فصل: مسألة (حكم تتابع الصيام في كفارة اليمين)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المستصفى من علم الأصول ***


القطب الأول في الثمرة

وهي الحكم والكلام فيه ينقسم إلى فنون أربعة‏:‏ فن في حقيقة الحكم، وفن في أقسامه، وفن في أركانه، وفن فيما يظهره‏.‏

الفن الأول في حقيقته

ويشتمل على تمهيد وثلاث مسائل‏:‏ أما التمهيد فهو أن الحكم عندنا عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين، فالحرام هو المقول فيه‏:‏ إتركوه ولا تفعلوه، والواجب هو المقول فيه‏:‏ إفعلوه ولا تتركوه، والمباح هو المقول فيه‏:‏ إن شئتم فافعلوه، وإن شئتم فاتركوه، فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فلا حكم،، فلهذا قلنا‏:‏ العقل لا يحسن ولا يقبح، ولا يوجب شكر المنعم، ولا حكم للافعال قبل ورود الشرع، فلنرسم كل مسألة برأسها‏.‏

مسألة ‏(‏الحسن والقبح في الفعل‏)‏

ذهبت المعتزلة إلى أن الافعال تنقسم إلى حسنة وقبيحة، فمنها ما يدرك بضرورة العقل، كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى، وشكر المنعم، ومعرفة حسن الصدق، وكقبح الكفران، وإيلام البرئ والكذب الذي لا غرض فيه، ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر وقبح الكذب الذي فيه نفع، ومنها ما يدرك بالسمع، كحسن الصلاة والحج وسائر العبادات، وزعموا أنها متميزة بصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة، لكن العقل لا يستقل بدركه، فنقول قول القائل‏:‏ هذا حسن وهذا قبيح لا يحس بفهم معناه ما لم يفهم معنى الحسن والقبح، فإن الاصطلاحات في إطلاق لفظ الحسن والقبح مختلفة فلا بد من تلخيصها، والاصطلاحات فيه ثلاثة‏:‏ الأول‏:‏ الاصطلاح المشهور العامي، وهو أن الافعال تنقسم إلى ما يوافق غرض الفاعل وإلى ما يخالفه وإلى ما لا يوافق ولا يخالف، فالموافق يسمى حسنا، والمخالف يسمى قبيحا، والثالث يسمى عبثا، وعلى هذا الاصطلاح إذا كان الفعل موافقا لشخص مخالفا لآخر فهو حسن في حق من وافقه، قبيح في حق من خالفه، حتى أن قتل الملك الكبير يكون حسنا في حق أعدائه، قبيحا في حق أوليائه، وهؤلاء لا يتحاشون عن تقبيح فعل الله تعالى إذا خالف غرضهم، ولذلك يسبون الدهر والفلك ويقولون، خرب الفلك، وتعس الدهر وهم يعلمون أن الفلك مسخر ليس إليه شئ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر فإطلاق اسم الحسن، والقبح على الافعال عند هؤلاء كإطلاقه على الصور، فمن مال طبعه إلى صورة أو صوت شخص قضى بحسنه، ومن نفر طبعه عن شخص استقبحه، ورب شخص ينفر عنه طبع ويميل إليه طبع فيكون حسنا في حق هذا قبيحا في حق ذاك، حتى يستحسن سمرة اللون جماعة، ويستقبحها جماعة، فالحسن والقبح عند هؤلاء عبارة عن الموافقة والمنافرة، وهما أمران إضافيان، لا كالسواد والبياض، إذ لا يتصور أن يكون الشئ أسود في حق زيد، أبيض في حق عمرو‏.‏ الاصطلاح الثاني‏:‏ التعبير بالحسن عما حسنه الشرع بالثناء على فاعله، فيكون فعل الله تعالى حسنا في كل حال خالف الغرض أو وافقه، ويكون المأمور به شرعا ندبا كان أو إيجابا حسنا، والمباح لا يكون حسنا‏.‏ الاصطلاح الثالث‏:‏ التعبير بالحسن عن كل ما لفاعله أن يفعله، فيكون المباح حسنا مع المأمورات، وفعل الله يكون حسنا بكل حال‏.‏ وهذه المعاني الثلاثة كلها أوصاف إضافية وهي معقولة، ولا حجر على من يجعل لفظ الحسن عبارة عن شئ منها، فلا مشاحة في الالفاظ، فعلى هذا إذا لم يرد الشرع لا يتميز فعل عن غيره إلا بالموافقة والمخالفة، ويختلف ذلك بالاضافات ولا يكون صفة للذات، فإن قيل‏:‏ نحن لا ننازعكم في هذه الامور الاضافية ولا في هذه الاصطلاحات التي تواضعتم عليها، ولكن ندعي الحسن والقبح، وصفا ذاتيا للحسن والقبيح، مدركا بضرورة العقل في بعض الاشياء، كالظلم والكذب والكفران والجهل، ولذلك لا نجوز شيئا من ذلك على الله تعالى لقبحه، ونحرمه على كل عاقل قبل ورود الشرع، لانه قبيح لذاته، وكيف ينكر ذلك والعقلاء بأجمعهم متفقون على القضاء به من غير إضافة إلى حال دون حال‏؟‏ قلنا‏:‏ أنتم منازعون فيما ذكرتموه في ثلاثة أمور‏:‏ أحدها‏:‏ في كون القبح وصفا ذاتيا‏.‏ والثاني‏:‏ في قولكم أن ذلك مما يعلمه العقلاء بالضرورة‏.‏ والثالث‏:‏ في ظنكم أن العقلاء لو توافقوا عليه لكان ذلك حجة مقطوعا بها، ودليلا على كونه ضروريا‏.‏ أما الأول‏:‏ وهو دعوى كونه وصفا ذاتيا فهو تحكم بما لا يعقل، فإن القتل عندهم قبيح لذاته، بشرط أن لا تسبقه جناية ولا يعقبه عوض، حتى جاز إيلام البهائم وذبحها، ولم يقبح من الله تعالى ذلك، لانه يثيبها عليه في الآخرة، والقتل في ذاته له حقيقة واحدة لا تختلف، بأن تتقدمه جناية أو تتعقبه لذة، إلا من حيث الاضافة إلى الفوائد والاغراض، وكذلك الكذب كيف يكون قبحه ذاتيا، ولو كان فيه عصمة دم نبي بإخفاء مكانه عن ظالم يقصد قتله لكان حسنا بل واجبا يعصى بتركه‏؟‏ والوصف الذاتي كيف يتبدل بالاضافة إلى الاحوال‏.‏ وأما الثاني‏:‏ وهو كونه مدركا بالضرورة وكيف يتصور ذلك ونحن ننازعكم فيه‏؟‏ والضروري لا ينازع فيه خلق كثير من العقلاء‏؟‏ وقولكم أنكم مضطرون إلى المعرفة وموافقون عليه، ولكنكم تظنون أن مستند معرفتكم السمع، كما ظن الكعبي أن مستند علمه بخبر التواتر النظر، ولا يبعد التباس مدرك العلم، وإنما يبعد الخلاف في نفس المعرفة، ولا خلاف فيها‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا كلام فاسد، لانا نقول يحسن من الله تعالى إيلام البهائم، ولا نعتقد لها جريمة ولا ثوابا، فدل أنا ننازعكم في نفس العلم‏.‏ وأما الثالث‏:‏ فهو أنا لو سلمنا اتفاق العقلاء على هذا أيضا لم تكن فيه حجة، إذ لم يسلم كونهم مضطرين إليه، بل يجوز أن يقع الاتفاق منهم على ما ليس بضروري، فقد اتفق الناس على إثبات الصانع وجواز بعثه الرسل، ولم يخالف إلا الشواذ، فلو اتفق أن ساعدهم الشواذ لم يكن ذلك ضروريا، فكذلك اتفاق الناس على هذا الاعتقاد، يمكن أن يكون بعضه عن دليل السمع الدال على قبح هذه الاشياء، وبعضه عن تقليد مفهوم من الآخذين عن السمع وبعضه عن الشبهة التي وقعت لاهل الضلال، فالتئام الاتفاق من هذه الاسباب لا يدل على كونه ضروريا فلا يدل على كونه حجة لولا منع السمع عن تجويز الخطأ على كافة هذه الامة خاصة إذ لا يبعد اجتماع الكافة على الخطأ عن تقليد وعن شبهة، وكيف وفي الملحدة من لا يعتقد قبح هذه الاشياء ولا حسن نقائضها، فكيف يدعى اتفاق العقلاء‏؟‏ احتجوا بأنا نعلم قطعا أن من استوى عنده الصدق والكذب آثر الصدق ومال إليه إن كان عاقلا، وليس ذلك إلا لحسنه، وإن الملك العظيم المستولي على الاقاليم إذا رأى ضعيفا مشرفا على الهلاك يميل إلى إنقاذه وإن كان لا يعتقد أصل الدين لينتظر ثوابا ولا ينتظر منه أيضا مجازاة وشكرا، ولا يوافق ذلك أيضا غرضه بل ربما يتعب به بل يحكم العقلاء بحسن الصبر على السيف إذا أكره على كلمة الكفر، أو على إفشاء السر ونقض العهد، وهو على خلاف غرض المكره، وعلى الجملة استحسان مكارم الاخلاق وإفاضة النعم مما لا ينكره عاقل إلا عن عناد‏؟‏ والجواب أنا لا ننكر اشتهار هذه القضايا بين الخلق، وكونها محمودة مشهورة، ولكن مستندها إما التدين بالشرائع وإما الاغراض، ونحن إنما ننكر هذا في حق الله تعالى لانتفاء الاغراض عنه، فأما إطلاق الناس هذه الالفاظ فيما يدور بينهم فيستمر من الاغراض، ولكن قد تدق الاغراض وتخفى فلا يتنبه لها إلا المحققون، ونحن ننبه على مثارات الغلط فيه وهي ثلاث مثارات يغلط الوهم فيها‏:‏ الأولى‏:‏ إن الانسان يطلق اسم القبح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره، من حيث إنه لا يلتفت إلى الغير، فإن كل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر لغيره فيقضي بالقبح مطلقا، وربما يضيف القبح إلى ذات الشئ ويقول هو بنفسه قبيح، فيكون قد قضى بثلاثة أمور هو مصيب في واحد منها، وهو أصل الاستقباح، ومخطئ في أمرين أحدهما إضافة القبح إلى ذاته إذ غفل عن كونه قبيحا لمخالفة غرضه‏.‏ والثاني‏:‏ حكمه بالقبح مطلقا، ومنشؤه عدم الالتفات إلى غيره، بل عدم الالتفات إلى بعض أحوال نفسه، فإنه قد يستحسن في بعض الاحوال عين ما يستقبحه إذا اختلف الغرض‏.‏ الغلطة الثانية‏:‏ أن ما هو مخالف للغرض في جميع الاحوال إلا في حالة واحدة نادرة قد لا يلتفت الوهم إلى تلك الحالة النادرة، بل لا يخطر بالبال فيراه مخالفا في كل الاحوال، فيقضي بالقبح مطلقا لاستيلاء أحوال قبحه على قلبه وذهاب الحالة النادرة عن ذكره، كحكمه على الكذب بأنه قبيح مطلقا، وغفلته عن الكذب الذي تستفاد به عصمة دم نبي أو ولي، وإذا قضى بالقبح مطلقا واستمر عليه مدة، وتكرر ذلك على سمعه ولسانه انغرس في نفسه استقباح منفر، فلو وقعت تلك الحالة النادرة وجد في نفسه نفرة عنه لطول نشوه على الاستقباح، فإنه ألقي إليه منذ الصبا على سبيل التأديب والارشاد أن الكذب قبيح، لا ينبغي أن يقدم عليه أحد، ولا ينبه على حسنه في بعض الاحوال، خيفة من أن لا تستحكم نفرته عن الكذب، فيقدم عليه وهو قبيح في أكثر الاحوال، والسماع في الصغر كالنقش في الحجر، فينغرس في النفس، ويحن إلى التصديق به مطلقا، وهو صدق، لكن لا على الاطلاق، بل في أكثر الاحوال، وإذا لم يكن في ذكره إلا أكثر الاحوال فهو بالاضافة إليه كل الاحوال، فلذلك يعتقده مطلقا‏.‏ الغلطة الثالثة‏:‏ سببها سبق الوهم إلى العكس، فإن ما يرى مقرون بالشئ يظن أن الشئ أيضا لا محالة مقرون به مطلقا، ولا يدري أن الاخص أبدا مقرون بالاعم والاعم لا يلزم أن يكون مقرونا بالاخص، ومثاله‏:‏ نفرة نفس السليم، وهو الذي نهشته الحية عن الحبل المبرقش اللون، لانه وجد الاذى مقرونا بهذه الصورة، فتوهم أن هذه الصورة مقرونة بالاذى، وكذلك تنفر النفس عن العسل إذا شبه بالعذرة، لانه وجد الاذى والاستقذار مقرونا بالرطب الاصفر، فتوهم أن الرطب الاصفر مقرون به الاستقذار، ويغلب الوهم حتى يتعذر الاكل وإن حكم العقل بكذب الوهم، لكن خلقت قوى النفس مطيعة للاوهام، وإن كانت كاذبة حتى أن الطبع لينفر عن حسناء سميت باسم اليهود إذ وجد الاسم مقرونا بالقبح فظن أن القبح أيضا ملازم للاسم، ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قلت هذا مذهب الاشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسئ الاعتقاد فيمن نسبته إليه وليس هذا طبع العامي خاصة بل طبع أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه، وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للاوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها، وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الاوهام، فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس، ولذلك ينفر طبع الانسان عن المبيت في بيت فيه ميت مع قطعه بأنه لا يتحرك، ولكنه كأنه يتوهم في كل ساعة حركته ونطقه‏.‏ فإذا تنبهت لهذه المثارات فنرجع ونقول‏:‏ إنما يترجح الانقاذ على الاهمال في حق من لا يعتقد الشرائع لدفع الاذى الذي يلحق الانسان من رقة الجنسية، وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه، وسببه أن الانسان يقدر نفسه في تلك البلية، ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه، فيستقبحه منه بمخالفة غرضه، فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه، فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم‏.‏ فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه فهو بعيد تصوره، ولو تصور فيبقى أمر آخر وهو طلب الثناء على إحسانه، فإنه فرض حيث لا يعلم أنه المنقذ، فيتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع باعثا، فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم، فيبقى ميل النفس، وترجح يضاهي نفرة طبع السليم عن الحبل المبرقش، وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فظن أن الثناء مقرون بها بكل حال، كما أنه لما رأى الاذى مقرونا بصورة الحبل وطبعه ينفر عن الاذى فنفر عن المقرون بالاذى، فالمقرون باللذيذ لذيذ، والمقرون بالمكروه مكروه، بل الانسان إذا جالس من عشقه في مكان، فإذا انتهى إليه أحس في نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره، ولذلك قال الشاعر‏:‏ أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما تلك الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وقال ابن الرومي منبها على سبب حب الاوطان‏:‏ وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا وشواهد ذلك مما يكثر، وكل ذلك من حكم الوهم، وأما الصبر على السيف في ترك كلمة الكفر مع طمأنينة النفس فلا يستحسنه جميع العقلاء لولا الشرع، بل ربما استقبحوه، وإنما استحسنه من ينتظر الثواب على الصبر، أو من ينتظر الثناء عليه بالشجاعة والصلابة في الدين، وكم من شجاع يركب متن الخطر، ويتهجم على عددهم أكثر منه، وهو يعلم أنه لا يطيقهم، ويستحقر ما يناله من الالم لما يعتاضه من توهم الثناء والحمد ولو بعد موته، وكذلك إخفاء السر، وحفظ العهد إنما تواصى الناس بهما لما فيهما من المصالح، وأكثروا الثناء عليهما، فمن يحتمل الضرر فيه فإنما يحتمله لاجل الثناء، فإن فرض حيث لا ثناء فقد وجد مقرونا بالثناء، فيبقى ميل الوهم إلى المقرون باللذيذ، وإن كان خاليا عنه، فإن فرض من لا يستولي عليه هذا الوهم، ولا ينتظر الثواب والثناء فهو مستقبح للسعي في هلاك نفسه بغير فائدة ويستحمق من يفعل ذاك قطعا، فمن يسلم أن مثل هذا يؤثر الهلاك على الحياة، وعلى هذا يجري الجواب عن الكذب، وعن جميع ما يفرضونه، ثم نقول‏:‏ نحن لا ننكر أن أهل العادة يستقبح بعضهم من بعض الظلم والكذب، وإنما الكلام في القبح والحسن، بالاضافة إلى الله تعالى ومن قضى به فمستنده قياس الغائب على الشاهد، وكيف يقيس والسيد لو ترك عبيده وإماءه وبعضهم يموج في بعض ويرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم لقبح منه، وقد فعل الله تعالى ذلك بعباده، ولم يقبح منه، وقولهم أنه تركهم لينزجروا بأنفسهم فيستحقوا الثواب هوس، لانه علم أنهم لا ينزجرون، فليمنعهم قهرا، فكم من ممنوع عن الفواحش بعنة أو عجز، وذلك أحسن من تمكينهم، مع العلم لانهم لا ينزجرون‏.‏

