلاق اسم الدليل على الامارات مجازا فظن أنه دليل محقق وإنما الظن عبارة عن ميل النفس إلى شئ، واستحسان المصالح كاستحسان الصور، فمن وافق طبعه صورة مال إليها وعبر عنها بالحسن، وذلك قد يخالف طبع غيره فيعبر عنه بالقبح حيث ينفر عنه، فالاسمر حسن عند قوم قبيج عند قوم، فهي أمور إضافية ليس لها حقيقة في نفسها، فلو قال قائل، الاسمر حسن عند الله أو قبيح قلنا‏:‏ لا حقيقة لحسنه وقبحه عند الله إلا موافقت لبعض الطباع ومخالفته لبعضها، وهو عند الله كما هو عند الناس، فهو عند الله حسن عند زيد قبيح عند عمرو، إذ لا معنى لحسنه إلا موافقته طبع زيد، ولا معنى لقبحه إلا مخالفته لطبع عمرو، وكذلك تحريك الرغبة للفضائل، والتفاوت في العطاء هو حسن عند عمر رضي الله عنه موافق لرأيه، وهو بعينه ليس موافقا لابي بكر رضي الله عنه بل الحسن عنده أن يجعل الدنيا بلاغا ولا يلتفت إليها‏.‏ فهذه الحقيقة في الظنون ينبغي أن تفهم حتى ينكشف الغطاء، وإنما غلط فيه الفقهاء من حيث ظنوا أن الحلال والحرام وصف للاعيان كما ظن قوم أن الحسن والقبح وصف للذوات، فإن قيل‏:‏ نحن لا ننكر أن ما لم يرد فيه نطق ولا دليل قاطع فليس فيه حكم نازل موضوع، لكن نعني بالاشبه فيما هو قبلة للطالب الحكم الذي كان الله ينزله لو أنزله، وربما كان الشارع يقوله لو رجع في تلك المسألة، قلنا هذا هو الحكم بالقوة، وما كان ينزل لو نزل إنما يكون حكما لو نزل فقبل نزوله ليس حكما، فقد ظهر أنه لا حكم، ومن أخطأ لم يخطئ الحكم بل أخطأ ما كان لعله سيصير حكما لو جرى في تقدير الله انزله، ولم يجر في تقديره، فلا معنى له، ويلزم من هذا أن يجوز خطأ المجتهدين جميعا في تقديره وإصابة المجتهدين جميعا، فإنه ربما كان ينزل لو أنزل التخيير بين المذهبين، وتصويب كل من قال فيه قولا كيفما قال، أو ينزل تخطئة كل من قطع القول بإثبات أو نفي حيث لم يتخير بين الحكمين، فإن هذه التجويزات لا تنحصر، فربما يعلم الله صلاح العباد في أن لا يضع في الوقائع حكما، بل يجعل حكمها تابعا لظن المجتهدين، فتعبدهم بما يظنون ويبطل مذهب من يقول فيها بحكم معين، فيكون في هذا تخطئة كل من أثبت من المجتهدين حكما معينا نفيا أو إثباتا، احتجوا بأن قالوا‏:‏ إنما اضطرنا إلى هذا ضرورة الطلب فإنه يستدعي مطلوبا، فمن علم أن الجماد ليس بعالم ولا جاهل لا يتصور أن يطلب الظن أو العلم بجهله وعلمه، ومن اعتقد أن العالم خال عن وصف القدم والحدوث هل يتصور أن يطلب ما يعتقد انتفاءه، فإذا اعتقد الطلب أن قليل النبيذ ليس عند الله حراما ولا حلالا فكيف يجتهد في طلب أحدهما‏؟‏ قلنا‏:‏ فقد أخطأ إذ ظننتم أن المجتهد يطلب حكم الله مع علمه بأن حكم الله خطابه، فإن الواقعة لا نص فيها ولا خطاب، بل إنما يطلب غلبة الظن‏.‏ وهو كمن كان على ساحل البحر، وقيل له‏:‏ إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب وإن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب، وقبل حصول الظن لا حكم لله عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك ويتبع ظنك بعد حصوله، فهو يطلب الظن دون الاباحة والتحريم، فإن قيل‏:‏ هذا في البحر معقول لانه ينظر في أمارات الهلاك والسلامة فذلك مطلوبة، والاباحة والتحريم أمر وراءه وفي مسألتنا لا مطلوب سوى الحكم، قلنا‏:‏ من ههنا غلطتم فإنه لا فرق بين الصورتين، ونحن نكشف ذلك بالامثلة فنقول‏:‏ لو قلنا للشارع‏:‏ ما حكم الله تعالى في العطاء الواجب التسوية أو التفضيل‏.‏ فقال‏:‏ حكم الله على كل إمام ظن أن الصلاح في التسوية هو التسوية، وحكمه على كل من ظن أن المصلحة في التفضيل ولا حكم عليهم قبل تحصيل الظن، إنما يتجدد حكمه بالظن وبعده كما يتجدد الحكم على راكب البحر بعد الظن ويتجدد على قاضيين شهد عندهما في واقعتين شخصان وجوب القبول ووجوب الرد عند ظن الصدق وظن الكذب فيجب على أحد هما التصديق وعلى الآخر التكذيب، وكذلك إذا قلنا‏:‏ ما حكمه في قليل النبيذ فقال‏:‏ حكمه تحريم الشرب على من ظن أني حرمت قليل الخمر لانه يدعوه إلى كثيره، والتحليل لمن ظن أني حرمت الخمر لعينها إلا لهذه العلة ولا حكم لله تعالى قبل هذا الظن، وكذلك، إذا قلنا‏:‏ ما حكم الله في قيمة العبد، أتضرب على العاقلة أم على الجاني‏؟‏ فقال‏:‏ حكم الله تعالى على من ظن أنه بالحر أشبه الضرب على العاقلة، وعلى من ظن أنه بالبهيمة أشبه الضرب على الجاني، وكذلك نقول‏:‏ ما حكم الله في المفاضلة في بيع الجص والبطيخ فقال‏:‏ حكم الله على من ظن إني حرمت ربا الفضل في البر لانه مطعوم تحريم البطيخ دون الجص، وعلى من ظن أني حرمته للكيل تحريم الجص دون البطيخ، فإقيل‏:‏ فما علة تحريم ربا البر عند الله، أهي الطعم أم الكيل أم القوت‏؟‏ فنقول‏:‏ كل واحد من الطعم والكيل لا يصلح أن يكون علة لذاتها بل معنى كونها علة أ علامة، فمن ظن أن الكيل علامة فهو علامة في حقه دون من ظن أن علامته الطعم وليست العلة وصفا ذاتيا، كالقدم والحدوث للعالم حتى يجب أن يكون في علم الله على أحد الوصفين لا محالة، بل هو أمر وضعي، والوضع يختلف بالاضافة وقد وضعته كذلك، فهذا لو صرح الشارع به فهو معقول، وجانب الخصم لو صرح به كان محالا، وهو أن يكون لله حكم ليس بخطاب، ولا يتعلق بمخاطب ومكلف، فإن هذا يضاد حد الحكم وحقيقته أو يقول تعلق به، لكن لا طريق له إلى معرفته، فهو محال لما فيه من تكليف ما لا يطاق، أو يقول‏:‏ له طريق إلى معرفته، وقد أمر به، لكنه لا يعصي بتركه، فهو أيضا يضاد حد الواجب ويضاد حد الإجماع المنعقد على أن المجتهد يجب عليه العمل بموجب اجتهاده، فكيف يجب عليه مع ذلك ضده، وكيف يكون مأمورا باستقبال القبلة من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أخرى بل بالإجماع لو خالف اجتهاد نفسه واستقبل جهة أخرى فاتفق إن كان جهة القبلة عصى ولزمه القضاء، فاستبان أن ذلك الاجتهاد الشرعي على الممكن دون المحال هذا حكم التأثيم والتصويب، ونذكر بقية أحكام الاجتهاد في صور مسائل‏.‏

