فصل: مسألة (إثبات بدل غير المنسوخ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المستصفى من علم الأصول ***


كتاب النسخ

والنظر في حده وحقيقته ثم في إثباته على منكريه، ثم في أركانه وشروطه وأحكامه فنرسم فيه أبوابا

الباب الأول‏:‏ في حده وحقيقته وإثباته

الفصل الأول‏:‏ في حده وحقيقته وإثباته

أما حده‏:‏ فاعلم أن النسخ عبارة عن الرفع والازالة في وضع اللسان، يقال‏:‏ نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الآثار إذا أزالتها، وقد يطلق لارادة نسخ الكتاب، فهو مشترك، ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع والازالة فنقول‏:‏ حده أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه، وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا للفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل، إذ يجوز النسخ بجميع ذلك، وإنما قيدنا الحد بالخطاب المتقدم، لان ابتداء إيجاب العبادات في الشرع مزيل حكم العقل من براءة الذمة، ولا يسمى نسخا، لانه لم يزل حكم خطاب، وإنما قيدنا بارتفاع الحكم، ولم نقيد بارتفاع الامر والنهي ليعم جميع أنواع الحكم، من الندب والكراهة والاباحة، فجميع ذلك قد ينسخ، وإنما قلنا‏:‏ لولاه لكان الحكم ثابتا به، لان حقيقة النسخ الرفع، فلو لم يكن هذا ثابتا لم يكن هذا رافعا، لانه إذا ورد أمر بعبادة موقتة وأمر بعبادة أخرى بعد تصرم ذلك الوقت لا يكون الثاني نسخا، فإذا قال‏:‏ ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 781‏)‏، ثم قال‏:‏ في الليل لا تصوموا، لا يكون ذلك نسخا بل الرافع ما لا يرتفع الحكم لولاه، وإنما قلنا‏:‏ مع تراخيه عنه، لانه لو اتصل به لكان بيانا وإتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط، وإنما يكون رافعا إذا ورد بعد أن ورد الحكم واستقر بحيث يدوم لولا الناسخ‏.‏ وأما الفقهاء فإنهم لم يعقلوا الرفع لكلام الله تعالى فقالوا في حد النسخ‏:‏ أنه الخطاب الدال الكاشف عن مدة العبادة أو عن زمن انقطاع العبادة، وهذا يوجب أن يكون قوله‏:‏ صم بالنهار وكل بالليل نسخا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 781‏)‏ نسخا، وليس فيه معنى الرفع ولا يغنيهم أن يزيدوا شرط التراخي، فإن قوله الأول إذا لم يتناول إلا النهار فهو متقاعد عن الليل بنفسه، فأي معنى لنسخه، وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وأريد باللفظ الدلالة عليه، وما ذكروه تخصيص، وسنبين وجه مفارقة النسخ للتخصيص، بل سنبين أن الفعل الواحد إذا أمر به في وقت واحد يجوز نسخه قبل التمكن من الامتثال وقبل وقته فلا يكون بيانا لانقطاع مدة العبادة‏.‏ وأما المعتزلة فإنهم حدوه‏:‏ بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجهه، لولاه لكان ثابتا، وربما أبدلوا لفظ الزائل بالساقط، وربما أبدلوه بالغير الثابت كل ذلك حذرا من الرفع وحقيقة النسخ الرفع فكأنهم أخلوا الحد عن حقيقة المحدود فإن قيل تحقيق معنى الرفع في الحكم يمتنع من خمسة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له، والثابت لا يمكن رفعه، وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه، فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم الثابت لا رفع عينه أو هو بيان لمدة العبادة كما قاله الفقهاء‏.‏ الثاني‏:‏ أن كلام الله تعالى قديم عندكم والقديم لا يتصور رفعه‏.‏ الثالث‏:‏ أن ما أثبته الله تعالى إنما أثبته لحسنه، فلو نهى عنه لادى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال‏.‏ الرابع‏:‏ أن ما أمر به أراد وجوده، فما كان مرادا كيف ينهى عنه حتى يصير مراد العدم مكروها‏.‏ الخامس‏:‏ أنه يدل على البداء، فإنه نهى عنه بعدما أمر به، فكأنه بدا له فيما كان قد حكم به وندم عليه‏.‏ فالاستحالة الأولى‏:‏ من جهة استحالة نفس الرفع، والثانية‏:‏ من جهة قدم الكلام، والثالثة‏:‏ من جهة صفة ذات المأمور في كونه حسنا قبيحا، والرابعة‏:‏ من جهة الارادة المقترنة بالامر، والخامسة‏:‏ من جهة العلم المتعلق به وظهور البداء بعده‏.‏ والجواب عن الأول‏:‏ أن الرفع من المرفوع كالكسر من المكسور وكالفسخ من العقد، إذ لو قال قائل‏:‏ ما معنى كسر الآنية وإبطال شكلها من تربيع وتسديس وتدوير فإن الزائل بالكسر تدوير موجود أو معدوم، والمعدوم لا حاجة إلى إزالته، والموجود لا سبيل إلى إزالته، فيقال‏:‏ معناه أن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائما لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر، فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية لولا الكسر، فكذلك الفسخ يقطع حكم العقد من حيث أن الذي ورد عليه لولاه لدام، فإن البيع سبب للملك مطلقا، بشرط أن لا يطرأ قاطع، وليس طريان القاطع من الفسخ مبينا لنا أن البيع في وقته انعقد مؤقتا ممدودا إلى غاية الفسخ فإنا نعقل أن نقول بعتك هذه الدار سنة، ونعقل أن نقول‏:‏ بعتك وملكتك أبدا، ثم نفسخ بعد انقضاء السنة، وندرك الفرق بين الصورتين، وأن الأول وضع لملك قاصر بنفسه، والثاني‏:‏ وضع لملك مطلق مؤبد إلى أن يقطع بقاطع، فإذا فسخ كان الفسخ قاطعا لحكمه الدائم بحكم العقد لولا القاطع لا بيانا لكونه في نفسه قاصر، وبهذا يفارق النسخ التخصيص، فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ ما أريد به الدلالة إلا على البعض، والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد به الدلالة عليه، ولاجل خفاء معنى الرفع أشكل على الفقهاء ووقعوا في إنكار معنى النسخ‏.‏ وأما الجواب عن الثاني‏:‏ وهو استحالة رفع الكلام القديم فهو فاسد، إذ ليس معنى النسخ رفع الكلام، بل قطع تعلقه بالمكلف والكلام القديم يتعلق بالقادر العاقل، فإذا طرأ العجز والجنون زال التعلق، فإذا عاد العقل والقدرة عاد التعلق، والكلام القديم لا يتغير في نفسه، فالعجز والموت سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب عنه، والنسخ سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب كما أن حكم البيع وهو ملك المشتري إياه تارة ينقطع بموت العبد المبيع، وتارة بفسخ العاقد، ولاجل خفاء هذه المعاني أنكر طائفة قدم الكلام‏.‏ وأما الجواب عن الثالث‏:‏ وهو انقلاب الحسن قبيحا فقد أبطلنا معنى الحسن والقبح، وأنه لا معنى لهما، وهذا أولى من الاعتذار بأن الشئ يجوز أن يحسن في وقت ويقبح في وقت، لانه قد قال في رمضان‏:‏ لا تأكل بالنهار وكل بالليل، لان النسخ ليس مقصورا عندنا على مثل ذلك، بل يجوز أن يأمر بشئ واحد في وقت وينهى عنه قبل دخول الوقت، فيكون قد نهى عما أمر به كما سيأتي‏.‏ وأما الجواب عن الرابع‏:‏ وهو صيرورة المراد مكروها فهو باطل، لان الامر عندنا يفارق الارادة، فالمعاصي مرادة عندنا وليست مأمورا بها وسيأتي تحقيقه في كتاب الاوامر‏.‏ وأما الجواب عن الخامس وهو لزوم البداء، فهو فاسد، لانه إن كان المراد أنه يلزم من النسخ أن يحرم ما أباح، وينهى عما أمر فذلك جائز ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ ‏(‏الرعد‏:‏ 93‏)‏ ولا تناقض فيه، كما أباح الاكل بالليل وحرمه بالنهار، وإن كان المراد أنه انكشف له ما لم يكن عالما به، فهو محال، ولا يلزم ذلك من النسخ، بل يعلم الله تعالى أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم، ثم يقطع التكليف بنسخه عنهم فينسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه، وليس فيه تبين بعد جهل، فإن قيل‏:‏ فهم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ أو أبدا فإن كان إلى وقت النسخ فالنسخ قد بين وقت العبادة كما قاله الفقهاء، وإن كانوا مأمورين أبدا فقد تغير علمه ومعلومه، قلنا‏:‏ هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع الحكم المطلق عنهم، الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله تعالى البيع المطلق مفيدا للملك إلى أن ينقطع بالفسخ‏:‏ ولا يعلم البيع في نفسه قاصرا على مدة، بل يعلمه مقتضيا لملك مؤبد بشرط أن لا يطرأ قاطع، لكن يعلم أن النسخ سيكون، فينقطع الحكم لانقطاع شرطه لا لقصوره في نفسه، فليس إذا في النسخ لزوم البداء، ولاجل قصور فهم اليهود عن هذا أنكروا النسخ، ولاجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره، وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال‏:‏ ما بدا الله في شئ كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه، وهذا هو الكفر الصريح، ونسبة الاله تعالى إلى الجهل والتغير، ويدل على استحالته ما دل على أنه محيط بكل شئ علما وأنه ليس محلا للحوادث والتغيرات، وربما احتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ ‏(‏الرعد‏:‏ 93‏)‏ وإنما معناه أنه يمحو الحكم المنسوخ ويثبت الناسخ، أو يمحو السيئات بالتوبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ ‏(‏هود‏:‏ 411‏)‏ ويمحو الحسنات بالكفر والردة، أو يمحو ما ترفع إليه الحفظة من المباحات ويثبت الطاعات، فإن قيل‏:‏ فما الفرق بين التخصيص والنسخ‏؟‏ قلنا‏:‏ هما مشتركان من وجه إذ كل واحد يوجب اختصاص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ لكن التخصيص بيان أن ما أخرج عن عموم الصيغة ما أريد باللفظ الدلالة عليه، والنسخ يخرج عن اللفظ ما قصد به الدلالة عليه، فإن قوله‏:‏ إفعل أبدا، يجوز أن ينسخ، وما أريد باللفظ بعض الازمنة، بل الجميع، لكن بقاؤه مشروط بأن لا يرد ناسخ، كما إذا قال‏:‏ ملكتك أبدا، ثم يقول‏:‏ فسخت، فالفسخ هذا إبداء ما ينافي شرط استمرار الحكم بعد ثبوته، وقصد الدلالة عليه باللفظ، فلذلك يفترقان في خمسة أمور‏:‏ الأول‏:‏ أن الناسخ يشترط تراخيه، والتخصيص يجوز اقترانه، لانه بيان بل يجب اقترانه عند من لا يجوز تأخير البيان‏.‏ الثاني‏:‏ أن التخصيص لا يدخل في الامر بمأمور واحد، والنسخ يدخل عليه‏.‏ والثالث‏:‏ أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب، والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع‏.‏ الرابع‏:‏ أن التخصيص يبقى دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازا، على ما فيه من الاختلاف، والنسخ يبطل دلالة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية‏.‏ الخامس‏:‏ أن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس، وخبر الواحد وسائر الأدلة، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع، وليس من الفرق الصحيح قول بعضهم أن النسخ لا يتناول إلا الازمان، والتخصيص يتناول الازمان والاعيان والاحوال، وهذا تجوز واتساع، لان الاعيان والازمان ليست من أفعال المكلفين، والنسخ يرد على الفعل في بعض الازمان، والتخصيص أيضا يرد على الفعل في بعض الاحوال، فإذا قال‏:‏ اقتلوا المشركين إلا المعاهدين، معناه لا تقتلوهم في حالة العهد واقتلوهم في حالة الحرب، والمقصود أن ورود كل واحد منهما على الفعل وهذا القدر كاف في الكشف عن حقيقة النسخ‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ من هذا الباب في إثباته على منكريه والمنكر

إما جوازه عقلا أو وقوعه سمعا، أما جوازه عقلا فيدل عليه أنه لو امتنع لكان إما ممتنعا لذاته وصورته أو لما يتولد عنه من مفسدة أو أداء إلى محال ولا يمتنع لاستحالة ذاته وصورته، بدليل ما حققناه من معنى الرفع، ودفعناه من الاشكالات عنه، ولا يمتنع لادائه إلى مفسدة وقبح، فإنا أبطلنا هذه القاعدة وإن سامحنا بها فلا بعد في أن يعلم الله تعالى مصلحة عباده في أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له ويمتنعوا، بسبب العزم عن معاص وشهوات، ثم يخفف عنهم، وأما وقوعه سمعا فيدل عليه الإجماع والنص، أما الإجماع فاتفاق الامة قاطبة على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شرع من قبله، إما بالكلية وإما فيما يخالفها فيه، وهذا متفق عليه، فمنكر هذا خارق للإجماع، وقد ذهب شذوذ من المسلمين إلى إنكار النسخ، وهم مسبوقون بهذا الإجماع، فهذا الإجماع حجة عليهم وإن لم يكن حجة على اليهود‏.‏ وأما النص فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 101‏)‏ الآية‏.‏ والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما تلاوة وإما حكم وكيفما كان، فهو رفع ونسخ، فإن قيل‏:‏ ليس المعني به رفع المنزل، فإن ما أنزل لا يمكن رفعه وتبديله، لكن المعني به تبديل مكان الآية بإنزال آية بدل ما لم ينزل، فيكون ما لم ينزل كالمبدل بما أنزل، قلنا‏:‏ هذا تعسف بارد، فإن الذي لم ينزل كيف يكون مبدلا، والبدل يستدعي مبدلا، وكيف يطلق اسم التبديل على ابتداء الانزال فهذا هوس وسخف‏.‏ والدليل الثاني‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 061‏)‏ ولا معنى للنسخ إلا تحريم ما أحل، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 601‏)‏ فإن قيل لعله أراد به التخصيص‏؟‏ قلنا‏:‏ قد فرقنا بين التخصيص والنسخ فلا سبيل إلى تغيير اللفظ، كيف والتخصيص لا يستدعي بدلا مثله أو خيرا منه، وإنما هو بيان معنى الكلام‏.‏ الدليل الثالث‏:‏ ما اشتهر في الشرع من نسخ تربص الوفاة حولا بأربعة أشهر وعشر، ونسخ فرض تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقدموا بين يدي نجواكم صدقة‏}‏ ‏(‏المجادلة‏:‏ 21‏)‏ ومنه نسخ تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 441‏)‏ وعلى الجملة اتفقت الامة على إطلاق لفظ النسخ في الشرع، فإن قيل‏:‏ معناه نسخ ما في اللوح المحفوظ إلى صحف الرسل والانبياء وهو بمعنى نسخ الكتاب ونقله‏؟‏ قلنا‏:‏ فإذا شرعنا منسوخ كشرع من قبلنا، وهذا اللفظ كفر بالاتفاق كيف وقد نقلنا من قبلة إلى قبلة، ومن عدة إلى عدة، فهو تغيير وتبديل ورفع قطعا‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في مسائل تتشعب عن النظر في حقيقة النسخ

وهي ست مسائل

مسألة ‏(‏هل ينسخ الامر‏؟‏‏)‏

يجوز عندنا نسخ الامر قبل التمكن من الامتثال، خلافا للمعتزلة، وصورته أن يقول الشارع في رمضان، حجوا في هذه السنة، ثم يقول قبل يوم عرفة‏:‏ لا تحجوا فقد نسخت عنكم الامر، أو يقول‏:‏ إذبح ولدك فيبادر إلى إحضار أسبابه، فيقول‏:‏ قبل ذبحه لا تذبح فقد نسخت عنك الامر، لان النسخ عندنا رفع للامر أي لحكم الامر ومدلوله، وليس بيانا لخروج المنسوخ عن لفظ الامر، بخلاف التخصيص، فلو قال‏:‏ صلوا أبدا، فيجوز أن ينسخ بعد سنة وجوب في المستقبل، لا بمعنى أنه لم يقصد باللفظ الأول الدلالة على جميع الازمان، ولكن بمعنى قطع حكم اللفظ بعد دوامه، إذ كان دوامه مشروطا بعدم النسخ، فكل أمر مضمن بشرط أن لا ينسخ، فكأنه يقول‏:‏ صلوا أبدا ما لم أنهكم، ولم أنسخ عنكم أمري، وإذا كان كذلك، عقل نسخ الحج قبل عرفة، ونسخ الذبح قبل فعله، لان الامر قبل التمكن حاصل، وإن كان أمرا بشرط التمكن، لان الامر بالشرط ثابت، ولذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال، ولما لم تفهم المعتزلة هذا أنكروا ثبوت الامر بالشرط كما سيأتي فساد مذهبهم في كتاب ‏(‏الاوامر‏)‏ وأقرب دليل على فساده أن المصلي ينوي الفرض، وامتثال الامر في ابتداء الصلاة، وربما يموت في أثنائها وقبل تمام التمكن، ولو مات قبل لم يتبين أنه لم يكن مأمورا، بل نقول‏:‏ كان مأمورا بأمر مقيد بشرط، والامر المقيد بالشرط ثابت في الحال وجد الشرط أو لم يوجد، وهم يقولون‏:‏ إذا لم يوجد الشرط علمنا انتفاء الامر من أصله، وإنا كنا نتوهم وجوبه، فبان أنه لم يكن، فهذه المسألة فرع لتلك المسألة، ولذلك أحالت المعتزلة النسخ قبل التمكن وقالوا أيضا‏:‏ إنه يؤدي إلى أن يكون الشئ الواحد في وقت واحد على وجه واحد مأمورا منهيا حسنا قبيحا مكروها مرادا مصلحة مفسدة، وجميع ما يتعلق بالحسن والقبح والصلاح والفساد قد أبطلناه، ولكن يبقى لهم مسلكان‏:‏ المسلك الأول أن الشئ الواحد في وقت واحد كيف يكون منهيا عنه ومأمورا به على وجه واحد‏؟‏ وفي الجواب عنه طريقتان‏:‏ الأولى‏:‏ إنا لا نسلم أنه منهي عنه على الوجه الذي هو مأمور به، بل على وجهين، كما ينهى عن الصلاة مع الحدث ويؤمر بها مع الطهارة، وينهى عن السجود للصنم ويؤمر بالسجود لله عزوجل لاختلاف الوجهين، ثم اختلفوا في كيفية اختلاف الوجهين فقال قوم‏:‏ هو مأمور بشرط بقاء الامر منهي عنه عند زوال الامر، فهما حالتان مختلفتان، ومنهم من أبدل لفظ بقاء الامر بانتفاء النهي أو بعدم المنع، والالفاظ متقاربه، وقال قوم‏:‏ هو مأمور بالفعل في الوقت المعين، بشرط أن يختار الفعل والعزم، وإنما ينهى عنه إذا علم أنه لا يختاره، وجعلوا حصول ذلك في علم الله تعالى بشرط هذا النسخ، وقال قوم‏:‏ يأمر بشرط كونه مصلحة، وإنما يكون مصلحة مع دوام الامر، أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة، وقال قوم‏:‏ إنما يأمر في وقت يكون الامر مصلحة ثم يتغير الحال فيصير النهي مصلحة، وأنما يأمر الله تعالى به مع علمه بأن إيجابه مصلحة مع دوام الامر، أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة، وقال قوم‏:‏ إنما يأمر الله به مع العلم بأن الحال ستتغير، ليعزم المكلف على فعله إن بقيت المصلحة في الفعل، وكل هذا متقارب، وهو ضعيف، لان الشرط ما يتصور أن يوجد، وأن لا يوجد، فإما ما لا بد منه فلا معنى لشرطيته، والمأمور لا يقع مأمورا إلا عند دوام الامر وعدم النهي، فكيف يقول‏:‏ آمرك بشرط أن لا أنهاك، فكأنه يقول‏:‏ آمرك بشرط أن آمرك، وبشرط أن يتعلق الامر بالمأمور، وبشرط أن يكون الفعل المأمور به حادثا أو عرضا أو غير ذلك مما لا بد منه، فهذا لا يصلح للشرطية، وليس هذا كالصلاة مع الحدث والسجود للصنم، فإن الانقسام يتطرق إليه، ومن رغب في هذه الطريقة فأقرب العبارات أن يقول‏:‏ الامر بالشئ قبل وقته يجوز أن يبقى حكمه على المأمور إلى وقته، ويجوز أن يزال حكمه قبل وقته، فيجوز أن يجعل بقاء حكمه شرطا في الامر فيقال‏:‏ إفعل ما أمرتك به إن لم يزل حكم أمري عنك بالنهي عنه، فإذا نهى عنه كان قد زال حكم الامر فليس منهيا على الوجه الذي أمر به‏.‏ الطريقة الثانية‏:‏ أنا لا نلتزم إظهار اختلاف الوجه، لكن نقول‏:‏ يجوز أن يقول‏:‏ ما أمرناك أن تفعله على وجه فقد نهيناك عن فعله على ذلك الوجه ولا استحالة فيه، إذ ليس المأمور حسنا في عينه، أو لوصف هو عليه قبل الامر به حتى يتناقض ذلك، ولا المأمور مرادا حتى يتناقض أن يكون مرادا مكروها، بل جميع ذلك من أصول المعتزلة، وقد أبطلناها، فإن قيل‏:‏ فإذا علم الله تعالى أنه سينهى عنه فما معنى أمره بالشئ الذي يعلم انتفاءه قطعا لعلمه بعواقب الامور‏؟‏ قلنا‏:‏ لا يصح ذلك إن كانت عاقبة أمره معلومة للمأمور، أما إذا كان مجهولا عند المأمور معلوما عند الآمر أمكن الامر لامتحانه بالعزم والاشتغال بالاستعداد المانع له من أنواع اللهو والفساد، حتى يعرض بالعزم للثواب، وبتركه للعقاب، وربما يكون فيه لطف واستصلاح، كما سيأتي تحقيقه في كتاب الاوامر والعجب من إنكار المعتزلة ثبوت الامر بالشرط، مع أنهم جوزوا الوعد من العالم بعواقب الامور بالشرط وقالوا‏:‏ وعد الله على الطاعة ثوابا بشرط عدم ما يحبطها من الفسق والردة، وعلى المعصية عقابا بشرط خلوها عما يكفرها من التوبة، والله تعالى عالم بعاقبة أمر من يموت على الردة والتوبة، ثم شرط ذلك في وعده، فلم يستحل أن يشرط في أمره ونهيه، وتكون شرطيته بالاضافة إلى العبد الجاهل بعاقبة الامر فيقول‏:‏ أثيبك على طاعتك ما لم تحبطها بالردة وهو عالم بأنه يحبط أم لا يحبط، وكذلك يقول‏:‏ أمرتك بشرط البقاء والقدرة وبشرط أن لا أنسخ عنك‏.‏ المسلك الثاني في إحالة النسخ قبل التمكن قولهم‏:‏ الامر والنهي عندكم كلام الله تعالى القديم، وكيف يكون الكلام الواحد أمرا بالشئ الواحد ونهيا عنه في وقت واحد، بل كيف يكون الرافع والمرفوع واحدا، والناسخ والمنسوخ كلام الله تعالى‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا إشارة إلى إشكالين‏:‏ أحدهما‏:‏ كيفية اتحاد كلام الله تعالى، ولا يختص ذلك بهذه المسألة، بل ذلك عندنا، كقولهم‏:‏ العالمية حالة واحدة ينطوي فيها العلم بما لا نهاية من التفاصيل، وإنما يحل إشكاله في الكلام‏.‏ أما الثاني‏:‏ فهو أن كلامه واحد، وهو أمر بالشئ ونهي عنه، ولو علم المكلف ذلك دفعة واحدة لما تصور منه اعتقاد الوجوب والعزم على الاداء، ولم يكن ذلك منه بأولى من اعتقاد التحريم والعزم على الترك فنقول‏:‏ كلام الله تعالى في نفسه واحد، وهو بالاضافة إلى شئ أمر، وبالاضافة إلى شئ خبر، ولكنه إنما يتصور الامتحان به إذا سمع المكلف كليهما في وقتين، ولذلك شرطنا التراخي في النسخ، ولو سمع كليهما في وقت واحد لم يجز، وأما جبريل عليه السلام فإنه يجوز أن يسمعه في وقت واحد إذ لم يكن هو مكلفا، ثم يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم في وقتين إن كان ذلك الرسول داخلا تحت التكليف، فإن لم يكن فيبلغ في وقت واحد، لكن يؤمر بتبيلغ الامة في وقتين‏:‏ فيأمرهم مطلقا بالمسالمة وترك قتال الكفار، ومطلقا باستقبال بيت المقدس في كل صلاة، ثم ينهاهم عنها بعد ذلك، فيقطع عنهم حكم الامر المطلق، كما يقطع حكم العقد بالفسخ، ومن أصحابنا من قال الامر‏:‏ لا يكون أمرا قبل بلوغ المأمور، فلا يكون أمرا ونهيا في حالة واحدة، بل في حالتين، فهذا أيضا يقطع التناقض ويدفعه، ثم الدليل القاطع من جهة السمع على جوازه قصة إبراهيم عليه السلام، ونسخ ذبح ولده عنه، قبل الفعل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفديناه بذبح عظيم‏}‏ ‏(‏الصافات‏:‏ 701‏)‏، فقد أمر بفعل واحد، ولم يقصر في البدار والامتثال،، ثم نسخ عنه، وقد اعتاص هذا على القدرية حتى تعسفوا في تأويله وتحزبوا فرقا، وطلبوا الخلاص من خمسة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن ذلك كان مناما لا أمرا‏.‏ الثاني‏:‏ أنه كان أمرا لكن قصد به تكليفه العزم على الفعل لامتحان سره في صبره على العزم فالذبح لم يكن مأمورا به‏.‏ الثالث‏:‏ أنه لم ينسخ الامر، لكن قلب الله تعالى عنقه نحاسا أو حديدا فلم ينقطع، فانقطع التكليف لتعذره‏.‏ الرابع‏:‏ المنازعة في المأمور، وأن المأمور به كان هو الاضجاع والتل للجبين وإمرار السكين دون حقيقة الذبح‏.‏ الخامس‏:‏ جحود النسخ، وأنه ذبح امتثالا، فالتأم واندمل والذاهبون إلى هذا التأويل، اتفقوا على أن إسماعيل ليس بمذبوح، واختلفوا في كون إبراهيم عليه السلام ذابحا، فقال قوم‏:‏ هو ذابح للقطع، والولد غير مذبوح لحصول الالتئام، وقال قوم‏:‏ ذابح لا مذبوح له محال، وكل ذلك تعسف وتكلف‏.‏ أما الأول‏:‏ وهو كونه مناما، فمنام الانبياء جزء من النبوة، وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به، فلقد كانت نبوة جماعة من الانبياء عليهم السلام بمجرد المنام، ويدل على فهمه الامر قول ولده إفعل ما تؤمر، ولو لم يؤمر لكان كاذبا، وأنه لا يجوز قصد الذبح، والتل للجبين بمنام لا أصل له، وأنه سماه البلاء المبين ، وأي بلاء في المنام، وأي معنى للفداء‏.‏ وأما الثاني‏:‏ وهو أنه كان مأمورا بالعزم اختبارا فهو محال، لان علام الغيوب لا يحتاج إلى الاختبار، ولان الاختبار إنما يحصل بالايجاب، فإن لم يكن إيجاب لم يحصل اختبار، وقولهم‏:‏ العزم هو الواجب محال، لان العزم على ما ليس بواجب لا يجب، بل هو تابع للمعزوم، ولا يجب العزم ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه، ولو لم يكن المعزوم عليه واجبا لكان إبراهيم عليه السلام أحق بمعرفته من القدرية، كيف وقد قال‏:‏ ‏{‏إني أرى في المنام أني أذبحك‏}‏، فقال له ولده‏:‏ ‏{‏إفعل ما تؤمر يعني‏:‏ الذبح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتله للجبين‏}‏ ‏(‏الصافات‏:‏ 103‏)‏ استسلام لفعل الذبح لا للعزم‏.‏ وأما الثالث‏:‏ وهو أن الاضجاع بمجرده هو المأمور به، فهو محال، إذ لا يسمى ذلك ذبحا ولا هو بلاء ولا يحتاج إلى الفداء بعد الامتثال‏.‏ وأما الرابع‏:‏ وهو إنكار النسخ، وأنه امتثل، لكن انقلب عنقه حديدا ففات التمكن فانقطع التكليف، فهذا لا يصح على أصولهم، لان الامر بالمشروط لا يثبت عندهم، بل إذا علم الله تعالى أنه يقلب عنقه حديدا فلا يكون آمرا بما يعلم امتناعه، فلا يحتاج إلى الفداء فلا يكون بلاء في حقه‏.‏ وأما الخامس‏:‏ وهو أنه فعل والتأم فهو محال لان الفداء كيف يحتاج إليه بعد الالتئام، ولو صح ذلك لاشتهر وكان ذلك من آياته الظاهرة، ولم ينقل ذلك قط، وإنما هو اختراع من القدرية فإن قيل‏:‏ أليس قد قال‏:‏ ‏{‏قد صدقت الرؤيا‏}‏ ‏(‏الصافات‏:‏ 105‏)‏ قلنا‏:‏ معناه أنك عملت في مقدماته عملا مصدقا بالرؤيا، والتصديق غير التحقيق والعمل‏.‏