مسألة ‏(‏شكر الخالق‏)‏

لا يجب شكر المنعم عقلا، خلافا للمعتزلة، ودليله أن لا معنى للواجب إلا ما أوجبه الله تعالى وأمر به وتوعد بالعقاب على تركه، فإذا لم يرد خطاب فأي معنى للوجوب‏؟‏ ثم تحقيق القول فيه أن العقل لا يخلو إما أن يوجب ذلك لفائدة أو لا لفائدة، ومحال أن يوجب لا لفائدة، فإن ذلك عبث وسفه، وإن كان لفائدة فلا يخلو إما أن ترجع إلى المعبود وهو محال إذ يتعالى ويتقدس عن الاغراض أو إلى العبد، وذلك لا يخلو إما أن تكون في الدنيا أو في الآخرة، ولا فائدة له في الدنيا، بل يتعب بالنظر والفكر والمعرفة والشكر، ويحرم به عن الشهوات واللذات، ولا فائدة له في الآخرة، فإن الثواب تفضل من الله يعرف بوعده وخبره فإذا لم يخبر عنه فمن أين يعلم أنه يثاب عليه‏؟‏ فإن قيل‏:‏ يخطر له أنه إن كفر وأعرض ربما يعاقب، والعقل يدعو إلى سلوك طريق الامن‏؟‏ قلنا‏:‏ لا بل العقل يعرف طريق الامن ثم الطبع يستحث على سلوكه، إذ كل إنسان مجبول على حب نفسه وعلى كراهة الالم، فقد غلطتم في قولكم أن العقل داع، بل العقل هاد، والبواعث والدواعي تنبعث من النفس تابعة لحكم العقل، وغلطتم أيضا في قولكم أنه يثاب على جانب الشكر والمعرفة خاصة، لان هذا الخاطر مستنده توهم غرض في جانب الشكر يتميز به عن الكفر وهما متساويان بالاضافة إلى جلال الله تعالى، بل إن فتح باب الاوهام، فربما يخطر له أن الله يعاقبه لو شكره ونظر فيه لانه أمده بأسباب النعم، فلعله خلقه ليترفه وليتمتع فإتعابه نفسه تصرف في مملكته بغير إذنه، ولهم شبهتان‏:‏ إحداهما‏:‏ قولهم إتفاق العقلاء على حسن الشكر، وقبح الكفر ان لا سبيل إلى إنكاره، وذلك مسلم، لكن في حقهم، لانهم يهتزون ويرتاحون للشكر ويغتمون بالكفران، والرب تعالى يستوي في حقه الامران، فالمعصية والطاعة في حقه سيان، ويشهد له أمران، أحدهما‏:‏ أن المتقرب إلى السلطان بتحريك أنملته في زاوية بيته وحجرته مستهين بنفسه وعبادة العباد بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة‏.‏ والثاني‏:‏ أن من تصدق عليه السلطان بكسرة خبز في مخمصة فأخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الاشهاد بشكره، كان ذلك بالنسبة إلى الملك قبيحا وافتضاحا، وجملة نعم الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى خزائن الملك، لان خزانة الملك تفنى بأمثال تلك الكسرة لتناهيها ومقدورات الله تعالى لا تتناهى بأضعاف ما أفاضه على عباده‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ قولهم حصر مدارك الوجوب في الشرع يفضي إلى إفحام الرسل فإنهم إذا أظهروا المعجزات قال لهم المدعوون لا يجب علينا النظر في معجزاتكم إلا بالشرع، ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزاتكم فثبتوا علينا وجوب النظر حتى ننظر، ولا نقدر على ذلك ما لم ننظر فيؤدي إلى الدور والجواب من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ من حيث التحقيق، وهو أنكم غلطتم في ظنكم بنا أنا نقول استقرار الشرع موقوف على نظر الناظرين، بل إذا بعث الرسول وأيد بمعجزته بحيث يحصل بها إمكان المعرفة، لو نظر العاقل فيها فقد ثبت الشرع، واستقر ورود الخطاب بإيجاب النظر، إذ لا معنى للواجب إلا ما ترجح فعله على تركه بدفع ضرر معلوم أو موهوم، فمعنى الوجوب رجحان الفعل على الترك، والموجب هو المرجح، والله تعالى هو المرجح، وهو الذي عرف رسوله، وأمره أن يعرف الناس أن الكفر سم مهلك، والمعصية داء والطاعة شفاء، فالمرجح هو الله تعالى، والرسول هو المخبر، والمعجزة سبب يمكن العاقل من التوصل إلى معرفة الترجيح، والعقل هو الآلة التي بها يعرف صدق المخبر عن الترجيح، والطبع المجبول على التألم بالعذاب، والتلذذ بالثواب هو الباعث المستحث على الحذر من الضرر، وبعد ورود الخطاب حصل الايجاب الذي هو الترجيح، وبالتأييد بالمعجزة حصل الامكان في حق العاقل الناظر، إذ قدر به على معرفة الرجحان، فقوله‏:‏ لا أنظر ما لم أعرف ولا أعرف ما لم أنظر، مثاله ما لو قال الاب لولده‏:‏ التفت، فإن وراءك سبعا عاديا هوذا يهجم عليك إن غفلت عنه فيقول‏:‏ لا ألتفت ما لم أعرف وجوب الالتفات، ولا يجب الالتفات ما لم أعرف السبع ولا أعرف السبع ما لم ألتفت، فيقول له‏:‏ لا جرم تهلك بترك الالتفات، وأنت غير معذور لانك قادر على الالتفات وترك العناد، فكذلك النبي يقول‏:‏ الموت وراءك ودونه الهوام المؤذية والعذاب الاليم إن تركت الايمان والطاعة، وتعرف ذلك بأدنى نظر في معجزتي، فإن نظرت وأطعت نجوت، وإن غفلت وأعرضت فالله تعالى غني عنك وعن عملك، وإنما أضررت بنفسك، فهذا أمر معقول لا تناقض فيه‏.‏ الجواب الثاني‏:‏ المقابلة بمذهبهم، فإنهم قضوا بأن العقل هو الموجب، وليس يوجب بجوهره إيجابا ضروريا لا ينفك منه أحد، إذ لو كان كذلك لم يخل عقل عاقل عن معرفة الوجوب، بل لا بد من تأمل ونظر، ولو لم ينظر لم يعرف وجوب النظر، وإذا لم يعرف وجوب النظر فلا ينظر، فيؤدي أيضا إلى الدور كما سبق، فإن قيل‏:‏ العاقل لا يخلو عن خاطرين يخطران له‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه إن نظر وشكر أثيب، والثاني‏:‏ أنه إن ترك النظر عوقب، فيلوك له على القرب وجوب سلوك طريق الامن، قلنا‏:‏ كم من عاقل انقضى عليه الدهر ولم يخطر له هذا الخاطر، بل قد يخطر له أنه لا يتميز في حق الله تعالى أحدهما عن الآخر، فكيف أعذب نفسي بلا فائدة ترجع إلي ولا إلى المعبود‏؟‏ ثم إن كان عدم الخلو عن الخاطر بعد إنذار النبي وتحذيره، ونحن لا ننكر أن الانسان إذا استشعر المخافة استحثه طبعه على الاحتراز، فإن الاستشعار إنما يكون بالتأمل الصادر عن العقل، فإن سمى مسم معترف الوجوب موجبا فقد تجوز في الكلام، بل الحق الذي لا مجاز فيه أن الله موجب أي مرجح للفعل على الترك، والنبي مخبر، والعقل معرف، والطبع باعث والمعجزة ممكنة من التعريف، والله تعالى أعلم‏.‏