مسألة ‏(‏تعارض الأدلة مع بعضها‏)‏

إذا تعارض دليلان عند المجتهد وعجز عن الترجيح ولم يجد دليلا من موضع آخر وتحير، فالذين ذهبوا إلى أن المصيب واحد يقولون‏:‏ هذا بعجز المجتهد، وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح، فيلزم التوقف أو الاخذ بالاحتياط أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح، وأما المصوبة فاختلفوا فمنهم من قال يتوقف لانه متعبد باتباع غالب الظن ولم يغلب عليه ظن شئ وهذا هو الاسلم الاسهل، وقال القاضي‏:‏ يتخير، لانه تعارض عنده دليلان، وليس أحدهما أولى من الآخر فيعمل بأيهما شاء، وهذا ربما يستنكر ويستبعد ويقال‏:‏ كيف يتخير في حال واحدة بين الشئ وضده، وليس هذا محالا، لان التخيير بين حكمين مما ورد الشرع به كالتخيير بين خصال الكفارة، ولو صرح الشرع بالتخيير كان له ذلك فقد اضطررنا إلى التخيير لان الحكم تارة يؤخذ من النص، وتارة من المصلحة، وتارة من الشبه، وتارة من الاستصحاب، فإن نظرنا إلى النص فيجوز أن يتعارض في حقنا نصان ولا يتبين تاريخ أو يتعارض عمومان، ولا يتبين ترجيح أو يتعارض استصحابان كما في مسائل تقابل الأصلين، أو يتعارض شبهان بأن تدور المسألة بين أصلين ويكون شبهه هذا كشبهه ذاك أو يتعارض مصلحتان بحيث لا ترجيح، فلو قلنا يتوقف، فإلى متى يتوقف‏؟‏ وربما لا يقبل الحكم التأخير ولا نجد مأخذا آخر للحكم، ولا نجد مفتيا آخر يترجح عنده أو وجد من ترجح عنده بخيال هو فاسد عنده يعلم أنه لا يصلح للترجيح، فكيف يرجح بما يعتقد أنه لا يصلح للترجيح، بل لا سبيل إلا التخيير، كما لو اجتمع على العامي مفتيان استوى حالهما عنده في العلم والورع ولم يجد ثالثا، فلا طريق إلا التخيير، وللفقهاء في تعارض البينتين مذاهب، فمنهم من قال‏:‏ نقسم المال بينهما ومعناه، تصديق البينتين، وتقدير أنه قام لكل واحد سبب كمال الملك لكن ضاق المحل عن الوفاء بهما، ولا ترجيح فصار كما لو استحقاه بالشفعة إذ لكل واحد من الشفيعين سبب كامل في استحقاق جميع الشقص المبيع، لكن ضاق المحل فيوزع عليهما وعلى الجملة الاحتمالات أربعة‏:‏ أما العمل بالدليلين جميعا، أو إسقاطهما جميعا، أو تعيين أحدهما بالتحكم، أو التخيير، ولا سبيل إلى الجمع عملا وإسقاطا لانه متناقض، ولا سبيل إلى التوقف إلى غير نهاية، فإن فيه تعطيلا، ولا سبيل إلى التحكم بتعيين أحدهما، فلا يبقى إلا الرابع وهو التخيير، كما في اجتماع المفتيين على العامي، فإن قيل‏:‏ كما استحالت الاقسام الثلاثة فالتخيير أيضا جمع بين النقيضين فهو محال‏؟‏ قلنا‏:‏ المحال ما لو صرح الشرع به لم يعقل، ولو قال الشارع‏:‏ من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جدار أراد فيتخير بين أن يستقبل جدارا أو يستدبره كان معقولا، لانه كيفما فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة، وكيفما تقلب فإليها ينقلب، وكذلك إذا قال‏:‏ تعبدتكم باتباع الاستصحاب ثم تعارض استصحابان، فكيفما تقلب فهو مستصحب، كما إذا أعتق عن كفارته عبدا غائبا انقطع خبره، فالأصل بقاء الحياة، والأصل بقاء اشتغال الذمة فقد تعارضا، وكذلك إذا علم المجتهد أن في التسوية في العطاء مصلحة وهي الاحتراز عن وحشة الصدور بمقدار التفاوت الذي لا يتقدر إلا بنوع من الاجتهاد، وفي التفاوت مصلحة تحريك رغبات الفضائل، وهما مصلحتان ربما تساوتا عند الله تعالى أيضا فكيفما فعل فقد مال إلى مصلحة، وكذلك قد تشبه المسألة أصلين شبها متساويا وقد أمرنا باتباع الشبه فكيفما فعل فهو ممتثل، و مثاله قوله تعالى عليه السلام في زكاة الابل‏:‏ في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فمن له من الابل مائتان فإن أخرج الحقاق فقد عمل بقوله عليه السلام‏:‏ في كل خمسين حقة وإن أخرج بنات لبون فقد عمل بقوله‏:‏ في كل أربعين بنت لبون وليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فيتخير، فكذلك عند تعارض الاستصحاب و المصلحة والشبه، فإن قيل التخيير بين التحريم ونقيضه يرفع التحريم، والتخيير بين الواجب وتكره يرفع الوجوب، والجمع بين أختين مملوكتين أما أن يحرم أو لا يحرم، فإن قلنا بهما جميعا فهو متناقض، قلنا‏:‏ يحتمل أن يرجع عند تعارض الدليل الموجب والمسقط إلى الوجه الآخر، وهو القول بالتساقط، ويطلب الدليل من موضع آخر، ويخص وجه التخيير بما لو ورد الشرع فيه بالتخيير لم يتناقض مما يضاهي مسألة بنات اللبون والحقاق، وكالاختلاف في المحرم إذا جمع بين التحليلين الواجب عليه بدنة أو شاة إذ التخيير بينهما معقول، فيحصل في تعارض الدليلين ثلاثة أوجه‏:‏ وجه في التساقط، ووجه في التخيير، ووجه في التفصيل، وفصل بين ما يمكن التخيير فيه من الواجبات، إذ يمكن التخيير فيها وبين ما يتعارض فيه الموجب والمبيح أو المحرم والمبيح، فلا يمكن التخيير فيه فيرجع إلى التساقط، وإن أردنا الاصرار على وجوب التخيير مطلقا فله وجه أيضا، وهو أنا نقول‏:‏ إنما يناقض الوجوب جواز الترك مطلقا، أما جوازه بشرط فلا، بدليل أن الحج واجب على التراخي، وإذا أخر ثم مات قبل الاداء لم يلق الله عاصيا عندنا إذا أخر مع العزم على الامتثال، فجواز تركه بشرط العزم لا ينافي الوجوب، بل المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فالركعتان واجبتان، ويجوز أن يتركهما، ولكن جاز تركهما بشرط أن يقصد الترخص ويقبل صدقة قد تصدق الله بها على عباده فهو كمن يستحق أربعة دراهم على غيره فقال له‏:‏ تصدقت عليك بدرهمين، إن قبلت وإن لم تقبل، وأتيت بالاربعة قبلت الاربعة عن الدين الواجب، فإن شاء قبل الصدقة وأتى بدرهمين، وإن شاء اتى بالاربعة عن الواجب ولا يتناقض، فكذلك في مسألتنا إذا اقتضى استصحاب شغل الذمة إيجاب عتق آخر بعد أن أعتق عبدا غائبا، فلا يجوز له تركه إلا بشرط أن يقصد استصحاب الحياة ويعمل بموجبه، فمن لم يخطر له الدليل المعارض أو خطر له ولم يقصد العمل وترك الواجب لم يجز، وكذلك إذا سمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تجمعوا بين الاختين‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 32‏)‏ حرم عليه الجمع بين المملوكتين، وإنما يجوز له قصد العمل بموجب الدليل الثاني هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏(‏4‏)‏ أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 3‏)‏ كما قال عثمان أحلتهما آية وحرمتهما آية، وسئل ابن عمر عمن نذر صوم يوم من كل أسبوع فوافق يوم العيد فقال‏:‏ أمر الله بوفاء النذر ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد ولم يزد على هذا، معناه أنه إذا لم يظهر ترجيح فيحرم صوم العيد بالنهي ويجوز أن يصوم بشرط أن يقصد العمل بموجب الدليل الثاني وهو الامر بالوفاء، وكان ذلك جوازا بشرط فلا يتناقض الواجب، وأما إذا تعارض الموجب والمحرم فيتولد منه التخيير المطلق، كالولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسم عليهما أو منعهما لماتا، ولو أطعم أحدهما مات الآخر فإذا أشرنا إلى رضيع معين كان إطعامه واجبا لان فيه إحياءه، وحراما لان فيه هلاك غيره، فنقول هو مخير بين أن يطعم هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا فلا سبيل إلا التخييرة فإذا مهما تعارض دليلان في واجبين كالشاة والبدنة في الجمع بين التحليلين تخيير بينهما، وأن تعارض دليل الوجوب ودليل الاباحة تخير بشرط قصد العمل بموجب الدليل المبيح، كما يتخير بين ترك الركعتين قصدا وبين إتمامهما لكن بشرط قصد الترخص، وإن تعارض الموجب والمحرم حصل التخيير المطلق أيضا، هذا طريق نصره اختيار القاضي في التخيير، فإن قيل‏:‏ تعارض دليلين من غير ترجيح محال، وإنما يخفى الترجيح على المجتهد، قلنا وبم عرفتم استحالة ذلك‏؟‏ فكما تعارض موجب بنات اللبون والحقاق فلم يستحل أن يتعارض استصحابان وشبهان ومصلحتان وينتفى الترجيح في علم الله تعالى، فإن قيل‏:‏ فما معنى قول الشافعي‏:‏ المسألة على قولين‏؟‏ قلنا‏:‏ هو التخيير في بعض المواضع والتردد في بعض المواضع، كتردده في أن البسملة هل هي آية في أول كل سورة‏؟‏ فإن ذلك لا يحتمل التخيير، لانه في نفسه أمر حقيقي ليس بإضافي فيكون الحق فيه واحدا، فإن قيل‏:‏ فمذهب التخيير يفضي إلى محال، وهو أن يخير الحاكم المتخاصمين في شفعة الجوار أو استغراق الجد للميراث أو المقاسمة لان حكم الله الخيرة، وكذلك يخير المفتي العامي، وكذلك يحكم لزيد بشفعة الجوار ولعمرو بنقيضه، ويوم السبت باستغراق الجد للميراث، ويوم الاحد بالمقاسمة بل تثبت الشفعة يوم الاحد وتسترد يوم الاثنين بالرأي الآخر‏؟‏ قلنا‏:‏ لا تخيير للمخاصمين بين النقيضين لان الحاكم منصوب لفصل الخصومة عند التنازع، فيلزمه أن يفصل الخصومة بأي رأي أراد، كما لو تنازع الساعي والمالك في بنات اللبون والحقاق، وفي الشاة والدراهم في الجبران فالحاكم يحكم بما أراد أما الرجوع فغير جائز لمصلحة الحكم أيضا، فإنه لو تغير اجتهاده عندكم تغير فتواه، ولا ينقض الحكم السابق للمصلحة، أما قضاؤه يوم الاحد بخلاف قضائه يوم السبت وفي حق زيد بخلاف ما في حق عمرو، فما قولكم فيه لو تغير اجتهاده أليس ذلك جائزا‏؟‏ فكذلك إذا اجتمع دليلان عليه عندنا، كما في الحقاق وبنات اللبون يجوز أن يشير بإشارات مختلفة فيأمر زيدا ببنات اللبون، وعمرا بالحقاق، وعلى الجملة يجوز أن يغاير أمر الحكم أمر الفتوى لمصلحة الحكم، كما لو تغير الاجتهاد، فإنه لا ينقض الحكم الماضي ويحكم في المستقبل بالاجتهاد الثاني، وكذلك المجتهد في القبلة إذا تعارض عنده دليلان في جهتين والصلاة لا تقبل التأخير، ولا مجتهد يقلد، فهل له سبيل إلا أن يتخير إحدى الجهتين فيصلي إلى أي الجهتين شاء، ولا يجوز له أن يعدل إلى الجهتين الباقيتين اللتين دل اجتهاده على أن القبلة ليست فيهما، فهذه أمور لو وقع التصريح بها من الشارع كان مقبولا ومعقولا وإليه الاشارة بقول علي وعثمان رضي الله عنهما في الجمع بين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية‏.‏