مسألة ‏(‏هل نسخ بعض العبادة نسخ لها‏؟‏‏)‏

إذا نسخ بعض العبادة أو شرطها أو سنة من سننها كما لو أسقطت ركعتان من أربع‏:‏ أو أسقط شرط الطهارة، فقد قال قائلون‏:‏ هو نسخ لبعض العبادة لا لاصلها، قال قائلون‏:‏ هو نسخ لاصل العبادة، وقال قائلون‏:‏ نسخ الشرط ليس نسخا للاصل، أما نسخ البعض فهو نسخ للاصل‏:‏ ولم يسمحوا بتسمية الشرط بعضا، ومنهم من أطلق ذلك، وكشف الغطاء عندنا أن نقول‏:‏ إذا أوجب أربع ركعات ثم اقتصر على ركعتين فقد نسخ أصل العبادة، لان حقيقة النسخ الرفع والتبديل، ولقد كان حكم الاربع الوجوب، فنسخ وجوبها بالكلية، والركعتان عبادة أخرى، لا أنها بعض من الاربعة، إذ لو كانت بعضا لكان من صلى الصبح أربعا فقد أتى بالواجب وزيادة، كما لو صلى بتسليمتين، وكما لو وجب عليه درهم فتصدق بدرهمين، فإن قيل‏:‏ إذا رد الاربع إلى ركعة فقد كانت الركعة حكمها أنها غير مجزية، والآن صارت مجزئة، فهل هذا نسخ آخر مع نسخ الاربع‏؟‏ قلنا‏:‏ كون الركعة غير مجزئة معناه أن وجودها كعدمها وهذا حكم أصلي عقلي ليس من الشرع، والنسخ هو رفع ما ثبت بالشرع، فإذا لم يرد بلفظ النسخ إلا الرفع كيف كان من غير نظر إلى المرفوع، فهذا نسخ، لكنا بينا في حد النسخ خلافه، وأما إذا أسقطت الطهارة فقد نسخ وجوب الطهارة وبقيت الصلاة واجبة، نعم‏:‏ كان حكم الصلاة بغير طهارة أن لاتجزئ، والآن صارت مجزئة، لكن هذا تغيير لحكم أصلي لا لحكم شرعي، فإن الصلاة بغير طهارة لم تكن مجزئة‏:‏ لانها لم تكن مأمورا بها شرعا، فإن قيل‏:‏ كانت صحة الصلاة متعلقة بالطهارة، فنسخ تعلق صحتها بها شرعا فهو نسخ متعلق بنفس العبادة، فالصلاة مع الطهارة غير الصلاة مع الحدث، كما أن الثلاث غير الاربع، فليكن هذا نسخا لتلك الصلاة أو إيجابا بغيرها‏؟‏ قلنا‏:‏ لهذا تخيل قوم أن نسخ شرط العبادة كنسخ البعض، ولا شك أنه لو أوجب الصلاة مع الحدث لكان نسخا لايجابها مع الطهارة، وكانت هذه عبادة أخرى‏:‏ أما إذا جوزت الصلاة كيف كانت مع الطهارة وغير الطهارة، فقد كانت الصلاة بغير طهارة غير مجزئة لبقائها على الحكم الأصلي، إذ لم يؤمر بها، فالآن جعلت مجزئة، وارتفع الحكم الأصلي، أما صحة الصلاة وأنها كانت متعلقة بالطهارة فنسخ هذا التعلق نسخ لاصل العبادة، أو نسخ لتعلق الصحة، ولمعنى الشرطية هذا فيه نظر، والخطب فيه يسير، فليس يتعلق به كبر فائدة، وأما إذا نسخت سنة من سننها لا يتعلق بها الاجزاء، كالوقوف على يمين الامام، أو ستر الرأس، فلا شك أن هذا لا يتعرض للعبادة بالنسخ، فإذا تبعيض مقدار العبادة نسخ لاصل العبادة، وتبعيض السنة لا يتعرض للعبادة، وتبعيض الشرط فيه نظر، وإذا حقق كان إلحاقه بتبعيض قدر العبادة أولى‏.‏

مسألة ‏(‏هل الزيادة على النص نسخ أم لا‏؟‏‏)‏

الزيادة على النص نسخ عند قوم، وليست بنسخ عند قوم، والمختار عندنا التفصيل فنقول‏:‏ ينظر إلى تعلق الزيادة بالمزيد عليه، والمراتب فيه ثلاثة‏:‏ الأولى‏:‏ أن يعلم أنه لا يتعلق به، كما إذا أوجب الصلاة والصوم، ثم أوجب الزكاة والحج، لم يتغير حكم المزيد عليه، إذ بقي وجوبه وأجزاؤه، والنسخ هو رفع حكم وتبديل ولم يرتفع‏.‏ الرتبة الثانية‏:‏ وهي في أقصى البعد عن الأولى أن تتصل الزيادة بالمزيد عليه اتصال اتحاد يرفع التعدد والانفصال، كما لو زيد في الصبح ركعتان، فهذا نسخ إذ كان حكم الركعتين الاجزاء والصحة وقد ارتفع، نعم‏:‏ الاربعة استؤنف إيجابها ولم تكن واجبة، وهذا ليس بنسخ، إذ المرفوع هو الحكم الأصلي دون الشرعي، فإن قيل‏:‏ اشتملت الاربعة على الثنتين وزيادة فهما قارتان لم ترفعا وضمت إليهما ركعتان‏؟‏ قلنا‏:‏ النسخ رفع الحكم لا رفع المحكوم فيه، فقد كان من حكم الركعتين الاجزاء والصحة، وقد ارتفع، كيف وقد بينا أنه ليست الاربعة ثلاثة وزيادة، بل هي نوع آخر، إذ لو كان لكانت الخمسة أربعة وزيادة، فإذا أتى بالخمسة فينبغي أن تجزئ ولا صائر إليه‏.‏ الرتبة الثالثة‏:‏ وهي بين المرتبتين زيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة في القذف، وليس انفصال هذه الزيادة كانفصال الصوم عن الصلاة ولا اتصالها كاتصال الركعات، وقد قال أبو حنيفة رحمه الله‏:‏ هو نسخ، وليس بصحيح، بل هو بالمنفصل أشبه، لان الثمانين نفي وجوبها وأجزاؤها عن نفسها ووجبت زيادة عليها مع بقائها، فالمائة ثمانون وزيادة، ولذلك لا ينتفي الاجزاء عن الثمانين بزيادة عليها، بخلاف الصلاة، وفائدة هذه المسألة جواز إثبات التغريب بخبر الواحد عندنا ومنعه عندهم، لان القرآن لا ينسخ بخبر الواحد، فإن قيل‏:‏ قد كانت الثمانون حدا كاملا، فنسخ اسم الكمال رفع لحكمه لا محالة‏؟‏ قلنا‏:‏ هو رفع، ولكن ليس ذلك حكما مقصودا شرعيا، بل المقصود وجوده وأجزاؤه وقد بقي كما كان فلو أثبت مثبت كونه حكما مقصودا شرعيا لامتنع نسخه بخبر الواحد بل هو كما لو أوجب الشرع الصلاة فقط فمن أتى بها فقد أدى كلية ما أوجبه الله تعالى عليه بكماله، فإذا أوجب الصوم خرجت الصلاة عن كونها كلية الواجب، لكن ليس هذا حكما مقصودا، فإن قيل‏:‏ هو نسخ لوجوب الاقتصار على الثمانين لان إيجاب الثمانين مانع من الزيادة، قلنا ليس منع الزيادة بطريق المنطوق، بل بطريق المفهوم، ولا يقولون به ولا نقول به هاهنا، ثم رفع المفهوم كتخصيص العموم، فإنه رفع بعض مقتضى اللفظ، فيجوز بخبر الواحد، ثم أنما يستقيم هذا لو ثبت أنه ورد حكم المفهوم واستقر، ثم ورد التغريب بعده، وهذا لا سبيل إلى معرفته بل لعله ورد بيانا لاسقاط المفهوم متصلا به أو قريبا منه، فإن قيل‏:‏ التفسيق ورد الشهادة يتعلق بالثمانين، فإذا زيد عليها أزال تعلقه بها‏؟‏ قلنا‏:‏ يتعلق التفسيق ورد الشهادة بالقذف لا بالحد، ولو سلمنا لكان ذلك حكما تابعا للحد لا مقصودا، وكان كحل النكاح بعد انقضاء أربعة أشهر وعشر من عدة الوفاة، وتصرف الشرع في العدة بردها من حول إلى أربعة أشهر وعشر ليس تصرفا في إباحة النكاح، بل في نفس العدة، والنكاح تابع، فإن قيل‏:‏ فلو أمر بالصلاة مطلقا ثم زيد شرط الطهارة، فهل هو نسخ‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم، لانه كان حكم الأول أجزاء الصلاة بغير طهارة، فنسخ أجزاؤها وأمر بصلاة مع طهارة، فإن قيل‏:‏ فيلزمكم المصير إلى أجزاء طواف المحدث، لانه تعالى قال‏:‏ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 92‏)‏ ولم يشرط الطهارة، والشافعي رحمه الله منع الاجزاء، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الطواف بالبيت صلاة وهو خبر الواحد، وأبو حنيفة رحمه الله قضى بأن هذا الخبر يؤثر في إيجاب الطهارة أما في إبطال الطواب وأجزائه، وهو معلوم بالكتاب فلا‏؟‏ قلنا‏:‏ لو استقر قصد العموم في الكتاب واقتضى أجزاء الطواف محدثا ومع الطهارة، فاشتراط الطهارة رفع ونسخ، ولا يجوز بخبر الواحد، ولكن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 92‏)‏ يجوز أن يكون أمرا بأصل الطواف، ويكون بيان شروطه موكولا إلى الرسول عليه السلام، فيكون قوله بيانا وتخصيصا للعموم لا نسخا، فإنه نقصان من النص لا زيادة على النص، لان عموم النص يقتضي أجزاء الطواف بطهارة وغير طهارة، فأخرج خبر الواحد أحد القسمين من لفظ القرآن، فهو نقصان من النص لا زيادة عليه، ويحتمل أن يكون رفعا إن استقر العموم قطعا وبيانا إن لم يستقر، ولا معنى لدعوى استقراره بالتحكم، وهذا نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتحرير رقبة‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 29‏)‏ فإنه يعم المؤمنة وغير المؤمنة، فيجوز تخصيص العموم، إذ قد يراد بالآية ذكر أصل الكفارة، ويكون أمرا بأصل الكفارة دون قيودها وشروطها، فلو استقر العموم وحصل القطع بكون العموم مرادا لكان نسخه ورفعه بالقياس، وخبر الواحد ممتنعا، فإن قيل فما قولكم في تجويز المسح على الخفين، هل هو نسخ لغسل الرجلين‏؟‏ قلنا‏:‏ ليس نسخا لاجزائه ولا لوجوبه، لكنه نسخ لتضييق وجوبه وتعينه، وجاعل إياه أحد الواجبين، ويجوز أن يثبت بخبر الواحد، فإن قيل‏:‏ فالكتاب أوجب غسل الرجلين على التضييق‏؟‏ قلنا‏:‏ قد بقي تضييقه في حق من لم يلبس خفا على الطهارة وأخرج من عمومه من لبس الخف على الطهارة، وذلك في ثلاثة أيام أو يوم وليلة، فإن قيل‏:‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 282‏)‏ الآية توجب إيقاف الحكم على شاهدين، فإذا حكم بشاهد ويمين بخبر الواحد فقد رفع إيقاف الحكم فهو نسخ‏؟‏ قلنا‏:‏ ليس كذلك، فإن الآية لا تقتضي إلا كون الشاهدين حجة، وجواز الحكم بقولهما، أما امتناع الحكم بحجة أخرى فليس من الآية، بل هو كالحكم بالاقرار، وذكر حجة واحدة لا يمنع وجود أخرى، وقولهم‏:‏ ظاهر الآية أن لا حجة سواه فليس هذا ظاهر منطوقه ولا حجة عندهم بالمفهوم، ولو كان فرفع المفهوم رفع بعض مقتضى اللفظ، وكل ذلك لو سلم استقرار المفهوم وثباته، وقد ورد خبر الشاهد واليمين بعده وكل ذلك غير مسلم‏.‏

مسألة ‏(‏إثبات بدل غير المنسوخ‏)‏

ليس من شرط النسخ إثبات بدل غير المنسوخ، وقال قوم‏:‏ يمتنع ذلك، فنقول‏:‏ يمتنع ذلك عقلا أو سمعا ولا يمتنع عقلا جوازه، إذ لو امتنع لكان الامتناع لصورته أو لمخالفته المصلحة والحكمة ولا يمتنع لصورته، إذ يقول‏:‏ قد أوجبت عليك القتال ونسخته عنك ورددتك إلى ما كان قبل من الحكم الأصلي ولا يمتنع للمصلحة فإن الشرع لا ينبني عليها، وإن ابتنى فلا يبعد أن تكون المصلحة في رفعه من غير إثبات بدل، وإن منعوا جوازه سمعا فهو تحكم بل نسخ النهي عن إدخار لحوم الاضاحي وتقدمة الصدقة أمام المناجاة ولا بدل لها، وإن نسخت القبلة إلى بدل ووصية الاقربين إلى بدل وغير ذلك، وحقيقة النسخ هو الرفع فقط، أما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 601‏)‏ أن تمسكوا به فالجواب من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن هذا لا يمنع الجواز، وإن منع الوقوع عند من يقول بصيغة العموم، ومن لا يقول بها فلا يلزمه أصلا، ومن قال بها فلا يلزمه من هذا أنه لا يجوز في جميع المواضع إلا ببدل، بل يتطرق التخصيص إليه بدليل الاضاحي والصدقة أمام المناجاة، ثم ظاهره أنه أراد أن نسخ آية بآية أخرى مثلها لا يتضمن الناسخ إلا رفع المنسوخ، أو يتضمن مع ذلك غيره فكل ذلك محتمل‏.‏

مسألة ‏(‏الاخف والاثقل في النسخ‏)‏

قال قوم يجوز النسخ بالاخف، ولا يجوز بالاثقل، فنقول‏:‏ امتناع النسخ بالاثقل عرفتموه عقلا أو شرعا، ولا يستحيل عقلا، لانه لا يمتنع لذاته ولا للاستصلاح، فإنا ننكره، وإن قلنا به فلم يستحيل أن تكون المصلحة في التدريج والترقي من الاخف إلى الاثقل، كما كانت المصلحة في ابتداء التكليف ورفع الحكم الأصلي، فإن قيل‏:‏ إن الله تعالى رؤوف رحيم بعباده ولا يليق به التشديد‏:‏ قلنا‏:‏ فينبغي أن لا يليق به ابتداء التكليف، ولا تسليط المرض والفقر وأنواع العذاب على الخلق، فإن قالوا‏:‏ إنه يمتنع سمعا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 581‏)‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله أن يخفف عنكم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 82‏)‏ قلنا‏:‏ فينبغي أن يتركهم، وإباحة الفعل ففيه اليسر، ثم ينبغي أن لا ينسخ بالمثل، لانه لا يسر فيه، إذ اليسر في رفعه إلى غير بدل أو بالاخف، وهذه الآيات وردت في صور خاصة أريد بها التخفيف، وليس فيه منع إرادة التثقيل والتشديد، فإن قيل‏:‏ فقد قال‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 601‏)‏ الآية وهذا خير عام، والخير ما هو خير لنا، وإلا فالقرآن خير كله، والخير لنا ما هو أخف علينا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا بل الخير ما هو أجزل ثوابا وأصلح لنا في المآل وإن كان أثقل في الحال، فإن قيل‏:‏ لا يمتنع ذلك عقلا بل سمعا، لانه لم يوجد في الشرع نسخ بالاثقل‏؟‏ قلنا‏:‏ ليس كذلك، إذ أمر الصحابة أولا بترك القتال والاعراض، ثم بنصب القتال مع التشديد بثبات الواحد للعشرة، وكذلك نسخ التخيير بين الصوم والفدية بالاطعام بتعيين الصيام، وهو تضييق، وحرم الخمر ونكاح المتعة والحمر الاهلية بعد إطلاقها، ونسخ جواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصلاة ركعتين عند قوم، فنسخت بأربع في الحضر‏.‏

مسألة ‏(‏هل هناك نسخ في حق من لم يبلغه الخبر أم لا‏؟‏‏)‏

اختلفوا في النسخ في حق من لم يبلغه الخبر، فقال قوم‏:‏ النسخ حصل في حقه وإن كان جاهلا به، وقال قوم‏:‏ ما لم يبلغه لا يكون نسخا في حقه، والمختار أن للنسخ حقيقة، وهو ارتفاع الحكم السابق، ونتيجة وهو وجوب القضاء وانتفاء الاجزاء بالعمل السابق، أما حقيقته فلا يثبت في حق من لم يبلغه، وهو رفع الحكم، لان من أمر باستقبال بيت المقدس فإذا نزل النسخ بمكة لم يسقط الامر عمن هو باليمن في الحال، بل هو مأمور بالتمسك بالامر السابق، ولو ترك لعصى، وإن بان أنه كان منسوخا، ولا يلزمه استقبال الكعبة، بل لو استقبلها لعصى وهذا لا يتجه فيه خلاف، وأما لزوم القضاء للصلاة إذا عرف النسخ فيعرف ذلك بدليل نص أو قياس، وربما يجب القضاء حيث لا يجب الاداء، كما في الحائض لو صامت عصت ويجب عليها القضاء، فكذلك يجوز أن يقال هذا لو استقبل الكعبة عصى، ويلزمه استقبالها في القضاء، وكما نقول في النائم والمغمى عليه إذا تيقظ وأفاق يلزمهما قضاء، ما لم يكن واجبا، لان من لا يفهم لا يخاطب، فإن قيل إذا علم النسخ ترك تلك القبلة بالنسخ أو بعلمه بالنسخ والعلم لا تأثير له، فدل أن الحكم انقطع بنزول الناسخ لكنه جاهل به، وهو مخطئ فيه، لكنه معذور، قلنا الناسخ هو الرافع لكن العلم شرط، ويحال عند وجود الشرط على الناسخ، ولكن لا نسخ قبل وجود الشرط، لان الناسخ خطاب، ولا يصير خطابا في حق من لم يبلغه، وقولهم أنه مخطئ محال، لان اسم الخطأ يطلق على من طلب شيئا فلم يصب، أو على من وجب عليه الطلب فقصر ولا يتحقق شئ منه في محل النزاع‏.‏

الباب الثاني في أركان النسخ وشروطه

ويشتمل عى تمهيد لمجامع الاركان والشروط، وعلى مسائل تتشعب من أحكام الناسخ والمنسوخ‏.‏