مسألة ‏(‏حكم الافعال قبل ورود الشرع على الاباحة‏)‏

ذهب جماعة من المعتزلة إلى أن الافعال قبل ورود الشرع على الاباحة، وقال بعضهم‏:‏ على الحظر، وقال بعضهم‏:‏ على الوقف، ولعلهم أرادوا بذلك فيما لا يقضي العقل فيه بتحسين ولا تقبيح ضرورة أو نظرا كما فصلناه من مذهبهم، وهذه المذاهب كلها باطلة، أما إبطال مذهب الاباحة فهو أنا نقول‏:‏ المباح يستدعي مبيحا كما يستدعي العلم والذكر ذاكرا وعالما، والمبيح هو الله تعالى إذا خير بين الفعل والترك بخطابه، فإذا لم يكن خطاب لم يكن تخيير فلم تكن إباحة، وإن عنوا بكونه مباحا أنه لا حرج في فعله ولا تركه فقد أصابوا في المعنى وأخطأوا في اللفظ، فإن فعل البهيمة والصبي والمجنون لا يوصف بكونه مباحا، وإن لم يكن في فعلهم وتركهم حرج، والافعال في حق الله تعالى أعني ما يصدر من الله لا توصف بأنها مباحة ولا حرج عليه في تركها، لكنه انتفى التخيير من المخير انتفت الاباحة، فإن استجرأ مستجرئ على إطلاق اسم المباح على أفعال الله تعالى ولم يرد به إلا نفي الحرج فقد أصاب في المعنى وإن كان لفظه مستكرها، فإن قيل‏:‏ العقل هو المبيح، لانه خير بين فعله وتركه، إذ حرم القبيح وأوجب الحسن وخير فيما ليس بحسن ولا قبيح قلنا‏:‏ تحسين العقل وتقبيحه قد أبطلناه، وهذا مبني عليه فيبطل، ثم تسمية العقل مبيحا مجاز، كتسميته موجبا، فإن العقل يعرف الترجيح، ويعرف انتفاء الترجيح، ويكون معنى وجوبه رجحان فعله على تركه، والعقل يعرف ذلك، ومعنى كونه مباحا انتفاء الترجيح، والعقل معرف لا مبيح، فإنه ليس بمرجح ولا مسو، لكنه معرف للرجحان والاستواء، ثم نقول‏:‏ بم تنكرون على أصحاب الوقف إذا أنكروا استواء الفعل والترك وقالوا‏:‏ ما من فعل مما لا يحسنه العقل ولا يقبحه إلا ويجوز أن يرد الشرع بإيجابه، فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي لاجله يكون لطفا ناهيا عن الفحشاء، داعيا إلى العبادة، ولذلك أوجبه الله تعالى، والعقل لا يستقل بدركه ويجوز أن يرد الشرع بتحريمه فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي يدعو بسببه إلى الفحشاء لا يدركه العقل، وقد استأثر الله بعلمه هذا مذهبهم ثم يقولون‏:‏ بم تنكرون على أصحاب الحظر إذ قالوا‏:‏ لا نسلم استواء الفعل وتركه، فإن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح والله تعالى هو المالك ولم يأذن، فإن قيل‏:‏ لو كان قبيحا لنهى عنه وورد السمع به، فعدم ورود السمع دليل على انتفاء قبحه، قلنا‏:‏ لو كان حسنا لاذن فيه، وورد السمع به، فعدم ورود السمع به دليل على انتفاء حسنه، فإن قيل‏:‏ إذا أعلمنا الله تعالى أنه نافع ولا ضرر فيه فقد أذن فيه، قلنا‏:‏ فإعلام المالك إيانا أن طعامه نافع لا ضرر فيه ينبغي أن يكون أذنا، فإن قيل‏:‏ الملك منا يتضرر، والله لا يتضرر، فالتصرف في مخلوقاته بالاضافة إليه يجري مجرى التصرف في مرآة الانسان بالنظر فيها، وفي حائطه بالاستظلال به، وفي سراجه بالاستضاءة به، قلنا‏:‏ لو كان قبح التصرف في ملك الغير لتضرره لا لعدم أذنه لقبح، وإن أذن إذا كان متضررا كيف ومنع المالك من المرآة والظل والاستضاءة بالسراج قبيح، وقد منع الله عباده من جملة من المأكولات ولم يقبح، فإن كان ذلك لضرر العبد فما من فعل إلا ويتصور أن يكون فيه ضرر خفي لا يدركه العقل ويرد التوقيف بالنهي عنه، ثم نقول‏:‏ قولكم أنه إذا كان لا يتضرر الباري بتصرفنا فيباح، فلم قلتم ذلك‏؟‏ فإن نقل مرآة الغير من موضع إلى موضع وإن كان لا يتضرر به صاحبها يحرم، وإنما يباح النظر، لان النظر ليس تصرفا في المرآة، كما أن النظر إلى الله تعالى وإلى السماء ليس تصرفا في المنظور فيه، ولا في الاستظلال تصرف في الحائط ولا في الاستضاءة تصرف في السراج، فلو تصرف في نفس هذه الاشياء ربما يقضي بتحريمه إلا إذ دل السمع على جوازه، فإن قيل‏:‏ خلق الله تعالى الطعوم فيها، والذوق دليل على أنه أراد انتفاعنا بها، فقد كان قادرا على خلقها عارية عن الطعوم‏؟‏ قلنا‏:‏ الاشعرية وأكثر المعتزلة مطبقون على استحالة خلوها عن الاعراض التي هي قابلة لها، فلا يستقيم ذلك وإن سلم، فلعله خلقها لا لينتفع بها أحد، بل خلق العالم بأسره لا لعلة، أو لعله خلقها ليدرك ثواب اجتنابها مع الشهوة، كما يثاب على ترك القبائح المشتهاة‏.‏ وأما مذهب أصحاب الحظر فأظهر بطلانا‏:‏ إذ لا يعرف حظرها بضرورة العقل ولا بدليله، ومعنى الحظر ترجيح جانب الترك على جانب الفعل لتعلق ضرر بجانب الفعل، فمن أين يعلم ذلك‏؟‏ ولم يرد سمع، والعقل لا يقضي به بل ربما يتضرر بترك اللذات عاجلا، فكيف يصير تركها أولى من فعلها‏؟‏ وقولهم‏:‏ إنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو قبيح فاسد، لانا لا نسلم قبح ذلك لولا تحريم الشرع ونهيه ولو حكم فيه العادة فذلك يقبح في حق من تضرر بالتصرف في ملكه، بل القبيح المنع مما لا ضرر فيه، ثم قد بينا أن حقيقة درك القبح ترجع إلى مخالفة الغرض، وأن ذلك لا حقيقة له‏.‏ وأما مذهب الوقف‏:‏ إن أرادوا به أن الحكم موقوف على ورود السمع، ولا حكم في الحال فصحيح، إذ معنى الحكم الخطاب، ولا خطاب قبل ورود السمع، وإن أريد به أنا نتوقف فلا ندري أنها محظورة أو مباحة، فهو خطأ، لانا ندري أنه لا حظر، إذ معنى الحظر قول الله تعالى لا تفعلوه، ولا إباحة، إذ معنى الاباحة قوله‏:‏ إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه، ولم يرد شئ من ذلك‏.‏

الفن الثاني في أقسام الاحكام

ويشتمل على تمهيد ومسائل خمس عشرة‏.‏ أما التمهيد‏:‏ فإن أقسام الاحكام الثابتة لافعال المكلفين خمسة‏:‏ الواجب، والمحظور والمباح، والمندوب والمكروه ووجه هذه القسمة أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل أو اقتضاء الترك، أو التخيير بين الفعل والترك، فإن ورد باقتضاء الفعل فهو أمر، فإما أن يقترن به الاشعار بعقاب على الترك فيكون واجبا، ولا يقترن فيكون ندبا والذي ورد باقتضاء الترك فإن أشعر بالعقاب على الفعل فحظر وإلا فكراهية، وإن ورد بالتخيير فهو مباح‏.‏ ولا بد من ذكر حد كل واحد على الرسم‏:‏ فأما حد الواجب‏:‏ فقد ذكرنا طرفا منه في مقدمة الكتاب، ونذكر الآن ما قيل فيه‏.‏ فقال قوم‏:‏ إنه الذي يعاقب على تركه، فاعترض عليه بأن الواجب قد يعفي عن العقوبة على تركه، ولا يخرج عن كونه واجبا، لان الوجوب ناجز والعقاب منتظر، وقيل‏:‏ ما توعد بالعقاب على تركه، فاعترض عليه بأنه لو توعد لوجب تحقيق الوعيد، فإن كلام الله تعالى صدق، ويتصور أن يعفي عنه ولا يعاقب‏:‏ وقيل‏:‏ ما يخاف العقاب على تركه، وذلك يبطل بالمشكوك في تحريمه ووجوبه، فإنه ليس بواجب، ويخاف العقاب على تركه، وقال القاضي أبو بكر رحمه الله‏:‏ الأولى في حده أن يقال‏:‏ هو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه ما، لان الذم أمر ناجز، والعقوبة مشكوك فيها، وقوله‏:‏ بوجه ما، قصد أن يشمل الواجب المخير، فإنه يلام على تركه مع بدله، والواجب الموسع، فإنه يلام على تركه مع ترك العزم على امتثاله، فإن قيل‏:‏ فهل من فرق بين الواجب والفرض‏؟‏ قلنا‏:‏ لا فرق عندنا بينهما بل هما من الالفاظ المترادفة، كالحتم واللازم، وأصحاب أبي حنيفة اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه، وتخصيص اسم الواجب بما لا يدرك إلا ظنا، ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون، ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعاني، وقد قال القاضي‏:‏ لو أوجب الله علينا شيئا ولم يتوعد بعقاب على تركه لوجب، فالوجوب إنما هو بإيجابه لا بالعقاب، وهذا فيه نظر، لان ما استوى فعله وتركه في حقنا فلا معنى لوصفه بالوجوب، إذ لا نعقل وجوبا إلا بأن يترجح فعله على تركه بالاضافة إلى أغراضنا، فإذا انتفى الترجيح فلا معنى للوجوب أصلا‏.‏ وإذا عرفت حد الواجب فالمحظور في مقابلته ولا يخفى حده‏.‏ وأما حد المباح فقد قيل فيه‏:‏ ما كان تركه وفعله سيين، ويبطل بفعل الطفل والمجنون والبهيمة، ويبطل بفعل الله تعالى، وكثير من أفعاله يساوي الترك في حقنا، وهما في حق الله تعالى أبدا سيان، وكذلك الافعال قبل ورود الشرع تساوي الترك، ولا يسمى شئ من ذلك مباحا، بل حده أنه الذي ورد الاذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله ومدحه ولا بذم تاركه، ومدحه، ويمكن أن يحد بأنه الذي عرف الشرع أنه لا ضرر عليه في تركه ولا فعله، ولا نفع من حيث فعله وتركه احترازا عما إذا ترك المباح بمعصية، فإنه يتضرر، لا من حيث ترك المباح، بل من يحث ارتكاب المعصية‏.‏ وأما حد الندب فقيل فيه‏:‏ إنه الذي فعله خير من تركه من غير ذم يلحق بتركه، ويرد عليه الاكل قبل ورود الشرع، فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة وبقاء الحياة، وقالت القدرية‏:‏ هو الذي إذا فعله فاعله استحق المدح ولا يستحق الذم بتركه، ويرد عليه فعل الله تعالى، فإنه لا يسمى ندبا مع أنه يمدح على كل فعل ولا يذم، فالاصح في حده أنه المأمور به الذي لا يلحق الذم بتركه من حيث هو ترك له من غير حاجة إلى بدل احترازا عن الواجب المخير والموسع‏.‏ وأما المكروه‏:‏ فهو لفظ مشترك في عرف الفقهاء بين معاني‏:‏ أحدها‏:‏ المحظور، فكثيرا ما يقولا لشافعي رحمه الله‏:‏ وأكره كذا، وهو يريد التحريم‏.‏ الثاني‏:‏ ما نهي عنه نهي تنزيه، وهو الذي أشعر بأن تركه خير من فعله وإن لم يكن عليه عقاب، كما أن الندب هو الذي أشعر بأن فعله خير من تركه‏.‏ الثالث‏:‏ ترك ما هو الأولى وإن لم ينه عنه، كترك صلاة الضحى مثلا، لا لنهي ورد عنه، ولكن لكثرة فضله وثوابه، قيل فيه‏:‏ إنه مكروه تركه‏.‏ الرابع‏:‏ ما وقعت الريبة والشبهة في تحريمه، كلحم السبع وقليل النبيذ، وهذا فيه نظر، لان من أداه اجتهاده إلى تحريمه فهو عليه حرام ومن أداه اجتهاده إلى حله فلا معنى للكراهية فيه إلا إذا كان من شبهة الخصم حزازة في نفسه ووقع في قلبه، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الاثم حزاز القلب فلا يقبح إطلاق لفظ الكراهة، لما فيه من خوف التحريم، وإن كان غالب الظن الحل، ويتجه هذا على مذهب من يقول‏:‏ المصيب واحد فأما من صوب كل مجتهد فالحل عنده مقطوع به إذا غلب على ظنه الحل‏.‏ وإذا فرغنا من تمهيد الاقسام فلنذكر المسائل المتشعبة عنها