مسألة ‏(‏نقض الاجتهاد‏)‏

في نقض الاجتهاد‏:‏ المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده، ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد أن خالع الزوج ثلاثا ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم فإنه، لو نقض الاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل فاضطربت الاحكام ولم يوثق بها، أما إذا نكح المقلد بفتوى مفت وأمسك زوجته بعد دور الطلاق وقد نجز الطلاق بعد الدور ثم تغير اجتهاد المفتي فهل على المقلد تسريح زوجته‏؟‏ هذا ربما يتردد فيه، والصحيح أنه يجب تسريحها، كما لو تغير اجتهاد مقلده عن القبلة في أثناء الصلاة، فإنه يتحول إلى الجهة الاخرى، كما لو تغير اجتهاده في نفسه، وإنما حكم الحاكم هو الذي لا ينقض، ولكن بشرط أن لا يخالف نصا ولا دليلا قاطعا فإن أخطأ النص نقصنا حكمه، وكذلك إذا تنبهنا لامر معقول في تحقيق مناط الحكم أو تنقيحه بحيث يعلم أنه لو تنبه له لعلم قطعا بطلان حكمه فينقض الحككم‏.‏ فإن قيل‏:‏ قد ذكرتم أن مخالف النص مصيب إذا لم يقصر، لان ذلك حكم الله تعالى عليه بحسب حاله فلم ينقض حكمه‏؟‏ قلنا نعم، هو مصيب بشرط دوام الجهل، كمن ظن أنه متطهر فحكم الله عليه وجوب الصلاة، ولو علم أنه محدث فحكم الله عليه تحريم الصلاة مع الحدث، لكن عند الجهل الصلاة واجبة عليه وجوبا حاصلا ناجزا، وهي حرام عليه بالقوة، أي هي بصدد أن تصير حراما ما لو علم محدث، فمهما علم لزمه تدارك ما مضى وكان ذلك صلاة بشرط دوام الجهل، وكذلك مهما بلغ المجتهد النص نقض حكمه الواقع فكذلك الحاكم الآخر العالم بالنص ينقض حكمه، وعند هذا ننبه على دقيقة وهي أنا ذكرنا أن اختلاف حال المكلف في الظن والعلم كاختلاف حاله في السفر والاقامة، والطهر والحيض، فيجوز أن يكون ذلك سببا لاختلاف الحكم، لكن بينهما فرق وهو‏:‏ أن من سقط عنه وجوب لسفره أو عجزه فلا يجب إزالة سفره وعجزه ليتحقق الوجوب، ومن سقط عنه لجهله وجب إزالة جهله، فإن التعليم وتبليغ حكم الشرع وتعريف أسبابه واجب، وكذلك نقول‏:‏ من صلى وعلى ثوبه نجاسة لا يعرفها تصح صلاته ولا يقضيها على قول، فمن رأى في ثوبه تلك النجاسة يلزمه تعريفه ولو تيمم ليصلي وقدر غيره على أن يزيل عجزه بحمل ماء إليه لم يلزمه، ففي هذه الدقيقة يختلف حكم العلم والجهل، وحكم سائر الاوصاف‏.‏ فإن قيل‏:‏ فلو خالف الحاكم قياسا جليا هل ينقض حكمه‏؟‏ قلنا‏:‏ قال الفقهاء ينقض فإن أرادوا به ما هو في معنى الأصل مما يقطع به فهو صحيح وإن أرادوا به قياسا مظنونا مع كونه جليا فلا وجه له، إذ لا فرق بين ظن وظن، فإذا أنتقى القاطع فالظن يختلف بالاضافة، وما يختلف بالاضافة، فلا سبيل إلى تتبعه‏.‏ فإن قيل‏:‏ فمن حكم على خلاف خبر الواحب أو بمجرد صيغة لامر أو حكم في الفساد بمجرد النهي فهل ينقض حكمه وقد قطعتم بصحة خبر الواحد، وأن صيغة الامر لا تدل على الوجوب، والنهي لا يدل بمجرده على الفساد‏؟‏ قلنا‏:‏ معما كانت المسألة ظنية فلا ينقض الحكم، لانا لا ندري أنه حكم لرده خبر الواحد، أو أنه حكم بمجرد صيغة الامر، بل لعله كان حكم لدليل آخر ظهر له، فإن علمنا أنه حكم لذلك لا لغيره وكانت المسألة مع ذلك ظنية اجتهادية فلا ينبغي أن ينقض لانه ليس لله في المسألة الظنية حكم معين، فقد حكم بما هو حكم الله تعالى على بعض المجتهدين، فإن أخطأ في الطريق فليس مخطئا في نفس الحكم، بل حكم في محل الاجتهاد، وعلى الجملة‏:‏ الحكم في مسألة فيها خبر واحد على خلاف الخبر ليس حكما برد الخبر مطلقا، وإنما المقطوع به كون الخبر حجة على الجملة، أما آحاد المسائل فلا يقطع فيها بحكم فإن قيل‏:‏ فإن حكم بخلاف اجتهاده لكن وافق مجتهدا آخر وقلده فهل ينقض حكمه‏؟‏ ولو حكم حاكم مقلد بخلاف مذهب إمامه فهل ينقض‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا في حق المجتهد لا يعرف يقينا، بل يحتمل تغير اجتهاده، وأما المقلد فلا يصح حكمه عند الشافعي، ونحن وإن حكمنا يتنفيذ حكم المقلدين في زماننا لضرورة الوقت، فإن قضينا بأنه لا يجوز للمقلد أن يتبع أي مفت شاء بل عليه اتباع إمامه الذي هو أحق بالصواب في ظنه، فينبغي أن ينقض حكمه، ولو جوزنا ذلك، فإذا وافق مذهب ذي مذهب فقد وقع الحكم في محل الاجتهاد فلا ينقض، وهذه مسائل فقهية أعني نقض الحكم في هذه الصور، وليست من الاصول في شئ والله أعلم‏.‏

مسألة ‏(‏في وجوب الاجتهاد على المجتهد وتحريم التقليد عليه‏)‏

وقد اتفقوا على أنه إذا فرغ من الاجتهاد وغلب على ظنه حكم فلا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بنظر غيره ويترك نظر نفسه، أما إذا لم يجتهد بعد ولم ينظر فإن كان عاجزا عن الاجتهاد كالعامي فله التقليد، وهذا ليس مجتهدا، لكن ربما يكون متمكنا من الاجتهاد في بعض الامور وعاجزا عن البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء، كعلم النحو مثلا في مسألة نحوية، وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة نحوية خبرية، وقع النظر فيها في صحة الاسناد فهذا من حيث حصل بعض العلوم واستقل بها لا يشبه العامي، ومن حيث أنه لم يحصل هذا العلم فهو كالعامي، فيلحق بالعامي أو بالعالم فيه نظر والاشهر والاشبه أنه كالعامي، وإنما المجتهد هو الذي صارت العلوم عنده بالقوة القريبة، أما إذا احتاج إلى تعب كثير في التعلم بعد فهو في ذلك الفن عاجز، وكما يمكنه تحصيله فالعامي أيضا يمكنه التعلم ولا يلزمه، بل يجوز له ترك الاجتهاد، وعلى الجملة‏:‏ بين درجة المبتدئ في العلم وبين رتبة الكمال منازل واقعة بين طرفين، وللنظر فيها مجال، وإنما كلامنا الآن في المجتهد لو بحث عن مسألة ونظر في الأدلة لاستقل بها، ولا يفتقر إلى تعلم علم من غيره، فهذا هو المجتهد، فهل يجب عليه الاجتهاد أم يجوز له أن يقلد غيره، هذا مما اختلفوا فيه، فذهب قوم إلى أن الإجماع قد حصل، على أن من وراء الصحابة لا يجوز تقليدهم، وقال قوم من وراء الصحابة والتابعين، وكيف يصح دعوى الإجماع، وممن قال بتقليد العالم أحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، وسفيان الثوري وقال محمد بن الحسن‏:‏ يقلد العالم الاعلم، ولا يقلد من هو دونه أو مثله، وذهب الاكثرون من أهل العراق إلى جواز تقليد العالم العالم فيما يفتي وفيما يخصه، وقال قوم‏:‏ يجوز فيما يخصه دون ما يفتي، وخصص قوم من جملة ما يخصه ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد، واختار القاضي منع تقليد العالم للصحابة ولمن بعدهم وهو الاظهر عندنا والمسألة ظنية اجتهادية، والذي يدل عليه أن قليد من لا تثبت عصمته ولا يعلم بالحقيقة إصابته، بل يجوز خطؤه وتلبيسه حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا منصوص إلا العامي، والمجتهد، إذ للمجتهد أن يأخذ بنظر نفسه وإن لم يتحقق وللعامي أن يأخذ بقوله، أما المجتهد إنما يجوز له الحكم بظنه لعجزه عن العلم، فالضرورة دعت إليه في كل مسألة ليس فيها دليل قاطع، أما العامي فإنما جوز له تقليد غيره للعجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه، والمجتهد غير عاجز فلا يكون في معنى العاجز، فينبغي أن يطلب الحق بنفسه، فإنه يجوز الخطأ على العالم بوضع الاجتهاد في غير محله، والمبادرة قبل استتمام الاجتهاد والغفلة عن دليل قاطع وهو قادر على معرفة جميع ذلك ليتوصل في بعضها إلى اليقين وفي بعضها إلى الظن، فكيف يبني الامر على عماية كالعميان وهو بصير بنفسه، فإن قيل‏:‏ وهو ليس يقدر إلا على تحصيل ظن، وظن غيره كظنه، ولا سيما عندكم، وقد صوبتم كل مجتهد‏؟‏ قلنا‏:‏ مع هذا إذا حصل ظنه لم يجز له اتباع ظن غيره، فكان ظنه أصلا، وظن غيره بدلا يدل عليه أنه لم يجز العدول إليه مع وجود المبدل‏؟‏ فلا يجوز مع القدرة على المبدل كما في سائر الابدال والمبدلات، إلا أن يرد نص بالتخيير فترتفع البدلية، أو يرد نص بأنه بدل عند الوجود لا عند العدم، كبنت مخاض وابن لبون في خمس وعشرين من الابل، فإن وجوب بنت مخاض يمنع من قبول ابن لبون، والقدرة على شرائه لا تمنع منه‏.‏ فإن قيل‏:‏ حصرتم طريق معرفة الحق في الالحاق، ثم قطعتم طريق الالحاق، ولا نسلم أن مأخذه الالحاق، بل عمومات تشمل العامي والعالم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏}‏ ‏(‏الانبياء‏:‏ 7‏)‏ وما أراد من لا تعلم شيئا أصلا، فإن ذاك مجنون أو صبي، بل من لا يعلم تلك المسألة، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 95‏)‏ وهم العلماء قلنا أما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسألوا أهل الذكر‏}‏ فإنه لا حجة فيه من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المراد به أمر العوام بسؤال العلماء، إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول، فمن هو من أهل العلم مسؤول وليس بسائل ولا يخرج عن كونه من أهل العلم بأن لا تكون المسألة حاضرة في ذهنه إذ هو متمكن من معرفتها من غير أن يتعلم من غيره‏.‏ الثاني‏:‏ أن معناه سلوا لتعلموا، أي سلوا عن الدليل لتحصيل العلم، كما يقال‏:‏ كل لتشبع، واشرب لتروي، وأما أولو الامر فإنما أراد بهم الولاة، إذأ وجب طاعتهم كطاعة الله ورسوله، ولا يجب على المجتهد اتباع المجتهد، فإن كالمراد بأولي الامر الولاة، فالطاعة على الرعية، وإن كان هم العلماء فالطاعة على العوام ولا نفهم غير ذلك، ثم نقول يعارض هذه العمومات عمومات أقوى منها يمكن التمسك بها ابتداء في المسألة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعتبروا يا أولي الابصار‏}‏ ‏(‏الحشر‏:‏ 2‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 38‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها‏}‏ ‏(‏محمد‏:‏ 42‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 01‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 95‏)‏ فهذا كله أمر بالتدبر والاستنباط والاعتبار، وليس خطابا مع العوام، فلم يبق مخاطب إلا العلماء، والمقلد تارك للتدبر والاعتبار والاستنباط، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتبعوا احسن ما انزل اليكم من ربكم‏}‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 55‏)‏ و ‏(‏لا تتبعوا من دونه اوليا وهذا بظاهره يوجب الرجوع إلى الكتاب فقط، لكن دل الكتاب على اتباع السنة، والسنة على الإجماع، والإجماع على القياس، وصار جميع ذلك منزلا فهو المتبع دون أقوال العباد، فهذه ظواهر قوية، والمسألة ظنية يقوي فيها التمسك بأمثالها، ويعتضد ذلك، بفعل الصحابة، فإنهم تشاوروا في ميراث الجد والعول، والمفوضة ومسائل كثيرة، وحكم كل واحد منهم بظن نفسه ولم يقلد غيره، فإن قيل‏:‏ لم ينقل عن طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهم أهل الشورى نظر في الاحكام مع ظهور الخلاف، والاظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم‏؟‏ قلنا‏:‏ كانوا لا يفتون اكتفاء بمن عداهم في الفتوى، أما عملهم في حق أنفسهم لم يكن إلا بما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب وعرفوه فإن وقعت واقعة لم يعرفوا دليلها شاوروا غيرهم لتعرف الدليل لا للتقليد، فإن قيل‏:‏ فما تقولون في تقليد الاعلم‏؟‏ قلنا‏:‏ الواجب أن ينظر أولا، فإن غلب على ظنه ما وافق الاعلم فذاك، وإن غلب على ظنه خلافه فما ينفع كونه أعلم، وقد صار رأيه مزيفا عنده والخطأ جائز على الاعلم، وظنه أقوى في نفسه من ظن غيره وله أن يأخذ بظن نفسه وفاقا، ولم يلزمه تقليده لكونه أعلم، فينبغي أن لا يجوز تقليده، ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تسويغ الخلاف لابن عباس وابن عمر وابن الزبير وزيد بن ثابت وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم من أحداث الصحابة لاكابر الصحابة، ولابي بكر ولعمر رضي الله عن جميعهم، فإن قيل‏:‏ فهل من فرق بين ما يخصه وبين ما يفتي به‏؟‏ قلنا‏:‏ يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الشافعي وأبي حنيفة، لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره‏:‏ إذ لو جاز ذلك لجاز الفتوى للعوام، وأما ما يخصه إذا ضاق الوقت وكان في البحث تفويت فهذا هل يلحقه بالعاجز في جواز التقليد فيه نظر فقهي ذكرناه في مسألة العدول إلى التيمم عند ضيق الوقت وتناوب جماعة على بئر ماء، فهذه مسألة محتملة والله أعلم‏.‏