أما التمهيد‏:‏

فاعلم أن أركان النسخ أربعة‏:‏ النسخ، والناسخ والمنسوخ، والمنسوخ عنه، فإذا كان النسخ حقيقته رفع الحكم فالناسخ هو الله تعالى، فإنه الرافع للحكم، والمنسوخ هو الحكم المرفوع، والمنسوخ عنه هو المتعبد المكلف، والنسخ قوله الدال على رفع الحكم الثابت، وقد يسمى الدليل ناسخا على سبيل المجاز، فيقال‏:‏ هذه الآية ناسخة لتلك، وقد يسمى الحكم ناسخا مجازا، فيقال‏:‏ صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، والحقيقة هو الأول، لان النسخ هو الرفع، والله تعالى هو الرافع، بنصب الدليل على الارتفاع وبقوله الدال عليه، وأما مجامع شروطه فالشروط أربعة‏:‏ الأول‏:‏ أن يكون المنسوخ حكما شرعيا لا عقليا أصليا، كالبراءة الأصلية التي ارتفعت بإيجاب العبادات‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون النسخ بخطاب فارتفاع الحكم بموت المكلف ليس نسخا إذ ليس المزيل خطابا رافعا لحكم خطاب سابق، ولكنه قد قيل أولا الحكم عليك ما دمت حيا، فوضع الحكم قاصر على الحياة، فلا يحتاج إلى الرفع‏.‏ الثالث‏:‏ أن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت يقتضي دخوله زوال الحكم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 781‏)‏ الرابع‏:‏ أن يكون الخطاب الناسخ متراخيا، لا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربو هن حتى يطهرن‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 222‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 92‏)‏‏.‏ وليس يشترط فيه تسعة أمور‏:‏ الأول‏:‏ أن يكون رافعا للمثل بالمثل، بل أن يكون رافعا فقط‏.‏ الثاني‏:‏ أن لا يشترط ورود النسخ بعد دخول وقت المنسوخ، بل يجوز قبل دخول وقته‏.‏ الثالث‏:‏ أن لا يتشرط أن يكون المنسوخ مما يدخله الاستثناء والتخصيص، بل يجوز ورود النسخ على الامر بفعل واحد في وقت واحد‏.‏ الرابع‏:‏ أن لا يشترط أن يكون نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة فلا تشترط الجنسية، بل يكفي أن يكون مما يصح النسخ به‏.‏ الخامس‏:‏ أن لا يشترط أن يكونا نصين قاطعين، إذ يجوز نسخ خبر الواحد بخبر الواحد، وبالمتواتر وإن كان لا يجوز نسخ المتواتر بخبر الواحد‏.‏ السادس‏:‏ لا يشترط أن يكون الناسخ منقولا بمثل لفظ منسوخ، بل أن يكون ثابتا، بأي طريق كان، فإن التوجه إلى بيت المقد س لم ينقل إلينا بلفظ القرآن والسنة، وناسخه نص صريح في القرآن، وكذلك لا يمتنع نسخ الحكم المنطوق به باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وقياسه وإن لم يكن ثابتا بلفظ ذي صيغة وصورة يجب نقلها‏.‏ السابع‏:‏ لا يشترط أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ حتى لا ينسخ الامر إلا بالنهي ولا النهي إلا بالامر، بل يجوز أن ينسخ كلاهما بالاباحة، وأن ينسخ الواجب المضيق بالموسع، وإنما يشترط أن يكون الناسخ رافعا حكما من المنسوخ كيف كان‏.‏ الثامن‏:‏ لا يشترط كونهما ثابتين بالنص، بل لو كان بلحن القول وفحواه وظاهره وكيف كان، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن آية وصية الاقارب نسخت بقوله‏:‏ إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث مع أن الجمع بين الوصية والميراث ممكن، فليسا متنافيين تنافيا قاطعا‏.‏ التاسع‏:‏ لا يشترط نسخ الحكم ببدل أو بما هو أخف، بل يجوز بالمثل والاثقل وبغير بدل كما سبق‏.‏ ولنذر الآن مسائل تتشعب عن النظر في ركني المنسوخ والناسخ، وهي مسألتان في المنسوخ وأربع مسائل في المنسوخ به‏.‏

مسألة ‏(‏هل الحكم الشرعي قابل للنسخ أم لا‏؟‏‏)‏

مامن حكم شرعي إلا وهو قابل للنسخ خلافا للمعتزلة، فإنهم قالوا‏:‏ من الافعال مالها صفات نفسية تقتضي حسنها وقبحها، فلا يمكن نسخها، مثل معرفة الله تعالى والعدل وشكر المنعم فلا يجوز نسخ وجوبه، ومثل الكفر والظلم، الكذب، فلا يجوز نسخ تحريمه، وبنوا هذا على تحسين العقل وتقبيحه، وعلى وجوب الأصلح على الله تعالى، وحجروا بسببه على الله تعالى في الامر والنهي، وربما بنوا هذا على صحة إسلام الصبي، وأن وجوبه بالعقل وإن استثناء الصبي عنه غير ممكن، وهذه أصول أبطلناها وبينا أنه لا يجب أصل التكليف على الله تعالى كان فيه صلاح العباد أو لم يكن نعم بعد أن كلفهم، لا يمكن أن ينسخ جميع التكاليف إذ لا يعرف النسخ من لا يعرف الناسخ وهو الله عزوجل، ويجب على المكلف معرفة النسخ والناسخ، والدليل المنصوب عليه، فيبقى هذا التكليف بالضرورة، ونسلم أيضا أنه لا يجوز أن يكلفهم أن لا يعرفوه، وأن يحرم عليهم معرفته، لان قوله‏:‏ أكلفك أن لا تعرفني يتضمن المعرفة، أي‏:‏ إعرفني لاني كلفتك أن لا تعرفني وذلك محال، فيمكتنع التكليف فيه عند من يمنع تكليف المحال، وكذلك لا يجوز أن يكلفه معرفة شئ من الحوادث على خلاف ما هو به لانه محال لا يصح فعله ولا تركه‏.‏

مسألة ‏(‏نسخ الحكم أو التلاوة أو نسخهما معا‏)‏

الآية إذا تضمنت حكما يجوز نسخ تلاوتها دون حكمها، ونسخ حكمها دون تلاوتها، ونسخهما جميعا، وظن قوم استحالة ذلك فنقول‏:‏ هو جائز عقلا وواقع شرعا، أما جوازه عقلا فإن التلاوة وكتبتها في القرآن وانعقاد الصلاة بها كل ذلك حكمها، كما أن التحريم والتحليل المفهوم من لفظها حكمها، وكل حكم فهو قابل للنسخ، وهذا حكم، فهو إذن قابل للنسخ، وقد قال قوم‏:‏ نسخ التلاوة أصلا ممتنع، لانه لو كان المراد منها الحكم لذكر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزله الله تعالى عليه إلا ليتلى ويثاب عليه، فكيف يرفع‏؟‏ قلنا وأي استحالة في أن يكون المقصود مجرد الحكم دون التلاوة، لكن أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ معين، فإن قيل‏:‏ فإن جاز نسخها فلينسخ الحكم معها، لان الحكم تبع للتلاوة، فكيف يبقى الفرع مع نسخ الأصل‏؟‏ قلنا‏:‏ لا بل التلاوة حكم وانعقاد الصلاة بها حكم آخر فليس بأصل، وإنما الأصل دلالتها، وليس في نسخ تلاوتها والحكم بأن الصلاة لا تنعقد بها نسخ لدلالتها، فكم من دليل لا يتلى ولا تنعقد به صلاة، وهذه الآية دليل لنزولها وورودها لا لكونها متلوة في القرآن والنسخ لا يرفع ورودها ونزولها ولا يجعلها كأنها غير واردة بل يلحقها بالوارد الذي لا يتلى كيف ويجوز أن ينعدم الدليل ويبقى المدلول فإن الدليل علامة لا علة فإذا دل فلا ضرر في انعدامه كيف والموجب للحكم كلام الله تعالى القديم، ولا ينعدم ولا يتصور رفعه ونسخه، فإذا قلنا‏:‏ الآية منسوخة أردنا به انقطاع تعلقها عن العبد وارتفاع مدلولها وحكمها لا ارتفاع ذاتها، فإن قيل‏:‏ نسخ الحكم مع بقاء التلاوة متناقض، لانه رفع للمدلول مع بقاء الدليل، قلنا إنما يكون دليلا عند انفكاكه عما يرفع حكمه، فإذا جاء خطاب ناسخ لحكمه زال شرط دلالته، ثم الذي يدل على وقوعه سمعا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 481‏)‏ الآية، وقد بقيت تلاوتها ونسخ حكمها بتعيين الصوم، والوصية للوالدين ووقربين متلوة في القرآن، وحكمها منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا وصية لوارث ونسخ تقديم الصدقة أمام المناجاة والتلاوة باقية، ونسخ التربص حولا عن المتوفى عنها زوجها، والحبس والاذى عن اللاتي يأتين الفاحشة بالجلد والرجم مع بقاء التلاوة، وأما نسخ التلاوة فقد تظاهرت الاخبار بنسخ تلاوة آية الرجم مع بقاء حكمها، وهي قوله تعالى‏:‏ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم، واشتهر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ أنزلت عشر رضعات من محرمات فنسخن بخمس وليس ذلك في الكتاب‏.‏

مسألة ‏(‏أنواع النسخ‏)‏

يجوز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن، لان الكل من عند الله عزوجل، فما المانع منه، ولم يعتبر التجانس، مع أن العقل لا يحيله، كيف وقد دل السمع على وقوعه إذ التوجه إلى بيت المقدس ليس في القرآن، وهو في السنة، وناسخه في القرآن، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالآن باشروهن‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 073‏)‏ نسخ لتحريم المباشرة، وليس التحريم في القرآن، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكان عاشوراء ثابتا بالسنة، وصلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت في السنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال، حتى قال عليه السلام يوم الخندق وقد أخر الصلاة‏:‏ حشا الله قبورهم نارا لحبسهم له عن الصلاة، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏ ‏(‏الممتحنة‏:‏ 01‏)‏ نسخ لما قرره عليه السلام من العهد والصلح، وأما نسخ القرآن بالسنة فنسخ الوصية للوالدين والاقربين بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا لا وصية لوارث لان آية الميراث لا تمنع الوصية للوالدين والاقربين، إذ الجمع ممكن وكذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فهو ناسخ لامساكهن في البيوت، وهذا فيه نظر، لانه صلى الله عليه وسلم بين أن آية الميراث نسخت آية الوصية، ولم ينسخها هو بنفسه صلى الله عليه وسلم، وبين أن الله تعالى جعل لهن سبيلا، وكان قد وعد به فقال‏:‏ ‏{‏أو يجعل الله لهن سبيلا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 51‏)‏ فإن قيل‏:‏ قال الشافعي رحمه الله لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وهو أجل من أن لا يعرف هذه الوجوه في النسخ، فكأنه يقول‏:‏ إنما تلتغي السنة بالسنة، إذ يرفع النبي صلى الله عليه وسلم سنته بسنته، ويكون هو مبينا لكلام نفسه وللقرآن، ولا يكون القرآن مبينا للسنة، وحيث لا يصادف ذلك فلانه لم ينقل، وإلا فلم يقع النسخ إلا كذلك، قلنا‏:‏ هذا إن كان في جوازه عقلا فلا يخفى أنه يفهم من القرآن وجوب التحول إلى الكعبة وإن كان التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالسنة وكذلك عكسه ممكن وإن كان يقول‏:‏ لم يقع هذا، فقد نقلنا وقوعه، ولا حاجة إلى تقدير سنة خافية مندرسة، إذ لا ضرورة في هذا التقدير، والحكم بأن ذلك لم يقع أصلا تحكم محض، وإن قال الاكثر‏:‏ كان ذلك فربما لا ينازع فيه، احتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي‏}‏ ‏(‏يونس‏:‏ 51‏)‏ فدل أنه لا ينسخ القرآن بالسنة، قلنا‏:‏ لا خلاف في أنه لا ينسخ من تلقاء نفسه، بل بوحي يوحى إليه لكن لا يكون بنظم القرآن، وإن جوزنا النسخ في الاجتهاد، فالاذن في الاجتهاد يكون من الله عزوجل، والحقيقة أن الناسخ هو الله عزوجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والمقصود أنه ليس من شرطه أن ينسخ حكم القرآن بقرآن بل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بوحي ليس بقرآن وكلام الله تعالى واحد هو الناسخ باعتبار، والمنسوخ باعتبار، وليس له كلامان، أحدهما قرآن، والآخر ليس بقرآن، وإنما الاختلاف في العبارات، فربما دل على كلامه بلفظ منظوم يأمرنا بتلاوته، فيسمى قرآنا، وربما دل بغير لفظ متلوفيسمى سنة، والكل مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو الله تعالى في كل حال‏:‏ على أنهم طالبوه بقرآن مثل هذا القرآن فقال‏:‏ لا أقدر عليه من تلقاء نفسي، وما طالبوه بحكم غير ذلك، فأين هذا من نسخ القرآن بالسنة وامتناعه‏؟‏ احتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها‏}‏ ‏(‏يونس‏:‏ 51‏)‏ وبين أن الآية لا تنسخ إلا بمثلها أو بخير منها، فالسنة لا تكون مثلها، ثم تمدح وقال‏:‏ ‏{‏ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 601‏)‏ بين أنه لا يقدر عليه غيره‏؟‏ قلنا‏:‏ قحققنا أن الناسخ هو الله تعالى، وأنه المظهر له على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم المفهم إيانا بواسطته نسخ كتابه، ولا يقدر عليه غيره، ثم لو نسخ الله تعالى آية على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم أتى بآية أخرى مثلها، كان قد حقق وعده، فلم يشترط أن تكون الآية الاخرى هي الناسخة للاولى، ثم نقول‏:‏ ليس المراد الاتيان بقرآن آخر خير منها، لان القرآن لا يوصف بكون بعضه خيرا من البعض كيفما قدر قديما أو مخلوقا، بل معناه أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل، لكونه أخف منه أو لكونه أجزل ثوابا‏.‏

مسألة ‏(‏لا ينسخ الإجماع‏)‏

الإجماع لا ينسخ به إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي، وما نسخ فالإجماع بالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في زمان نزول الوحي من كتاب أو سنة، أما السنة فينسخ المتواتر منها بالمتواتر والآحاد بالآحاد، أما نسخ المتواتر منها بالآحاد فاختلفوا في وقوعه سمعا وجوازه عقلا، فقال قوم‏:‏ وقع ذلك سمعا، فإن أهل مسجد القباء تحولوا إلى الكعبة بقول واحد أخبرهم وكان ثابتا بطريق قاطع فقلبوا نسخه عن الواحد، والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد به ووقوعه سمعا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان ينفذ آحاد الولاة إلى الاطراف، وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا، ولكن ذلك ممتنع بعد وفاته، بدليل الإجماع من الصحابة، على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف، والعمل بخبر الواحد تلقى من الصحابة وذلك فيما لا يرفع قاطعا، بل ذهب الخوارج إلى منع نسخ القرآن بالخبر المتواتر حتى أنهم قالوا رجم ماعز وإن كان متواترا لا يصلح لنسخ القرآن، وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وإن تواترت، وليس ذلك بمحال، لانه يصح أن يقال‏:‏ تعبدناكم بالنسخ بخبر الواحد في زمان نزول الوحي وحرمنا ذلك بعده، فإن قيل‏:‏ كيف يجوز ذلك عقلا وهو رفع القاطع بالظن، وأما حديث قباء فلعله انضم إليه من القرائن ما أورث العلم، قلنا‏:‏ تقدير قرائن معرفة توجب إبطال أخبار الآحاد وحمل عمل الصحابة على المعرفة بالقرائن ولا سبيل إلى وضع ما لم ينقل، وأما قولهم إنه رفع للقاطع بالظن فباطل، إذ لو كان كذلك لقطعنا بكذب الناقل ولسنا نقطع به، بل نجوز صدقه، وإنما هو مقطوع به بشرط أن لا يرد خبر نسخه، كما أن البراءة الأصلية مقطوع بها وترتفع بخبر الواحد، لانها تفيد القطع، بشرط عدم خبر الواحد، فإن قيل‏:‏ بم تنكرون على من يقطع بكونه كاذبا، لان الرسول عليه السلام أشاع الحكم، فلو ثبت نسخه للزمه الاشاعة، قلنا‏:‏ ولم يستحيل أن يشيع الحكم، ويكل النسخ، إلى الآحاد، كما يشيع العموم وبكل التخصيص إلى المخصص‏؟‏

مسألة ‏(‏لا يصح نسخ المتواتر بالقياس‏)‏

لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد على اختلاف مراتبه، جليا كان أو خفيا، هذا ما قطع به الجمهور إلا شذوذا منهم قالوا‏:‏ ما جاز التخصيص به جاز النسخ به، وهو منقوض بدليل العقل وبالإجماع وبخبر الواحد، فالتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ، ثم كيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ رفع والبيان تقرير والرفع إبطال، وقال بعض أصحاب الشافعي، يجوز النسخ بالقياس الجلي، ونحن نقول‏:‏ لفظ الجلي مبهم فإن أرادوا المقطوع به فهو صحيح، وأما المظنون فلا، وما يتوهم القطع به على ثلاث مراتب‏:‏ الأولى‏:‏ ما يجري مجرى النص وأوضح منه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 32‏)‏، فإن تحريم الضرب مدرك منه قطعا، فلو كان ورد نص بإباحة الضرب لكان هذا ناسخا، لانه أظهر من المنطوق به، وفي درجته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏}‏ ‏(‏الزلزلة‏:‏ 7‏)‏ الآية في أن ما هو فوق الذرة كذلك، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وورثه أبواه فلامه الثلث‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 11‏)‏ في أن للاب الثلثين‏.‏ الرتبة الثانية‏:‏ لو ورد نص بأن العتق لا يسري في الامة، ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي لقضينا بسراية عتق الامة قياسا على العبد، لانه مقطوع به، إذ علم قطعا قصد الشارع إلى المملوك لكونه مملوكا‏.‏ الرتبة الثالثة‏:‏ أن يرد النص مثلا بإباحة النبيذ ثم يقول الشارع‏:‏ حرمت الخمر لشدتها، فينسخ إباحة النبيد بقياسه على الخمر إن تعبدنا بالقياس، وقال قوم‏:‏ وإن لم نتعبد بالقياس نسخنا أيضا، إذ لا فرق بين قوله حرمت كل منتبذ، وبين قوله‏:‏ حرمت الخمر لشدتها، ولذلك أقر النظام بالعلة المنصوصة وإن كان منكرا لاصل القياس، ولنبين أنه إن لم نتعبد بالقياس، فقوله‏:‏ حرمت الخمر عليكم لشدتها ليس قاطعا في تحريم النبيذ بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة كما تكون العلة في الرجم زنا المحصن خاصة، والمقصود أن القاطع لا يرفع بالظن بل بالقاطع، فإن قيل استحالة رفعه بالمظنون عقلي أو سمعي، قلنا‏:‏ الصحيح أنه سمعي، ولا يستحيل عقلا أن يقال‏:‏ تعبدناكم بنسخ النص بالقياس على نص آخر، نعم يستحيل أن نتعبد بنسخ النص بقياس مستنبط من عين ذلك النص، لان ذلك يؤدي إلى أن يصير هو مناقضا لنفسه، فيكون واجب العمل به وساقط العمل به، فإن قيل‏:‏ فما الدليل على امتناعه سمعا‏؟‏ قلنا‏:‏ يدل عليه الإجماع على بطلان كل قياس مخالف للنص، وقول معاذ رضي الله عنه اجتهد رأيي، بعد فقد النص وتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم له وإجماع الصحابة على ترك القياس بأخبار الآحاد، فكيف بالنص القاطع المتواتر، واشتهار قولهم عند سماع خبر الواحد‏:‏ لولا هذا لقضينا برأينا، ولان دلالة النص قاطع في المنصوص، ودلالة الأصل على الفرع مظنون، فكيف يترك الاقوى بالاضعف، وهذا مستند الصحابة في إجماعهم على ترك القياس بالنص، فإن قيل‏:‏ إذا تناقض قاطعان وأشكل المتأخر فهل يثبت تأخر أحدهما بقول الواحد حتى يكون هو الناسخ‏؟‏ قلنا يحتمل أن يقال ذلك، لانه إذا ثبت الاحصان بقول اثنين مع أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة دل على أنه لا يحتاط للشرط بما يحتاط به للمشروط، ويحتمل أن يقال النسخ إذا كان بالتأخير والمنسوخ قاطع، فلا يكفي فيه قول الواحد، فهذا في محل الاجتهاد، والاظهر قبوله، لان أحد النصين منسوخ قطعا، وإنما هذا مطلوب قبوله للتعيين‏.‏

مسألة ‏(‏نسخ الحكم بقول الصحابي‏)‏

لا ينسخ حكم بقول الصحابي نسخ حكم كذا ما لم يقل‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نسخت حكم كذا، فإذا قال ذلك نظر في الحكم، إن كان ثابتا بخبر الواحد صار منسوخا بقوله، وإن كان قاطعا فلا، أما قوله‏:‏ نسخ حكم كذا، فلا يقبل قطعا، فلعله ظن ما ليس ينسخ نسخا، فقد ظن أن الزيادة على النص نسخ، وكذلك في مسائل، وقال قوم‏:‏ إن ذكر لنا ما هو الناسخ عنده لم نقلده، لكن نظرنا فيه، وإن أطلق فنحمله على أنه لم يطلق إلا عن معرفة قطعية، وهذا فاسد، بل الصحيح أنه إن ذكر الناسخ تأملنا فيه وقضينا برأنيا، وإن لم يذكر لم نقلده وجوزنا أن يقول ذلك عن اجتهاد ينفرد به، هذا ما ذكره القاضي رحمه الله، والاصح عندنا أن نقبل كقول الصحابي أمر بكذا ونهى عن كذا، فإن ذلك يقبل كما سنذكره في كتاب الاخبار، ولا فرق بين اللفظين، فإن قيل‏:‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أحلت له النساء اللاتي حظرن عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ ‏(‏الاحزاب‏:‏ 05‏)‏ فقبل ذلك منها، قلنا‏:‏ ليس ذلك مرضيا عندنا، ومن قبل فإنما قبل ذلك للدليل الناسخ ورآه صالحا للنسخ، ولم يقلد مذهبها‏.‏

خاتمة الكتاب فيما يعرف به تاريخ الناسخ

اعلم أنه إذا تناقض نصان فالناسخ هو المتأخر، ولا يعرف تأخره بدليل العقل ولا بقياس الشرع، بل بمجرد النقل، وذلك بطرق‏:‏ الأول‏:‏ أن يكون في اللفظ ما يدل عليه كقوله عليه السلام‏:‏ كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الاضاحي فالآن ادخروها وكقوله‏:‏ كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها‏.‏ الثاني‏:‏ أن تجمع الامة في حكم على أنه المنسوخ وأن ناسخه الآخر‏.‏ الثالث‏:‏ أن يذكر الراوي التاريخ مثل أن يقول‏:‏ سمعت عام الخندق، أو عام الفتح، وكان المنسوخ معلوما قبله، ولا فرق بين أن يروي الناسخ والمنسوخ راو واحد أو راويان، ولا يثبت التاريخ بطرق‏:‏ الأول‏:‏ أن يقول الصحابي‏:‏ كان الحكم علينا كذا ثم نسخ لانه ربما قاله عن اجتهاد‏.‏ الثاني‏:‏ أن يكون أحدهما مثبتا في المصحف بعد الآخر، لان السور والآيات ليس إثباتها على ترتيب النزول، بل ربما قدم المتأخر‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون راويه من أحداث الصحابة، فقد ينقل الصبي عمن تقدمت صحبته، وقد ينقل الاكابر عن الاصاغر وبعكسه‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون الراوي أسلم عام الفتح ولم يقل إني سمعت عام الفتح، إذ لعله سمع في حاله كفره، ثم روى بعد الاسلام، أو سمع ممن سبق بالاسلام‏.‏ الخامس‏:‏ أن يكون الراوي قد انقطعت صحبته، فربما يظن أن حديثه مقدم على حديث من بقيت صحبته، وليس من ضرورة من تأخرت صحبته أن يكون حديثه متأخرا عن وقت انقطاع صحبة غيره‏.‏ السادس‏:‏ أن يكون أحد الخبرين على وفق قضية العقل والبراءة الأصلية، فربما يظن تقدمه ولا يلزم ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا وضوء مما مسته النار ولا يلزم أن يكون متقدما على إيجاب الوضوء مما مست النار إذ يحتمل أنه أوجب ثم نسخ والله أعلم‏.‏ وقد فرغنا من الأصل الأول من الاصول الاربعة وهو الكتاب ويتلوه القول في سنة رسول الله صلى الله عليه، سلم‏.‏