مسألة ‏(‏أصناف الواجب‏)‏

الواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم بين أقسام محصورة، ويسمى واجبا مخيرا كخصلة من خصال الكفارة، فإن الواجب من جملتها واحد لا بعينه، وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا‏:‏ لا معنى للايجاب مع التخيير، فإنهما متناقضان، ونحن ندعي أن ذلك جائز عقلا وواقع شرعا‏:‏ أما دليل جوازه عقلا‏:‏ فهو أن السيد إذا قال لعبده‏:‏ أوجبت عليك خياطة هذا القميص، أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك عليه، وإن تركت الجميع عاقبتك ولست أوجب الجميع، وإنما أوجب واحدا لا بعينه، أي واحد أردت، فهذا كلام معقول، ولا يمكن أن يقال أنه لم يوجب عليه شيئا، لانه عرضه للعقاب بترك الجميع فلا ينفك عن الوجوب، ولا يمكن أن يقال‏:‏ أوجب واحدا لا بعينه وأما دليل وقوعه شرعا فخصال الكفارة، بل إيجاب إعتاق الرقبة، فإنه بالاضافة إلى أعيان العبيد مخير، وكذلك تزويج البكر الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين واجب، ولا سبيل إلى إيجاب الجمع، وكذلك عقد الامامة لاحد الامامين الصالحين للامامة واجب والجمع محال، فإن قيل‏:‏ الواجب جميع خصال الكفارة، فلو تركها عوقب على الجميع، ولو أتى بجميعها وقع الجميع واجبا، ولو أتى بواحد سقط عنه الآخر، و قد يسقط الواجب بأسباب دون الاداء، وذلك غير محال، قلنا هذا لا يطرد في الامامين والكفؤين، فإن الجمع فيه حرام، فكيف يكون الكل واجبا‏؟‏ ثم هو خلاف الإجماع في خصال الكفارة، إذ الامة مجمعة على أن الجميع غير واجب‏.‏ واحتجوا بأن الخصال الثلاث إن كانت متساوية الصفات عند الله تعالى بالاضافة إلى صلاح العبد، فينبغي أن يجب الجميع، تسوية بين المتساويات، وأن تميز بعضها بوصف يقتضي الايجاب، فينبغي أن يكون هو الواجب، ولا يجعل مبهما بغيره كيلا يلتبس بغيره، قلنا ومن سلم لكم أن للافعال أوصافا في ذواتها لاجلها، يوجبها الله تعالى، بل الايجاب إليه، وله أن يعين واحدة من الثلاث المتساويات فيخصصها بالايجاب دون غيرها، وله أن يوجب واحدا لا بعينه، ويجعل مناط التعيين اختيار المكلف لفعله حتى لا يتعذر عليه الامتثال‏؟‏ احتجوا‏:‏ بأن الواجب هو الذي يتعلق به الايجاب وإذا كان الواجب واحدا من الخصال الثلاث علم الله تعالى ما تعلق به الايجاب، فيتميز ذلك في علمه، فكان هو الواجب، قلنا‏:‏ إذا أوجب واحدا لا بعينه فإنا نعلمه غير معين، ولو خاطب السيد عبده بأني أوجبت عليك الخياطة أو البناء فكيف يعلمه الله تعالى ولا يعلمه إلا على ما هو عليه من نعته، ونعته أنه غير معين فيعلمه غير معين، كما هو عليه، وهذا التحقيق، وهو أن الواجب ليس له وصف ذاتي من تعلق الايجاب به، وإنما هو إضافة إلى الخطاب، والخطاب بحسب النطق والذكر، وخلق السواد في أحد الجسمين لا بعينه، وخلق العلم في أحد الشخصين لا بعينه غير ممكن، فأما ذكر واحد من اثنين لا على التعيين فممكن، كمن يقول لزوجتيه‏:‏ إحداكما طالق، فالايجاب قول يتبع النطق، فإن قيل الموجب طالب، ومطلوبه لا بد أن يتميز عنده قلنا‏:‏ يجوز أن يكون طلبه متعلقا بأحد أمرين، كما تقول المرأة‏:‏ زوجني من أحد الخاطبين أيهما كان، وأعتق رقبة من هذه الرقاب أيها كانت، وبايع أحد هذين الامامين أيهما كان، فيكون المطلوب أحدهما لا بعينه، وكل ما تصور طلبه تصور إيجابه، فإن قيل‏:‏ أن الله سبحانه يعلم ما سيأتي به المكلف ويتأدي به الواجب فيكون معينا في علم الله تعالى‏؟‏ قلنا‏:‏ يعلمه الله تعالى غير معين، ثم يعلم أنه يتعين بفعله ما لم يكن متعينا قبل فعله، ثم لو أتى بالجميع أو لم يأت بالجميع فكيف يتعين واحد في علم الله تعالى، فإن قيل‏:‏ فلم لا يجوز أن يوجب على أحد شخصين لا بعينه، ولم قلتم بأن فرض الكفاية على الجميع مع أن الوجوب يسقط بفعل واحد‏؟‏ قلنا‏:‏ لان الوجوب يتحقق بالعقاب، ولا يمكن عقاب أحد الشخصين لا بعينه، ويجوز أن يقال أنه يعاقب على أحد الفعلين لا بعينه‏.‏

مسألة ‏(‏أصناف الواجب من حيث الوقت‏)‏

الواجب ينقسم بالاضافة إلى الوقت إلى مضيق وموسع، وقال قوم‏:‏ التوسع يناقض الوجوب، وهو باطل عقلا وشرعا‏.‏ أما العقل‏:‏ فإن السيد إذا قال لعبده‏:‏ خط هذا الثوب في بياض هذا النهار إما في أوله أو في أوسطه أو في آخره كيفما أردت، فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي، فهذا معقول، ولا يخلو إما أن يقال لم يوجب شيئا أصلا، أو أوجب شيئا مضيقا، وهما محالان، فلم يبق إلا أنه أوجب موسعا‏.‏ وأما الشرع‏:‏ فالإجماع منعقد على وجوب الصلاة عند الزوال، وأنه مهما صلى كان مؤديا للفرض وممتثلا لامر الايجاب، مع أنه لا تضييق، فإن قيل‏:‏ حقيقة الواجب ما لا يسع تركه، بل يعاقب عليه، والصلاة والخياطة إن أضيفا إلى آخر الوقت فيعاقب على تركه، فيكون وجوبه في آخر الوقت، أما قبله فيتخير بين فعله وتركه وفعله خير من تركه، وهذا حد الندب‏؟‏ قلنا‏:‏ كشف الغطاء عن هذا، أن الاقسام في العقل ثلاثة‏:‏ فعل لا عقاب على تركه مطلقا وهو الندب، وفعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب، وفعل يعاقب على تركه بالاضافة إلى مجموع الوقت، ولكن لا يعاقب بالاضافة إلى بعض أجزاء الوقت، وهذا قسم ثالث، فيفتقر إلى عبارة ثالثة، وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب، فأولى الالقاب به الواجب الموسع، أو الندب الذي لا يسع تركه، وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا، بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة، وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب، فإذا الاقسام الثلاثة لا ينكرها العقل، والنزاع يرجع إلى اللفظ، والذي ذكرناه أولى، فإن قيل‏:‏ ليس هذا قسما ثالثا بل هو بالاضافة إلى أول الوقت ندب، إذ يجوز تركه، وبالاضافة إلى آخر الوقت حتم إذ لا يسع تأخيره عنه، وقولكم‏:‏ أنه ينوي الفرض فمسلم، لكنه فرض بمعنى أنه يصير فرضا كمعجل الزكاة ينوي فرض الزكاة، ويثاب ثواب معجل الفرض لاثواب الندب ولا ثواب الفرض الذي ليس بمعجل، قلنا‏:‏ قولكم أنه بالاضافة إلى أول الوقت يجوز تأخيره فهو ندب خطأ، إذ ليس هذا حد الندب، بل الندب ما يجوز تركه مطلقا، وهذا لا يجوز تركه إلا بشرط، وهو الفعل بعده أو العزم على الفعل، وما جاز تركه ببدل وشرط فليس بندب بدليل ما لو أمر بالاعتاق فإنه ما من عبد إلا ويجوز له ترك اعتاقه لكن بشرط أن يعتق عبدا آخر، وكذلك خصال الكفارة، ما من واحدة إلا ويجوز تركها لكن ببدل، ولا يكون ندبا بل كما يسمى ذلك واجبا مخيرا، يسمى هذا واجبا غير مضيق، وإذا كان حظ المعنى منه متفقا عليه وهو الانقسام إلى الاقسام الثلاثة فلا معنى للمناقشة، وما جاز تركه بشرط يفارق ما لا يجوز تركه مطلقا، وما يجوز تركه مطلقا، فهو قسم ثالث، وأما ما ذكرتموه من أنه تعجيل للفرض فلذلك سمي فرضا فمخالف للإجماع، إذ يجب نية التعجيل في الزكاة، وما نوى أحد من السلف في الصلاة في أول الوقت إلا ما نواه في آخره، ولم يفرقوا أصلا وهو مقطوع به، فإن قيل‏:‏ قد قال قوم يقع نفلا ويسقط الفرض عنده، وقال قوم‏:‏ يقع موقوفا، فإن بقي بنعت المكلفين إلى آخر الوقت تبين وقوعه فرضا، وإن مات أو جن وقع نفلا، قلنا‏:‏ لو كان يقع نفلا لجازت بنية النفل بل استحال وجود نية الفرض من العالم بكونه نفلا، إذ النية قصد يتبع العلم، والوقف باطل إذ الامة مجمعة على أن من مات في وسط الوقت بعد الفراغ من الصلاة مات مؤديا فرض الله تعالى كما نواه وأداه، إذا قال‏:‏ نويت أداء فرض الله تعالى، فإن قيل‏:‏ بنيتم كلامكم على أن تركه جائز بشرط وهو العزم على الامتثال أو الفعل وليس كذلك، فإن الواجب المخير ما خير فيه بين شيئين كخصال الكفارة، وما خير الشرع بين فعل الصلاة والعزم، ولان مجرد قوله‏:‏ صل في هذا الوق ليس فيه تعرض للعزم، فإيجابه زيادة على مقتضى الصيغة، ولانه لو غفل وخلا عن العزم ومات في وسط الوقت لم يكن عاصيا‏؟‏ قلنا‏:‏ أما قولكم لو ذهل لا يكون عاصيا فمسلم، وسببه أن الغافل لا يكلف، أما إذا لم يغفل عن الامر فلا يلخو عن العزم إلا بضده، وهو العزم على الترك مطلقا، وذلك حرام، وما لا خلاص من الحرام إلا به فهو واجب، فهذا الدليل قد دل على وجوبه وإن لم يدل عليه مجرد الصيغة من حيث وضع اللسان، ودليل العقل أقوى من دلالة الصيغة، فإذا يرجع حاصل الكلام إلى أن الواجب الموسع كالواجب المخير بالاضافة إلى أول الوقت وبالاضافة إلى آخره أيضا، فإنه لو أخلي عنه في آخره لم يعص إذا كان قد فعل في أوله‏.‏

مسألة ‏(‏حكم من توفي أثناء وقت الصلاة بعد العزم عليها‏)‏

إذا مات في أثناء وقت الصلاة فجأة بعد العزم على الامتثال لا يكون عاصيا، وقال بعض من أراد تحقيق معنى الوجوب أنه يعصي، وهو خلاف إجماع السلف، فإنا نعلم أنهم كانوا لا يؤثمون من مات فجأة بعد انقضاء مقدار أربع ركعات من وقت الزوال أو بعد انقضاء مقدار ركعتين من أول الصبح، وكانوا لا ينسبونه إلى تقصير، ولا سيما إذا اشتغل بالوضوء، أو نهض إلى المسجد فمات في الطريق، بل محال أن يعصي، وقد جوز له التأخير فمن فعل ما يجوز له كيف يمكن تعصيته، فإن قيل‏:‏ جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة، قلنا‏:‏ هذا محال، فإن العاقبة مستورة عنه، فإذا سألنا وقال‏:‏ العاقبة مستورة عني وعلي صوم يوم، وأنا أريد أن أؤخره إلى غد، فهل يحل لي التأخير مع الجهل بالعاقبة أم أعصي بالتأخير‏؟‏ فلا بدل له من جواب، فإن قلنا‏:‏ لا يعصي فلم أثم بالموت الذي ليس إليه، وإن قلنا‏:‏ يعصي فهو خلاف الإجماع في الواجب الموسع، وإن قلنا‏:‏ إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الغد فأنت عاص، وإن كان في علمه أن تحيا فلك التأخير، فيقول‏:‏ وما يدريني ماذا في علم الله، فما فتواكم في حق الجاهل‏؟‏ فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم، فإن قيل‏:‏ فإن جاز تأخيره أبدا ولا يعصي إذا مات، فأي معنى لوجوبه‏؟‏ قلنا‏:‏ تحقق الوجوب بأنه لم يجز التأخير إلا بشرط العزم، ولا يجوز العزم على التأخير إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها، كتأخيره الصلاة من ساعة إلى ساعة، وتأخيره الصوم من يوم إلى يوم مع العزم على التفرغ له في كل وقت، وتأخيره الحج من سنة إلى سنة، فلو عزم المريض المشرف على الهلاك على التأخير شهرا، أو الشيخ الضعيف على التأخير سنين وغالب ظنه أنه لا يعيش إلى تلك المدة عصي بهذا التأخير، وإن لم يمت ووفق للعمل لكنه مأخوذ بموجب ظنه، كالمعزر إذا ضرب ضربا يهلك، أو قاطع سلعة وغالب ظنه الهلاك أثم وإن سلم، ولهذا قال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز تأخير الحج، لان البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن، وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر وشهرين فجائز، لانه لا يغلب على الظن الموت إلى تلك المدة، والشافعي رحمه الله يرى البقاى إلى السنة الثانية غالبا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض، ثم المعزر إذا فعل ما غالب ظنه السلامة فهلك ضمن، لا لانه آثم، لكن لانه أخطأ في ظنه والمخطئ ضامن غير آثم‏.‏