الفن الثاني من هذا القطب في التقليد والاستفتاء وحكم العوام فيه

وفيه أربع مسائل‏:‏

مسألة ‏(‏تعريف التقليد‏)‏

التقليد هو قبول قول بلا حجة، وليس ذلك طريقا إلى العلم لا في الاصول، ولا في الفروع، وذهب الحشوية والتعليمية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام، ويدل على بطلان مذهبهم مسالك‏.‏ الأول‏:‏ هو أن صدق المقلد لا يعلم ضرورة، فلا بد من دليل، ودليل الصدق المعجزة، فيعلم صدق الرسول عليه السلام بمعجزته، وصدق كلام الله بأخبار الرسول عن صدقه، وصدق أهل الإجماع بأخبار الرسول عن عصمتهم، ويجب على القاضي الحكم بقول العدول لا بمعنى اعتقاد صدقهم، لكن من حيث دل السمع على تعبد القضاة باتباع غلبة الظن صدق الشاهد أم كذب، ويجب على العامي اتباع المفتي، إذ دل الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أم أصاب فنقول‏:‏ قول المفتي والشاهد لزم بحجة الإجماع، فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليدا، فإنا نعني بالتقليد قبول قول بلا حجة، فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بدليل فالاتباع فيه اعتماد على الجهل‏.‏ المسلك الثاني‏:‏ أن نقول‏:‏ أتحيلون الخطأ على مقلدكم أم تجوزونه، فإن جوزتموه فإنكم شاكون في صحة مذهبكم وإن أحلتموه فبم عرفتم استحالته‏؟‏ بضرورة أم بنظر أو تقليد ولا ضرورة ولا دليل‏؟‏ فإن قلدتموه في قوله أن مذهبه حق، فبم عرفتم صدقه في تصديق نفسه‏؟‏ وإن قلدتم فيه غيره، فبم عرفتم صدق المقلد الآخر وإن عولتم على سكون النفس إلى قوله، فبم تفرقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود‏؟‏ وبم تفرقون بين قول مقلدكم إني صادق محق وبين قول مخالفكم‏؟‏ ويقال لهم أيضا في إيجاب التقليد هل تعلمون وجوب التقليد أم لا، فإن لم تعلموه فلم قلدتم‏؟‏ وإن علمتم فبضرورة أم بنظر أو تقليد، ويعود عليهم السؤال في التقليد، ولا سبيل لهم إلى النظر والدليل، فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكم، فإن قيل‏:‏ عرفنا صحته بأنه مذهب للاكثرين فهو أولى بالاتباع‏؟‏ قلنا‏:‏ وبم أنكرتم على من يقول الحق دقيق غامض لا يدركه إلا الاقلون ويعجز عنه الاكثرون، لانه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر ونفاذ القريحة والخلو عن الشواغل، ويدل على أنه عليه السلام محقا في ابتداء أمره وهو في شرذمة يسيرة، على خلاف الاكثرين، وقد قال تعالى‏:‏ ‏(‏وان تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله‏)‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 611‏)‏ كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر، ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين فإن ساووهم توقفوا وإن غلبوا رجحوا، كيف وهو على خلاف نص القرآن، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وقليل من عبادي الشكور‏}‏ ‏(‏سبأ‏:‏ 31‏}‏ ‏(‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 37 الاعراف 131، القصص 13 الدخان 39، الطور‏:‏ 47‏}‏ ‏(‏وأكثرهم للحق كارهون‏}‏ ‏(‏المؤمنون‏:‏ 70‏)‏ فإن قيل‏:‏ فقد قال عليه السلام‏:‏ عليكم بالسواد الاعظم، ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، والشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد قلنا‏:‏ أولا‏:‏ بم عرفتم صحة هذه الاخبار وليست متواترة‏؟‏ فإن كان عن تقليد فبم تتميزون عن مقلد اعتقد فسادها‏؟‏ ثم لو صح فمتبع السواد الاعظم ليس بمقلد، بل علم بقول الرسول وجوب اتباعه، وذلك قبول، قول بحجة وليس بتقليد، ثم المراد بهذه الاخبار ذكرناه في كتاب الإجماع، وأنه الخروج عن موافقة الامام أو موافقة الإجماع، ولهم شبه الشبهة الأولى قولهم‏:‏ إن الناظر متورط في شبهات، وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى‏؟‏ قلنا‏:‏ وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى، فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار حيث قالوا‏:‏ انا وجدنا اباءنا على امه‏؟‏ ثم نقول‏:‏ إذا وجبت المعرفة كان التقليد جهلا وضلالا، فكأنكم حملتم هذا خوفا من الوقوع في الشبهة كمن يقتل نفسه عطشا وجوعا خيفة من أن يغص بلقمة أو يشرق بشربة لو أكل وشرب، وكالمريض يترك العلاج رأسا خوفا من أن يخطئ في العلاج، وكمن يترك التجارة والحراثة خوفا من نزول صاعقة فيختار الفقر خوفا من الفقر‏.‏ الشهبة الثانية‏:‏ تمسكهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏(‏غافر‏:‏ 4‏)‏ وأنه نهى عن الجدال في القدر، والنظر يفتح باب الجدال‏؟‏ قلنا‏:‏ نهى عن الجدال بالباطل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق‏}‏ ‏(‏غافر‏:‏ 5‏)‏ بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 521‏)‏ فأما القدر فنهاهم عن الجدال فيه، إما لانه كان قد وقفهم على الحق بالنص فمنعهم عن الممارة في النص، أو كان في بدء الاسلام، فاحترز عن أن يسمعه المخالف فيقول‏:‏ هؤلاء بعد لم تستقر قدمهم في الدين، أو لانهم كانوا مدفوعين إلى الجهاد الذي هو أهم عندهم، ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 63‏}‏ ‏(‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 961‏}‏ ‏(‏قل هاتوا برهانكم‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 111‏)‏ هذا كله نهي عن التقليد وأمر بالعلم، ولذلك عظم شأن العلماء، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ ‏(‏المجادلة‏:‏ 11‏)‏ وقال عليه السلام‏:‏ يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين ولا يحصل هذا بالتقليد بل بالعلم، وقالابن مسعود‏:‏ لا تكونن إمعة، قيل‏:‏ وما إمعة، قال‏:‏ أن يقول الرجل أنا مع الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ألا لا يوطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس‏.‏

مسألة ‏(‏تقليد العامي للعلماء‏)‏

العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء، وقال قوم من القدرية‏:‏ يلزمهم النظر في الدليل واتباع الامام المعصوم، وهذا باطل بمسلكين‏:‏ أحدهما‏:‏ إجماع الصحابة، فإنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد، وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم، فإن قال قائل من الامامية‏:‏ كان الواجب عليهم اتباع على لعصمته، وكان علي لا ينكر عليهم تقية وخوفا من الفتنة‏؟‏ قلن‏:‏ هذا كلام جاهل سد على نفسه باب الاعتماد على قول علي وغيره من الائمة في حال ولايته إلى آخر عمره، لانه لم يزل في اضطراب من أمره، فلعل جميع ما قاله خالف فيه الحق خوفا وتقية‏.‏ المسلك الثاني‏:‏ إن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالاحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال، لانه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل، وتتعطل الحرف والصنائع، ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بحملتهم بطلب العلم، وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش، ويؤدي إلى اندراس العلم، بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم، وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء، فإن قيل‏:‏ فقد أبطلتم التقليد، وهذا عين التقليد‏؟‏ قلنا‏:‏ التقليد قبول قول بلا حجة، وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الإجماع، كما وجب على الحاكم قبول قول الشهود، ووجب علينا قبول خبر الواحد، وذلك عند ظن الصدق، والظن معلوم ووجوب الحكم عند الظن معلوم، بدليل سمعي قاطع، فهذا الحكم قاطع، والتقليد جهل، فإن قيل‏:‏ فقد رفعتم التقليد من الدين، وقد قال الشافعي رحمه الله‏:‏ ولا يحل تقليد أحد سوى النبي عليه السلام، فقد أثبت تقليدا‏؟‏ قلنا‏:‏ قد صرح بإبطال التقليد رأسا إلا ما استثنى فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء وقبول خبر الواحد وشهادة العدول تقليد، نعم‏:‏ يجوز تسمية قبول قول الرسول تقليدا توسعا واستثناؤه من غير جنسه، ووجه التجوز أن قبول قوله وإن كان لحجة دلت على صدقه جملة فلا تطلب منه حجة على غير تلك المسألة، فكأنه تصديق بغير حجة خاصة، ويجوز أن يسمى ذلك تقليدا مجازا‏.‏