الأصل الثاني‏:‏ من أصول الأدلة سنة رسول الله صلى الله عليه سلم

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، لدلالة المعجزة على صدقه، ولامر الله تعالى إيانا باتباعه، ولانه ‏{‏وما ينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى‏}‏ ‏(‏النجم‏:‏ 3‏)‏ لكن بعض الوحي يتلى فيسمى كتابا، وبعضه لا يتلى وهو السنة‏.‏ وقول لسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على من سمعه شفاعا فأما نحن فلا يبلغنا قوله إلا على لسان المخبرين إما على سبيل التواتر وإما بطريق الآحاد، فلذلك اشتمل الكلام في هذا الأصل على مقدمة وقسمين‏:‏ قسم في أخبار التواتر، وقسم في أخبار الآحاد، ويشتمل كل قسم على أبواب‏.‏ أما المقدمة‏:‏ ففي بيان ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على خمس مراتب‏:‏ الأولى‏:‏ وهي أقواها، أن يقول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أو أخبرني أو حدثني أو شافهني، فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال وهو الأصل في الرواية والتبليغ، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث‏.‏ الثانية‏:‏ أن يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أخبر، أو أخبر، أو حدث فهذا ظاهره النقل إذا صدر من الصحابي، وليس نصا صريحا، إذ قد يقول الواحد منا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتمادا على ما نقل إليه، وإن لم يسمعه منه فلا يستحيل أن يقول الصحابي ذلك اعتمادا على ما بلغه تواترا، أو بلغه على لسان من يثق به، ودليل الاحتمال ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ من أصبح جنبا فلا صوم له فلما استكشف قال‏:‏ حدثني به الفضل بن عباس، فأرسل الخبر أولا ولم يصرح، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما الربا في النسيئة فلما روجع فيه أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد إلا أن هذا وإن كان محتملا فهو بعيد، بل الظاهر أن الصحابي إذا قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يقوله إلا وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف من لم يعاصر إذا قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قرينة حاله تعرف أنه لم يسمع، ولا يوهم إطلاقه السماع، بخلاف الصحابي فإنه إذا قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوهم السماع، فلا يقدم عليه إلا عن سماع هذا هو الظاهر وجميع الاخبار إنما نقلت إلينا كذلك، إذ يقال‏:‏ قال أبو بكر‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفهم من ذلك إلا السماع‏.‏ الثالثة‏:‏ أن يقول الصحابي‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى عن كذا، فهذا يتطرق إليه احتمالان‏:‏ أحدهما‏:‏ في سماعه، كما في قوله‏:‏ قال‏.‏ والثاني‏:‏ في الامر إذ ربما يرى ما ليس بأمر أمرا، فقد اختلف الناس في أن قوله إفعل هو للامر، فلاجل هذا قال بعض أهل الظاهر لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ، والصحيح أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم تحقيقا أنه أمر بذلك، وأن يسمعه يقول‏:‏ أمرتكم بكذا، أو يقول‏:‏ إفعلوا، وينضم إليه من القرائن ما يعرفه كونه أمرا ويدرك ضرورة قصده إلى الامر، أما احتمال بنائه الامر على الغلط والوهم فلا نطرقه إلى الصحابة بغير ضرورة، بل يحمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة ما أمكن، ولهذا لو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولكن شرط شرطا ووقت وقتا فيلزمنا اتباعه، ولا يجوز أن نقول لعله غلط في فهم الشرط والتأقيت، ورأى ما ليس بشرط شرطا، ولهذا يجب أن يقبل قول الصحابي نسخ حكم كذا، وإلا فلا فرق بين قوله‏:‏ نسخ، وقوله‏:‏ أمر، ولذلك قال علي رضي الله عنه وأطلق‏:‏ أمرت أن أقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين، ولا يظن بمثله أن يقول أمرت إلا عن مستند يقتضي الامر ويتطرق إليه احتمال ثالث في عمومه وخصوصه حتى ظن قوم أن مطلق هذا يقتضي أمر جميع الامة، والصحيح أن من يقول بصيغة العموم أيضا، ينبغي أن يتوقف في هذا إذ يحتمل أن يكون ما سمعه أمرا للامة أو لطائفة أو لشخص بعينه، وكل ذلك يتيح له أن يقول‏:‏ أمر، فيتوقف فيه على الدليل، لكن يدل عليه أن أمره للواحد أمر للجماعة إلا إذا كان لوصف يخصه من سفر أو حضر، ولو كان كذلك لصرح به الصحابي، كقوله‏:‏ أمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، نعم لو قال‏:‏ أمرنا بكذا، وعلم من عادة الصحابي أنه لا يطلقه إلا في أمر الامة حمل عليه وإلا احتمل أن يكون أمرا للامة أو له أو لطائفة‏.‏ الرابعة‏:‏ أن يقول أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، فيتطرق إليه ما سبق من الاحتمالات الثلاثة، واحتمال رابع وهو الآمر، فإنه لا يدري أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الائمة والعلماء، فقال قوم‏:‏ لا حجة فيه، فإنه محتمل، وذهب الاكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لانه يريد به إثبات شرع وإقامة حجة، فلا يحمل على قول من لا حجة في قوله، وفي معناه قوله‏:‏ من السنة كذا، والسنة جارية بكذا، فالظاهر أنه لا يريد إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يجب اتباعه دون سنة غيره ممن لا تجب طاعته ولا فرق بين أن يقول الصحابي ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته، أما التابعي إذا قال‏:‏ أمرنا احتمل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الامة بأجمعها والحجة حاصلة به، ويحتمل أمر الصحابة، لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك إلا وهو يريد من تجب طاعته، ولكن الاحتمال في قول التابعي أظهر منه في قول الصحابي‏.‏ الخامسة‏:‏ أن يقول‏:‏ كانوا يفعلون كذا، فإن أضاف ذلك إلى زمن الرسول عليه السلام فهو دليل على جواز الفعل، لان ذكره في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت عليه دون ما لم يبلغه، وذلك يدل على الجواز، وذلك مثل قول ابن عمر رضي الله عنه‏:‏ كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول‏:‏ خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، وقال‏:‏ كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج الحديث، وقال أبو سعيد‏:‏ كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من بر في زكاة الفطر، وقالت عائشة رضي الله عنها، كانوا لا يقطعون في الشئ التافه، وأما قول التابعي‏:‏ كانوا يفعلون، لا يدل على فعل جميع الامة بل على البعض، فلا حجة فيه إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع فيكون نقلا للإجماع، وفي ثبوته بخبر الواحد كلام سيأتي، فقد ظهر من هذه المقدمة ما هو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ليس خبرا عنه، والآن فلا بد من بيان طرق انتهاء الخبر إلينا، وذلك إما بنقل التواتر أو الآحاد

القسم الأول من هذا الأصل الكلام في التواتر

وفيه أبواب

الباب الأول في إثبات أن التواتر يفيد العلم

ولنقدم عليها حد الخبر، وحده أنه القول الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب أو هو القول الذي يدخله الصدق أو الكذب، وهو أولى من قولهم يدخله الصدق والكذب، إذ الخبر الواحد لا يدخله كلاهما، بل كلام الله تعالى لا يدخله الكذب أصلا، والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلا، والخبر قسم من أقسام الكلام القائم بالنفس، وأما العبارة فهي الاصوات المقطعة التي صيغتها، مثل قول القائل، زيد قائم وضارب، وهذا ليس خبرا لذاته، بل يصير خبرا بقصد القاصد إلى التعبير به عما في النفس، ولهذا إذا صدر من نائم أو مغلوب لم يكن خبرا، وأما كلام النفس فهو خبر لذاته وجنسه، إذا وجد، لا يتغير بقصد القاصد، أما إثبات كون التواتر مفيدا للعلم فهو ظاهر خلافا للسمنية، حيث حصروا العلوم في الحواس وأنكروا هذا، وحصرهم باطل، فإنا بالضرورة نعلم كون الالف أكثر من الواحد، واستحالة كون الشئ الواحد قديما محدثا وأمورا أخر ذكرناها في مدارك اليقين سوى الحواس، بل نقول‏:‏ حصرهم العلوم في الحواس معلوم لهم، وليس ذلك مدركا بالحواس الخمس، ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد، وإن لم يدخلها، ولا يشك في وجود الانبياء، بل في وجود الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله بل في الدول والوقائع الكبيرة، فإن قيل‏:‏ لو كان هذا معلوما ضرورة لما خالفناكم‏؟‏ قلنا‏:‏ من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو عن خبط في عقله أو عن عناد، ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل إنكارهم في العادة لما علموه، وعنادهم ولو تركنا ما علمناه ضرورة لقولكم للزمكم ترك المحسوسات بسبب خلاف السوفسطائية، أما بطلان مذهب الكعبي حيث ذهب إلى أن هذا العلم نظري، فإنا نقول‏:‏ النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك، وتختلف فيه الاحوال، فيعلمه بعض الناس دون بعض، ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من أهل النظر، ولا يعلمه من ترك النظر قصدا، وكل علم نظري، فالعالم به قد يجد نفسه فيه شاكا ثم طالبا، ونحن لا نجد أنفسنا شاكين في وجود مكة ووجود الشافعي رحمه الله، طالبين لذلك، فإن عنيتم بكونه نظريا شيئا من ذلك فنحن ننكره، وإن عنيتم به أن مجرد قول المخبر لا يفيد العلم ما لم ينتظم في النفس مقدمتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وتباين أغراضهم ومع كثرتهم على حال لا يجمعهم على الكذب جامع، ولا يتفقون إلا على الصدق‏.‏ والثانية‏:‏ أنهم قد اتفقوا على الاخبار عن الواقعة فيبتني العلم بالصدق على مجموع المقدمتين، فهذا مسلم ولا بد وأن تشعر النفس بهاتين المقدمتين حتى يحصل له العلم والتصديق، وإن لم تتشكل في النفس هذه المقدمات بلفظ منظوم فقد شعرت به حتى حصل التصديق وإن لم يشعر بشعورها، وتحقيق القول فيه أن الضروري إن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة كقولنا‏:‏ القديم لا يكون محدثا، والموجود لا يكون معدوما، فهذا ليس بضروري، فإنه حصل بواسطة المقدمتين المذكورتين، وإن كان عبارة عما يحصل بدون تشكل الواسطة في الذهن فهذا ضروري ورب واسطة حاضرة في الذهن لا يشعر الانسان بوجه توسطها وحصول العلم بواسطتها، فيسمى أوليا وليس بأولي كقولنا الاثنان نصف الاربعة فإنه لا يعلم ذلك إلا بواسطة وهو أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر والاثنان أحد الجزأين المساوي للثاني من جملة الاربعة، فهو إذا نصف، فقد حصل هذا العلم بواسطة، لكنها جلية في الذهن حاضرة ولهذا لو قيل‏:‏ ستة وثلاثون، هل هو نصف اثنين وسبعين يفتقر فيه إلى تأمل ونظر حتى يعلم أن هذه الجملة تنقسم بجزأين متساويين‏:‏ أحدهما‏:‏ ستة وثلاثون، فإذا العلم بصدق خبر التواتر يحصل بواسطة هذه المقدمات وما هو كذلك فهو ليس بأولي، وهل يسمى ضروريا هذا ربما يختلف في الاصطلاح، والضروري عند الاكثرين عبارة عن الأولي لا عما نجد أنفسنا مضطرين إليه، فإن العلوم الحسابية كلها ضرورية وهي نظرية، ومعنى كونها نظرية أنها ليست بأولية، وكذلك العلم بصدق خبر التواتر، ويقرب منه العلم المستفاد من التجربة التي يعبر عنها باطراد العادات كقولنا الماء مرو، والخمر مسكر، كما نبهنا عليه في مقدمة الكتاب، فإن قيل‏:‏ لو استدل مستدل على كونه غير ضروري بأنه لو كان ضروريا لعلمنا بالضرورة كونه ضروريا، ولما تصور الخلاف فيه، فهذا الاستدلال صحيح أم لا‏؟‏ قلنا‏:‏ إن كان الضروري عبارة عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فبالضرورة نعلم من أنفسنا أنا مضطرون إليه، وإن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة فيجوز أن يحتاج في معرفة ذلك إلى تأمل، ويقع الشك فيه كما يتصور أن نعتقد شيئا على القطع، ونتردد في أن اعتقادنا علم محقق أم لا‏.‏

الباب الثاني في شروط التواتر

وهي أربعة‏:‏ الأول‏:‏ أن يخبروا عن علم لا عن ظن، فإن أهل بغداد لو أخبرونا عن طائر أنهم ظنوه حماما، أو عن شخص أنهم ظنوه زيدا لم يحصل لنا العلم بكونه حماما وبكونه زيدا، وليس هذا معللا، بل حال المخبر لا تزيد على حال المخبر، لانه كان في قدرة الله تعالى أن يخلق لنا العلم بخبرهم وإن كان عن ظن ولكن العادة غير مطردة بذلك‏.‏ الشرط الثاني‏:‏ أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس، إذ لو أخبرنا أهل بغداد عن حدوث العالم وعن صدق بعض الانبياء لم يحصل لنا العلم، وهذا أيضا معلوم بالعادة، وإلا فقد كان في قدرة الله تعالى أن يجعل ذلك سببا للعلم في حقنا‏.‏ الشرط الثالث‏:‏ أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد، فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الاعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر، لم يحصل العلم بصدقهم، لان خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه، فلا بد من شروط، ولا جل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى صلوات الله عليه تكذيب كل ناسخ لشريعته، ولا بصدق الشيعة والعباسية والبكرية في نقل النص على إمامة علي أو العباس أو أبي بكر رضي الله عنهم، وإن كثر عدد الناقلين في هذه الاعصار القريبة، لان بعض هذا وضعه الآحاد أولا ثم أفشوه ثم كثر الناقلون في عصره وبعده، والشرط إنما حصل في بعض الاعصار فلم تستو فيه الاعصار، ولذلك لم يحصل التصديق بخلاف وجود عيسى عليه السلام وتحديه بالنبوة ووجود أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وانتصابهما للامامة، فإن كل ذلك لما تساوت فيه الاطراف والواسطة حصل لنا علم ضروري لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه، ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما السلام، وفي نص الامامة‏.‏ الشرط الرابع‏:‏ في العدد وتهذب الغرض منه برسم مسائل‏:‏

مسألة ‏(‏العدد الذي يحصل به التواتر‏)‏

عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم، وإلى ما هو كامل وهو الذي يفيد العلم، وإلى زائد وهو الذي يحصل العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلا عن الكفاية، والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوما لنا، لكنا بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد، لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم، فإذا عرفت هذا فالعدد الكامل الذي يحصل التصديق به في واقعة هل يتصور أن لا يفيد العلم في بعض الوقائع‏؟‏ قال القاضي رحمه الله‏:‏ ذلك محال، بل كل ما يفيد العلم في واقعة يفيد في كل واقعة، وإذا حصل العلم لشخص فلا بد وأن يحصل لكل شخص يشاركه في السماع، ولا يتصور أن يختلف، وهذا صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن، فإن العلم لا يستند إلى مجرد العدد ونسبة كثرة العدد إلى سائر الوقائع وسائر الاشخاص واحدة، أما إذا اقترنت به قرائن تدل على التصديق فهذا يجوز أن تختلف فيه الوقائع والاشخاص، وأنكر القاضي ذلك ولم يلتفت إلى القرائن ولم يجعل لها أثرا، وهذا غير مرضي، لان مجرد الاخبار يجوز أن يورث العلم عند كثرة المخبرين، وإن لم تكن قرينة، ومجرد القرائن أيضا قد يورث العلم وإن لم يكن فيه أخبار، فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الاخبار، فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين، ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة معنى القرائن وكيفية دلالتها فنقول‏:‏ لا شك في أنا نعرف أمورا ليست محسوسة، إذ نعرف من غيرنا حبه لانسان وبغضه له وخوفه منه وغضبه وخجله، وهذه أحوال في نفس المحب والمبغض لا يتعلق الحس بها قد تدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال، ولكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف‏.‏ ثم الثاتي والثالث يؤكد ذلك، ول أفردت آحاذها لتطرق إليها الاحتمال، يحصل القطع باجتماعها، كما أن قول كل واحد من عدد التواتر يتطرق إليه الاحتمال لو قدر مفردا ويحصل القطع بسبب الاجتماع، ومثاله أنا نعرف عشق العاشق لا بقوله بل بأفعال هي أفعال المحبين، من القيام بخدمته وبذل ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس، فإن كل واحد يدل دلالة لو انفرد لاحتمل أن يكون ذلك لغرض آخر يضمره لا لحبه إياه، لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يحصل لنا علم قطعي بحبه وكذلك ببغضه، إذا رؤيت منه أفعال ينتجها البغض، وكذلك نعرف غضبه وخجله لا بمجرد حمرة وجهه لكن الحمرة إحدى الدلالات، وكذلك نشهد الصبي يرتضع مرة بعد أخرى فيحصل لنا علم قطعي بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن في الضرع لانه مستور، ولا عند خروجه فإنه مستور بالفم، ولكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه تدل عليه دلالة ما، مع أن ذلك قد يحصل من غير وصول اللبن، لكن ينضم إليه أن المرأة الشابة لا يخلو ثديها عن لبن، ولا تخلو حلمته عن ثقب، ولا يخلو الصبي عن طبع باعث على الامتصاص مستخرج للبن، وكل ذلك يحتمل خلافه نادرا وإن لم يكن غالبا، لكن إذا انضم إليه سكوت الصبي عن بكائه مع أنه لم يتناول طعاما آخر صار قرينة، ويحتمل أن يكون بكاؤه عن وجع وسكوته عن زواله، ويحتمل أن يكون تناول شيئا آخر لم نشاهده وإن كنا نلازمه في أكثر الاوقات، ومع هذا فاقتران هذه الدلائل كاقتران الاخبار وتواترها وكل دلالة شاهدة يتطرق إليها الاحتمال، كقول كل مخبر على حياله، وينشأ من الاجتماع العلم وكأن هذا مدرك سادس من مدارك العلم سوى ما ذكرناه في المقدمة من الأوليات والمحسوسات والمشاهدات الباطنة والتجريبات والمتواترات فيلحق هذا بها، وإذا كان هذا غير منكر فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص عند انضمام قرائن إليه، لو تجرد عن القرائن لم يفد العلم، فإنه إذا أخبر خمسة أو ستة عن موت إنسان لا يحصل العلم بصدقهم، لكن إذا انضم إليه خروج والد الميت من الدار حاسر الرأس حافي الرجل ممزق الثياب مضطرب الحال يصفق وجهه ورأسه وهو رجل كبير ذو منصب ومروءة، لا يخالف عادته ومروءته والتجربه تدل عليه‏.‏ وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة الملك وسياسة إظهاره والمخبرون من رؤساء جنود الملك، فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الايالة بالاتفاق على الكذب، ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم، فهذا يؤثر في النفس تأثيرا لا ينكر، ولا أدري لم أنكر القاضي ذلك وما برهانه على استحالته، فقد بان بهذا أن العدد يجوز أن يختلف بالوقائع وبالاشخاص فرب شخص انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق ببعض الاشياء، فيقوم ذلك مقام القرائن، وتقوم تلك القرائن مقام خبر بعض المخبرين، فينشأ من ذلك أن لا برهان على استحالته، فإن قيل‏:‏ فهل يجوز أن يحصل العلم بقول واحد‏؟‏ قلنا‏:‏ حكي عن الكعبي جوازه، ولا يظن بمعتوه تجويزه مع انتفاء القرائن، أما إذا اجتمعت قرائن فلا يبعد أن تبلغ القرائن مبلغا لا يبقى بينها وبين إثارة العلم إلا قرينة واحدة، ويقوم إخبار الواحد مقام تلك القرينة، فهذا مما لا يعرف استحالته ولا يقطع بوقوعه، فإن وقوعه إنما يعلم بالتجربة ونحن لم نجربه، ولكن قد جربنا كثيرا مما اعتقدناه جزما بقول الواحد مع قرائن أحواله، ثم انكشف أنه كان تلبيسا، وعن هذا أحال القاضي ذلك، وهذا كلام في الوقائع مع بقاء العادات على المعهود من استمرارها فأما لو قدرنا خرق هذه العادة فالله تعالى قادر على أن يحصل لنا العلم بقول واحد من غير قرينة فضلا على أن تنضم إليه القرائن‏.‏

مسألة ‏(‏هل شهادة الاربعة فيها غلبة الظن‏؟‏‏)‏

قطع القاضي رحمه الله بأن قول الاربعة قاصر عن العدد الكامل، لانها بينة شرعية يجوز بالإجماع للقاضي وقفها على المزكين لتحصل غلبة الظن، ولا يطلب الظن فيما علم ضرورة، وما ذكره صحيح إذا لم تكن قرينة، فإنا لا نصادف أنفسنا مضطرين إلى خبر الاربعة، أما إذا فرضت قرائن مع ذلك فلا يستحيل حصول التصديق لكن لا يكون ذلك حاصلا عن مجرد الخبر بل عن القرائن مع الخبر والقاضي رحمه الله يحيل ذلك مع القرائن أيضا‏.‏

مسألة ‏(‏هل شهادة الخمسة تفيد العلم‏؟‏‏)‏

قال القاضي علمت بالإجماع أن الاربعة ناقص أما الخمس فأتوقف فيها لانه لم يقم فيها دليل الإجماع، وهذا ضعيف لانا نعلم بالتجربة ذلك فكم من أخبار نسمعها من خمسة أو ستة ولا يحصل لنا العلم بها فهو أيضا ناقص لا نشك فيه‏.‏

مسألة ‏(‏العدد الذي يفيد التواتر‏)‏

إذا قدرنا انتفاء القرائن فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى وليس معلوما لنا، ولا سبيل لنا إلى معرفته، فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الشافعي ووجود الانبياء عليهم السلام عند تواتر الخبر إلينا، وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين ويعسر علينا تجربة ذلك وإن تكلفناها، وسبيل التكلف أن نراقب أنفسنا إذا قتل رجل في السوق مثلا وانصرف جماعة عن موضع القتل ودخلوا علينا يخبرونا عن قتله، فإن قول الأول يحرك الظن، وقول الثاني والثالث يؤكده، ولا يزال يتزايد تأكيده إلى أن يصير ضروريا لا يمكننا أن نشكك فيه أنفسنا، فلو تصور الوقوف على اللحظة التي يحصل العلم فيها ضرورة وحفظ حساب المخبرين وعددهم لامكن الوقوف، ولكن درك تلك اللحظة عسير، فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدا خفي التدريج، نحو تزايد عقل الصبي المميز إلى أن يبلغ حد التكليف، ونحو تزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال، فلذلك بقي هذا في غطاء من الاشكال، وتعذر على القوة البشرية إدراكه، فأما ما ذهب إليه قوم التخصيص بالاربعين أخذا من الجمعة، وقوم إلى التخصيص بالسبعين أخذا من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا‏}‏ ‏(‏الاعراف‏:‏ 551‏)‏ وقوم إلى التخصيص بعدد أهل بدر فكل ذلك تحكمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض ولا تدل عليه، ويكفي تعارض أقوالهم دليلا على فسادها، فإذا لا سبيل لنا إلى حصر عدده، لكنا بالعلم الضروي نستدل على أن العدد الذي هو الكامل عند الله تعالى قد توافقوا على الاخبار، فإن قيل، فكيف علمتم حصول العلم بالتواتر وأنتم لا تعلمون أقل عدده‏؟‏ قلنا‏:‏ كما نعلم أن الخبز يشبع والماء يروي والخمر يسكر، وإن كنا لا نعلم أقل مقدار منه، ونعلم أن القرائن تفيد العلم وإن لم نقدر على حصر أجناسها وضبط أقل درجاتها‏.‏