مسألة ‏(‏ما لا يتم الواجب إلا به‏)‏

اختلفوا في أن ما لا يتم الوجب إلا به، هل يوصف بالوجوب‏؟‏ والتحقيق في هذا أن هذا ينقسم إلى ما ليس إلى المكلف، كالقدرة على الفعل، وكاليد في الكتابة، وكالرجل في المشي، فهذا لا يوصف بالوجوب، بل عدمه يمنع الايجاب إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا يطاق، وكذلك تكليف حضور الامام الجمعة، وحضور تمام العدد، فإنه ليس إليه فلا يوصف بالوجوب، بل يسقط بتعذره الواجب‏.‏ وأما ما يتعلق باختيار العبد فينقسم إلى الشرط الشرعي وإلى الحسي‏.‏ فالشرعي‏:‏ كالطهارة في الصلاة يجب وصفها بالوجوب عند وجوب الصلاة، فإن إيجاب الصلاة إيجاب لما يصير به الفعل صلاة‏.‏ وأما الحسي‏:‏ فكالسعي إلى الجمعة، وكالمشي إلى الحج وإلى مواضع المناسك، فينبغي أن يوصف أيضا بالوجوب إذ أمر البعيد عن البيت بالحج أمر بالمشي إليه لا محالة، وكذلك إذا وجب غسل الوجه ولم يمكن إلا بغسل جزء من الرأس، وإذا وجب الصوم ولم يمكن إلا بالامساك جزء من الليل قبل الصبح، فيوصف ذلك بالوجوب ونقول‏:‏ ما لا يتصول إلى الواجب إلا به وهو فعل المكلف فهو واجب، وهذا أولى من أن نقول‏:‏ يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب، إذ قولنا‏:‏ يجب فعل ما ليس بواجب متناقض، وقولنا‏:‏ ما ليس بواجب صار واجبا غير متناقض فإنه واجب، لكن الأصل وجب بالايجاب قصدا إليه، والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود وقد وجب كيفما كان، وإن كان علة وجوبه غير علة وجوب المقصود، فإن قيل لو كان واجبا لكان مقدرا، فما المقدار الذي يجب غسله من الرأس وإمساكنه من الليل‏؟‏ قلنا‏:‏ قد وجب التوصل به إلى الواجب، وهو غير مقدر، بل يجب مسح الرأس، ويكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم، وهو غير مقدر، فكذلك الواجب أقل ما يمكن به غسل الوجه، وهذا التقدير كاف في الوجوب، فإن قيل‏:‏ لو كان واجبا لكان يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وتارك الوضوء لا يعاقب على ما تركه من غسل الرأس، بل من غسل الوجه وتارك الصوم لا يعاقب على ترك الامساك ليلا، قلنا‏:‏ ومن أنبأكم بذلك، ومن أين عرفتم أن ثواب البعيد عن البيت لا يزيد على ثواب القريب في الحج، وأن من زاد عمله لا يزيد ثوابه، وإن كان بطريق التوصل، وأما العقاب فهو عقاب على ترك الصوم والوضوء، وليس يتوزع على أجز اء الفعل، فلا معنى لاضافته إلى التفاصيل، فإن قيل‏:‏ لو قدر على الاقتصار على غسل الوجه لم يعاقب‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا مسلم، لانه إنما يجب على العاجز، أما القاد ر فلا وجوب عليه‏.‏

مسألة ‏(‏حكم اختلاط المنكوحة بالاجنبية‏)‏

قال قائلون‏:‏ إذا اختلطت منكوحة بأجنبية وجب الكف عنهما، لكن الحرام هي الاجنبية، والمنكوحة حلال، ويجب الكف عنها، وهذا متناقض، بل ليس الحرمة والحل وصفا ذاتيا لهما، بل هو متعلق بالفعل، فإذا حرم فعل الوطئ فيهما فأي معنى لقولنا‏:‏ وطئ المنكوحة حلال ووطئ الاجنبية حرام‏؟‏ بل هما حرامان‏.‏ احداهما بعلة الاجنبية، والاخرى بعلة الاختلاط بالاجنبية، فالاختلاف في العلة لا في الحكم وإنما وقع هذا في الاوهام، من حيث ضاهى الوصف بالحل والحرمة الوصف بالعجز والقدرة، والسواد والبياض، والصفات الحسية، وذلك وهم نبهنا عليه، إذ ليست الاحكام صفات للاعيان أصلا، بل نقول‏:‏ إذا اشتبهت رضيعة بنساء بلدة فنكح واحدة حلت، واحتمل أن تكون هي الرضيعة في علم الله تعالى، ولا نقول‏:‏ إنها ليست في علم الله تعالى زوجة له، إذ لا معنى للزوجة إلا من حل وطؤها بنكاح، وهذه قد حل وطؤها، فهي حلال عنده وعند الله تعالى، ولا نقول‏:‏ هي حرام عند الله تعالى وحلال عنده في ظنه، بل إذا ظن الحل فهي حلال عند الله تعالى، وسيأتي تحقيق هذا في مسألة تصويب المجتهد، أما إذا قال لزوجتيه‏:‏ إحداكما طالق، فيحتمل أن يقال‏:‏ يحل وطؤها، والطلاق غير واقع، لانه لم يعين له محلا، فصار كما إذا باع أحد عبديه، ويحتمل أن يقال، حرمتا جميعا، فإنه لا يشترط تعيين محل الطلاق، ثم عليه التعيين، وإليه ذهب أكبر الفقهاء، والمتبع في ذلك موجب ظن المجتهد، أما المصير إلى أن إحد اهما محرمة والاخرى منكوحة كما توهموه في اختلاط المنكوحة بالاجنية فلا ينقدح هاهنا، لان ذلك جهل من الآدمي، عرض بعد التعيين، وأما هنا فليس متعينا، في نفسه، بل يعلمه الله تعالى مطلقا لاحداهما لا بعينها، فإن قيل‏:‏ إذا وجب عليه التعيين فالله تعالى يعلم ما سيعينه، فتكون هي المحرمة المطلقة بعينها في علم الله تعالى، وإنما هو مشكل علينا‏؟‏ قلنا‏:‏ الله تعالى يعلم الاشياء على ما هي عليه، فلا يعلم الطلاق الذي لم يعين محله متعينا، بل يعلمه قابلا للتعيين، إذا عينه المطلق، ويعلم أنه سيعين زينب مثلا، فيتعين الطلاق بتعيينه إذا عين لا قبله، وكذلك نقول في الواجب‏:‏ المخير الله تعالى، يعلم ما سيفعله العبد من خلال الكفارة، ولا يعلمه واجبا بعينه، بل واجبا غير معين في حال، ثم يعلم صيرو رته متعينا بالتعيين، بدليل أنه لو علم أنه يموت قبل التكفير وقبل التعيين، فيعلم الوجوب والطلاق على ما هو عليه من عدم التعيين

مسألة ‏(‏حكم الواجب غير المعروف‏)‏

اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بحد محدود، كمسح الرأس، والطمأنينة في الركوع والسجود، ومدة القيام، إنه إذا زاد على أقل الواجب هل توصف الزيادة بالوجوب‏؟‏ فلو مسح جميع الرأس هل يقع فعله بجملته واجبا‏؟‏ أو الواجب الاقل والباقي ندب، فذهب قوم إلى أن الكل يوصف بالوجوب، لان نسبة الكل إلى الامر واحد، والامر في نفسه أمر واحد، وهو أمر إيجاب، ولا يتميز البعض من البعض، فالكل امتثال، والأولى أن يقال‏:‏ الزيادة على الاقل ندب، فإنه لم يجب إلا أقل ما ينطلق عليه الاسم، وهذا في الطمأنينة، والقيام وما وقع متعاقبا أظهر وكذلك المسح إذا وقع متعاقبا، وما وقع من جملته معا وإن كان لا يتميز بعضه من بعض بالاشارة والتعيين، فيحتمل أن يقال‏:‏ قدر الاقل منه واجب، والباقي ندب، وإن لم يتميز بالاشارة المندوب عن الواجب، لان الزيادة على الاقل لا عقاب على تركها مطلقا من غير شرط بدل، فلا يتحقق فيه حد الوجوب‏.‏

مسألة ‏(‏حقيقة الوجوب والجواز‏)‏

الوجوب يباين الجواز والاباحة بحده فلذلك قلنا يقضي بخطأ من ظن أن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز، بل الحق أنه إذا نسخ رجع الامر إلى ما كان قبل الوجوب من تحريم أو إباحة، وصار الوجوب بالنسخ، كأن لم يكن، فإن قيل‏:‏ كل واجب فهو جائز، وزيادة، إذ الجائز ما لا عقاب على فعله، والواجب أيضا لا عقاب على فعله، وهو معنى الجواز، فإذا نسخ الوجوب فكأنه أسقط العقاب على تركه، فيبقى سقوط العقاب على فعله، وهو معنى الجواز، قلنا‏:‏ هذا كقول القائل‏:‏ كل واجب فهو ندب وزيادة، فإذا نسخ الوجوب بقي الندب، ولا قائل به‏.‏ ولا فرق بين الكلامين، وكلاهما وهم بل الواجب لا يتضمن معنى الجواز فإن حقيقة الجواز التخيير بين الفعل والترك، والتساوي بينهما بتسوية الشرع، وذلك منفي عن الواجب، وذكر هذه المسألة ههنا أولى من ذكرها في كتاب النسخ، فإنه نظر في حقيقة الوجوب والجواز لا في حقيقة النسخ‏.‏

مسألة ‏(‏الجواز ليس فيه أمر‏)‏

كما فهمت أن الواجب لا يتضمن الجواز فافهم أن الجائز لا يتضمن الامر وأن المباح غير مأمور به، لتناقض حديهما كما سبق خلافا للبلخي، فإنه قال‏:‏ المباح مأمور به، لكنه دون الندب، كما أن الندب مأمور به، لكنه دون الواجب، وهذا محال، إذ الامر اقتضاء وطلب، والمباح غير مطلوب، بل مأذون فيه، ومطلق له، فإن استعمل لفظ الامر في الاذن فهو تجوز، فإن قيل‏:‏ ترك الحرام واجب، والسكون المباح يترك به الحرام من الزنا والسرقة والسكوت المباح أو الكلام المباح يترك به الكفر والكذب، وترك الكفر والكذب والزنا مأمور به‏؟‏ قلنا‏:‏ قد يترك بالندب حرام فليكن واجبا، وقد يترك بالحرام حرام آخر، فليكن الشئ الواحد واجبا حراما، وهو تناقض، ويلزم هذا على مذهب من زعم أن الامر بالشئ نهي عن ضده، والنهي عن الشئ أمر بأحد أضداده، بل يلزم عليه كون الصلاة حراما، إذا تحرم بها من ترك الزكاة الواجبة، لانه أحد أضداد الواجب، وكل ذلك قياس مذهب هؤلاء، لكنهم لم يقولوا به، فإن قيل‏:‏ فالمباح هل يدخل تحت التكليف‏؟‏ وهل هو من التكاليف‏؟‏ قلنا‏:‏ إن كان التكليف عبارة عن طلب ما فيه كلفة فليس ذلك في المباح، وإن أريد به ما عرف من جهة الشرع إطلاقه والاذن فيه فهو تكليف، وإن أريد به أنه الذي كلف اعتقاد كونه من الشرع فقد كلف ذلك، لكن لا بنفس الاباحة، بل بأصل الايمان، وقد سماه الاستاذ أبو إسحق رحمه الله تكليفا بهذا التأويل الاخير، وهو بعيد، مع أنه نزاع في اسم، فإن قيل‏:‏ فهل المباح حسن‏؟‏ قلنا‏:‏ إن كان الحسن عبارة عما لفاعله أن يفعله فهو حسن، وإن كان عبارة عما أمر بتعظيم فاعله والثناء عليه أو وجب اعتقاد استحقاقه للثناء والقبيح ما يجب اعتقاد استحقاق صاحبه للذم أو العقاب فليس المباح بحسن، واحترزنا باعتقاد الاستحقاق عن معاصي الانبياء، فقد دل الدليل على وقوعها منهم، ولم يأمر بإهانتهم وذمهم، لكنا نعتقد استحقاقهم لذلك مع تفضل الله تعالى بإسقاط المستحق من حيث أمرنا بتعظيمهم والثناء عليهم‏.‏

مسألة ‏(‏هل المباح من الشريعة‏؟‏‏)‏

المباح من الشرع، وقد ذهب بعض المعتزلة إلى أنه ليس من الشرع، إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت قبل السمع، فمعنى إباحة الشرع شيئا أنه تركه على ما كان عليه قبل ورود السمع ولم يغير حكمه وكل ما لم يثبت تحريمه ولا وجوبه بقي على النفي الأصلي، فعبر عنه بالمباح، وهذا له غور، وكشف الغطاء عنه أن الافعال ثلاثة أقسام‏:‏ قسم بقي على الأصل، فلم يرد فيه من الشرع تعرض لا بصريح اللفظ ولا بدليل من أدلة السمع، فينبغي أن يقال‏:‏ استمر فيه ما كان ولم يتعرض له السمع فليس فيه حكم‏.‏ وقسم صرح الشرع فيه بالتخيير وقال‏:‏ إن شئتم فافعلوه، وإن شئتم فاتركوه، فهذا خطاب، والحكم لا معنى له إلا الخطاب، ولا سبيل إلى إنكاره، وقد ورد‏.‏ وقسم ثالث لم يرد فيه خطاب بالتخيير، لكن دل دليل السمع على أنه نفي الحرج عن فعله وتركه، فقد عرف بدليل السمع، ولولا هذا الدليل لكان يعرف بدليل العقل نفي الحرج عن فاعله، وبقاؤه على النفي الأصلي، فهذا فيه نظر إذ اجتمع عليه دليل العقل والسمع، وفي الطرفين الآخرين أيضا نظر، إذ يمكن أن يقال‏:‏ قول الشارع إن شئت فقم، وإن شئت فاقعد ليس بتجديد حكم، هو تقرير للحكم السابق، ومعنى تقريره أنه ليس يغير أمره بل يتركه على ما هو عليه، فليس ذلك أمرا حادثا بالشرع، فلا يكون شرعيا، وأما الطرف الآخر وهو الذي لم يرد فيه خطاب ولا دليل، فيمكن أيضا إنكاره، بأن يقال‏:‏ قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك، فالمكلف فيه مخير، وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من الافعال، فلا يبقى فعل إلا مدلولا عليه من جهة الشرع، فتكون إباحته من الشرع، وإلا عورض أن الاباحة من جهة الشرع تقرير لا تغيير، وليس مع التقرير تجديد أمر، بل بيان أنه لم يجدد فيه أمرا، بل كف عن التعرض له، وسيأتي لهذا تحقيق في مسألة إقامة الدليل على النافي‏.‏