مسألة ‏(‏فتوى العامي للعلماء العدول‏)‏

لا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة، أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقا وأن سأل من لا يعرف جهله فقد قال قوم‏:‏ يجوز، وليس عليه البحث، وهذا فساد لان كل من وجب عليه قبول قول غيره فيلزمه معرفة حاله، فيجب على الامة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزته، فلا يؤمن بكل مجهول يدعي أنه رسول الله، ووجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة، وعلى المفتي معرف حال الراوي، وعلى الرعية معرفة حال الامام والحاكم، وعلى الجملة‏:‏ كيف يسأل من يتصور أن يكون أجهل من السائل‏؟‏ فإن قيل‏:‏ إذا لم يعرف عدالة المفتي هل يلزمه البحث إن قلتم يلزمه البحث، فقد خالفتم العادة، لان من دخل بلدة فيسأل عالم البلدة ولا يطلب حجة على عدالته، وإن جوزتم مع الجهل فكذلك في العلم‏؟‏ قلنا‏:‏ من عرفه بالفسق فلا يسأله، ومن عرفه بالعدالة فيسأله، ومن لم يعرف حاله فيحتمل أن يقال لا يهجم بل يسأل عن عدالته أولا فإنه لا يأمن كذبه وتلبيسه ويحتمل أن يقال‏:‏ ظاهر حال العالم العدالة، لا سيما إذا اشتهر بالفتوى، ولا يمكن أن يقال‏:‏ ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة الفتوى، والجهل أغلب على الخلق، فالناس كلهم عوام إلا الافراد بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد، فإن قيل‏:‏ فإن وجب السؤال لمعرفة عدالته أو علمه فيفتقر إلى التواتر أم لا يفتقر إليه، قيل يحتمل أن يقال ذلك، فإن ذلك ممكن، ويحتمل أن يقال يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين، وقد جوز قوم العمل بإجماع نقله العدل الواحد، وهذا يقرب منه من وجه‏.‏

مسألة ‏(‏تعدد العلماء بالنسبة لسؤال العامي‏)‏

إذا لم يكن في البلدة إلا مفت واحد، وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يسأل ممن شاء ولا يلزمه مراجعة الاعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول، ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء، وقال قوم‏:‏ تجب مراجعة الافضل، فإن استووا تخير بينهم، وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى، بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة، وقد عرف كلهم بذلك، نعم إذا اختلف عليه مفتيان في حكم فإن تساويا راجعهما مرة أخرى، وقال‏:‏ تناقض فتواكما وتساويتما عندي فما الذي يلزمني‏؟‏ فإن خيراه تخير، وإن اتفقا على الامر بالاحتياط أو الميل إلى جانب معين فعل، وإن أصرا على الخلاف لم يبق إلا التخيير، فإنه لا سبيل إلى تعطيل الحكم وليس أحدهما بأولى من الآخر، والائمة كالنجوم، فبأيهم اقتدى اهتدى، أما إذا كان أحدهما أفضل وأعلم في اعقتاده اختار القاضي أنه يتخير أيضا لان المفضول أيضا من أهل الاجتهاد لو انفرد، فكذلك إذا كان معه غيره، فزيادة الفضل لا تؤثر، والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الافضل، فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم، والصواب على مذهبه أغلب، فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي، وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع، بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي فإنه يتبع ظنه في الترجيح، فكذلك ههنا، وإن صوبنا كل مجتهد ولكن الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع، وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع والغلط على الاعلم أبعد لا محالة، وهذا التحقيق وهو أنا نعتقد أن لله تعالى سرا في رد العباد إلى ظنونهم حتى لا يكونوا مهملين متبعين للهوى مسترسلين استرسال البهائم من غير أن يزمهم لجام التكليف فيردهم من جانب إلى جانب، فيتذكرون العبودية ونفاذ حكم الله تعالى فيهم في كل حركة وسكون، يمنعهم من جانب إلى جانب، فما دمنا نقدر على ضبطهم بضابط فذلك أولى من تخييرهم وإهمالهم كالبهائهم والصبيان، أما إذا عجزنا عند تعارض مفتيين وتساويهما أو عند تعارض دليلين فذلك ضرورة، والدليل عليه أنه إذا كان يمكن أن يقال‏:‏ كل مسألة ليس لله تعالى فيها حكم معين أو يصوب فيها كل مجتهد، فلا يجب على المجتهد فيها النظر، بل يتخير فيفعل ما شاء إذ ما من جانب إلا ويجوز أن يغلب على ظن مجتهد، والإجماع منعقد على أنه يلزمه، أولا تحصيل الظن، ثم يتبع ما ظنه، فكذلك ظن العامي ينبغي أن يؤثر، فإن قيل‏:‏ المجتهد لا يجوز له أن يتبع ظنه قيل أن يتعلم طرق الاستدلال، والعامي يحكم بالوهم ويغتر بالظواهر، وربما يقدم المفضول على الفاضل، فإن جاز أن يحكم بغير بصيرة فلينظر في نفس المسألة وليحكم بما يظنه، فلمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها من شأن العوام، وهذا سؤال واقع، ولكنا نقول‏:‏ من مرض له طفل وهو ليس بطبيب فسقاه دواء برأيه كان متعديا مقصرا ضامنا، ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا، فإن كان في البلد طبيبان فاختلفا في الدواء فخالف الافضل عد مقصرا، ويعلم فضل الطبيبين بتواتر الاخبار، وبإذعان المفضول له، وبتقديمه بأمارات تفيد غلبة الظن، فكذلك في حق العلماء يعلم الافضل بالتسامع وبالقرائن دون البحث عن نفس العلم، والعامي أهل له، فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي، فهذا هو الاصح عندنا والاليق بالمعنى الكلي في ضبط الخلق بلجام التقوى والتكليف والله أعلم‏.‏

الفن الثالث من القطب الرابع في الترجيح وكيفية تصرف المجتهد عند تعارض الأدلة

ويشتمل هذا الفن على مقدمات ثلاث وبابين‏:‏

أما المقدمة الأولى

ففي بيان ترتيب الأدلة‏.‏ فنقول‏:‏ يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظر إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع، ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة، فينظر أول شئ في الإجماع، فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ، والإجماع لا يقبله، فالإجماع على خلاف ما في الكتاب، والسنة دليل قاطع على النسخ، إذ لا تجتمع الامة على الخطأ، ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة على رتبة واحدة، لان كل واحد يفيد العلم القاطع، ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعية إلا بأن يكون أحدهما ناسخا، فما وجد فيه نص كتاب أو سنة متواترة أخذ به، وينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره، ثم ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد ومن الاقيسة، فإن عارض قياس عموما أو خبر واحد عموما فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها، فإن لم يجد لفظا نصا ولا ظاهرا نظر إلى قياس النصوص، فإن تعارض قياسات أو خبران أو عمومان طلب الترجيح كما سنذكره، فإن تساويا عنده توقف على رأي وتخير على رأي آخر كما سبق‏.‏

المقدمة الثانية‏:‏ في حقيقة التعارض ومحله

اعلم أن الترجيح إنما يجري بين ظنين لان الظنون تتفاوت في القوة ولا يتصور ذلك في معلومين، إذ ليس بعض العلوم أقوى وأغلب من بعض، وإن كان بعضها أجلى وأقرب حصولا وأشد أستغناء عن التأمل، بل بعضها يستغني عن أصل التأمل وهو البديهي، وبعضها غير بديهي يحتاج إلى تأمل، لكنه بعد الحصول محقق يقيني لا يتفاوت في كونه محققا، فلا ترجيح لعلم على علم، ولذلك قلنا‏:‏ إذا تعارض نصان قاطعان فلا سبيل إلى الترجيح، بل إن كانا متواترين حكم بأن المتأخر ناسخ، ولا بد أن يكون أحدهما ناسخا، وإن كانا من أخبار الآحاد وعرفنا التاريخ أيضا حكمنا بالمتأخر، وإن لم نعرف فصدق الراوي مظنون، فنقدم الاقوى في نفوسنا، وكما لا يجوز التعارض والترجيح بين نصين قاطعين فكذلك في علتين قاطعتين، فلا يجوز أن ينصب الله علة قاطعة للتحريم في موضع وعلة قاطعة للتحليل في موضع وتدور بينهما مسألة توجد فيها العلتان ونتعبد بالقياس لانه يؤدي إلى أن يجتمع قاطع على التحريم وقاطع على التحليل في فرع واحد في حق مجتهد واحد، وهو محال لا كالعلل المظنونة، لان الظنون تختلف بالاضافات فلا تجتمع في حق مجتهد واحد، فإن تقاوم ظنان أوجبنا التوقف على رأي، كما لو تعارض قاطعان، ومن أمر بالتخيير أجاب بأنه لا يجوز أن يرد نصان قاطعان بالتحريم والتحليل من غير تقدم وتأخر ويكون معناه التخيير لان اللفظ لا يحتمل التخيير فكذلك التعبد بالقياس مع التصريح بالتعليل تصريح بالنفي والاثبات لا يحتمل التخيير من حيث اللفظ فيكون متناقضا، أما الدليل الذي دل على تعبد المجتهد باتباع الظن فيصلح لان ينزل على اتباع أغلب الظنين وعند التعارض على التخيير بينهما، فإنه أمر بإتباع المصلحة وبالتشبية وبالاستصحاب، فإذا تعارضا فكيفما فعل فهو مستصحب ومشبه ومتبع للمصلحة، أما القواطع فمتضادة ومتناقضة لا بد من أن تكون ناسخا أو منسوخا فلا تقبل الجمع، نعم‏:‏ لو أشكل التاريخ وعجزنا عن طلب دليل آخر فلا بد أن يتخير إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر مع تضادهما، فإن قيل فهل يجوز أن يجتمع علم وظن‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، فإن الظن لو خالف العلم فهو محال، لان ما علم كيف يظن خلافه، وظن خلافه شك فكيف يشك فيما يعلم‏؟‏ وإن وافقه فإن أثر الظن يمحي بالكلية بالعلم فلا يؤثر معه‏.‏