مسألة ‏(‏هل يكذب العدد الكامل‏؟‏‏)‏

العدد الكامل إذا أخبروا ولم يحصل العلم بصدقهم فيجب القطع بكذبهم، لانه لا يشترط في حصول العلم إلا شرطان‏:‏ أحدهما‏:‏ كمال العدد‏.‏ والثاني‏:‏ أن يخبروا عن يقين ومشاهدة، فإذا كان العدد كاملا كان امتناع العلم لفوات الشرط الثاني‏:‏ فنعلم أنهم بجملتهم كذبوا أو كذب بعضهم في قوله‏:‏ إني شاهدت ذلك، بل بناه على توهم وظن أو كذب متعمدا، لانهم لو صدقوا وقد كمل عددهم حصل العلم ضرورة، وهذا أيضا أحد الأدلة على أن الاربعة ليسوا عدد التواتر إذ القاضي لم يحصل له العلم بصدقهم، وجاز له القضاء بغلبة الظن بالإجماع، ولو تمر عددهم لكان انتفاء العلم بصدقهم دليلا قاطعا على كذب جميعهم أو كذب واحد منهم، ولقطعنا بأن فيهم كاذبا أو متوهما، ولا يقبل شهادة أربعة يعلم أن فيهم كاذبا أو متوهما فإن قيل فإن لم يحصل العلم بقولهم وقد كثروا كثرة يستحيل بحكم العادة توافقهم على الكذب عن اتفاق، ويستحيل دخولهم تحت ضابط وتساعدهم على الكذب، بحيث ينكتم ذلك على جميعهم، ولا يتحدث به واحد منهم، فعلى ماذا يحمل كذبهم، وكيف يتصور ذلك‏؟‏ قلنا‏:‏ إنما يمكن ذلك بأن يكونوا منقسمين إلى صادقين وكاذبين، أما الصادقون فعددهم ناقص عن المبلغ الذي يستقل بإفادة العلم، وأما الكاذبون فيحتمل أن يقع منهم التواطؤ لنقصان عددهم عن مبلغ يستحيل عليهم التواطؤ مع الانكتام، فإن كانوا مبلغا لا يستحيل التواطؤ عليهم مع الانكتام فلا يستحيل الانكتام في الحال إلى أن يتحدث به في ثاني الحال ونقل الشيعة نص الامامة مع كثرتها إنما لم يفد العلم لانهم لم يخبروا عن المشاهدة والسماع، بل لو سمعوا عن سلف فهم صادقون، لكن السلف الواضعون لهذا الكذب يكون عددهم ناقصا عن مبلغ يستحيل منهم التواطؤ مع الانكتام، وربما ظن الخلف أن عددهم كامل لا يستحيل عليهم التواطؤ فيخطئون في الظن فيقطعون بالحكم، ويكون هذا منشأ غلطهم‏.‏

خاتمة لهذا الباب في بيان شروط فاسدة ذهب إليها قوم

وهي خمسة‏:‏ الأول‏:‏ شرط قوم في عدد التواتر أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد، وهذا فاسد، فإن الحجيج بأجمعهم إذا أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج ومنعتهم من عرفات حصل العلم بقولهم وهم محصورون، وأهل الجامع إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت الناس من الصلاة علم صدقهم، مع أنهم يحويهم مسجد، فضلا عن بلد، وكذلك أهل المدينة إذا أخبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ حصل العلم وقد حواهم بلد‏.‏ الثاني‏:‏ شرط قوم أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد وتختلف أوطانهم فلا يكونوا في محلة واحدة وتختلف أديانهم، فلا يكونوا أهل مذهب واحد، وهذا فاسد لان كونهم من محلة واحدة ونسب واحد لا يؤثر إلا في إمكان تواطئهم، والكثرة إلى كمال العدد تدفع هذا الامكان، وإن لم تكن كثرة أمكن التواطؤ من بني الاعمام، كما يمكن من الاخوة ومن أهل بلد، كما يمكن من أهل محلة وكيف يعتبر اختلاف الدين ونحن نعلم صدق المسلمين إذا أخبروا عن قتل وقتنة وواقعة، بل نعلم صدق أهل قسطنطينية إذا أخبروا عن موت قيصر‏.‏ فإن قيل‏:‏ فلنعلم صدق النصارى في نقل التثليث عن عيسى عليه السلام وصدقهم في صلبه‏؟‏ قلنا‏:‏ لم ينقلوا التثليث توقيفا وسماعا عن عيسى بنص صريح لا يحتمل التأويل، لكن توهموا ذلك بألفاظ موهمة لم يقفوا على مغزاها كما فهم المشبهة التشبيه من آيات وأخبارلم يفهموا معناها، والتواتر ينبغي أن يصدر عن محسوس، فأما قتل عيسى عليه السلام فقد صدقوا في أنهم شاهدوا شخصا يشبه عيسى عليه السلام مقتولا ولكن شبه لهم، فإن قيل‏:‏ فهل يتصور التشبيه في المحسوس، فإن تصور فليشك كل واحد منا إذا رأى زوجته وولده فلعله شبه له‏؟‏ قلنا‏:‏ إن كان الزمان زمان خرق العادة يجوز التشبيه في المحسوس، وذلك زمان النبوة لاثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يوجب الشك في غير ذلك الزمان، إذ لا خلاف في قدرة الله تعالى على قلب العصا ثعبانا وخرق العادة به لتصديق النبي عليه السلام، ومع ذلك إذا أخذنا العصا في زماننا لم نخف من انقلابها ثعبانا ثقة بالعادات في زماننا‏.‏ فإن قيل‏:‏ خرق العادة في زماننا هذا جائز كرامة للاولياء، فلعل وليا من الأولياء دعا الله تعالى بذلك فأجابه، فلنشك لامكان ذلك‏؟‏ قلنا‏:‏ إذا فعل الله تعالى ذلك نزع عن قلوبنا العلم الضروري الحاصل بالعادات، فإذا وجدنا من أنفسنا علما ضروريا بأنه لم تنقلب العصا ثعبانا ولا الجبل ذهبا، ولا الحصى في الجبال جواهر ويواقيت قطعنا بأن الله تعالى لم يخرق العادة، وإن كان قدارا عليها‏.‏ الثالث‏:‏ شرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين، وهو فاسد، إذ يحصل العلم بقول الفسقة والمرجئة والقدرية، بل بقول الروم إذا أخبروا بموت ملكهم حصل العلم‏.‏ الرابع‏:‏ شرط قوم أن لا يكونوا محمولين بالسيف على الاخبار، وهو فاسد، لانهم إن حملوا على الكذب لم يحصل العلم لفقد الشرط وهو الاخبار عن العلم الضروري وإن صدقوا حصل العلم، فلو أن أهل بغداد حملهم الخليفة بالسيف على الاخبار عن محسوس شاهدوه أو شهادة كتموها فأخبروا حصل العلم بقولهم‏.‏ فإن قيل‏:‏ هل يتصور عدد يحصل العلم بقولهم إذا أخبروا عن اختيار ولا يحصل لو أخبروا عن إكراه‏؟‏ قلنا‏:‏ أجاب القاضي رحمه الله ذلك من حيث أنه لم يجعل للقرائن مدخلا، وذلك غير محال عندنا، فإنا بينا أن النفس تشعر بأن هؤلاء على كثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع ثم تصدق، فإذا ظهر كون السيف جامعا لم يبعد أن لا يحصل العلم‏.‏ الخامس‏:‏ شرط الروافض أن يكون الامام المعصوم في جملة المخبرين، وهذا يوجب العلم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، لانه معصوم، فأي حاجة إلى أخبار غيره، ويجب أن لا يحصل العلم بنقلهم على التواتر النص على علي رضي الله عنه، إذ ليس فيهم معصوم، وأن لا تلزم حجة الامام إلا على من شاهده من أهل بلده وسمع منه دون سائر البلاد، وأن لا تقوم الحجة بقول أمرائه ودعاته ورسله وقضاته، إذ ليسوا معصومين، وأن لا يعلم موت أمير وقتله ووقوع فتنة وقتال في غير مصر، وكل ذلك لازم على هذيانهم‏.‏

الباب الثالث‏:‏ في تقسيم الخبر إلى ما يجب تصديقه وإلى ما يجب تكذيبه وإلى ما يجب التوقف فيه

وهي ثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ ما يجب تصديقه

وهي سبعة‏.‏ الأول‏:‏ ما أخبر عنه عدد التواتر، فإنه يجب تصديقه ضرورة وإن لم يدل عليه دليل آخر، فليس في الاخبار ما يعلم صدقه بمجرد الاخبار إلا المتواتر، وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر‏.‏ الثاني‏:‏ ما أخبر الله تعالى عنه، فهو صدق بدليل استحالة الكذب عليه، ويدل عليه دليلان، أقواهما إخبار الرسول عليه السلام عن امتناع الكذب عليه تعالى، والثاني أن كلامه تعالى قائم بنفسه، ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل، إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم، والجهل على الله تعالى محال‏.‏ الثالث‏:‏ خبر الرسول عليه السلام ودليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة إظهار المعجزة على أيدي الكاذبين، لان ذلك لو كان ممكنا لعجز الباري عن تصديقه رسله والعجز عليه محال‏.‏ الرابع‏:‏ ما أخبر عنه الامة إذ ثبت عصمتها بقول الرسول عليه السلام المعصوم عن الكذب، وفي معناه كل شخص أخبر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عنه بأنه صادق لا يكذب‏.‏ الخامس‏:‏ كل خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الامة أو من صدقه هؤلاء أو دل العقل عليه والسمع، فإنه لو كان كاذبا لكان الموافق له كذبا‏.‏ السادس‏:‏ كل خبر صح أنه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه ولم يكن غافلا عنه فسكت عليه، لانه لو كان كذبا لما سكت عنه ولا عن تكذيبه، ونعني به ما يتعلق بالدين‏.‏ السابع‏:‏ كل خبر ذكر بين يدي جماعة أمسكوا عن تكذيبه والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وامتناع السكوت لو كان كذبا، وذلك بأن يكون للخبر وقع في نفوسهم، وهم عدد يمتنع في مستقر العادة التواطؤ عليهم بحيث ينكتم التواطؤ ولا يتحدثون به، وبمثل هذه الطريقة ثبتت أكثر أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان ينقل بمشهد جماعات وكانوا يسكتون عن التكذيب مع استحالة السكوت عن التكذيب على مثلهم، فمهما كمل الشرط وترك النكير كما سبق نزل منزلة قولهم صدقت، فإن قيل، لو ادعى واحد أمرا بمشهد جماعة وادعى علمهم به فسكتوا عن تكذيبه فهل يثبت صدقه‏؟‏ قلنا‏:‏ إن كان ذلك في محل النظر والاجتهاد فلا يثبت صدقه، لاحتمال أنهم اعتقدوا عن النظر ما ادعاه، وإن كان يسنده إلى مشاهدة وكانوا عددا يستحيل عليهم الدخول تحت داع واحد، فالسكوت عن تكذيبه تصديق من جهتهم، فإن قيل‏:‏ وهل يدل على الصدق تواتر الخبر عن جماعة لا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب قصدا ولا التوافق على اتفاق‏؟‏ قلنا‏:‏ أحال القاضي رحمه الله ذلك، وقال قولهم يورث العلم ضرورة إن بلغوا عدد التواتر في علم الله، فإن لم يورث العلم الضروري دل على نقصان العدد ولا يجوز الاستدلال على صدقهم بالنظر في أحوالهم، بل نعلم قطعا كذبهم أو اشتمالهم على كاذب أو متوهم، وهذا على مذهبه إن لم ينظر إلى القرائن لازم، أما من نظر إلى القرائن فلا يبعد أن يعلم صدقهم بنوع من النظر، فإن قيل خبر الواحد الذي عمل به الامة هل يجب تصديقه‏؟‏ قلنا‏:‏ إن عملوا على وفقه فلعلهم عملوا عن دليل آخر، وإن عملوا به أيضا فقد أمروا بالعمل بخبر الواحد وإن لم يعرفوا صدقه، فلا يلزم الحكم بصدقه، فإن قيل لو قدر الراوي كاذبا لكان عمل الامة بالباطل، وهو خطأ، ولا يجوز ذلك على الامة، قلنا‏:‏ الامة ما تعبدوا إلا بالعمل بخبر يغلب على الظن صدقهم فيه، وقد غلب على ظنهم، كالقاضي إذ قضى بشهادة عدلين فلا يكون مخطئا، وإن كان الشاهد كاذبا بل يكون محقا، لانه لم يؤمر إلا به‏.‏

القسم الثاني من الاخبار ما يعلم كذبه

وهي أربعة‏:‏ الأول‏:‏ ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر، وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة المذكورة، كمن أخبر عن الجمع بين الضدين وإحياء الموتى في الحال وأنا على جناح نسر أو في لجة بحر وما يحس خلافه‏.‏ الثاني‏:‏ ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الامة، فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللامة‏.‏ الثالث‏:‏ ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا قالوا حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا‏.‏ الرابع‏:‏ ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله، كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلدة قتل في السوق على ملا من الناس ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله، ولا حالت العادة اختصاصه بحكايته، وبمثل هذه الطريقة عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن ونص الرسول على نبي آخر بعده، وأنه أعقب جماعة من الأولاد الذكور، ونصه على إمام بعينه على ملا من الناس وفرضه صوم شوال وصلاة الضحى وأمثال ذلك مما إذا كان أحالت العادة كتمانه، فإن قيل‏:‏ فقد تفرد الآحاد بنقل ما تتوفر الدواعي عليه حتى وقع الخلاف فيه، كإفراده صلى الله عليه وسلم الحج أو قرانه، وكدخوله الكعبة وصلاته فيها، وأنه عليه السلام نكح ميمونة وهو حرام، وأنه دخل مكة عنوة، وقبوله شهادة الاعرابي وحده على رؤية الهلال، وانفراد الاعرابي بالرؤية حتى لم يشاركه أحد فيه وانشقاق القمر، ولم ينقله إلا ابن مسعود رضي الله عنه وعدد يسير معه، وكان ينبغي أن يراه كل مؤمن وكافر وباد وحاضر، ونقل النصارى معجزات عيسى عليه السلام ولم ينقلوا كلامه في المهد، وهو من أعظم العلامات، ونقلت الامة القرآن ولم ينقلوا بقية معجزات الرسول عليه السلام كنقل القرآن في الشيوع، ونقل الناس أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب عليه السلام، ونقلت الامة سور القرآن ولم تنقل المعوذتين نقل غيرهما، حتى خالف ابن مسعود رضي الله عنه في كونهما من القرآن، وما تعم به البلوى من اللمس والمس أيضا، فكل هذا نقض على هذه القاعدة، والجواب أن إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرانه ليس مما يجب أن ينكشف وأن ينادي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكافة، بل لا يطلع عليه إلا من أطلعه عليه أو على نيته بإخباره إياه، نعم ظهر على الاستفاضة تعليمه الناس الافراد والقران جميعا، وأما دخوله الكعبة وصلاته فيها فقد يكون ذلك مع نفر يسير ومع واحد واثنين ولا يقع شائعا، كيف ولو وقع شائعا لم تتوفر الدواعي على دوام نقله، لانه ليس من أصول الدين ولا من فرائضه ومهماته، وأما دخوله مكة عنوة فقد صح على الاستفاضة دخوله متسلحا مع الالوية والاعلام وتمام التمكن والاستيلاء وبذله الامان لمن دخل دار أبي سفيان ولمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة، وكل ذلك غير مختلف فيه، ولكن استدل بعض الفقهاء بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ودى قوما قتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه على أنه كان صلحا، ووقوع مثل هذه الشبهة للآحاد ممكن، إلى أن تزال بالنظر وأن يكون ذلك بنهي خاص عن قوم مخصوصين، ولسبب مخصوص، وأما انفراد الاعرابي برؤية الهلال فممكن، وقد يقع مثل ذلك في زماننا في الليلة الأولى لخفاء الهلال ودقته، فينفرد به من يتحد بصره، وتصدق في الطلب رغبته، ويقع على موضع الهلال بصره عن معرفة أو اتفاق، وأما انشقاق القمر فهي آية ليلية وقعت والناس نيام، غافلون، وإنما كان في لحظة، فرآه من ناظره النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ونبهه على النظر له، وما انشق منه إلا شعبة ثم عاد صحيحا في لحظة، فكم من انقضاض كوكب وزلزلة وأمور هائلة من ريح وصاعقة بالليل لا يتنبه له إلا الآحاد على أن مثل هذا، إنما يعمله من قيل له انظر إليه فانشق عقيب القول والتحدي، ومن لم يعلم ذلك ووقع عليه بصره ربما توهم أنه خيال انقشع أو كوكب كان تحت القمر فانجلى القمر عنه، أو قطعة سحاب سترت قطعة من القمر، فلهذا لم يتواتر نقله، وأما نقلهم القرآن دون سائر الاعلام فذلك لامرين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الدواعي لا تتوفر بعد ثبوت النبوة بالقرآن واستقلالها به على نقل ما يقع بعده، بحيث تقع المداومة عليه اكتفاء بثبوتها بالقرآن الذي هو أعظم الآيات، ولان غير القرآن إنما ظهر في عمر كل واحد مرة واحدة، وربما ظهر بين يدي نفر يسير، والقرآن كان يردده طول عمره مرة بعد أخرى، ويلقيه على كافتهم قصدا، ويأمرهم بحفظه والتلاوة له والعمل بموجبه، وأما المعوذتان فقد ثبت نقلهما شائعا من القرآن كسائر السور، وابن مسعود رضي الله عنه لم ينكر كونهما من القرآن لكن أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد أيضا، لانه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإثباته وكتبته ولما لم يجده كتب ذلك ولا سمع أمره به أنكره، وهذا تأويل وليس جحدا لكونه قرآنا، ولو جحد ذلك لكان فسقا عظيما لا يضاف إلى مثله، ولا إلى أحد من الصحابة، وأما ترك النصارى نقل كلام عيسى عليه السلام في المهد ، فلعله لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير ومرة واحدة لتبرئة مريم عليها السلام عما نسبوها إليه، فلم ينتشر ذلك ولم يحصل العلم بقول من سمع ذلك منهم فاندرس فيما بينهم، وأما شعيب ومن يجري مجراه من الرسل عليهم السلام، فلم يكن لهم شريعة ينفردون بها بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم، فلم تتوفر الدواعي على نقل معجزاتهم، إذ لم يكن لهم معجزات ظاهرة، لكن ثبت صدقهم بالنص والتوقيف من نبي ذي معجزة، وأما الخبر عن اللمس والمس للذكر وما تعم به البلوى، فيجوز أن يخبر به الرسول عليه السلام عددا يسيرا ثم ينقلونه آحادا ولا يستفيض، وليس ذلك مما يعظم في الصدور وتتوفر الدواعي على التحدث به دائما‏.‏

القسم الثالث‏:‏ ما لا يعلم صدقه ولا كذبه

فيجب التوقف فيه، وهو جملة الاخبار الواردة في أحكام الشرع والعبادات مما عدا القسمين المذكورين، وهو كل خبر لم يعرف صدقه ولا كذبه، فإن قيل‏:‏ عدم قيام الدليل على صدقه يدل على كذبه، إذ لو كان صدقا لما أخلانا الله تعالى عن دليل على صدقه، قلنا‏:‏ ولم يستحيل أن يخلينا عن دليل قاطع على صدقه، ولو قلب هذا وقيل يعلم صدقه لانه لو كان كذبا لما أخلانا الله تعالى عن دليل قاطع على كذبه، لكان مقاوما لهذا الكلام، وكيف يجوز ذلك، ويلزم منه أن يقطع بكذب كل شاهد لا يقطع بصدقه وكفر كل قاض ومفت وفجوره، إذا لم يعلم إسلامه وورعه بقاطع، وكذا كل قياس ودليل في الشرع لا يقطع بصحته فليقطع ببطلانه، وهذا بخلاف التحدي بالنبوة إذا لم تظهر معجزة، فإنا نقطع بكذبه، لان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كلفنا تصديقه وتصديقه بغير دليل محال وتكليف المحال محال فبه علمنا، أنا لم نكلف تصديقه، فلم يكن رسولا إلينا قطعا، أما خبر الواحد، وشهادة الاثنين فلم نتعبد فيه بالتصديق بل بالعمل عند ظن الصدق والظن حاصل، والعمل ممكن ونحن مصيبون وإن كان هو كاذبا ولو عملنا بقول شاهد واحد، فنحن مخطئون وإن كان هو صادقا، فإن قيل‏:‏ إنما وجب إقامة المعجزة لنعرف صدقه فنتبعه فيما يشرعه فليجب عليه إزالة الشك فيما يبلغ من الشرع بالمشافهة والاشاعة إلى حد التواتر ليحصل العلم في حق من لم يشافهه به، قلنا لا استحالة في أن يقسم الشارع شرعه إلى ما يتعبد فيه بالعلم والعمل فيجب فيه، ما ذكرتموه وإلى ما يتعبد فيه بالعمل دون العلم‏:‏ فيكون فرض من يسمع من الرسول العلم والعمل جميعا، وفرض من غاب العمل دون العلم، ويكون العمل منوطا بظن الصدق في الخبر، وإن كان هو كاذبا عند الله تعالى، وكذا الظن الحاصل من قياس وقول شاهد، ويمين المدعى عليه أو يمين المدعي مع النكول، فلا نحيل شيئا من ذلك‏.‏

القسم الثاني من هذا الأصل في أخبار الآحاد

وفيه أبواب

الباب الأول في إثبات التعبد به مع قصوره عن إفادة العلم

وفيه أربع مسائل‏:‏

مسألة ‏(‏هل خبر الواحد يفيد العلم‏؟‏‏)‏

اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الاخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد، وأما قول الرسول عليه السلام مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد، وإذا عرفت هذا فنقول‏:‏ خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة، إنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين، وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل، إذ يسمى الظن علما، ولهذا قال بعضهم‏:‏ يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظن، ولا تمسك لهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن علمتموهن مؤمنات‏}‏ ‏(‏الممتحنة‏:‏ 01‏)‏ وأنه أراد الظاهر، لان المراد به العلم الحقيقي بكلمة الشهادة التي هي ظاهر الايمان دون الباطن الذي لم يكلف به، والايمان باللسان يسمى إيمانا مجازا، ولا تمسك لهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 63‏)‏ وأن الخبر لو لم يفد العلم لما جاز العمل به، لان المراد بالآية منع الشاهد عن جزم الشهادة إلا بما يتحقق، وأما العلم بخبر الواحد فمعلوم الوجوب بدليل قاطع أوجب العمل عند ظن الصدق، والظن حاصل قطعا، ووجوب العمل عنده معلوم قطعا، كالحكم بشهادة اثنين، أو يمين المدعي مع نكول المدعى عليه‏.‏