مسألة ‏(‏التفريق بين المندوب والمباح‏)‏

المندوب مأمور به، وإن لم يكن المباح مأمورا به، لان الامر اقتضاء وطلب، والمباح غير مقتضى، أما المندوب فإنه مقتضى لكن مع إسقاط الذم عن تاركه، والواجب مقتضى، لكن مع ذم تاركه إذا تركه مطلقا، أو تركه وبدله، وقال قوم‏:‏ المندوب غير داخل تحت الامر، وهو فاسد من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه شاع في لسان العلماء أن الامر ينقسم إلى أمر إيجاب وأمر استحباب، وما شاع أنه ينقسم إلى أمر إباحة وأمر إيجاب مع أن صيغة الامر قد تطلق لارادة الاباحة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 2‏}‏ ‏(‏فإذا قضيت الصلاة فانتشروا‏}‏ ‏(‏الجمعة‏:‏ 01‏)‏‏.‏ الثاني‏:‏ إن فعل المندوب طاعة بالاتفاق، وليس طاعة لكونه مرادا، إذ الامر عندنا يفارق الارادة، ولا لكونه موجودا أو حادثا أو لذاته أو نفسه إذ يجري ذلك في المباحات، ولا لكونه مثابا عليه، فإن المأمور وإن لم يثب ولم يعاقب إذا امتثل كان مطيعا، وإنما الثواب للترغيب في الطاعة، ولا نه قد يحبط بالكفر ثواب طاعته، ولا يخرج عن كونه مطيعا، فإن قيل‏:‏ الامر عبارة عن اقتضاء جازم لا تخيير معه، والندب مقرون بتجويز الترك والتخيير فيه، وقولكم‏:‏ أنه يسمى مطيعا، يقابله أنه لو ترك لا يسمى عاصيا، قلنا‏:‏ الندب اقتضاء جازم لا تخيير فيه، لان التخيير عبارة عن التسوية، فإذا رجح جهة الفعل بربط الثواب به ارتفعت التسوية والتخيير، وقد قال تعالى في المحرمات أيضا‏:‏ ‏{‏فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏ ‏(‏الكهف‏:‏ 92‏)‏ فلاينبغي أن يظن أن الامر اقتضاء جازم، بمعنى أن الشرع يطلب منه شيئا لنفسه، بل يطلب منه لما فيه من صلاحه، والله تعالى يقتضي من عباده ما فيه صلاحهم، ولا يرضى الكفر لهم، وكذلك يقتضي الندب لنيل الثواب ويقول‏:‏ الفعل والترك سيان بالاضافة إلي، أما في حقك فلا مساواة ولا خيرة، إذ في تركه ترك صلاحك وثوابك فهو اقتضاء جازم، وأما قولهم‏:‏ أنه لا يسمى عاصيا، فسببه أن العصيان اسم ذم، وقد أسقط الذم عنه، نعم يسمى مخالفا وغير ممتثل، كما يسمى فاعله موافقا ومطيعا‏.‏

مسألة ‏(‏الواجب غير الحرام‏)‏

إذا عرفت أن الحرام ضد الواجب لانه المقتضى تركه، والواجب هو المقتضى فعله، فلا يخفى عليك أن الشئ الواحد يستحيل أن يكون واجبا حراما، طاعة معصية، لكن ربما تخفى عليك حقيقة الواحد، فالواحد ينقسم إلى واحد بالنوع، وإلى واحد بالعدد، أما الواحد بالنوع كالسجود مثلا، فإنه نوع واحد من الافعال، فيجوز أن ينقسم إلى الواجب والحرام، ويكون انقسامه، بالاوصاف والاضافات، كالسجود لله تعالى، والسجود للصنم، إذ أحدهما واجب، والآخر حرام، ولا تناقض، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه تناقض، فإن السجود نوع واحد مأمور به، فيستحيل أن ينهى عنه، بل الساجد للصنم عاص بقصد تعظيم الصنم لا بنفس الجسود، وهذا خطأ فاحش، فإنه إذا تغاير متعلق الامر والنهي لم يتناقض، والسجود للصنم غير السجود لله تعالى، لان اختلاف الاضافات والصفات يوجب المغايرة، إذ الشئ لا يغاير نفسه، والمغايرة تارة تكون باختلاف النوع، وتارة باختلاف الوصف، وتارة باختلاف الاضافة، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله‏}‏ ‏(‏فصلت‏:‏ 73‏)‏ وليس المأمور به هو المنهي عنه، والإجماع منعقد على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعا، فقولهم إن السجود نوع واحد لا يغني مع انقسام هذا النوع إلى أقسام مختلفة المقاصد، إذ مقصود بهذا السجود تعظيم الصنم دون تعظيم الله تعالى، واختلاف وجوه الفعل كاختلاف نفس الفعل في حصول الغيرية الرافعة للتضاد فإن التضاد إنما يكون بالاضافة إلى واحد، ولا وحدة مع المغايرة‏.‏

مسألة ‏(‏الواحد بالتعيين‏)‏

ما ذكرناه في الواحد بالنوع ظاهر، أما الواحد بالتعيين، كصلاة زيد في دار مغصوبة من عمرو، فحركته في الصلاة فعل واحد بعينه هو مكتسبه ومتعلق قدرته، فالذين سلموا في النوع الواحد نازعوا ههنا فقالوا‏:‏ لا تصح هذه الصلاة إذ يؤدي القول بصحتها إلى أن تكون العين الواحدة من الافعال حراما واجبا وهو متناقض، فقيل لهم‏:‏ هذا خلاف إجماع السلف، فإنهم ما أمروا الظلمة عند التوبة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة مع كثرة وقوعها، ولا نهوا الظالمين عن الصلاة في الاراضي المغصوبة، فأشكل الجواب على القاضي أبي بكر رحمه الله فقال‏:‏ يسقط الوجوب عندها لا بها، بدليل الإجماع، ولا يقع واجبا، لان الواجب ما يثاب عليه، وكيف يثاب على ما يعاقب عليه، وفعله واحد وهو كون في الدار المغصوبة وسجوده وركوعه، أكوان اختيارية هو معاقب عليها ومنهي عنها‏؟‏ وكل من غلب عليه الكلام قطع بهذا نظرا إلى اتحاد أكوانه في كل حالة من أحواله، وإن الحادث منه الاكوان لا غيرها، وهو معاقب عليها عاص بها، فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه ومطيعا بما هو به عاص‏؟‏ وهذا غير مرضي عندنا، بل نقول الفعل وإن كان واحدا في نفسه، فإذا كان له وجهان متغايران يجوز أن يكون مطلوبا من أحد الوجهين مكروها من الوجه الآخر، وإنما المحال أن يطلب من الوجه الذي يكره بعينه، وفعله من حيث أنه صلاة مطلوب، ومن حيث أنه غصب مكروه، والغصب معقول دون الصلاة، والصلاة معقولة دون الغصب، وقد اجتمع الوجهان في فعل واحد، ومتعلق الامر والنهي الوجهان المتغايران، وكذلك يعقل من السيد أن يقول لعبده‏:‏ صل اليوم ألف ركعة، وخط هذا الثواب، ولا تدخل هذه الدار، فإن ارتكبت النهي ضربتك، وإن امتثلت الامر أعتقتك، فخاط الثوب في الدار، وصلى ألف ركعة في تلك الدار فيحسن من السيد أن يضربه ويعتقه ويقول‏:‏ أطاع بالخياطة والصلاة، وعصى بدخول الدار، فكذلك فيما نحن فيه من غير فرق، فالفعل وإن كان واحدا فقد تضمن تحصيل أمرين مختلفين، يطلب أحدهما ويكره الآخر، ولو رمى سهما واحدا إلى مسلم بحيث يمرق إلى كافر، أو إلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم، فإنه يثاب ويعاقب، ويملك سلب الكافر ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين، فإن قيل‏:‏ ارتكاب المنهى عنه إذا أخل بشرط العبادة أفسدها بالاتفاق ونية التقرب بالصلاة شرط، والتقرب بالمعصية محال، فكيف ينوي التقرب‏؟‏ فالجواب من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ إن الإجماع إذا انعقد على صحة هذه الصلاة فليعلم به بالضرورة أن نية التقرب ليس بشرط أو نية التقرب بهذه الصلاة ممكن، وأبو هاشم والجبائي ومن خالف في صحة الصلاة مسبوق بإجماع الامة على ترك تكليف الظلمة قضاء الصلوات مع كثرتهم، وكيف ينكر سقوط نية التقرب‏؟‏ وقد اختلفوا في اشتراط نية الفرضية ونية الاضافة إلى الله تعالى، فقال قوم‏:‏ لا يجب إلا أن ينوي الظهر أو العصر، فهو في محل الاجتهاد، وقد ذهب قوم إلى أن الصلاة تجب في آخر الوقت، والصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ آخره أجزأه، ولو بلغ في وسط الوقت مع أنه لا تتحقق الفرضية في حقه، فإن قيل‏:‏ من نوى الصلاة فقد تضمنت نيته القربة‏؟‏ قلنا‏:‏ إذا صحت الصلاة بالإجماع واستحال نية التقرب فتلغى تلك النية، ويصح أن يقال‏:‏ تعلقت نية التقرب ببعض أجزاء الصلاة من الذكر والقراءة، وما لا يزاحم حق المغصوب منه، فإن الاكوان هي التي تتناول منافع الدار، ثم كيف يستقيم من المعتزلة هذا، وعندهم لا يعلم المأمور كونه مأمورا، ولا كون العبادة واجبة قبل الفراغ من الامتثال كما سيأتي، فكيف ينوي التقرب بالواجب وهو لا يعرف وجوبه‏؟‏ الجواب الثاني‏:‏ وهو الاصح، أنه ينوي التقرب بالصلاة ويعصي بالغصب، وقد بينا انفصال أحدهما عن الآخر، ولذلك يجد المصلي من نفسه نية التقرب بالصلاة، وإن كان في دار مغصوبة، لانه لو سكن ولم يفعل فعلا لكان غاصبا في حالة النوم، وعدم استعمال القدرة، وإنما يتقرب بأفعاله، وليست تلك الافعال شرطا لكونه غاصبا، فإن قيل‏:‏ هو في حالة القعود والقيام غاصب بفعله، ولا فعل له إلا قيامه وقعوده وهو متقرب بفعله، فيكون متقربا بعين ما هو عاص به‏؟‏ قلنا‏:‏ هو من حيث أنه مستوف منافع الدار غاصب، ومن حيث أنه أتى بصورة الصلاة متقرب، كما ذكرناه في صورة الخياطة، إذ قد يعقل كونه غاصبا، ولا يعلم كونه مصليا، ويعلم كونه مصليا، ولا يعلم كونه غاصبا، فهما وجهان مختلفان، وإن كان ذات الفعل واحدا‏.‏ الجواب الثالث‏:‏ هو أنا نقول‏:‏ بم تنكرون على القاضي رحمه الله حيث حكم بأن الفرض يسقط عندها لا بها بدليل الإجماع‏؟‏ فسلم أنه معصية، ولكن الامر لا يدل على الاجزاء إذا أتى بالمأمور ولا النهي يدل على عدم الاجزاء، بل يؤخذ الاجزاء من دليل آخر كما سيأتي‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذه المسألة اجتهادية أم قطعية‏؟‏ قلنا‏:‏ هي قطعية، والمصيب فيها واحد، لان من صحح، أخذ من الإجماع، وهو قاطع، ومن أبطل أخذ من التضاد الذي بين القربة والمعصية، ويدعى كون ذلك محالا، بدليل العقل، فالمسألة قطعية، فإن قيل‏:‏ ادعيتم الإجماع في هذه المسألة، وقد ذهب أحمد بن حنبل إلى بطلان هذه الصلاة، وبطلان كل عقد منهي عنه حتى البيع في وقت النداء يوم الجمعة، فكيف تحتجون عليه بالإجماع‏؟‏ قلنا‏:‏ الإجماع حجة عليه، إذ علمنا أن الظلمة لم يؤمروا بقضاء الصلوات مع كثرة وقوعها، مع أنهم لو أمروا به لانتشر وإذا أنكر هذا فيلزمه ما هو أظهر منه، وهو أن لا تحل امرأة لزوجها وفي ذمته دانق ظلم به، ولا يصح بيعه ولا صلاته ولا تصرفاته، وأنه لا يحصل التحليل بوطئ من هذه حاله، لانه عصى بترك رد المظلمة، ولم يتركها إلا بتزويجه، وبيعه وصلاته وتصرفاته، فيؤدي إلى تحريم أكثر النساء، وفوات أكثر الاملاك، وهو خرق للإجماع قطعا، وذلك لا سبيل إليه‏.‏

مسألة ‏(‏المكروه غير الواجب‏)‏

كما يتضاد الحرام والواجب فيتضاد المكروه والواجب، فلا يدخل مكروه تحت الامر حتى يكون شئ واحد مأمورا به مكروها، إلا أن تنصرف الكراهية عن ذات المأمور إلى غيره، ككراهية الصلاة في الحمام وأعطان الابل وبطن الوادي وأمثاله، فإن المكروه في بطن الوادي التعرض لخطر السيل، وفي الحمام التعرض للرشاش، أو لتخبط الشياطين، وفي أعطان الابل التعرض لنفارها، وكل ذلك مما يشغل القلب في الصلاة، وربما شوش الخشوع، بحيث لا ينقدح صرف الكراهة عن المأمور إلى ما هو في جواره وصحبته، لكونه خارجا عن ماهيته وشروطه وأركانه، فلا يجتمع الامر والكراهية، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 92‏)‏ لا يتناول طواف المحدث الذي نهي عنه لان المنهي عنه لا يكون مأمورا به، والمنهي عنه في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة انفصل عن المأمور، إذ المأمور به الصلاة والمنهي عنه الغصب وهو في جواره‏.‏