المقدمة الثالثة‏:‏ في دليل وجوب الترجيح

فإن قال قائل‏:‏ لم رجحتم أحد الظنين، وكل ظن لو انفرد بنفسه لوجب اتباعه، وهلا قضيتم بالتخيير أو التوقف‏؟‏ قلنا‏:‏ كان يجوز أن يرد التعبد بالتسوية بين الظنين وإن تفاوتا، لكن الإجماع قد دل على خلافه على ما علم من السلف في تقديم بعض الاخبار على بعض لقوة الظن بسبب علم الرواة وكثرتهم وعدالتهم وعلو منصبهم، فلذلك قدموا خبر أزواجه عليه السلام على غيره من النساء، وقدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر من روى‏:‏ لاماء إلا من الماء وخبر من روت من أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة عن الفضل بن عباس أن من أصبح جنبا فلا صوم له، وكما قوي علي خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره، وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة لما روى معه محمد بن مسلمة، وقوى عمر خبر أبي موسى الاشعري في الاستئذان بموافقة أبي سعيد الخدري في الرواية، إلى غير ذلك مما يكثر تتبعه، وكذلك إذا غلب على الظن كون الفرع أشبه بأحد الأصلين وجب اتابعه بالإجماع، فقد فهم من أهل الإجماع أنهم تعبدوا بما هو عادة للناس في ميراثهم وتجارتهم و سلوكهم الطرق المخوفة‏:‏ فإنهم عند تعارض الاسباب المخوفة يرجحون ويميلون إلى الاقوى‏.‏ فإن قيل‏:‏ فلم لم ترجحوا في الشهادة بالكثرة وقوة غلبة الظن، بل يقضي بالتعارض عند تناقض البينتين، قلنا‏:‏ لان أهل الإجماع لم يرجحوا في الشهادة، وقد رجحوا في الرواية، وسببه أن باب الشهادة مبني على التعبد، حتى لو أتى عشرة بلفظ الاخبار دون الشهادة لم تقبل ولا تقبل شهادة مائة امرأة ولا مائة عبد على باقة بقل، هذه هي المقدمات‏.‏

الباب الأول فيما ترجح به الاخبار

اعلم أن التعارض هو التناقض، فإن كان في خبرين فأحدهما كذب، والكذب محال على الله ورسوله، وإن كان في حكمين من أمر ونهي وحظر وإباحة، فالجمع تكليف محال فأما أن يكون أحدهما كذبا أو يكون متأخرا ناسخا أو أمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالتين، كما إذا قال‏:‏ الصلاة واجبة على أمتي، الصلاة غير واجبة على أمتي، فنقول‏:‏ أراد بالأول المكلفين، وأراد بالثاني الصبيان والمجانين، أو في حالتي العجز والقدرة، أو في زمن دون زمن‏.‏ وإن عجزنا عن الجمع وعن معرفة المتقدم والمتأخر رجحنا وأخذنا بالاقوى وتقوى الخبر في نفوسنا بصدق الراوي وصحته، وتضعيف الخبر في نفوسنا إما باضطراب في متنه أو بضعف في سنده أو بأمر خارج من السند والمتن، أما ما يتعلق بالسند والمتن فسبعة عشر‏:‏ الأول‏:‏ سلامة متن أحد الخبرين عن الاختلاف والاضطراب دون الآخر فسلامته مرجحة، فإن ما لا يضطرب فهو بقول الرسول أشبه، فإن انضاف إلى اضطراب اللفظ اضطراب المعنى كان أبعد عن أن يكون قول الرسول فيدل على الضعف وتساهل الراوي في الرواية‏.‏ فإن قيل‏:‏ فيجب أن تكون رواية الزيادة في متن الحديث اضطرابا يوجب إطراحه‏؟‏ قلنا‏:‏ لا يجب، لانه في معنى خبرين منفصلين إلا أن يعرف محدث بكثرة الانفراد بالرواية عن الحفاظ، فيجوز أن يقدم خبر غيره على خبره‏.‏ الثاني‏:‏ اضطراب السند بأن يكون في أحدهما ذكر رجال تلتبس أسماؤهم ونعوتهم وصفاتهم بأسماء قوم ضعفاء وصفاتهم بحيث يعسر التمييز‏.‏ الثالث‏:‏ أن يروي أحدهما في تضاعيف قصة مشهورة متداولة بين أهل النقل ومعارضة قد انفرد به الراوي لا في جملة القصة، فما روي في الجماعة أقوى في النفوس وأقرب إلى السلامة من الغلط مما يرويه الواحد عاريا عن قصته المشهورة‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون راويه معروفا بزيادة التيقظ وقلة الغلط، فالثقة بروايته عند الناس أشد‏.‏ الخامس‏:‏ أن يقول أحدهما‏:‏ سمعنا النبي عليه السلام، والآخر أن يقول‏:‏ كتب إلي، بكذا، فإن التحريف والتصحيف في المكتوب أكثر منه في المسموع‏.‏ السادس‏:‏ أن يتطرق الخلاف إلى أحد الخبرين أنه موقوف على الراوي أو مرفوع، فالمتفق على كونه مرفوعا أولى‏.‏ السابع‏:‏ أن يكون منسوبا إليه نصا وقولا، والآخر ينسب إليه اجتهادا، بأن يروي أنه كان في زمانه أو في مجلسه ولم ينكره، فما نسب إليه قولا ونصا أقوى، لان النص غير محتمل، وما في زمانه ربما لم يبلغه وما في مجلسه ربما غفل عنه‏.‏ الثامن‏:‏ أن يروي أحد الخبرين عمن تعارضت الرواية عنه، فنقل عنه أيضا ضده، فيقدم عليه ما لم يتعارض، لان المتعارض متساقط، فيبقى الآخر سليما عن المعارضة‏.‏ التاسع‏:‏ أن يكون الراوي صاحب الواقعة، فهو أولى بالمعرفة من الاجنبي، فرواية ميمونة‏:‏ تزوجني النبي عليه السلام ونحن حلالان بعدما رجع مقدمة على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام‏.‏ العاشر‏:‏ أن يكون أحد الراويين أعدل وأوثق وأضبط وأشد تيقظا وأكثر تحريا‏.‏ الحادي عشر‏:‏ أن يكون أحدهما على وفق عمل أهل المدينة، فهو أقوى، لان ما رآه مالك رحمه الله حجة وإجماعا، إن لم يصلح حجة فيصلح للترجيح، لان المدينة دار الهجرة، ومهبط الوحي الناسخ، فيبعد أن ينطوي عليهم‏.‏ الثاني عشر‏:‏ أن يوافق أحد الخبرين مرسل غيره فيرجح به من يرجح بكثرة الرواة، لان المرسل حجة عند قوم، فإن لم يكن حجة فلا أقل من أن يكون مرجحا‏.‏ الثالث عشر‏:‏ أن تعمل الامة بموجب أحد الخبرين، فإنه إذا احتمل أن يكون عملهم بدليل آخر فيحتمل أن يكون هذا الخبر فيكون صدقه أقوى في النفس‏.‏ الرابع عشر‏:‏ أن يشهد القرآن أو الإجماع أو النص المتواتر أو دليل العقل لوجوب العمل على وفق الخبر فيرجح به‏.‏ فإن قيل‏:‏ ذلك قاطع في تصديقه، قلنا‏:‏ لا، بل يتصور أن يكذب على النبي عليه السلام فيما يوافق القرآن والإجماع فيقول‏:‏ سمعت ما لم يسمعه، وإنما يجب صدقه إذا اجتمعت الامة على صدقه، لا إذا اجتمعت على عمل يوافق خبره، ولعله عن دليل آخر‏.‏ الخامس عشر‏:‏ أن يكون أحدهما أخص والآخر أعم فيقدم ما هو أخص بالمقصود، كتقديم قوله في الرقة ربع العشر في إيجابه على الطفل والبالغ على قوله‏:‏ رفع القلم عن ثلاثة، لان هذا تعرض لنفي الخطاب العام وليس بتعرض للزكاة ولا لسقوط الزكاة عن الولي بإخراج زكاته، والحديث الأول متعرض لخصوص الزكاة ومتناول لعمومه مال الصبي، فهو أخص وأمس بالمقصود‏.‏ السادس عشر‏:‏ أن يكون أحدهما مستقلا بالافادة ومعارضه لا يفيد إلا بتقدير إضمار أو حذف، وذلك مما يتطرق إليه زيادة التباس لا يتطرق إلى المستقبل‏.‏ السابع عشر‏:‏ أن يكون رواة أحد الخبرين أكثر، فالكثرة تقوي الظن، ولكن رب عدل أقوى في النفس من عدلين لشدة تيقظه وضبطه والاعتماد في ذلك على ما غلب على ظن المجتهد‏.‏ هذا ما يوجب الترجيح، لامر في سند الخبر أو في متنه، وقد يرجح لامور خارجة عنها وهي خمسة‏:‏ الأول‏:‏ كيفية استعمال الخير في محل الخبر، كقوله‏:‏ لا نكاح إلا بولي مع قوله‏:‏ الايم أحق بنفسها من وليها لانا نحمل ذلك على أنها أحق بنفسها في الاذن لا في العقد، واللفظ يعم الاذن والعقد، وهم يحملون خبرنا على الصغير أو الامة أو النكاح من غير كف ء، ولا خلاف واقع في الكبيرة، وهم صرفوا خبرنا عن محل الخلاف ونحن استعملنا الخبرين في الكبيرة، فتأويلنا أقرب، فإنه لا ينبو عنه اللفظ، بل كان اللفظ محتملا لهما، أما تنزيل خبرنا على الصغيرة والامة فبعيد‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون أحد الخبرين يوجب غضا من منصب الصحابة، فيكون أضعف، كما رووا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بإعادة الوضوء عند القهقهة، فخبرنا وهو قوله‏:‏ كان يأمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة لا من بول أو غائط أو نوم وليس فيه القهقهة، فهو أولى من خبرهم‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون أحد الخبرين متنازعا في خصوصه والآخر متفق على تطرق الخصوص إليه، فقد قال قوم أنه يسقط الاحتجاج، به فإن لم يصح ذلك فيدل على ضعفه لا محالة‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون أحد الخبرين قد قصد به بيان الحكم المتنازع فيه دون الآخر، كقوله‏:‏ أيما إهاب دبغ فقد طهر لم يفرق فيه بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل فدلالة عمومه على جلد ما لا يؤكل، أقوى من دلالة نهيه عن افتراش جلود السباع، لانه ما سيق لبيان النجاسة والطهارة، بل ربما نهى عن الافتراش للخيلاء أو لخاصية لا نعقلها‏.‏ الخامس‏:‏ يتضمن أحد الخبرين إثبات ما ظهر تأثيره في الحكم دون الآخر حتى تقدم رواية عائشة وابن عمر وابن عباس أن بريرة أعتقت تحت عبد على ما روي أنها أعتقت تحت حر، لان ضرر الرق في الخيار قد ظهر أثره ولا يجري ذلك في الحر‏.‏ القول فيما يظن أنه ترجيح وليس بترجيح وله أمثلة ستة‏:‏ الأول‏:‏ أن يعمل أحد الراويين بالخبر دون الآخر، أو يعمل بعض الامة أو بعض الائمة بموجب أحد الخبرين، فلا يرجح به، إذ لا يجب تقليدهم فالمعمول به وغير المعمول به واحد‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون أحدهما غريبا لا يشبه الاصول كحديث القهقهة، وغرة الجنين، وضرب الدية على العاقلة، وخبر نبيذ التمر، ودفع القيمة في إحدى عيني الفرس، فهذه الاحاديث لو صحت لا تؤخر عن معارضها الموافق للاصول، لان للشارع أن يتعبد بالغريب والمألوف، نعم‏:‏ لو ثبت التقاوم بين الخبرين تساقطا ورجعنا إلى القياس، وذلك ليس من الترجيح في شئ‏.‏ الثالث‏:‏ الخبر الذي يدرأ الحد لا يقدم على الموجب، وإن كان الحد يسقط بالشبهة، وقال قوم‏:‏ الرافع أولى، وهو ضيعف، لان هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الايجاب أو الاسقاط‏.‏ الرابع‏:‏ إذا روي خبران من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما مثبت والآخر ناف فلا يرجع أحدهما على الآخر، لاحتمال وقوعهما في حالين فلا يكون بينهما تعارض‏.‏ وقد بينا في باب أفعال النبي عليه السلام محل امتناع التعارض بين الفعلين‏.‏ الخامس‏:‏ خبر يتضمن العتق، والآخر يتضمن نفيه، قال قوم من أهل العراق‏:‏ المثبت للعتق أولى لغلبة العتق، ولانه لا يقبل الفسخ وهذا ضعيف، لان هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي وثبوت نقله‏.‏ السادس‏:‏ الخبر الحاظر لا يرجح على المبيح على ما ظنه قوم، لانهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة‏.‏