مسألة ‏(‏هل يتعبد بخبر الواحد‏؟‏‏)‏

أنكر منكرون جواز التعبد بخبر الواحد عقلا، فضلا عن وقوعه سمعا، فيقال لهم‏:‏ من أين عرفتم استحالته‏؟‏ أبالضرورة ونحن نخالفكم فيه، ولا نزاع في الضرورة، أو بدليل ولا سبيل لهم إلى إثباته، لانه لو كان محالا لكان يستحيل، إما لذاته أو لمفسدة تتولد منه، ولا يستحيل لذاته ولا التفات إلى المفسدة، ولا نسلم أيضا لو التفتنا إليها، فلا بد من بيان وجه المفسدة، فإن قيل‏:‏ وجه المفسدة أن يروي الواحد خبرا في سفك دم أو في استحلال بضع، وربما يكذب، فيظن أن سفك الدم هو بأمر الله تعالى، ولا يكون بأمره، فكيف يجوز الهجوم بالجهل‏؟‏ ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه، فلا يجوز الهجوم عليه بالشك، فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم، بل إذا أمر الله تعالى بأمر فليعرفنا أمره لنكون على بصيرة، إما ممتثلون أو مخالفون، والجواب‏:‏ أن هذا السؤال إن صدر ممن ينكر الشرائع فنقول له‏:‏ أي استحالة في أن يقول الله تعالى لعباده إذا طار بكم طائر وظننتموه غرابا فقد أوجبت عليكم كذا وكذا، وجعلت ظنكم علامة وجوب العمل كما جعلت زوال الشمس علامة وجوب الصلاة فيكون نفس الظن علامة الوجوب والظن مدرك بالحس وجوده، فيكون الوجوب معلوما، فمن أتى بالواجب عند الظن فقد امتثل قطعا وأصاب، فإذا جاز أن يجعل الزوال أو ظن كونه غرابا علامة، فلم لا يجوز أن يجعل ظنه علامة‏؟‏ ويقال له‏:‏ إذا ظننت صدق الراوي والشاهد والحالف، فاحكم به ولست متعبدا بمعرفة صدقه، ولكن بالعمل عند ظن صدقه، وأنت مصيب وممتثل صدق أو كذب، ولست متعبدا بالعلم بصدقه، ولكن بالعمل عند ظنك الذي تحسه من نفسك، وهذا ما نعتقده في القياس وخبر الواحد والحكم بالشاهد واليمين وغير ذلك، وأما إذا صدر هذا من مقر بالشرع فلا يتمكن منه، لانه تعبد بالعمل بالشهادة والحكم والفتوى ومعاينة الكعبة وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه خمسة، ثم الشهادة، قد يقطع بها كشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادة خزيمة بن ثابت حين صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادة موسى وهارون والانبياء صلوات الله عليهم، وقد يظن ذلك كشهادة غيرهم، ثم ألحق المظنون بالمقطوع به في وجوب العمل، وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه مقطوع به وفتوى سائر الائمة وحكم سائر القضاة مظنون وألحق بالمعلوم، والكعبة تعلم قطعا بالعيان وتظن بالاجتهاد، وعند الظن يجب العمل، كما يجب عند المشاهدة، فكذلك خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يجب العمل به عند التواتر، فلم يستحيل أن يلحق المظنون بالمعلوم في وجوب العمل خاصة، ومن أراد أن يفرق بين هذه الخمسة في مفسدة أو مصلحة لم يتمكن منه أصلا، فإن قيل‏:‏ فهل يجوز التعبد بالعمل بخبر الفاسق‏؟‏ قلنا‏:‏ قال قوم‏:‏ يجوز بشرط ظن الصدق، وهذا الشرط عندنا فاسد، بل كما يجوز أن تجعل حركة الفلك علامة التعبد بالصلاة فحركة لسان الفاسق يجوز أن تجعل علامة، فتكليف العمل عند وجود الخبر شئ، وكون الخبر صدقا أو كذبا شئ آخر‏.‏

مسألة ‏(‏هل يجب العمل بخبر الواحد‏؟‏‏)‏

ذهب قوم إلى أن العقل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد دون الأدلة السمعية، واستدلوا عليه بدليلين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب أو إجماع أو سنة متواترة ووجد خبر الواحد، فلو لم يحكم به لتعطلت الاحكام، ولان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مبعوثا إلى أهل العصر يحتاج إلى إنفاذ الرسل، إذ لا يقدر على مشافهة الجميع ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر إلى كل أحد، إذ لو أنفذ عدد التواتر إلى كل قطر لم يف بذلك أهل مدينته، وهذا ضعيف، لان المفتي إذا فقد الأدلة القاطعة يرجع إلى البراءة الأصلة والاستصحاب، كما لو فقد خبر الواحد أيضا، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فليقتصر على من يقدر على تبليغه، فمن الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلا يكلف به، فليس تكليف الجميع واجبا، نعم لو تعبد نبي بأن يكلف جميع الخلق ولا يخلي واقعة عن حكم الله تعالى ولا شخصا عن التكليف، فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد ضرورة في حقه‏.‏ والدليل الثاني‏:‏ إنهم قالوا‏:‏ صدق الراوي ممكن، فلو لم نعمل بخبر الواحد لكنا قد تركنا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فالاحتياط والحزم في العمل وهو باطل من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن كذبه ممكن، فربما يكون عملنا بخلاف الواجب‏.‏ الثاني‏:‏ أنه كان يجب العمل بخبر الكافر والفاسق، لان صدقه ممكن‏.‏ الثالث‏:‏ هو أن براءة الذمة معلومة بالعقل والنفي الأصلي فلا ترفع بالوهم، وقد استدل به قوم في نفي خبر الواحد، وهو وإن كان فاسدا فهو أقوم من قوله إن الصدق إذا كان ممكنا يجب العمل به‏.‏

مسألة ‏(‏هل يتعبد بخبر الواحد‏؟‏‏)‏

الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير من سلف الامة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا، ولا يجب التعبد به عقلا، وأن التعبد به واقع سمعا، وقال جماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاساني بتحريم العمل به سمعا، ويدل على بطلان مذهبهم مسلكان قاطعان‏:‏ أحدهما‏:‏ إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد‏.‏ والثاني‏:‏ تواتر الخبر بإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة والرسل إلى البلاد وتكليفه إياهم تصديقهم فيما نقلوه من الشرع ونحن نقرر هذين المسلكين‏:‏ المسلك الأول‏:‏ ما تواتر و اشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر، وإن لم تتواتر آحادها، فيحصل العلم بمجموعها، ونحن نشير إلى بعضها‏:‏ فمنها‏:‏ ما روي عن عمر رضي الله عنه في وقائع كثيرة، من ذلك قصة الجنين وقيامه في ذلك يقول‏:‏ أذكر الله امرءاسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في الجنين، فقام إليه حمل بن مالك بن النابغة وقال‏:‏ كنت بين جارتين ‏(‏يعني ضرتين‏)‏ فضربت إحداهما الاخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة، فقال عمر، لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، أي لم نقض بالغرة أصلا، وقد انفصل الجنين ميتا للشك في أصل حياته‏.‏ ومن ذلك أنه كان رضي الله عنه لا يرى توريث المرأة من دية زوجها، فلما أخبره الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته رجع إلى ذلك‏.‏ ومن ذلك ما تظاهرت به الاخبار عنه في قصة المجوس أنه قال‏:‏ ما أدري ما الذي أصنع في أمرهم وقال‏:‏ أنشد الله امرءا سمع فيهم شيئا إلا رفعه إلينا، فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأخذ الجزية منهم وأقرهم على دينهم‏.‏ ومنها‏:‏ ما ظهر منه ومن عثمان رضي الله عنهما وجماهير الصحابة رضي الله عنهم من الرجوع عن سقوط فرض الغسل من التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها وقولها‏:‏ فعلت ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا‏.‏ ومن ذلك ما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في السكنى بخبر فريعة بنت مالك بعد أن أرسل إليها وسألها‏.‏ ومنها‏:‏ ما ظهر من علي رضي الله عنه من قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين، حتى قال في الخبر المشهور‏:‏ كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني غيره أحلفته، فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما من عبد يصيب ذنبا الحديث‏.‏‏.‏‏.‏ فكان يحلف المخبر لا لتهمة بالكذب، ولكن للاحتياط في سياق الحديث على وجهه والتحرز والتحرز من تغيير لفظه نقلا بالمعنى، ولئلا يقدم على الرواية بالظن بل عند السماع المحقق‏.‏ ومنها‏:‏ ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان يرى أن الحائض لا يجوز لها أن تصدر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، وأنكر على ابن عباس خلافه في ذلك، فقيل له‏:‏ إن ابن عباس سأل فلانة الانصارية‏:‏ هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأخبرته، فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول لابن عباس‏:‏ ما أراك إلا قد صدقت‏:‏ ورجع إلى موافقته بخبر الانصارية‏.‏ ومنها‏:‏ ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال‏:‏ كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ تمر، إذا أتانا آت فقال‏:‏ إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة‏:‏ قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت‏.‏ ومنها‏:‏ ما اشتهر من عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد، وأنهم أتاهم آت فأخبرهم بنسخ القبلة، فانحرفوا إلى الكعبة بخبره‏.‏ ومنها‏:‏ ما ظهر من ابن عباس رضي الله عنه، وقد قيل أن فلانا رجلا من المسلمين يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى نبي إسرائيل عليه السلام، فقال ابن عباس‏:‏ كذب عدو الله‏:‏ أخبرني أبي بن كعب قال‏:‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر موسى والخضر بشئ يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل، فتجاوز ابن عباس العمل بخبر الواحد وبادر إلى التكذيب بأصله، والقطع بذلك لاجل خبر أبي بن كعب‏.‏ ومنها‏:‏ أيضا ما روي عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من آنية الذهب والورق بأكثر من وزنه، فقال له أبو الدرداء‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك، فقال له معاوية‏:‏ إني لا أرى بذلك بأسا، فقال أبو الدرداء‏:‏ من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه‏:‏ لا أساكنك بأرض أبدا‏.‏ ومنها‏:‏ ما اشتهر عن جميعهم في أخبار لا تحصى الرجوع إلى عائشة وأم سلمة وميمونة وحفصة رضوان الله عليهن وإلى فاطمة بنت أسد، وفلانة وفلانة ممن لا يحصى كثرة، وإلى زيد وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم من الرجال والنساء والعبيد والموالي، وعلى ذلك جرت سنة التابعين بعدهم، حتى قال الشافعي رحمه الله وجدنا علي بن الحسين رضي الله عنه يعول على أخبار الآحاد، وكذلك محمد بن علي، وجبير بن مطعم، ونافع بن جبير وخارجة بن زيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وكذلك كان حال طاوس، وعطاء، ومجاهد، وكان سعيد بن المسيب يقول‏:‏ أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصرف، فيثبت حديثه سنة ويقول‏:‏ حدثني أبو هريرة، وعروة ابن الزبير يقول‏:‏ حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان ويعترض بذلك على قضية عمر بن عبد العزيز فينقض عمر قضاءه لاجل ذلك، وكذلك ميسرة باليمن ومكحول بالشام، وعلى ذلك كان فقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين وفقهاء الكوفة وتابعوهم، كعلقمة والاسود والشعبي ومسروق، وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء، ولم ينكر عليهم أحد في عصر، ولو كان نكير لنقل، ولوجب في مستقر العادة اشتهاره، وتوفرت الدواعي على نقله، كما توفرت على نقل العمل به، فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف، وإنما الخلاف، حدث بعدهم، فإن قيل‏:‏ لعلهم عملوا، بها مع قرائن أو بأخبار أخر صاحبتها أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها لا بمجرد هذه الاخبار كما زعمتم كما قلتم عملهم بالعموم، وصيغة الامر والنهي ليس نصا صريحا على أنهم عملوا بمجردها بل بها مع قرائن قارنتها‏؟‏ قلنا‏:‏ لانهم لم ينقل عنهم لفظ، إنما عملنا بمجرد الصيغة من أمر ونهي وعموم، وقد قالوا هاهنا‏:‏ لولا هذا لقضينا بغير هذا، وصرح ابن عمر رضي الله عنهما برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع بن خديج، ورجوعهم في التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها، كيف وصيغة العموم والامر والنهي قط لا تنفك عن قرينة من حال المأمور والمأمور به والآمر، أما ما يرويه الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا يقترن به حتى يكون دليلا بسببه‏؟‏ فتقدير ذلك كتقدير قرائن في عملهم بنص الكتاب، وبالخبر المتواتر وبالإجماع وذلك يبطل جميع الأدلة، وبالجملة فمناشدتهم في طلب الاخبار لا داعي لها إلا بالعمل بها، فإن قيل‏:‏ فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة أيضا‏؟‏ قلنا‏:‏ ذلك لفقدهم شرط قبولها كما سيأتي، وكما تركوا العمل بنص القرآن وبأخبار متواترة، لاطلاعهم على نسخها أو فوات الامر وانقراض من كان الخطاب متعلقا به‏.‏ الدليل الثاني‏:‏ ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الاطراف، وهم آحاد، ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات، وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع، فمن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع، وإنفاذه سورة براءة مع علي، وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم ومن ذلك توليته عمر رضي الله عنه على الصدقات، وتوليته معاذا قبض صدقات اليمن والحكم على أهلها، ومن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة متحملا ورسولا مؤديا عنه، حتى بلغه أن قريشا قتلته، فقلق لذلك، وبايع لاجله بيعة الرضوان، وقال‏:‏ والله لئن كانوا قتلوه لاضرمنها عليهم نارا ومن ذلك توليته صلى الله عليه وسلم على الصدقات والجبايات قيس بن عاصم، ومالك بن نويرة، والزبرقان بن بدر، وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص، وعمرو بن حزم، وأسامة بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم ممن يطول ذكرهم، وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه كان صلى الله عليه وسلم يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه، ولو احتاج في كل رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يف بذلك جميع أصحابه، وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره، وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم، وفسد النظام والتدبير، وذلك وهم باطل قطعا، فإن قيل‏:‏ كان قد أعلمهم صلى الله عليه وسلم تفصيل الصدقات شفاها وبأخبار متواترة، وإنما بعثهم لقبضها‏؟‏ قلنا‏:‏ ولم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد، ثم لم يكن بعثه صلى الله عليه وسلم في الصدقات فقط بل كان في تعليمهم الدين والحكم بين المتخاصمين وتعريف وظائف الشرع، فإن قيل‏:‏ فليجب عليهم قبول أصل الصلاة والزكاة، بل أصل الدعوة والرسالة والمعجزة‏؟‏ قلنا‏:‏ أما أصل الزكاة والصلاة فكان يجب قبوله، لانهم كانوا ينفذون لشرح وظائف الشرع بعد انتشار أصل الدعوة، وأما أصل والرسالة والايمان وأعلام النبوة فلا، إذ كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب عليكم تصديقي وهم لم يعرفوا برسالته، أما بعد التصديق به فيمكن الاصغاء إلى رسله بإيجابه الاصغاء إليهم، فإن قيل‏:‏ فإنما يجب قبول خبر الواحد إذا دل قاطع على وجوب العمل به، كما دل الإجماع والتواتر عندكم، فأولئك بماذا صدقوا الولاة في قولهم يجب عليكم العمل بقولنا‏:‏ قلنا‏:‏ قد كان تواتر إليهم من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ينفذ الولاة والرسل آحادا، كسائر الاكابر والرؤساء، ولولا علمهم بذلك لجاز للمتشكك، أن يجادل فيه إذ عرض له شك، ولكن قل ما يعرض الشك فيه مع القرائن، فإن الذي يدخل بلادنا مع منشور القضاء قد لا يخالجنا ريب في صدقه وإن لم يتواتر إلينا، ولكن بقرائن الاحوال والمعرفة لخط الكاتب وببعد جرأته على الكذب مع تعريضه للخطر في أمثال ذلك‏.‏ الدليل الثالث‏:‏ إن العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه، مع أنه ربما يخبر عن ظنه، فالذي يخبر بالسماع الذي لا يشك فيه أولى بالتصديق، والكذب والغلط جائزان على المفتي كما على الراوي، بل الغلط على الراوي أبعد، لان كل مجتهد وإن كان مصيبا فإنما يكون مصيبا، إذا لم يقصر في إتمام النظر، وربما يظن أنه لم يقصر ويكون قد قصر، وهذا على مذهب من يجوز تقليد مقلد الشافعي رحمه الله إذا نقل مذهبه أوقع لانه يروي مذهب غيره فكيف لا يروي قول غيره‏؟‏ فإن قيل‏:‏ هذا قياس لا يفيد إلا الظن، ولا يجوز إثبات الاصول بالظن والقياس، والعمل بخبر الواحد أصل، كيف ولا ينقدح وجه الظن، فإن المجتهد مما يضطر إليه ولو كلف آحاد العوام درجة الاجتهاد تعذر ذلك، فهو مضطر إلى تقليد المفتي‏؟‏ قلنا‏:‏ لا ضرورة في ذلك، بل ينبغي أن يرجع إلى البراءة الأصلية، إذ لا طريق له إلى المعرفة، كما وجب على المفتي بزعمكم إذا بلغه خبر الواحد أن يرد الخبر فيرجع إلى البراءة الأصلية إذا تعذر عليه التواتر، ثم نقول‏:‏ ليس هذا قياسا مظنونا، بل هو مقطوع به بأنه في معناه، لانه لو صح العمل بخبر الواحد في الانكحة لقطعنا به في البياعات ولم يختلف الامر باختلاف المروي وهاهنا لم يختلف إلا المخبر عنه، فإن المفتي يخبر عن ظن نفسه، والراوي عن قول غيره، كما لم يفرق في حق الشاهدين بين أن يخبرا عن أنفسهما أو عن غيرهما إذا شهدا على عدالة غيرهما، أو يخبرا عن ظن أنفسهما العدالة في غيرهما الدليل الرابع‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 221‏)‏ فالطائفة نفر يسير كالثلاثة، ولا يحصل العلم بقولهم، وهذا فيه نظر، لانه إن كان قاطعا فهو في وجوب الانذار لا في وجوب العمل على المنذر عنه اتحاد المنذر كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة، لا ليعمل بها وحدها لكن إذا انضم غيرها إليها، وهذا الاعتراض هو الذي يضعف أيضا التمسك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 951‏)‏ وبقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث وأمثالهما، ثم اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قولهم‏:‏ لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع، فكيف يدعي ذلك، وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الواحد، فمن ذلك توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبول خبر ذي اليدين حيث سلم عن اثنتين، حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وشهدا بذلك وصدقاه ثم قبل، وسجد للسهو، ومن ذلك رد أبي بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة من ميراث الجد حتى أخبره معه محمد بن مسلمة، ومن ذلك رد أبي بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم فيما رواه من استئذانه الرسول في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه بذلك، ومن ذلك ما اشتهر من رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الاشعري في الاستئذان حتى شهد له أبو سعد الخدري رضي الله عنه، ومن ذلك رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الاشجعي في قصة بروع بنت واشق وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث، ومن ذلك رد عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وظهر من عمر نهيه لابي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك مما يكثر، وأكثر هذه الاخبار تدل على مذهب من يشترط عددا في الراوي لا على مذهب من يشترط التواتر، فإنهم لم يجتمعوا فينتظروا التواتر، لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه‏:‏ الذي رويناه قاطع في عملهم، وما ذكرتموه رد لاسباب عارضة تقتضي الرد، ولا تدل على بطلان الأصل، كما أن ردهم بعض نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل، ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الاخبار والتوقف فيها، أما توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور‏:‏ أحدها‏:‏ أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع، إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير، وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف‏.‏ الثاني‏:‏ أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله، ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية، فحسم سبيل ذلك‏.‏ الثالث‏:‏ أنه قال قولا لو علم صدقا لظهر أثره في حق الجماعة، واشتغلت ذمتهم، فألحق بقبيل الشهادة، فلم يقبل فيه قول الواحد، والاقوى ما ذكرناه من قبل، نعم‏:‏ لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة، فيلزمه اشتراط ثلاثة، ويلزمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون، لانه كذلك كان‏.‏ أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كان هناك وجه اقتضى التوقف، وربما لم يطلع عليه أحد، أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ، أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده، ليكون الحكم أوكدا أو خلافه فيندفع، أو توقف في انتظار استظهار بزيادة، كما يتسظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الاقدام على الرواية عن تساهل، ويجب حمله على شئ من ذلك إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الانكار على القائلين به‏.‏ وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلانه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد، أو توقف لاجل قرابة عثمان من الحكم، وقد كان معروفا بأنه كلف بأقاربه، فتوقف تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول‏:‏ متعنت، إنما قال ذلك لقرابته حتى ثبت ذلك بقول غيره، أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله‏.‏ وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا، كالمترفع عن المثول ببابه فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه، بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر‏:‏ إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز للامام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة، كيف ومثل هذه الاخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القبول عنهم‏.‏ وأما رد علي خبر الاشجعي فقد ذكر علته وقال‏:‏ كيف نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه، ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الاخبار‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ تمسكهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 63‏}‏ ‏(‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 961‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما شهدنا إلا بما علمنا‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 18‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏ 6‏)‏ والجهالة في قول العدل حاصلة، وهذا باطل من أوجه‏.‏ الأول‏:‏ أن إنكارهم القول بخبر الواحد غير معلوم ببرهان قاطع، بل يجوز الخطأ فيه، فهو إذا حكم بغير علم‏.‏ الثاني‏:‏ أن وجوب العمل به معلوم بدليل قاطع من الإجماع فلا جهالة فيه‏.‏ الثالث‏:‏ إن المراد من الآيات منع الشاهد عن جزم الشهادة بما لم يبصر ولم يمسع والفتوى بما لم يرو ولم ينقله العدول‏.‏ الرابع‏:‏ إن هذا لو دل على رد خبر الواحد لدل على شهادة الاثنين والاربعة، والرجل والمرأتين، والحكم باليمين، فكما علم بالنص في القرآن وجوب الحكم بهذه الامور مع تجويز الكذب، فكذلك بالاخبار‏.‏ الخامس‏:‏ أنه يجب تحريم نصب الخلفاء والقضاة، لانا لا نتيقن إيمانهم فضلا عن ورعهم، ولا نعلم طهارة إمام الصلاة عن الجنابة والحدث فليمتنع الاقتداء‏.‏