مسألة ‏(‏أصناف الترك ذات المتروك‏)‏

المتفقون على صحة الصلاة في الدار المغصوبة ينقسم النهي عندهم إلى ما يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه، وإلى ما يرجع إلى غيره فلا يضاد وجوبه، وإلى ما يرجع إلى وصف المنهي عنه لا إلى أصله، وقد اختلفوا في هذا القسم الثالث، ومثال القسمين الأولين ظاهر، ومثال القسم الثالث‏:‏ أن يوجب الطواف وينهى عن إيقاعه مع الحدث، أو يأمر بالصوم وينهى عن إيقاعه في يوم النحر، فيقال‏:‏ الصوم من حيث أنه صوم مشروع مطلوب، ومن حيث أنه واقع في هذا اليوم غير مشروع، والطواف مشروع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 92‏)‏ ولكن وقوعه في حالة الحدث مكروه، والبيع من حيث أنه بيع مشروع، ولكن من حيث وقوعه مقترنا بشرط فاسد أو زيادة في العوض في الربويات مكروه، والطلاق من حيث أنه طلاق مشروع، ولكن من حيث وقوعه في الحيض مكروه، وحراثة الولد من حيث أنها حراثة مشروعة، ولكنها من حيث وقوعها في غير المنكوحة مكروهة، والسفر من حيث أنه سفر مشروع، ولكن من حيث قصد الاباق به عن السيد غير مشروع، فجعلابو حنيفة هذا قسما ثالثا، وزعم أن ذلك يوجب فساد الوصف لا انتفاء الأصل، لانه راجع إلى الوصف لا إلى الأصل، والشافعي رحمه الله ألحق هذا بكراهة الأصل ولم يجعله قسما ثالثا، وحيث نفذ الطلاق في الحيض صرف النهي عن أصله ووصفه إلى تطويل العدة أولو حق الندم عند الشك في الولد، وأبو حنيفة حيث أبطل صلاة المحدث دون طواف المحدث زعم أن الدليل قد دل على كون الطهارة شرطا في الصلاة، فإنه قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا صلاة إلا بطهور فهو نفي للصلاة لا نهي، وفي المسألة نظران‏:‏ أحدهما‏:‏ في موجب مطلق النهي من حيث اللفظ، وذلك نظر في مقتضى الصيغة، وهو بحث لغوي نذكره في كتاب الاوامر والنواهي‏.‏

والنظر الثاني‏:‏ نظر في تضاد هذه الاوصاف

وما يعقل اجتماعه وما لا يعقل إذا وقع التصريح به من القائل وهو أنه‏:‏ هل يعقل أن يقول السيد لعبده‏:‏ أنا آمرك بالخياطة وأنهاك عنها، ولا شك في أن ذلك لا يعقل منه، فإنه فيه يكون الشئ الواحد مطلوبا مكروها، ويعقل منه أن يقول‏:‏ أنا أطلب منك الخياطة وأكره دخول هذه الدار والكون فيها ولا يتعرض في النهي للخياطة وذلك معقول، وإذا خاط في تلك الدار أتى بمطلوبه ومكروهه جميعا، وهل يعقل أن يقول‏:‏ أطلب منك الخياطة وأنهاك عن إيقاعها في وقت الزوال، فإذا خاط في وقت الزوال فهل جمع بين المكروه والمطلوب أو ما أتى بالمطلوب‏؟‏ هذا في محل النظر، والصحيح أنه ما أتى بالمطلوب، وأن المكروه هي الخياطة الواقعة وقت الزوال لا الوقوع في وقت الزوال، مع بقاء الخياطة مطلوبة إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن الواقع، فإن قيل‏:‏ فلم صحت الصلاة في أوقات الكراهة ولم صحت الصلاة الواقعة في الاماكن السبعة من بطن الوادي وأعطان الابل‏؟‏ وما الفرق بينهما وبين النهي عن صوم يوم النحر‏؟‏ قلنا‏:‏ من صحح هذه الصلوات لزمه صرف النهي عن أصل الصلاة ووصفها إلى غيره، وقد اختلفوا في انعقاد الصلاة في الاوقات المكروهة لترددهم في أن النهي نهي عن إيقاع الصلاة من حيث أنه إيقاع صلاة أو من أمر آخر مقترن به، وأما صوم يوم النحر فقطع الشافعي رحمه الله ببطلانه، لانه لم يظهر انصراف النهي عن عينه ووصفه، ولم يرتض قولهم أنه نهى عنه، لما فيه من ترك إجابة الدعوة بالاكل، فإن الاكل ضد الصوم، فكيف يقال له‏:‏ كل، أي أجب الدعوة، ولا تأكل، أي صم‏؟‏ والآن تفصيل هذه المسائل ليس على الاصولي، بل هو موكول إلى نظر المجتهدين في الفروع، وليس على الاصولي إلا حصر هذه الاقسام الثلاثة وبيان حكمها في التضاد وعدم التضاد، وأما النظر في آحاد المسائل أنها من أي قسم هي فإلى المجتهد، وقد يعلم ذلك بدليل قاطع، وقد يعلم ذلك بظن وليس على الاصولي شئ من ذلك، وتمام النظر في هذا ببيان أن النهي المطلق يقتضي من هذه الاقسام أيها، وأنه يقتضي كون المنهي عنه مكروها لذاته أو لغيره أو لصفته، وسيأتي‏.‏

مسألة ‏(‏هل الامر بشئ ترك لغيره‏)‏

اختلفوا في أن الامر بالشئ، هل هو نهي عن ضده‏؟‏ وللمسألة طرفان‏:‏ أحدهما يتعلق بالصيغة، ولا يستقيم ذلك عند من لا يرى للامر صيغة، ومن رأى ذلك فلا شك في أن قوله‏:‏ قم، غير قوله‏:‏ لا تقعد، فإنهما صورتان مختلفتان، فيجب عليهم الرد إلى المعنى، وهو أن قوله‏:‏ قم، له مفهومان، أحدهما‏:‏ طلب القيام، والآخر ترك القعود، فهو دال على المعنيين، فالمعنيان المفهومان منه متحدان، أو أحدهما غير الآخر، فيجب الرد إلى المعنى‏.‏ والطرف الثاني‏:‏ البحث عن المعنى القائم بالنفس، وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود أم لا، وهذا لا يمكن فرضه في حق الله تعالى، فإن كلامه واحد، هو أمر ونهي ووعد ووعيد، فلا تتطرق الغيرية إليه، فليفرض في المخلوق، وهو أن طلبه للحركة‏:‏ هل هو بعينه كراهة للسكون وطلب لتركه‏؟‏ وقد أطلق المعتزلة أنه ليس الامر بالشئ نهيا عن ضده، واستدل القاضي أبو بكر رحمه الله عليهم بأن قال‏:‏ لا خلاف أن الآمر بالشئ ناه عن ضده، فإذا لم يقم دليل على اقتران شئ آخر بأمره دل على أنه ناه بما هو آمر به، قال‏:‏ وبهذا علمنا أن الكسون عين ترك الحركة، وطلب السكون عين طلب ترك الحركة، وشغل الجوهر بحيز انتقل إليه عين تفريغه للحيز المنتقل عنه، والقرب من المغرب عين البعد من المشرق، فهل فعل واحد بالاضافة إلى المشرق بعد، وبالاضافة إلى المغرب قرب، وكون واحد بالاضافة إلى خير شغل وبالاضافة إلى آخر تفريغ زكذلك ههنا طلب واحد بالاضافة إلى السكون أمر، وإلى الحركة نهي، قال‏:‏ والدليل على أنه ليس معه غيره أن ذلك الغير لا يخلو من أن يكون ضدا له أو مثلا أو خلافا، ومحال كونه ضدا لانهما لا يجتمعان وقد اجتمعا، ومحال كونه مثلا لتضاد المثلين، ومحال كونه خلافا، إذ لو كان خلافا لجاز وجود أحدهما دون الآخر، أما هذا دون ذاك أو ذاك دون هذا، كإرادة الشئ مع العلم به لما اختلفا تصور وجود العلم دون الارادة، وإن لم يتصور وجود الارادة دون العلم، بل كان يتصور وجوده مع ضد الآخر، وضد النهي عن الحركة الامر بها، فلنجز أن يكون آمرا بالسكون والحركة معا فيقول‏:‏ تحرك واسكن، وقم واقعد، وهذا الذي ذكره دليل على المعتزلة، حيث منعوا تكليف المحال، وإلا فمن يجوز ذلك يجوز أن يقول‏:‏ إجمع بين القيام والقعود، ولا نسلم أيضا أن ضرورة كل آمر بالشئ أن يكون ناهيا عن ضده، بل يجوز أن يكون آمرا بضده، فضلا عن أن يكون لا آمرا ولا ناهيا، وعلى الجملة‏:‏ فالذي صح عندنا بالبحث النظري الكلامي تفريعا على إثبات كلام النفس، أن الامر بالشئ ليس نهيا عن ضده لا بمعنى أنه عينه، ولا بمعنى أنه يتضمنه ولا بمعنى أنه يلازمه، بل يتصور أن يأمر بالشئ من هو ذاهل عن أضداده، فكيف يقوم بذاته قول متعلق بما هو ذاهل عنه، وكذلك ينهى عن الشئ ولا يخطر بباله أضداده حتى يكون آمرا بأحد أضداده ولا بعينه، فإن أمر ولم يكن ذاهلا عن أضداد المأمور به فلا يقوم بذاته زجر عن أضداده مقصود، إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل أضداد المأمور به فلا يقوم يذاته زجر عن أضداد مقصود إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل المأمور به إلا بترك أضداده، فيكون ترك أضداد المأمور ذريعة بحكم ضرورة الوجود لا بحكم ارتباط الطلب به، حتى لو تصور على الاستحالة الجمع بين القيام القعود إذا قيل له قم، فجمع كان ممتثلا لانه لم يؤمر إلا بإيجاد القيام وقد أوجده، ومن ذهب إلى هذا المذهب لزمه فضائح الكعبي من المعتزلة، حيث أنكر المباح وقال‏:‏ ما من مباح إلا وهو ترك لحرام فهو واجب ويلزمه وصف الصلاة بأنها حرام إذا ترك بها الزكاة الواجبة على الفور، وإن فرق مفرق فقال‏:‏ النهي ليس أمرا بالضد، والامر نهي عن الضد لم يجد إليه سبيلا إلا التحكم المحض، فإن قيل‏:‏ فقد قلتم‏:‏ إن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتوصل إلى فعل الشئ إلا بترك ضده فليكن واجبا‏؟‏ قلنا‏:‏ ونحن نقول ذلك واجب، وإنما الخلاف في إيجابه، هل هو عين إيجاب المأمور به أو غيره‏؟‏ فإذا قيل‏:‏ إغسل الوجه فليس عين هذا إيجابا بالغسل جزء من الرأس، ولا قوله‏:‏ صم النهار، إيجابا بعينه، لامساك جزء من الليل، ولذلك لا يجب أن ينوي إلا صوم النهار، ولكن ذلك يجب بدلالة العقل على وجوبه من حيث هو ذريعة إلى المأمور، لا أنه عين ذلك الايجاب، فلا منافاة بين الكلامين‏.‏