الباب الثاني في ترجيح العلل ومجامع مرجع إليه

ترجيح العلل خمسة الأول‏:‏ ما يرجع إلى قوة الأصل الذي منه الانتزاع فإن قوة الأصل تؤكد العلة‏.‏ الثاني‏:‏ ما يرجع إلى تقوية نفس العلة في ذاتها‏.‏ الثالث‏:‏ ما يرجع إلى قوة طريق إثبات العلة من نص أو إجماع أو أمارة‏.‏ لرابع‏:‏ ما يقوي حكم العلة الثابت بها‏.‏ الخامس‏:‏ أن تتقوى بشهادة الاصول وموافقتها لها‏.‏

القسم الأول‏:‏ ما يرجع إلى قوة الأصل

وهي عشرة‏:‏ الأول‏:‏ أن تكونا إحدى العلتين منتزعة من أصل معلوم استقراره في الشرع ضرورة، والاخرى من أصل معلوم، لكن بنظر ودليل فإنهما وإنا كانا معلومين فجاحد الضروري يكفر، وجاحد النظري لا يكفر، فذلك أقوى‏.‏ فإن قيل‏:‏ أليس قد قدمتم أنه لا يقدم معلوم على معلوم‏؟‏ قلنا‏:‏ العلتان مظنونتان، وإنما المعلوم أصلاهما، والترجيح للعلة المظنونة‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون أحد الأصلين محتملا للنسخ أو ذهب بعض العلماء إلى نسخه، فما سلم عن الاختلاف والاحتمال أولى وأقوى‏.‏ الثالث‏:‏ أن يثبت أصل إحدى العلتين بخبر الواحد، والآخر بخبر متواتر وأمر مقطوع به، فإن العمل بخبر الواحد وإن كان واجبا قطعا فهو حق بالاضافة إلى من ظن صدق الراوي، والآخر حق في نفسه مطلقا لا بالاضافة‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون أحد الأصلين ثابتا بروايات كثيرة، والآخر برواية واحدة، فإنه يرجح الأول عند من يرجح بكثرة الرواة، ولا يرجح عند من لا يرى ذلك‏.‏ الخامس‏:‏ أن يكون أحد الأصلين ثابتا بعموم لم يدخله التخصيص فيقدم على ما ثبت بعموم دخله التخصيص لضعفه‏.‏ السادس‏:‏ أن يكون أحد الأصلين ثابتا بصريح النص، والآخر ثبت بتقدير إضمار أو حذف دقيق، فالنص الصريح أولى‏.‏ السابع‏:‏ أن يكون أحد الأصلين أصلا بنفسه، والآخر فرعا لاصل آخر، فالفرع ضعيف عند من جوز القياس عليه والاظهر، منع القياس عليه، وكذلك أصل ثبت بخبر الواحد أقوى من أصل ثبت بالقياس على خبر الواحد‏.‏ الثامن‏:‏ أن يكون أحد الأصلين مما اتفق القائسون على تعليله والآخر اختلفوا فيه، فالمتفق على تعليله من القائسين، وإن لم يكونوا كل الامة أقرب إلى كونه معلوما من المختلف فيه‏.‏ التاسع‏:‏ أن يكون دليل أحد الأصلين مكشوفا معينا، والآخر أجمعوا على أنه ثابت بدليل، فإن لم يكن معينا فيقدم المكشوف، لانه يمكن معرفة رتبته وتقديمه على غيره، والمجهول لا يدري ما رتبته وما وجه معارضته لغيره ومساواته له‏.‏ العاشر‏:‏ أن يكون أحد الأصلين مغيرا للنفي الأصلي والآخر مقررا، فالمغير أولى، لانه حكم شرعي وأصل سمعي، والآخر نفي للحكم على الحقيقة‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما لا يرجع إلى الأصل