الباب الثاني في شروط الراوي وصفته

وإذا ثبت وجوب العمل بخبر الواحد، فاعلم أن كل خبر فليس بمقبول، وافهم أولا أنا لسنا نعني بالقبول التصديق، ولا بالرد التكذيب، بل يجب علينا قبول قول العدل، وربما كان كاذبا أو غالطا، ولا يجوز قبول قول الفاسق، وربما كان صادقا، بل نعني بالمقبول ما يجب العمل به، وبالمردود ما لا تكليف علينا في العمل به، والمقبول رواية كل مكلف عدل مسلم ضابط، منفردا كان بروايته أو معه غيره، فهذه خمسة أمور لا بد من النظر فيها‏:‏ الأول‏:‏ أن رواية الواحد تقبل، وإن لم تقبل شهادته خلافا للجبائي وجماعة، حيث شرطوا العدد، ولم يقبلوا إلا قول رجلين، ثم لا تثبت رواية كل واحد إلا من رجلين آخرين، وإلى أن ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا، وقال قوم‏:‏ لا بد من أربعة أخذا من شهادة الزنا، ودليل بطلان مذهبهم أنا نقول‏:‏ إذا ثبت قبول قول الآحاد مع أنه لا يفيد العلم، فاشتراط العدد تحكم لا يعرف إلا بنص أو قياس على منصوص، ولا سبيل إلى دعوى النص، وما نقل الصحابة من طلب استظهار فهو في واقعتين أو ثلاث لاسباب ذكرناها، أما ما قضوا فيه بقول عائشة وحدها وقول زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم، فهو خارج عن الحصر، فقد علمنا قطعا من أحوالهم قبول خبر الواحد، كما علمنا قطعا رد شهادة الواحد، وإن أخذوا من قياس الشهادة فهو قياس باطل إذ عرف من فعلهم الفرق، ولم لا يقاس عليه في شرط الحرية والذكورة، واشترط في أخبار الزنا أربعة، وفيما يتعلق برؤية الهلال، وشهادة القابلة واحد، والمصير إلى ذلك خرق للإجماع، ولا فرق إن وجب القياس‏.‏ الشرط الثاني‏:‏ وهو الأول تحقيقا، فإن العدد ليس عندنا من الشروط، وهو التكليف، فلا تقبل رواية الصبي لانه لا يخاف الله تعالى، فلا وازع له من الكذب، فلا تحصل الثقة بقوله، وقد اتبعوا في قبول الشهادة سكون النفس وحصول الظن، والفاسق أوثق من الصبي، فإنه يخاف الله تعالى وله وازع من دينه وعقله، والصبي لا يخاف الله تعالى أصلا، فهو مردود بطريق الأولى، والتمسك بهذا أولى من التمسك برد إقراره، وإنه إذا لم يقبل قوله فيما يحكيه عن نفسه، فبأن لا يقبل فيما يرويه عن غيره أولى، فإن هذا يبطل بالعبد، فإنه قد لا يقبل إقراره وتقبل روايته، فإن كان سببه أنه يتناول ملك السيد وملك السيد معصوم عنه، فملك الصبي أيضا محفوظ عنه لمصلحته، فما لا يتعلق به قد يؤثر فيه قوله، بل حاله حتى يجوز الاقتداء به اعتمادا على قوله أنه ظاهر، وعلى أنه لا يصلي إلا طاهر، لكنه كما يجوز الاقتداء بالبر والفاجر فكذلك بالصبي والبالغ، وشهادة الفاسق لا تقبل والصبي أجرأ على الكذب منه، أما إذا كان طفلا مميزا عند التحمل، بالغا عند الرواية، فإنه يقبل، لانه لا خلل في تحمله ولا في أدائه، ويدل على قبول سماعه إجماع الصحابة على قبول خبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة، من غير فرق بين ما تحملوه بعد البلوغ أو قبله، وعلى ذلك درج السلف والخلف من إحضار الصبيان مجالس الرواية، ومن قبول شهادتهم فيما تحملوه في الصغر، فإن قيل‏:‏ فقد قال بعض العلماء، تقبل شهادة الصبيان في الجنايات التي تجري بينهم، قلنا‏:‏ ذلك منه استدلال بالقرائن، إذا كثروا وأخبروا قبل التفرق، أما إذا تفرقوا فيتطرق إليهم التلقين الباطل، ولا وازع لهم فمن قضى به، فإنما قضى به لكثرة الجنايات بينهم ولمسيس الحاجة إلى معرفته بقرائن الاحوال، فلا يكون ذلك على منهاج الشهادة‏.‏ الشرط الثالث‏:‏ أن يكون ضابطا، فمن كان عند التحمل غير مميز أو كان مغفلا لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه فلا ثقة بقوله، وإن لم يكن فاسقا‏.‏ الشرط الرابع‏:‏ أن يكون مسلما، ولا خلاف في أن رواية الكافر لا تقبل، لانه متهم في الدين، وإن كان تقبل شهادة بعضهم على بعض عند أبي حنيفة، ولا يخالف في رد روايته، والاعتماد في ردها على الإجماع المنعقد على سلبه أهلية هذا المنصب في الدين وإن كان عدلا في دين نفسه، وهو أولى من قولنا الفاسق مردود الشهادة، والكفر أعظم أنواع الفسق، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏ 6‏)‏ لان الفاسق متهم لجرأته على المعصية، والكافر المترهب قد لا يتهم، لكن التعويل على الإجماع في سلب الكافر هذا المنصب، فإن قيل‏:‏ هذا يتجه في اليهود والنصارى ومن لا يؤمن بديننا، إذ لا يليق في السياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه، فما قولكم في الكافر المتأول، وهو الذي قد قال ببدعة يجب التكفير بها فهو معظم للدين، وممتنع من المعصية وغير عالم بأنه كافر، فلم لا تقبل روايته وقد قبل الشافعي رواية بعض أهل البدع، وإن كان فاسقا ببدعته، لانه متأول في فسقه‏؟‏ قلنا‏:‏ في رواية المبتدع المتأول كلام سيأتي، وأما الكافر وإن كان متأولا فلا تقبل روايته، لان كل كافر متأول، فإن اليهودي أيضا لا يعلم كونه كافرا، أما الذي ليس بمتأول وهو المعاند بلسانه بعد معرفة الحق بقلبه فذلك مما يندر، وتورع المتأول عن الكذب كتورع النصراني فلا ينظر إليه بل هذا المنصب لا يتسفاد إلا بالاسلام وعرف ذلك بالإجماع لا بالقياس‏.‏ الشرط الخامس‏:‏ العدالة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏ 6‏)‏ وهذا زجر عن اعتماد قول الفاسق، ودليل على شرط العدالة في الرواية والشهادة، والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه، فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازغا عن الكذب، ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي، ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر، بل من الصغائر ما يرد به، كسرقة بصلة، وتطفيف في حبة قصدا، وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرئ على الكذب بالاعراض الدنيوية، كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة، نحو الاكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الاراذل، وإفراط المزح، والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم، فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به، وما لا فلا، وهذا يختلف بالاضافة إلى المجتهدين، وتفصيل ذلك من الفقه، لا من الاصول، ورب شخص يعتاد الغيبة، ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه، ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه، ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض، ويتفرع عن هذا الشرط مسألتان‏.‏

مسألة ‏(‏تعريف العدالة‏)‏

قال بعض أهل العراق العدالة عبارة عن إظهار الاسلام فقط مع سلامته عن فسق ظاهر، فكل مسلم مجهول عنده عدل، وعندنا لا تعرف عدالته إلا بخبرة باطنة والبحث عن سيرته، وسريرته، ويدل على بطلان ما قالوه أمور‏:‏ الأول‏:‏ أن الفاسق مردود الشهادة والرواية بنص القرآن، ولعلمنا بأن دليل قبول خبر الواحد قبول الصحابة إياه وإجماعهم، ولم ينقل ذلك عنهم إلا في العدل والفاسق، لو قبلت روايته لقبل بدليل الإجماع أو بالقياس على العدل المجمع عليه ولا إجماع في الفاسق، ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله، فصار الفسق مانعا من الرواية، كالصبا والكفر، وكالرق في الشهادة، ومجهول الحال في هذه الخصال لا يقبل قوله، فكذلك مجهول الحال في الفسق، لانه إن كان فاسقا فهو مردود الرواية، وإن كان عدلا فغير مقبول أيضا للجهل به، كما لو شككنا في صباه ورقه وكفره ولا فرق‏.‏ الثاني‏:‏ أنه لا تقبل شهادة المجهول وكذلك روايته، وإن منعوا شهادة المال فقد سلموا شهادة العقوبات، ثم المجهول مردود في العقوبات وطريق الثقة في الرواية والشهادة واحد وإن اختلفا في بقية الشروط‏.‏ الثالث‏:‏ أن المفتي المجهول الذي لا يدري أنه بلغ رتبة الاجتهاد أم لا يجوز للعامي قبول قوله، وكذلك إذا لم يدر أنه عالم أم لا، بل سلموا أنه لو لم تعرف عدالته وفسقه فلا يقبل، وأي فرق بين حكاية المفتي عن نفسه اجتهاده وبين حكايته خبرا عن غيره‏.‏ الرابع‏:‏ أن شهادة الفرع لا تسمع ما لم يعين الفرع شاهد الأصل، وهو مجهول عند القاضي، فلم يجب تعيينه وتعريفه إن كان قول المجهول مقبولا، وهذا رد على من قبل شهادة المجهول ولا جواب عنه، فإن قيل‏:‏ يلزمه ذكر شاهد الأصل، فلعل القاضي يعرفه بفسق فيرد شهادته‏؟‏ قلنا‏:‏ إذا كان حد العدالة هو الاسلام من غير ظهور فسق فقد تحقق ذلك، فلم يجب التتبع حتى يظهر الفسق ثم يبطل ما ذكره بالخبر المرسل فإنهم لم يوجبوا ذكر الشيخ، ولعل المروي له يعرف فسقه‏.‏ الخامس‏:‏ أن مستندنا في خبر الواحد عمل الصحابة، وهم قد ردوا خبر المجهول، فرد عمر رضي الله عنه فاطمة بنت قيس وقال‏:‏ كيف نقبل قول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت‏؟‏ ورد علي خبر الاشجعي في المفوضة وكان يحلف الراوي، وإنما يحلف من عرف من ظاهره العدالة دون الفسق، ومن رد قول المجهول منهم كان لا ينكر عليه غيره، فكانوا بين راد وساكت، وبمثله ظهر إجماعهم في قبول العدل، إذ كانوا بين قابل وساكت غير منكر ولا معترض‏.‏ السادس‏:‏ ما ظهر من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه العدالة والعفاف، وصدق التقوى ممن كان ينفذه للاعمال وأداء الرسالة، وإنما طلب الاشد التقوى، لانه كان قد كلفهم أن لا يقبلوا إلا قول العدل، فهذه أدلة قوية في محل الاجتهاد، قريبة من القطع، والمسألة اجتهادية لا قطعية‏.‏ شبه الخصوم وهي أربع‏:‏ الأولى‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الاعرابي وحده على رؤية الهلال، ولم يعرف منه إلا الاسلام، قلنا‏:‏ وكونه أعرابيا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بالوحي، وإما بالخبرة، وإما بتزكية من عرف حاله، فمن يسلم لكم أنه كان مجهولا عنده‏.‏ الثانية‏:‏ أن الصحابة قبلوا قول العبيد والنسوان والاعراب، لانهم لم يعرفوهم بالفسق، وعرفوهم بالاسلام، قلنا‏:‏ إنما قبلوا قول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواج أصحابه، وكانت عدالتهن وعدالة مواليهم مشهورة عندهم، وحيث جهلوا ردوا كرد قول الاشجعي، وقول فاطمة بنت قيس‏.‏ الثالثة‏:‏ قولهم‏:‏ لو أسلم كافر وشهد في الحال أو روى، فإن قلتم‏:‏ لا نقبل شهادته، فهو بعيد، وإن قبلتم فلا مستند للقبول إلا إسلامه وعدم معرفة الفسق منه، فإذا انقضت مدة ولم نعرف منه فسقا لطول مدة إسلامه لم نوجب رده‏؟‏ قلنا‏:‏ لا نسلم قبول روايته، فقد يسلم الكذوب ويبقى على طبعه، فما لم نطلع على خوف في قلبه وازع عن الكذب لا نقبل شهادته، والتقوى في القلب، وأصله الخوف، وإنما تدل عليه أفعاله في مصادره وموارده، فإن سلمنا قبول روايته فذلك لطرق إسلامه وقرب عهده، بالدين وشتان بين من هو في طراوته وبدايته، وبين من قسا قلبه بطول الالف، فإن قيل‏:‏ إذا رجعت العدالة إلى هيئة باطنة في النفس وأصلها الخوف وذلك لا يشاهد، بل يستدل عليه بما ليس بقاطع، بل هو مغلب على الظن، فأصل ذلك الخوف هو الايمان، فذلك يدل على الخوف دلالة ظاهرة فلنكتف به، قلنا‏:‏ لا يدل عليه، فإن المشاهدة والتجربة دلت على أن عدد فساق المؤمنين أكثر من عدد عدولهم، فكيف نشكك نفوسنا فيما عرفناه يقينا، ثم هلا أكتفي بذلك في شهادة العقوبات وشهادة الأصل وحال المفتي في العدالة وسائر ما سلموه‏.‏ الرابعة‏:‏ قولهم‏:‏ يقبل قول المسلم المجهول في كون اللحم لحم ذكي، وكون الماء في الحمام طاهرا وكون الجارية المبيعة رقيقة غير مزوجة ولا معتدة حتى يحل الوطئ بقوله، وقول المجهول في كونه متطهرا للصلاة عن الحدث والجنابة إذا أم الناس، وكذلك قول من يخبر عن نجاسة الماء وطهارته بناء على ظاهر الاسلام، وكذلك قول من يخبر الاعمى عن القبلة، قلنا‏:‏ أما قول العاقد فمقبول، لا لكونه مجهولا، لكنه مع ظهو ر الفسق، وذلك رخصة لكثرة الفساق، ولمسيس حاجتهم إلى المعاملات، وكذلك جواز الاقتداء بالبر والفاجر، فلا يشترط الستر، أما الخبر عن القبلة وعن طهارة الماء فلم يحصل سكون النفس بقول المخبر فلا يجب قبوله، والمجهول لا تسكن النفس إليه، بل سكون النفس إلى قول فاسق جرب باجتناب الكذب أغلب منه إلى قول المجهول، وما يخص العبد بينه وبين الله تعالى، فلا يبعد أن يرد إلى سكون نفسه، فأما الرواية والشهادة فأمرهما أرفع، وخطرهما عام، فلا يقاسان على غيرهما وهذه صور ظنية اجتهادية، أما رد خبر الفاسق والمجهول فقريب من القطع‏.‏

مسألة ‏(‏هل تقبل شهادة الفاسق المتأول‏؟‏‏)‏

الفاسق المتأول، وهو الذي لا يعرف فسق نفسه، اختلفوا في شهادته، وقد قال الشافعي‏:‏ أقبل شهادة الحنفي وأحده، إذا شرب النبيذ، لان هذا فسق غير مقطوع به إنما المقطوع به فسق الخوارج الذين استباحوا الديار وقتلوا الذراري وهم لا يدرون أنهم فسقة، وقد قال الشافعي‏:‏ تقبل شهادة أهل الاهواء، لا الخطابية من الرافضة، لانهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب، واختار القاضي أنه لا تقبل رواية المبتدع وشهادته لانه فاسق بفعله وبجهله بتحريم فعله، ففسقه مضاعف، وزعم أن جهله بفسق نفسه كجهله بكفر نفسه ورق نفسه، ومثار هذا الخلاف أن الفسق يرد الشهادة لانه نقصان منصب يسلب الاهلية كالكفر والرق أو هو مردود القول للتهمة، فإن كان للتهمة فالمبتدع متورع عن الكذب فلا يتهم، وكلام الشافعي مشير إلى هذا، وهو في محل الاجتهاد، فذهب أبي حنيفة أن الكفر والفسق لا يسلبان الاهلية، بل يوجبان التهمة، ولذلك قبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ومذهب القاضي أن كليهما نقصان منصب يسلب الاهلية، ومذهب الشافعي أن الكفر نقصان، والفسق موجب للرد للتهمة، وهذا هو الاغلب على الظن عندنا‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذا مشكل على الشافعي من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه قضى بأن النكاح لا ينعقد بشهادة الفاسق وذلك لسلب الاهلية، الثاني‏:‏ أنه إن كان للتهمة، فإذا غلب على ظن القاضي صدقه فليقبل‏.‏ قلنا‏:‏ أما الأول فأخذه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل وللشارع أن يشترط زيادة على أهلية الشهادة، كما شرط في الولي، وكما شرط في الزنا زيادة عدد‏.‏ وأما الثاني‏:‏ فسببه أن الظنون تختلف، وهو أمر خفي ناطه الشرع بسبب ظاهر وهو عدد مخصوص ووصف مخصوص، وهو العدالة، فيجب اتباع السبب الظاهر دون المعنى الخفي، كما في العقوبات، وكما في رد شهادة الوالد لاحد ولديه على الآخر، فإنه قد يتهم وترد شهادته لان الابوة مظنة للتهمة، فلا ينظر إلى الحال، وإنما مظنة التهمة ارتكاب الفسق مع المعرفة دون من لا يعرف ذلك، ويدل أيضا على مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الاخبار والشهادة وكانوا فسقة متأولين، وعلى قبول ذلك درج التابعون، لانهم متورعون عن الكذب جاهلون بالفسق، فإن قيل‏:‏ فهل يمكن دعوى الإجماع في ذلك‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، فإنا نعلم أن عليا والائمة قبلوا قول قتلة عثمان والخوارج، لكن لا نعلم ذلك من جميع الصحابة، فلعل فيهم من أضمر إنكارا، لكن لم يرد على الامام في محل الاجتهاد، فكيف ولو قبل جميعهم خبرهم، فلا يثبت أن جميعهم اعتقدوا فسقهم، وكيف يفرض والخوارج من جملة أهل الإجماع، وما اعتقدوا فسق أنفسهم، بل فسق خصومهم، وفسق عثمان وطلحة، ووافقهم عليه عمار بن ياسر، وعدي بن حاتم، وابن الكواء، والاشتر النخعي وجماعة من الامراء، وعلي في تقية من الانكار عليهم خوف الفتنة، فإن قيل لو لم يعتقدوا فسق الخوارج لفسقوا قلنا ليس كذلك، فليس الجهل بما يفسق ويكفر فسقا وكفرا، وعلى الجملة فقبولهم روايتهم يدل على أنهم اعتقدوا رد خبر الفاسق‏:‏ للتهمة، ولم يتهموا المتأول، والله أعلم‏.‏

خاتمة جامعة للرواية والشهادة

اعلم أن التكليف والاسلام ولعدالة والضبط يشترك فيه الرواية والشهادة، فهذه أربعة، أما الحرية والذكورة والبصر والقرابة والعدد والعداوة، فهذه الستة تؤثر في الشهادة دون الرواية، لان الرواية حكمها عام لا يختص بشخص حتى تؤثر فيه الصداقة والقرابة والعداوة، فيروي أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، ويروي كل ولد عن والده، والضرير الضابط للصوت تقبل روايته، وإن لم تقبل شهادته، إذ كانت الصحابة يروون عن عائشة اعتمادا على صوتها، وهم كالضرير في حقها، ولا يشترط كون الراوي عالما فقيها، سواء خالف ما رواه القياس أو وافق، إذ رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فلا يشترط إلا الحفظ، ولا يشترط مجالسة العلماء وسماع الاحاديث، بل قبل الصحابة قول أعرابي لم يرو إلا حديثا واحدا، نعم‏:‏ إذا عارضه حديث العالم الممارس ففي الترجيح نظر سيأتي، ولا تقبل رواية من عرف باللعب والهزل في أمر الحديث أو التساهل في أمر الحديث، أو بكثرة السهو فيه، إذ تبطل الثقة بجميع ذلك، أما الهزل والتساهل في حديث نفسه فقد لا يوجب الرد، ولا يشترط كون الراوي معروف النسب، بل إذا عرف عدالة شخص بالخبرة قبل حديثه، وإن لم يكن له نسب، فضلا عن أن يكون لا يعرف نسبه، ولو روى عن مجهول العين لم نقبله، بل من يقبل رواية المجهول صفته لا يقبل رواية المجهول عينه، إذ لو عرف عينه ربما عرفه بالفسق، بخلاف من عرف عينه ولم يعرفه بالفسق، فلو روى عن شخص ذكر اسمه واسمه مردد بين مجرح وعدل فلا يقبل لاجل التردد

الباب الثالث في الجرح والتعديل

وفيه أربعة فصول

الأول‏:‏ في عدد المزكى

وقد اختلفوا فيه، فشرط بعض المحدثين العدد في المزكى والجارح، كما في مزكى الشاهد، وقال القاضي‏:‏ لا يشترط العدد في تزكية الشاهد، ولا في تزكية الراوي، وإن كان الاحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكى، وقال قوم‏:‏ يشترط في الشهادة دون الرواية، وهذه مسألة فقهية، والاظهر عندنا أنه يشترط في الشهادة دون الرواية، وهذا لان العدد الذي تثبت به الرواية لا يزيد على نفس الرواية، فإن قيل‏:‏ صح من الصحابة قبول رواية الواحد، ولم يصح قبول تزكية الواحد فيرجع فيه إلى قياس الشرع‏؟‏ قلنا‏:‏ نحن نعلم مما فعلوه كثيرا مما لم يفعلوه، إذ نعلم أنهم كما قبلوا حديث الصديق رضي الله عنه، كانوا يقبلون تعديله لمن روى الحديث، وكيف يزيد شرط الشئ على أصله، والاحصان يثبت بقول اثنين، وإن لم يثبت الزنا إلا بأربعة، ولم يقس عليه، وكذلك نقول‏:‏ تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية، كما تقبل روايتهما، وهذه مسائل فقهية ثبتت بالمقاييس الشبيهة فلا معنى للاطناب فيها في الاصول‏.‏

الفصل الثاني في ذكر سبب الجرح والتعديل

قال االشافعي‏:‏ يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل إذ قد يجرح بما لا يراه جارحا لاختلاف المذاهب فيه، وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد، وقال قوم‏:‏ مطلق الجرح يبطل الثقة، ومطلق التعديل لا يحصل الثقة، لتسارع الناس إلى البناء على الظاهر، فلا بد من ذكر سببه، وقال قوم‏:‏ لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين وقال القاضي‏:‏ لا يجب ذكر المسبب فيهما جميعا لانه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن فلا يصلح للتزكية، وإن كان بصيرا فأي معنى للسؤال، والصحيح عندنا أن هذا يختلف باختلاف حال المزكي، فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه، ومن عرفت عدالته في نفسه ولم تعرف بصيرته بشروط العدالة فقد نراجعه إذا فقدنا عالما بصيرا به، وعند ذلك نستفصله، أما إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح، فإن الجارح أطلع على زيادة ما أطلع عليها المعدل ولا نفاها، فإن نفاها بطلت عدالة المزكي، إذ النفي لا يعلم إلا إذا جرحه بقتل إنسان، فقال المعدل‏:‏ رأيته حيا بعده، تعارضا وعدد المعدل إذا زاد، قيل‏:‏ إنه يقدم على الجارح، وهو ضعيف، لان سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على مزيد، ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد‏.‏

الفصل الثالث في نفس التزكية

وذلك إما بالقول أو بالرواية عنه، أو بالعمل بخبره أو بالحكم بشهادته، فهذه أربعة‏:‏ أعلاها‏:‏ صريح القول، وتمامه أن يقول، هو عدل رضا، لاني عرفت منه كيت وكيت، فإن لم يذكر السبب وكان بصيرا بشروط العدالة كفى‏.‏ الثانية‏:‏ أن يروي عنه خبرا، وقد اختلفوا في كونه تعديلا، والصحيح أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا من عدل كانت الرواية تعديلا، وإلا فلا، إذ من عادة أكثرهم الرواية من كل من سمعوه، ولو كلفوا الثناء عليهم سكتوا، فليس في روايته ما يصرح بالتعديل، فإن قيل‏:‏ لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين‏؟‏ قلنا‏:‏ لم نوجب على غيره العمل، لكن قال‏:‏ سمعت فلانا، قال كذا وصدق فيه، ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا العدالة، فروى ووكل البحث إلى من أراد القبول‏.‏ الثالثة‏:‏ العمل بالخبر إن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر، فليس بتعديل، وإن عرفنا يقينا أنه عمل بالخبر، فهو تعديل، إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق وبطلت عدالته، فإن قيل‏:‏ لعله ظن أن مجرد الاسلام مع عدم الفسق عدالة قلنا‏:‏ هذا يتطرق إلى التعديل بالقول ونحن نقول‏:‏ العمل كالقول، وهذا الاحتمال ينقطع بذكر سبب العدالة، وما ذكرناه تفريع على الاكتفاء بالتعديل المطلق، إذ لو شرط ذكر السبب لشرط في شهادة البيع والنكاح عد جميع شرائط الصحة، وهو بعيد، فإن قيل‏:‏ لعله عرفه عدلا ويعرفه غيره بالفسق‏؟‏ قلنا‏:‏ من عرفه لا جرم لا يلزمه العمل به، كما لو عدل جريحا‏.‏ الرابعة‏:‏ أن يحكم بشهادته، فذلك أقوى من تزكيته بالقول، أما ترك الحكم بشهادته وبخبره فليس جرحا، إذ قد يتوقف في شهادة العدل وروايته لاسباب سوى الجرح، كيف وترك العمل لا يزيد على الجرح المطلق، وهو غير مقبول عند الاكثرين، وبالجملة‏:‏ إن لم ينقدح وجه لتزكية العمل من تقديم أو دليل آخر فهو كالجرح المطلق‏.‏

الفصل الرابع في عدالة الصحابة رضي الله عنهم

والذي عليه سلف الامة وجماهير الخلف أن عدالتهم معلومة بتعديل الله عزوجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه، فهو معتقدنا فيهم، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به، وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بصير‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 011‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 341‏)‏ وهو خطاب مع الموجودين في ذلك العصر، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة‏}‏ ‏(‏الفتح‏:‏ 81‏)‏ وقال عزوجل‏:‏ ‏{‏والسابقون الأولون‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 100‏)‏ وقد ذكر الله تعالى‏:‏ المهاجرين والانصار في عدة مواضع، وأحسن الثناء، عليهم، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو أنفق أحدكم مل ء الارض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله اختار لي أصحابا وأصهارا وأنصارا فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب سبحانه وتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والاموال وقتل الآباء والاهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، كفاية في القطع بعدالتهم، وقد زعم قوم أن حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث، وقال قوم حالهم العدالة في بداية الامر إلى ظهور الحرب والخصومات ثم تغير الحال وسفكت الدماء، فلا بد من البحث، وقال جماهير المعتزلة‏:‏ عائشة وطلحة والزبير وجميع أهل العراق والشام فساق بقتال الامام الحق، وقال قوم من سلف القدرية‏:‏ يجب رد شهادة علي وطلحة والزبير مجتمعين ومفترقين، لان فيهم فاسقا لا نعرفه بعينه، وقال قوم‏:‏ نقبل شهادة كل واحد إذا انفرد، لانه لم يتعين فسقه، أما إذا كان مع مخالفه فشهدا ردا إذ نعلم أن أحدهما فاسق، وشك بعضهم في فسق عثمان وقتلته، وكل هذا جراءة على السلف على خلاف السنة، بل قال قوم‏:‏ ما جرى بينهم ابتنى على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد والمخطئ معذور لا ترد شهادته، وقال قوم‏:‏ ليس ذلك مجتهدا فيه، ولكن قتلة عثمان والخوارج مخطئون قطعا، لكنهم جهلوا خطأهم وكانوا متأولين، والفاسق المتأول لا ترد روايته، وهذا أقرب من المصير إلى سقوط تعديل القرآن مطلقا، فإن قيل‏:‏ القرآن أثنى على الصحابة، فمن الصحابة من عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من لقيه مرة أو من صحبه ساعة أو من طالت صحبته وما حد طولها قلنا‏:‏ الاسم لا يطلق إلا على من صحبه، ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة، ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته ويعرف ذلك بالتواتر والنقل الصحيح وبقول الصحابي‏:‏ كثرت صحبتي، ولا حد لتلك الكثرة بتقدير بل بتقريب‏.‏