ونرجع إلى بقية الاقسام الاربعة نوردها من غير تفصيل لتعلق بعضها بالعض، ويرجع ذلك إلى قريب من عشرين وجها‏:‏ الأول‏:‏ أن تثبت إحدى العلتين بنص قاطع، وهذا قد أورد في الترجيح، وهو ضعيف، لان الظن ينمحي في مقابلة القاطع، فلا يبقى معه حتى يحتاج إلى ترجيح، إذ لو بقي معه لتطرق شكنا إليه، ويخرج عن كونه معلوما، وقد بينا أنه لا ترجيح لمعلوم على معلوم ولا لمظنون على مظنون‏.‏ الثاني‏:‏ أن تعتضد إحدى العلتين بموافقة قول صحابي انتشر وسكت عنه الآخرون، وهذا يصح على مذهب من لا يرى ذلك إجماعا، أما من اعتقده إجماعا صار عنده قاطعا، ويسقط الظن في مقابلته‏.‏ الثالث‏:‏ أن تعتضد بقول صحابي وحده ولم ينتشر، فقد قال قوم‏:‏ قوله حجة، فإن لم يكن حجة فلا يبعد أن يقوى القياس به في ظن مجتهد، إذ يقول إن كان ما قاله عن توقيف فهو أولى، وإن كان قال ما قاله عن ظن وقياس فهو أولى بفهم مقاصد الشرع منا ويجوز أن لا يترجح عند مجتهد‏.‏ الرابع‏:‏ أن يترجح بموافقته بخبر مرسل أو بخبر مردود عنده، لكن قال به بعض العلماء، فهذا مرجح بشرط أن لا يكون قاطعا ببطلان مذهب القائلين به، بل يرى ذلك في محل الاجتهاد‏.‏ الخامس‏:‏ أن تشهد الاصول بمثل حكم إحدى العلتين، أعني لجنسها لا لعينها، فإنه إن شهدت لعينها كان قاطعا رافعا للظنون إلى النيات، وشهادة الكفارات لاستواء البدل والمبدل في النية، فهذا أيضا يصلح للترجيح عند من غلب على ظنه ذلك‏.‏ السادس‏:‏ أن يكون نفس وجود العلة ضروريا في أحدهما نظريا في الآخر، فإن كانا معلومين أو كان أحدهما متيقنا والآخر مظنونا فإن من أوصاف العلة ما يتيقن، ككون البر قوتا وكون الخمر مسكرا ومنه ما يظن، ككون الكلب نجسا، إذا عللنا منع بيعه بنجاسته وككون التراب مبطلا رائحة النجاسة إذا ألقي في الماء الكثير المتغير لا ساترا، وكذلك علة مركبة من وصفين أحدهما ضروري، والآخر نظري، أو أحدهما معلوم والآخر مظنون، إذا عارضها ما هو ضروري الوصفين أو معلوم الوصفين، لان ما علم مجموع وصفيه أولى مما تطرق الشك أو الظن إلى أحد وصفيه، لان الحكم لا محالة يتبع وجود نفس العلة، فما قوى العلم أو الظن بوجود العلة قوى الظن بحكم العلة‏.‏ السابع‏:‏ الترجيح بما يعود، إلى التعلق بالعلم بالعلة، فإذا كان إحدى العلتين حكما ككنونه حراما أو نجسا والاخرى حسيا ككونه قوتا ومسكرا زعموا أن رد الحكم إلى الحكم أولى، حتى أن تعليل الحكم بالحرية والرق أولى من تعليله بالتمييز والعقل، وتعليله بالتكليف أولى من تعليله ب الانسانية، وهذا من الترجيحات الضعيفة‏.‏ الثامن‏:‏ أن تكون إحدى العلتين سببا أو سببا للسبب كما لو جعل الزنا والسرقة علة للحد والقطع كان أولى من جعل أخذ مال الغير على سبيل الخفية علة، ومن جعل إيلاج الفرج في الفرج علة حتى يتعدى إلى النباش واللائط، لان تلك العلة استندت إلى الاسم الذي ظهر الحكم به، هذا إذا تساوت العلتان من كل وجه، أما إذا دل الدليل على أن الحكم غير منوط بالسبب الظاهر بل بمعنى تضمنه فالدليل متبع فيه، كما أن القاضي لا يقضي في حالة الغضب لا للغضب، ولكن لكونه ممنوعا من استيفاء الفكر فيجري في الحاقن والجائع، وهو أولى من التعليل بالغضب الذي ينسب الحكم إليه‏.‏ التاسع‏:‏ الترجيح بشدة التأثير، ولا نعني بشدة التأثير قيام الدليل على كونه علة، لان الدليل يقوم على المعنى الكائن في نفسه دون الدليل فليكن لكون العلة مؤثرة معنى، ثم إذا تحقق ذلك في نفسه وفي علم الله تعالى ربما نصب الله عليه دليلا معرفا أو أمارة معلنة، وربما لم ينصب دليلا فإذا قوة الدليل المعرف بكونها علة ليس من شدة التأثير في شئ بل فسروا شدة التأثير بوجوه أولها انعكاس العلة مع اطرادها، فهي أولى من التي لا تنعكس عند قوم، إذ دوران الحكم مع عدمها ووجودها نفيا وإثباتا يدل على شدة تأثيرها، كشدة الخمر إذ يزول الحكم بزوالها‏.‏ الثاني‏:‏ أن تكون العلة مع كونها علة داعية إلى فعل ما هي علة تحريمه كالشدة فإنها محرمة، وهي داعية إلى الشرب المحرم لما فيها من الاطراب والسرور فهي مع تأثيرها في الحكم أثرت في تحصيل محل الحكم وهو الشرب‏.‏ الثالث‏:‏ أن تكون علة ذات وصف واحد، وعارضها علة ذات أوصاف، فقال قوم‏:‏ الوصف الواحد أولى لان الحكم الثابت به المخالف للنفي الأصلي أكثر فكان تأثيره أكثر فروعا فهي أكثر تأثيرا، وقال قوم‏:‏ ذات أوصاف أولى، لان الشريعة حنيفية، فالباقي على النفي الأصلي أكثر، ولا يبعد أن يغلب على ظن المجتهد شئ من ذلك‏.‏ الرابع‏:‏ أن تكون إحداهما أكثر وقوعا، فهي أكثر تأيرا، فتكون أولى، وهذا بعيد، لان تأثيرا العلة إنما يكون في محل وجودها أما حيث وجود لها كيف يطلب تأثيرها‏.‏ الخامس‏:‏ علة يشهد لها أصلان أولى مما يشهد لها أصل واحد عند قوم، وهذا يظهر إن كان طريق الاستنباط مختلفا، وإن كان متساويا فهو ضعيف ولا يبعد أن يقوي ظن مجتهد به، وتكون كثرة الاصول ككثرة الرواة للخبر، مثاله أنا إذا تنازعنا في أن يد السوم لم توجب الضمان، فقال الشافعي رحمه الله‏:‏ علته أنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق، وعداه إلى المستعير، وقال الخصم‏:‏ بل علته أنه أخذ ليتملك فيشهد للشافعي في علته رحمه الله يد الغاصب ويد المستعير من الغاصب، ولا يشهد لابي حنيفة رحمه الله إلا يد الرهن، فلا يبعد أن يغلب رجحان علة الشافعي عند مجتهد ويكون كل أصل كأنه شاهد آخر، وكذلك الربا إذا علل بالطعم بشهد له الملح أيضا، وإن علل بالقوت لم يشهد له، فلا يبعد أن يكون ذلك من الترجيحات‏.‏ العاشر من الترجيحات العلة المثبتة للعموم الذي منه الاستنباط، فهي أولى من المخصصة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 34، المائدة‏:‏ 6‏)‏ فبرزت علة تقتضي إخراج المحرم والصغيرة من العموم، وبرزت علة أخرى توافق العموم، فالذي ينفي العموم لمجرده حجة فلا أقل من الترجيح به‏.‏ وقال قوم‏:‏ المخصصة أولى، لانها عرفت ما لم يعرف العموم فأفادت، والعلة المقررة للعموم لم تفد مزيدا فكانت أولى، كالمتعدية فإنها أولى من القاصرة عند قوم، وهذا ضعيف، لان المتعدية قررت الملفوظ وألحق به المسكوت وأفادت، والقاصرة لم تفد شيئا حتى قال قائلون‏:‏ هي فاسدة فتخيل قوم لذلك ترجيح المتعدية، وليس ذلك بصحيح أيضا‏.‏ وأما المخصصة فخالفت موجب العموم، فكانت أضعف من التي لم تخالف‏.‏ الحادي عشر‏:‏ ترجيح العلة بكثرة شبهها بأصلها على التي هي أقل شبها بأصلها، وهذا ضعيف عند من لا يرى مجرد الشبه في الوصف الذي لا يتعلق الحكم به موجبا للحكم، ومن رأى ذلك موجبا فغاينه أن تكون كعلة أخرى، ولا يجب ترجيح علتين على علة واحدة، لان الشئ يترجح بقوته لا بانضمام مثله إليه، كما لا يترجح الحكم الثابت بالكتاب والسنة والإجماع على الثابت بأحد هذه الاصول، ويقرب من هذا قولهم‏:‏ رد الشئ إلى جنسه أولى من رده إلى غير جنسه، حتى يكون قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياسها على الصوم والحج، لانه أقرب شبها به‏.‏ وهذا ليس ببعيد، لان اختلاف الاصول يناسب اختلاف الاحكام، فإذا كان جنس المظنون واحدا كان التفاوت أغلب على الظن، وعن هذا جعل مجرد الشبه حجة عند قوم‏.‏ الثاني عشر‏:‏ علة أوجبت حكما وزيادة مرجحة على ما لا يوجب الزيادة عند قوم، لان العلة تراد لحكمها، فما كانت فائدتها أكثر فهي أولى حتى قالوا‏:‏ ما أوجب الجلد والتغريب أولى مما لا يوجب إلا الجلد، وعلى مسافة قالوا‏:‏ علة تقتضي الوجوب أولى مما تقتضي الندب‏.‏ وما تقتضي الندب أولى مما تقتضي الاباحة، لان في الواجب معنى الندب وزيادة‏.‏ الثالث عشر‏:‏ ترجيح المتعدية على القاصرة وهو ضعيف عند من لا يفسد القاصرة، لان كثرة الفروع بل وجود أصل الفروع لا تبين قوة في ذات العلة، بل ينقدح أن يقال‏:‏ القاصرة أوفق للنص فهي أولى‏.‏ الرابع عشر‏:‏ ترجيح الناقلة عن حكم العقل على المقررة، لا الناقلة أثبتت حكما شرعيا، والمقررة ما أثبتت شيئا، وقال قوم‏:‏ بل المقررة أولى، لانها معتضدة بحكم العقل الذي يستقل بالنفي لولا هذه العلة، ومثاله علة تقتضي الزكاة في الخضراوات، وأخرى تنفي الزكاة، وعلة توجب الربا في الارز، وأخرى تنفي فإن قيل‏:‏ فلم صحت العلة المبقية على حكم الأصل ولم تفد شيئا، لانها لو لم تكن علة لكنا نبقي الحكم أيضا، قلنا‏:‏ إن كان الامر كذلك فلا يصح، كمن علل ليدل على أن هبوب الرياح لا يوجب الصوم والوضوء، بل ينبغي أن يقتضي تفصيلا‏؟‏ لا يقتضيه العقل، أو تقتضي زيادة شرط أو إطلاقا لا يقتضيه العقل‏.‏ كما لو نصب علة لجواز بيع غير القوت، فإن تخصيص غير القوت عن القوت مما لا يقتضيه العقل‏.‏ الخامس عشر‏:‏ تقديم العلة المثبتة على النافية، قال به قوم، وهو غير صحيح، لان النفي الذي لا يثبت إلا شرعا كالاثبات، وإن كان نفيا أصليا يرجع إلى ما قدمناه من الناقلة والمقررة، وقد قال الكرخي‏:‏ العلة الدارئة للحد أولى من الموجبة، وهذا يصح بعد ثبوت قوله عليه السلام‏:‏ ادرؤوا الحدود بالشبهات ولا يجري في العبادات والكفارات وما لا يسقط بالشبهات، بل إذا كان للوجوب وجه وللسقوط وجه وتعارض الوجهان كان المحل محل شبهة فيسقط لعموم الخبر لا لترجيح الدارئة على الموجبة‏.‏ السادس عشر‏:‏ ترجيح علة هي بطريق الأولى على ما هي مثل، كتعليل قبول شهادة التائب وقياسه على ما قبل إقامة حد القذف، وتعليل وجوب كفارة العمد وقياسه على الخطأ وتعليل صحة النكاح عند فساد التسمية قياسا على ترك التسمية، وإن كان ذلك بطريق الأولى فهو أقوى‏.‏ السابع عشر‏:‏ رجح قوم العلة الملازمة على التي تفارق في بعض الاحوال، وهو ضعيف إذ رب لازم لا يكون علة، كحمرة الخمر، بل كوجود الخمر والبر‏.‏ الثامن عشر‏:‏ رجح قوم علة انتزعت من أصل سلم من المعارضة على علة انتزعت من أصل لم يسلم من المعارضة بمثلها‏.‏ التاسع عشر‏:‏ رجح قوم علة توجب حكما أخف، لان الشريعة حنيفية سمحة، ورجح آخرون بالضد، لان التكليف شاق ثقيل، فهذه ترجيحات ضعيفة‏.‏ العشرون‏:‏ ترجيح علة توجب في الفرع مثل حكمها على علة توجب في الفرع خلاف حكمها، كتعليل الشافعي رحمه الله في مسألة جنين الامة يوجب حكما مساويا للاصل في التسوية بين الذكر والانثى، وتعليل أبي حنيفة رضي الله عنه يوجب الفرق بين الذكر والانثى في الفرع، إذ أوجب في الانثى من الامة عشر قيمتها، وفي الذكر نصف‏.‏ عشر قيمته، والأصل هو جنين الحرة، وفي الذكر والانثى منه خمس من الابل، والعلة التي تقطع النظر عن الانوثة والذكورة أولى، لانها أوفق للاصل، فهذه وجوه الترجيحات، وبعضها ضعيف يفيد الظن لبعض المجتهدين دون بعض، ويمكن أن يكون وراء هذه الجملة ترجيحات من جنسها، وفيما ذكرناه تنبيه عليها إن شاء الله تعالى‏.‏ والكفارات وما لا يسقط بالشبهات، بل إذا كان للوجوب وجه وللسقوط وجه وتعارض الوجهان كان المحل محل شبهة فيسقط لعموم الخبر لا لترجيح الدارئة على الموجبة‏.‏ السادس عشر‏:‏ ترجيح علة هي بطريق الأولى على ما هي مثل، كتعليل قبول شهادة التائب وقياسه على ما قبل إقامة حد القذف، وتعليل وجوب كفارة العمد وقياسه على الخطأ وتعليل صحة النكاح عند فساد التسمية قياسا على ترك التسمية، وإن كان ذلك بطريق الأولى فهو أقوى‏.‏ السابع عشر‏:‏ رجح قوم العلة الملازمة على التي تفارق في بعض الاحوال، وهو ضعيف إذ رب لازم لا يكون علة، كحمرة الخمر، بل كوجود الخمر والبر‏.‏ الثامن عشر‏:‏ رجح قوم علة انتزعت من أصل سلم من المعارضة على علة انتزعت من أصل لم يسلم من المعارضة بمثلها‏.‏ التاسع عشر‏:‏ رجح قوم علة توجب حكما أخف، لان الشريعة حنيفية سمحة، ورجح آخرون بالضد، لان التكليف شاق ثقيل، فهذه ترجيحات ضعيفة‏.‏ العشرون‏:‏ ترجيح علة توجب في الفرع مثل حكمها على علة توجب في الفرع خلاف حكمها، كتعليل الشافعي رحمه الله في مسألة جنين الامة يوجب حكما مساويا للاصل في التسوية بين الذكر والانثى، وتعليل أبي حنيفة رضي الله عنه يوجب الفرق بين الذكر والانثى في الفرع، إذ أوجب في الانثى من الامة عشر قيمتها، وفي الذكر نصف‏.‏ عشر قيمته، والأصل هو جنين الحرة، وفي الذكر والانثى منه خمس من الابل، والعلة التي تقطع النظر عن الانوثة والذكورة أولى، لانها أوفق للاصل، فهذه وجوه الترجيحات، وبعضها ضعيف يفيد الظن لبعض المجتهدين دون بعض، ويمكن أن يكون وراء هذه الجملة ترجيحات من جنسها، وفيما ذكرناه تنبيه عليها إن شاء الله تعالى‏.‏ هذا تمام القول في القطب الرابع وبه وقع الفراغ من الاقطاب الاربعة التي عليها مدار أصول الفقه، وبالله التوفيق‏.‏

والحمد لله وحده، وصلى الله عليه محمد وعلى آله وسلم تسليما‏.‏