الباب الرابع في مستند الراوي وكيفية ضبطه ومستنده

إما قراءة الشيخ عليه أو قراءته على الشيخ أو إجازته أو مناولته أو رؤيته بخطه في كتاب، فهي خمس مراتب‏:‏ الأولى‏.‏ وهي الاعلى قراءة الشيخ في معرض الاخبار ليروى عنه، وذلك يسلط الراوي على أن يقول‏:‏ حدثنا وأخبرنا وقال فلان وسمعته يقول‏.‏ الثانية‏:‏ أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت، فهو كقوله‏:‏ هذا صحيح، فتجوز الرواية به، خلاف لبعض أهل الظاهر، إذ لو لم يكن صحيحا لكان سكوته وتقريره عليه فسقا قادحا في عدالته، ولو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكذب إذا نطق بكونه صحيحا، نعم لو كان ثم مخيلة قلة اكتراث أو غفلة فلا يكفي السكوت، وهذا يسلط الراوي على أن يقول‏:‏ أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه، أما قوله‏:‏ حدثنا مطلقا، أو سمعت فلانا، اختلفوا فيه، والصحيح أنه لا يجوز، لانه يشعر بالنطق، لان الخبر والحديث والمسموع كل ذلك نطق، وذلك منه كذب، إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة حاله أنه يريد به القراءة على الشيخ دون سماع حديثه‏.‏ الثالثة‏:‏ الاجازة، وهو أن يقول‏:‏ أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني، أو ما صح عندك من مسموعاتي، وعند ذلك يجب الاحتياط في تعيين المسموع أما إذا اقتصر على قوله‏:‏ هذا مسموعي من فلان، فلا تجوز الرواية عنه، لانه لم يأذن في الرواية فلعله لا يجوز الرواية لخلل يعرفه فيه وإن سمعه، وكذلك لو قال‏:‏ عندي شهادة لا يشهد ما لم يقل أذنت لك في أن تشهد على شهادتي، أو لم تقم تلك الشهادة في مجلس الحكم، لان الرواية شهادة، والانسان قد يتساهل في الكلام، لكن عند جزم الشهادة قد يتوقف، ثم الاجازة تسلط الراوي على أن يقول‏:‏ حدثنا وأخبرنا إجازة، أما قوله‏:‏ حدثنا مطلقا، جوزه قوم، وهو فاسد، لانه يشعر بسماع كلامه، وهو كذب كما ذكرناه في القراءة على الشيخ‏.‏ الرابعة‏:‏ المناولة، وصورته أن يقول‏:‏ خذ هذا الكتاب وحدث به عني، فقد سمعته من فلان ومجرد المناولة دون هذا اللفظ لا معنى له، وإذا وجد هذا اللفظ فلا معنى للمناولة فهو زيادة تكلف أحدثه بعض المحدثين بلا فائدة، كما يجوز رواية الحديث بالاجازة، فيجب العمل به، خلافا لبعض أهل الظاهر، لان المقصود معرفة صحة الخبر لا عين الطريق المعرف، وقوله‏:‏ هذا الكتاب مسموعي فاروه عني في التعريف، كقراءته والقراءة عليه، وقولهم‏:‏ إنه قادر على أن يحدثه به فهو كذلك، لكن أي حاجة إليه، ويلزم أن لا تصح القراءة عليه، لانه قادر على القراءة بنفسه، ويجب أن لا يروى في حياة الشيخ، لانه قادر على الرجوع إلى الأصل كما في الشهادة، فدل أن هذا لا يعتبر في الرواية‏.‏ الخامسة‏:‏ الاعتماد على الخط بأن يرى مكتوبا بخطه إني سمعت على فلان كذا، فلا يجوز أن يروي عنه، لان روايته شهادة عليه بأنه قاله والخط لا يعرفه هذا، نعم‏:‏ يجوز أن يقول‏:‏ رأيت مكتوبا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان، فإن الخط أيضا قد يشبه الخط، أما إذا قال‏:‏ هذا خطي قبل قوله، ولكن لا يروي عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله أو أما بقرينة حاله في الجلوس لرواية الحديث، أما إذا قال عدل‏:‏ هذه نسخة صحيحة من صحيح البخاري مثلا فرأى فيه حديثا فليس له أن يروي عنه، لكن هل يلزمه العمل إن كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد، وإن كان مجتهدا فقال قوم‏:‏ لا يجوز له العلم به ما لم يسمعه، وقال قوم‏:‏ إذا علم صحة النسخة بقول عدل جاز العمل، لان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد، وكان الخلق يعتمدون تلك الصحف بشهادة حامل الصحف بصحته دون أن يسمعه كل واحد منه، فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن، وعلى الجملة‏:‏ فلا ينبغي أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولا وحفظه وضبطه إلى وقت الاداء، بحيث يعلم أن ما أداه هو الذي سمعه، ولم يتغير منه حرف، فإن شك في شئ منه فليترك الرواية‏.‏ ويتفرع عن هذا الأصل مسائل‏:‏

مسألة ‏(‏الشك في الرواية‏)‏

إذا كان في مسموعاته عن الزهري مثلا حديث واحد شك أنه سمعه من الزهري أم لا لم يجز له أن يقول‏:‏ سمعت الزهري، ولا أن يقول‏:‏ قال الزهري، لان قوله قال الزهري شهادة على الزهري، فلا يجوز إلا عن علم، فلعله سمعه من غيره، فهو كمن سمع إقرارا ولم يعلم أن المقر زيد وعمرو، فلا يجوز أن يشهد على زيد، بل نقول‏:‏ لو سمع مائة حديث من شيخ وفيها حديث واحد علم أنه لم يسمعه، ولكنه التبس عليه عينه فليس له روايته، بل ليس له رواية شئ من الاحاديث عنه، إذ ما من حديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي لم يسمعه، ولو غلب على ظنه في حديث أنه مسموع من الزهري لم تجز الرواية بغلبة الظن، وقال قوم‏:‏ يجوز، لان الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن، وهو بعيد لان الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن، ولكن في حق الحاكم، فإنه لا يعلم صدق الشاهد، أما الشاهد فينبغي أن يتحقق، لان تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم فيما تمكن فيه المشاهدة ممكن، وتكليف الحاكم أن لا يحكم إلا بصدق الشاهد محال، وكذلك الراوي لا سبيل له إلى معرفة صدق الشيخ، ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع، فإذا لم يتحقق فينبغي أن لا يروي، فإن قيل‏:‏ فالواحد في عصرنا يجوز أن يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتحقق ذلك، قلنا‏:‏ لا طريق له إلى تحقق ذلك، ولا يفهم من قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمعه، لكن يفهم منه أنه سمع هذا الحديث من غيره، أو رواه في كتاب يعتمد عليه، وكل من سمع ذلك لا يلزمه العمل به، لانه مرسل لا يدري من أين يقوله وإنما يلزم العمل إذا ذكر مستنده حتى ينظر في حاله وعدالته والله أعلم‏.‏

مسألة ‏(‏تكذيب الشيخ الراوي‏)‏

إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع بكذب الراوي ولم يعمل به لم يصر الراوي مجروحا، لان الجرح ربما لا يثبت بقول واحد، ولانه مكذب شيخه، كما أن شيخه مكذب له، وهما عدلان فهما كبينتين متكاذبتين، فلا يوجب الجرح، أما إذا أنكر إنكار متوقف وقال‏:‏ لست أذكره، فيعمل بالخبر، لان الراوي جازم أنه سمعه منه، وهو ليس بقاطع بتكذيبه وهما عدلان، فصدقهما إذا ممكن، وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث، وبنى عليه اطراح خبر الزهري أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها واستدل بأنه الأصل، ولانه ليس للشيخ أن يعمل بالحديث والراوي فرعه، فكيف يعمل به‏؟‏ قلنا‏:‏ للشيخ أن يعمل به إذا روى العدل له عنه، فإن بقي شك له مع رواية العدل فليس له العمل به، وعلى الراوي العمل إذا قطع بأنه سمع وعلى غيرهما العمل جمعا بين تصديقهما، والحاكم يجب عليه العمل بقول الشاهد المزور الظاهر العدالة، ويحرم على الشاهد، ويجب على العامي العمل بفتوى المجتهد، وإن تغير اجتهاده إذا لم يعلم تغير اجتهاده، والمجتهد لا يعمل به بعد التغير، لانه علمه، فعمل كل واحد على حسب حاله، وقد ذهب إلى العمل به مالك والشافعي وجماهير المتكلمين، وهذا لان النسيان غالب على الانسان، وأي محدث يحفظ في حينه جميع ما رواه في عمره، فصار كشك الشيخ في زيادة في الحديث أو في إعراب في الحديث، فإن ذلك لما لم يبطل الحديث لكثر وقوع الشك فيه، فكذلك أصل الحديث‏.‏

مسألة ‏(‏هل تقبل زيادة الثقة بالحديث‏؟‏‏)‏

انفراد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة مقبول عند الجماهير سواء كانت الزيادة من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى، لانه لو انفرد بنقل حديث عن جميع الحفاظ لقبل، فكذلك إذا انفرد بزيادة، لان العدل لا يتهم بما أمكن، فإن قيل‏:‏ يبعد انفراده بالحفظ مع إصغاء الجميع، قلنا‏:‏ تصديق الجميع أولى إذا كان ممكنا، وهو قاطع بالسماع والآخرون ما قطعوا بالنفي، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذكره في مجلسين، فحيث ذكر الزيادة لم يحضر إلا الواحد، أو كرر في مجلس واحد، وذكر الزيادة في إحدى الكرتين ولم يحضر إلا الواحد، ويحتمل أن يكون راوي النقص دخل في أثناء المجلس فلم يسمع التمام، أو اشتركوا في الحضور ونسوا الزيادة، إلا واحدا، أو طرأ في أثناء الحديث سبب شاغل مدهش، فغفل به البعض عن الاصغاء، فيختص بحفظ الزيادة المقبل على الاصغاء، أو عرض لبعض السامعين خاطر شاغل عن الزيادة، أو عرض له مزعج يوجب قيامه قبل التمام فإذا احتمل ذلك فلا يكذب العدل ما أمكن‏.‏

مسألة ‏(‏هل تقبل رواية بعض الخبر‏؟‏‏)‏

رواية بعض الخبر ممتنعة عند أكثر من منع نقل الحديث بالمعنى، ومن جوز النقل على المعنى جوز ذلك إن كان قد رواه مرة بتمامه، ولم يتعلق المذكور بالمتروك تعلقا يغير معناه، وأما إذا تعلق، كشرط العبادة أو ركنها أو ما به التمام، فنقل البعض تحريف وتلبيس، أما إذا روى الحديث مرة تاما ومرة ناقصا نقصانا لا يغير فهو جائز، ولكن بشرط أن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة، فإذا علم أنه يتهم باضطراب النقل وجب عليه الاحتراز عن ذلك‏.‏

مسألة ‏(‏هل يصح رواية الحديث بالمعنى‏؟‏‏)‏

نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الالفاظ، أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والاظهر والعام والاعم فقد جوز له الشافعي ومالك وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء أن ينقله على المعنى إذا فهمه، وقال فريق‏:‏ لا يجوز له إلا إبدال بما يرادفه ويساويه في المعنى، كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة والابصار بالاحساس بالبصر والحظر بالتحريم وسائر ما لا يشك فيه، وعلى الجملة ما لا يتطرق إليه تفاوت بالاستنباط والفهم، وإنما ذلك فيما فهمه قطعا لا فيما فهمه بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون، ويدل على جواز ذلك للعالم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها فلان يجوز عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى، وكذلك كان سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد يبلغونهم أوامره بلغتهم، وكذلك من سمع شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فله أن يشهد على شهادته بلغة أخرى، وهذا لانا نعلم أنه لا تعبد في اللفظ، وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق، وليس ذلك، كالتشهد والتكبير وما تعبد فيه باللفظ، فإن قيل‏:‏ فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه‏.‏ قلنا‏:‏ هذا هو الحجة، لانه ذكر العلة وهو اختلاف الناس في الفقه، فما لا يختلف الناس فيه من الالفاظ المترادفة، فلا يمنع منه، وهذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، وإن أمكن أن تكون جميع الالفاظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، لكن الاغلب أنه حديث واحد، ونقل بألفاظ مختلفة، فإنه روى‏:‏ رحم الله امرءا ونضر الله امرءا وروي‏:‏ ورب حامل فقه لا فقه له وروى‏:‏ حامل فقه غير فقيه وكذلك الخطب المتحدة والوقائع المتحدة رواها الصحابة رضي الله عنهم بألفاظ مختلفة فدل ذلك على الجواز‏.‏

مسألة ‏(‏هل يقبل الحديث المرسل أم لا‏؟‏‏)‏

المرسل مقبول عند مالك وأبي حنيفة والجماهير، ومردود عند الشافعي والقاضي، وهو المختار، وصورته أن يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره، أو قال‏:‏ من لم يعاصر أبا هريرة، قال أبو هريرة‏:‏ والدليل أنه لو ذكر شيخه ولم يعدله وبقي مجهولا عندنا لم نقبله، فإذا لم يسمه فالجهل أتم فمن لا يعرف عينه كيف تعرف عدالته، فإن قيل‏:‏ رواية العدل عنه تعديل، فالجواب من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أنا لا نسلم، فإن العدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه أو جرحه، وقد رأيناهم رووا عمن إذا سئلوا عنه عدلوه مرة وجرحوه أخرى، أو قالوا، لا ندري، فالراوي عنه ساكت عن تعديله، ولو كان السكوت عن الجرح تعديلا لكان السكوت عن التعديل جرحا، ولوجب أن يكون الراوي إذا جرح من روى عنه مكذبا نفسه ولان شهادة الفرع ليس تعديلا للاصل ما لم يصرح، وافتراق الرواية والشهادة في بعض التعبدات لا يوجب فرقا في هذا المعنى كما لم يوجب فرقا في منع قبول رواية المجروح والمجهول، وإذا لم يجز أن يقال‏:‏ لا يشهد العدل إلا على شهادة عدل، لم يجز ذلك في الرواية، ووجب فيها معرفة عين الشيخ والأصل حتى ينظر في حالهما، فإن قيل‏:‏ العنعنة كافية في الرواية مع أن قوله‏:‏ روى فلان عن فلان عن فلان يحتمل ما لم يسمعه فلان عن فلان، بل بلغه بواسطة، ومع الاحتمال يقبل، ومثل ذلك في الشهادة لا يقبل، قلنا‏:‏ هذا إذا لم يوجب فرقا في رواية المجهول، والمرسل مروي عن مجهول، فينبغي أن لا يقبل، ثم العنعنة جرت العادة بها في الكتبة، فإنهم استثقلوا أن يكتبوا عند كل اسم روي عن فلان سماعا منه، وشحوا على القرطاس، والوقت أن يضيعوه فأوجزوا، وإنما يقبل في الرواية ذلك إذا علم بصريح لفظه أو عامته أنه يريد به السماع، فإن لم يرد السماع فهو متردد بين المسند والمرسل، فلا يقبل‏.‏ الجواب الثاني‏:‏ أنا إن سلمنا جدلا أن الرواية تعديل، فتعديله المطلق لا يقبل ما لم يذكر السبب، فلو صرح بأنه سمعه من عدل ثقة لم يلزم قبوله، وإن سلم قبول التعديل المطلق فذلك في حق شخص نعرف عينه، ولا يعرف بفسق، أما من لم نعرف عينه، فلعله لو ذكره لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل، وإنما يكتفي في كل مكلف بتعريف غيره عند العجز عن معرفة نفسه، ولا يعلم عجزه ما لم يعرفه بعينه، وبمثل هذه العلة لم يقبل تعديل شاهد الفرع مطلقا، ما لم يعرف الأصل ولم يعينه، فلعل الحاكم يعرفه بفسق وعداوة، وغيره احتجوا باتفاق الصحابة والتابعين على قبول مرسل العدل، فابن عباس مع كثرة روايته قيل أنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث لصغر سنه، وصرح بذلك في حديث الربا في النسيئة وقال‏:‏ حدثني به أسامة بن زيد وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، فلما روجع قال‏:‏ حدثني به أخي الفضل بن عباس، وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ من صلى على جنازة فله قيراط ثم أسنده إلى أبي هريرة، وروى أبو هريرة أن‏:‏ من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له وقال‏:‏ ما أنا قلتها ورب الكعبة، ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم قالها، فلما روجع قال‏:‏ حدثني به الفضل بن عباس، وقال البراء بن عازب ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن سمعنا بعضه، وحدثنا أصحابه ببعضه، أما التابعون فقد قال النخعي‏:‏ إذا قلت حدثني فلان عن عبد الله فهو حدثني، وإذا قلت‏:‏ قال عبد الله فقد سمعته من غير واحد، وكذلك نقل عن جماعة من التابعين قبول المرسل، والجواب من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أن هذا صحيح، ويدل على قبول بعضهم المراسيل، والمسألة في محل الاجتهاد، ولا يثبت فيها إجماع أصلا، وفيه ما يدل على أن الجملة لم يقبلوا المراسيل ولذلك باحثواابن عباس وابن عمر وأبا هريرة مع جلالة قدرهم لا لشك في عدالتهم ولكن للكشف عن الراوي، فإن قيل‏:‏ قبل بعضهم وسكت الآخرون فكان إجماعا، قلنا‏:‏ لا نسلم ثبوت الإجماع بسكوتهم، لا سيما في محل الاجتهاد، بل لعله سكت مضمرا للانكار، أو مترددا فيه‏.‏ والجواب الثاني‏:‏ أن من المنكرين للمرسل من قبل مرسل الصحابي لانهم يحدثون عن الصحابة وكلهم عدول، ومنهم من أضاف إليه مراسيل التابعين، لانهم يروون عن الصحابة، ومنهم من خصص كبار التابعين بقبول مرسله، والمختار على قياس رد المرسل أن التابعي والصحابي إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قبل مرسله، وإن لم يعرف ذلك فلا يقبل لانهم قد يروون عن غير الصحابي من الاعراب الذين لا صحبة لهم، وإنما ثبتت لنا عدالة أهل الصحبة، قال الزهري بعد الارسال، حدثني به رجل على باب عبد الملك، وقال عروة بن الزبير فيما أرسله عن بسرة حدثني به بعض الحرس‏.‏

مسألة ‏(‏هل يقبل خبر الواحد‏؟‏‏)‏

خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول خلافا للكرخي، وبعض أصحاب الرأي، لان كل ما نقله العدل، وصدقه فيه ممكن وجب تصديقه، فمس الذكر مثلا نقله العدل وصدقه فيه ممكن، فإنا لا نقطع بكذب ناقله، بخلاف ما لو انفرد واحد بنقل ما تحيل العادة فيه أن لا يستفيض، كقتل أمير في السوق، وعزل وزير وهجوم واقعة في الجامع منعت الناس من الجمعة، أو كخسف أو زلزلة أو انقضاض كوكب عظيم وغيره من العجائب، فإن الدواعي تتوفر على إشاعة جميع ذلك، ويستحيل انكتامه، وكذلك القرآن لا يقبل فيه خبر الواحد لعلمنا بأنه صلى الله تعبد بإشاعته، واعتنى بإلقائه إلى كافة الخلق، فإن الدواعي تتوفر على إشاعته ونقله لانه أصل الدين والمنفرد برواية سورة أو آية كاذب قطعا، فأما ما تعم به البلوى، فلا نقطع بكذب خبر الواحد فيه، فإن قيل‏:‏ بم تنكرون على من يقطع بكذبه، لان خروج الخارج من السبيلين لما كان الانسان لا ينفك عنه في اليوم والليلة مرارا، وكانت الطهارة تنتقض به، فلا يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يشيع حكمه ويناجي به الآحاد، إذ يؤدي إلى إخفاء الشرع وإلى أن تبطل صلاة العباد وهم لا يشعرون فتجب الاشاعة في مثله، ثم تتوفر الدواعي على نقله، وكذلك مس الذكر مما يكثر وقوعه فكيف يخفى حكمه‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا يبطل أولا بالوتر، وحكم الفصد والحجامة والقهقهة ووجوب الغسل من غسل الميت وإفراد الاقامة وتثنيتها، وكل ذلك مما تعم به البلوى، وقد أثبتوها بخبر الواحد، فإن زعموا أن ليس عموم البلوى فيها كعمومها في الاحداث، فنقول‏:‏ فليس عموم البلوى في اللمس والمس كعمومها في خروج الاحداث فقد يمضي على الانسان مدة لا يلمس ولا يمس الذكر إلا في حالة الحدث كما لا يفتصد ولا يحتجم إلا أحيانا فلا فرق‏.‏ والجواب الثاني‏:‏ وهو التحقيق أن الفصد والحجامة، وإن كان لا يتكرر كل يوم، ولكنه يكثر، فكيف أخفي حكمه حتى يؤدي إلى بطلان صلاة خلق كثير وإن لم يكن هو الاكثر فكيف، وكل ذلك إلى الآحاد، ولا سبب له، إلا أن الله تعالى لم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إشاعة جميع الاحكام، بل كلفه إشاعة البعض، وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض، كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا، وكان يسهل عليه أن يقول‏:‏ لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم أو المكيل بالمكيل حتى يستغنى عن الاستنباط من الاشياء الستة، فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما تقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد، ولا استحالة فيه، وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنا، فيجب تصديقه، وليس علة الاشاعة عموم الحاجة أو ندورها، بل علته التعبد والتكليف من الله، وإلا فما يحتاج إليه كثير، كالفصد والحجامة، كما يحتاج إليه الاكثر في كونه شرعا لا ينبغي أن يخفى، فإن قيل‏:‏ فما الضابط لما تعبد الرسول صلى الله عليه فيه بالاشاعة قلنا إن طلبتم ضابطا لجوازه عقلا فلا ضابط، بل لله تعالى أن يفعل في تكليف رسوله من ذلك ما يشاء، وإن أردتم وقوعه، فإنما يعلم ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا استقرينا السمعيات وجدناها أربعة أقسام‏:‏ الأول‏:‏ القرآن، وقد علمنا أنه عني بالمبالغة في إشاعته‏.‏ الثاني‏:‏ مباني الاسلام الخمس، ككلمتي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج، وقد أشاعه إشاعة اشترك في معرفته العام الخاص‏.‏ الثالث‏:‏ أصول المعاملات التي ليست ضرورية، مثل أصل البيع والنكاح، فإن ذلك أيضا قد تواتر، بل كالطلاق والعتاق والاستيلاد والتدبير والكتابة فإن هذا تواتر عند أهل العلم، وقامت به الحجة القاطعة إما بالتواتر وإما بنقل الآحاد في مشهد الجماعات مع سكوتهم، والحجة تقوم به، لكن العوام لم يشاركوا العلماء في العلم، بل فرض العوام فيه القبول من العلماء‏.‏ الرابع‏:‏ تفاصيل هذه الاصول، فما يفسد الصلاة والعبادات وينقض الطهارة من اللمس والمس والقئ وتكرار مسح الرأس فهذا الجنس منه ما شاع، ومنه ما نقله الآحاد ويجوز أن يكون مما تعم به البلوى، فما نقله الآحاد فلا استحالة فيه ولا مانع، فإن ما أشاعه كان يجوز أن لا يتعبد فيه بالاشاعة، وما وكله إلى الآحاد كان يجوز أن يتعبد فيه بالاشاعة، لكن وقوع هذه الامور يدل على أن التعبد وقع كذلك، فما كان يخالف أمر الله سبحانه وتعالى في شئ من ذلك، هذا تمام الكلام في الاخبار والله أعلم‏.‏