الفن الثالث من القطب الأول في أركان الحكم

وهي أربعة‏:‏ الحاكم، والمحكوم عليه، والمحكوم فيه، ونفس الحكم‏.‏ أما نفس الحكم‏:‏ فقد ذكرناه، وأنه يرجع إلى الخطاب وهو الركن الأول‏.‏ الركن الثاني‏:‏ الحاكم، وهو المخاطب، فإن الحكم خطاب، وكلام فاعله كل متكلم، فلا يشترط في وجود صورة الحكم إلا هذا القدر، أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والامر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والاب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شئ بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه الايجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذا الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته، فإن قيل‏:‏ لا بل من قدر على التوعد بالعقاب وتحقيقه حسا فهو أهل للايجاب، إذ الوجوب إنما يتحقق بالعقاب قلنا‏:‏ قد ذكرنا من مذهب القاضي رحمه الله أن الله تعالى‏:‏ لو أوجب شيئا لوجب وإن لم يتوعد عليه بالعقاب، لكن عند البحث عن حقيقة الوجوب لا يتحصل على طائل إذا لم يتعلق به ضرر محذور، وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه، إلا أن العادة جارية بتخصيص هذا الاسم بالضرر الذي يحذر في الآخرة، ولا قدرة عليه إلا لله تعالى،، فإن أطلق على كل ضرر محذور وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه الآدمي، فعند ذلك يجوز أن يكون موجبا، لا بمعنى أنا نتحقق قدرته عليه، فإنه ربما يعجز عنه قبل تحقيق الوعيد، لكن نتوقع قدرته ويحصل به نوع خوف‏.‏ الركن الثالث‏:‏ المحكوم عليه، وهو المكلف، وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب، فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة، بل خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز، لان التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال، ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال، وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف، فكل خطاب متضمن للامر بالفهم، فمن لا يفهم كيف يقال له‏:‏ إفهم ومن لا يسمع الصوت، كالجماد كيف يكلم، وإن سمع الصوت كالبهيمة، ولكنه لا يفهم فهو كمن لا يسمع، ومن يسمع وقد يفهم فهما ما لكنه لا يعقل، ولا يثبت، كالمجنون وغير المميز، فمخاطبته ممكنة لكن اقتضاء الامتثال منه، مع أنه لا يصح منه قصد صحيح غير ممكن، فإن قيل‏:‏ فقد وجبت الزكاة والغرامات والنفقا ت على الصبيان، قلنا‏:‏ ليس ذلك من التكليف في شئ، إذ يستحيل التكليف بفعل الغير وتجب الدية على العاقلة، لا بمعنى أنهم مكلفون بفعل الغير، ولكن بمعنى أن فعل الغير سبب لثبوت الغرم في ذمتهم، فكذلك الاتلاف، وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمة الصبيان بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالاداء في الحال وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ، وذلك غير محال، إنما المحال أن يقال لمن لا يفهم إفهم، وأن يخاطب من لا يسمع ولا يعقل‏.‏ وأما أهلية ثبوت الاحكام في الذمة‏:‏ فمستفاد من الانسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف في ثاني الحال، حتى أن البهيمة لما لم تكن لها أهلية فهم الخطاب بالفعل ولا بالقوة لم تتهيأ لاضافة الحكم إلى ذمتها، والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكنا أن يحصل على القرب، فيقال أنه موجود بالقوة، كما أن شرط المالكية الانسانية، وشرط الانسانية الحياة، والنطفة في الرحم قد يثبت لها الملك بالارث والوصية، والحياة غير موجودة بالفعل، ولكنها بالقوة، إذ مصيرها إلى الحياة، فكذلك الصبي، مصيره إلى العقل، فصلح لاضافة الحكم إلى ذمته، ولم يصلح للتكليف في الحال‏.‏ فإن قيل‏:‏ فالصبي المميز مأمور بالصلاة، قلنا‏:‏ مأمور من جهة الولي، والولي مأمور من جهة الله تعالى، إذ قال عليه السلام‏:‏ مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وذلك لانه يفهم خطاب الولي ويخاف ضربه، فصار أهلا له، ولا يفهم خطاب الشارع إذ لا يعرف الشارع ولا يخاف عقابه، إذ لا يفهم الآخرة، فإن قيل‏:‏ فإذا قارب البلوغ عقل ولم يكلفه الشرع أفيدل ذلك على نقصان عقله‏؟‏ قلنا‏:‏ قال القاضي أبو بكر رحمه الله‏:‏ ذلك يدل عليه، وليس يتجه ذلك، لان انفصال النطفة منه لا يزيده عقلا لكن حط الخطاب عنه تخفيفا، لان العقل خفي، وإنما يظهر فيه على التدريج، فلا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي يفهم به خطاب الشرع ويعرف المرسل والرسول والآخرة فنصب الشرع له علامة ظاهرة‏.‏ مسأله ‏(‏هل يكلف الغافل والناس‏؟‏‏)‏ تكليف الناسي والغافل عما يكلف محال، إذ من لا يفهم كيف يقال له‏:‏ إفهم، أما ثبوت الاحكام بأفعاله في النوم والغفلة فلا ينكر، كلزوم الغرامات وغيرها، وكذلك تكليف السكران الذي لا يعقل محال، كتكليف الساهي والمجنون والذي يسمع ولا يفهم، بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكن تنبيهه، ومن المجنون الذي يفهم كثيرا من الكلام، وأما نفوذ طلاقه ولزوم الغرم فذلك من قبيل ربط الاحكام بالاسباب، وذلك مما لا ينكر، فإن قيل‏:‏ فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏في‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 34‏)‏، وهذا خطاب للسكران قلنا إذا ثبت بالبرهان استحالة خطابه وجب تأويل الآية، ولها تأويلان‏:‏ أحدهما أنه خطاب مع المنتشي الذي ظهر فيه مبادئ النشاط والطرب، ولم يزل عقله، فإنه قد يستحسن من اللعب والانبساط ما لا يستحسنه قبل ذلك ولكنه عاقل‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 34‏)‏ معناه‏:‏ حتى تتبينوا ويتكامل فيكم ثباتكم، كما يقال للغضبان، إصبر حتى تعلم ما تقول‏:‏ أي حتى يسكن غضبك فيكمل علمك، وإن كان أصل عقله باقيا، وهذا لانه لا يشتغل بالصلاة، مثل هذا السكران، وقد يعسر عليه تصحيح مخارج الحروف وتمام الخشوع‏.‏ الثاني‏:‏ أنه ورد الخطاب به في ابتداء الاسلام قبل تحريم الخمر، وليس المراد المنع من الصلاة، بل المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة، كما يقال‏:‏ لا تقرب التهجد وأنت شبعان، ومعناه‏:‏ لا تشبع فيثقل عليك التهجد‏.‏

مسألة ‏(‏أمر الله تعالى في الازل‏)‏

فإن قال قائل‏:‏ ليس من شرط الامر عندكم كون المأمور موجودا إذ قضيتم بأن الله تعالى آمر في الازل لعباده قبل خلقهم، فكيف شرطتم كون المكلف سميعا عاقلا، والسكران والناسي والصبي والمجنون أقرب إلى التكليف من المعدوم‏؟‏ قلنا‏:‏ ينبغي أن يفهم معنى قولنا إن الله تعالى آمر وإن المعدوم مأمور فإنا نعني به أنه مأمور على تقدير الوجود، لا أنه مأمور في حالة العدم، إذ ذلك محال، لكن أثبت الذاهبون إلى إثبات كلام النفس أنه لا يبعد أن يقوم بذات الاب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد، وإنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا بذلك الطلب ومأمورا به، فكذلك المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد قديم، تعلق بعباده على تقدير وجودهم فإذا وجدوا صاروا مأمورين بذلك الاقتضاء، ومثل هذا جار في حق الصبي والمجنون، فإن انتظار العقل لا يزيد على انتظار الوجود، ولا يسمى هذا المعنى في الازل خطابا، إنما يصير خطابا إذا وجد المأمور وأسمع، وهل يسمى أمرا‏؟‏ فيه خلاف، والصحيح أنه يسمى به، إذ يحسن أن يقال فيمن أوصى أولاده بالتصدق بماله أن يقال‏:‏ فلان أمر أولاده بكذا، وإن كان بعض أولاده مجتنا في البطن، أو معدوما، ولا يحسن أن يقال‏:‏ خاطب أولاده إلا إذا حضروا وسمعوا ثم إذا أوصى فنفذوا وصيته، يقال‏:‏ قد أطاعوه وامتثلوا أمره، مع أن الآمر الآن معدوم، والمأمور كان وقت وجود الآمر معدوما، وكذلك نحن الآن بطاعتنا ممتثلون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معدوم عن عالمنا هذا، وإن كان حيا عند الله تعالى، فإذا لم يكن وجود الآمر شرطا لكون المأمور مطيعا ممتثلا، فلم يشترط وجود المأمور، لكون الامر أمرا‏.‏ فإن قيل‏:‏ أفتقولون إن الله تعالى في الازل آمر للمعدوم على وجه الالزام‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم، نحن نقول‏:‏ هو آمر، لكن على تقدير الوجود، كما يقال‏:‏ الوالد موجب وملزم على أولاده التصدق إذا عقلوا وبلغوا فيكون الالزام والايجاب حاصلا، ولكن بشرط الوجود والقدرة‏.‏ ولو قال لعبده‏:‏ صم غدا، فقد أوجب وألزم في الحال صوم الغد، ولا يمكن صوم الغد في الوقت، بل في الغد، وهو موصوف بأنه ملزم وموجب في الحال‏.‏ الركن الرابع‏:‏ المحكوم فيه، وهو الفعل، إذ لا يدخل تحت التكليف إلا الافعال الاختيارية، وللداخل تحت التكليف شروط‏:‏ الأول‏:‏ صحة حدوثه، لاستحالة تعلق الامر بالقديم والباقي، وقلب الاجناس والجمع بين الضدين وسائر المحالات التي لا يجوز التكليف بها عند من يحيل تكليف ما لا يطاق، فلا أمر إلا بمعدوم يمكن حدوثه، وهل يكون الحادث في أول حال حدوثه مأمورا به كما كان قبل الحدوث، أو يخرج عن كونه مأمورا كما في الحالة الثانية من الوجود‏؟‏ اختلفوا فيه، وفيه بحث كلامي لا يليق بمقاصد أصول الفقه ذكره‏.‏ الثاني‏:‏ جواز كونه مكتسبا للعبد حاصلا باختياره، إذ لا يجوز تكليف زيد كتابة عمرو وخياطته، وإن كان حدوثه ممكنا، فليكن مع كونه ممكنا مقدورا للمخاطب‏.‏ الثالث‏:‏ كونه معلوما للمأمور معلوم التمييز عن غيره حتى يتصور قصده إليه، وأن يكون معلوما كونه مأمورا به من جهة الله تعالى، حتى يتصور منه قصد الامتثال، وهذا يختص بما يجب فيه قصد الطاعة والتقرب، فإن قيل‏:‏ فالكافر مأمور بالايمان بالرسول عليه السلام وهو لا يعلم أنه مأمور به‏؟‏ قلنا‏:‏ الشرط لا بد أن يكون معلوما أو في حكم المعلوم، بمعنى أن يكون العلم ممكنا بأن تكون الأدلة منصوبة والعقل والتمكن من النظر حاصلا، حتى أن ما لا دليل عليه أو من لا عقل له مثل الصبي والمجنون لا يصح في حقه‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون بحيث يصح إرادة إيقاعه طاعة وهو أكثر العبادات، ويستثنى من هذا شيئان‏:‏ أحدهما‏:‏ الواجب الأول، وهو النظر المعرف للوجوب، فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة وهو لا يعرف وجوبه إلا بعد الاتيان به، والثاني‏:‏ أصل إرادة الطاعة والاخلاص، فإنه لو افتقرت إلى إرادة لافتقرت الارادة إلى إرادة ولتسلسل ويتشعب عن شروط الفعل خمس مسائل‏.‏

مسألة ‏(‏هل المكلف به ممكن الحدوث‏؟‏‏)‏

ذهب قوم إلى أن كون المكلف به ممكن الحدوث ليس بشرط، بل يجوز تكليف ما لا يطاق، والامر بالجمع بين الضدين، وقلب الاجناس وإعدام القديم، وإيجاد الموجود، وهو المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن الاشعري رحمه الله، وهو لازم على مذهبه من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن القاعدة عنده غير قادر على القيام إلى الصلاة، لان الاستطاعة عنده مع الفعل لا قبله، وإنما يكون مأمورا قبله‏.‏ والآخر‏:‏ أن القدرة الحادثة لا تأثير لها في إيجاد المقدور بل أفعالنا حادثة بقدرة الله تعالى واختراعه، فكل عبد هو عنده مأمور بفعل الغير واستدل على هذا بثلاثة أشياء‏:‏ أحدها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 286‏)‏ والمحال لا يسأل دفعه، فإنه مندفع بذاته، وهو ضعيف، لان المراد به ما يشق ويثقل علينا، إذ من أتعب بالتكليف بأعمال تكاد تفضي إلى هلاكه لشدتها كقوله‏:‏ اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم، فقد يقال‏:‏ حمل ما لا طاقة له به، فالظاهر المؤول ضعيف الدلالة في القطعيات‏.‏ الثاني‏:‏ قولهم أن الله تعالى أخبر أن أبا جهل لا يصدق وقد كلفه الايمان، ومعناه أن يصدق محمدا فيما جاء به ومما جاء به أنه لا يصدقه، فكأنه أمره أن يصدقه في أن لا يصدقه وهو محال‏.‏ وهذا ضعيف أيضا، لان أبا جهل أمر بالايمان بالتوحيد والرسالة والأدلة منصوبة والعقل حاضر، إذ لم يكن هو مجنونا، فكان الامكان حاصلا، لكن الله تعالى علم أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا، فالعلم يتبع المعلوم ولا يغيره، فإذا علم كون الشئ مقدورا لشخص وممكنا منه ومتروكا من جهته مع القدرة عليه، فلو انقلب محالا لانقلب العلم جهلا ويخرج عن كونه ممكنا مقدورا، وكذلك نقول‏:‏ القيامة مقدور عليها من جهة الله تعالى في وقتنا هذا، وإن أخبر أنه لا يقيمها ويتركها مع القدرة عليها، وخلاف خبره محال، إذ يصير وعيده كذبا، ولكن هذه استحالة لا ترجع إلى نفس الشئ فلا تؤثر فيه‏.‏ الثالث‏:‏ قولهم‏:‏ لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته أو لمعناه أو لمفسدة تتعلق به، أو لانه يناقض الحكمة ولا يستحيل لصيغته، إذ لا يستحيل أن يقول‏:‏ ‏{‏كونوا قردة خاسئين‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 56‏)‏، وأن يقول السيد لعبده الاعمى‏:‏ أبصر، وللزمن إمش، وأما قيام معناه بنفسه فلا يستحيل أيضا إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه في حالة واحدة في مكانين ليحفظ‏:‏ ماله في بلدين، ومحال أن يقال أنه ممتنع للمفسدة أو مناقضة الحكمة، فإن بناء الامور على ذلك في حق الله تعالى محال إذ لا يقبح منه شئ، ولا يجب عليه الأصلح، ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد، والفساد والسفه من المخلوق ممكن، فلم يمتنع ذلك مطلقا، والمختار استحالة التكليف بالمحال لا لقبحه ولا لمفسدة تنشأ عنه ولا لصيغته، إذ يجوز أن ترد صيغته، ولكن للتعجيز لا للطلب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كونوا حجارة أو حديدا‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 05‏)‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏كونوا قردة خاسئين‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 56‏)‏ أو لاظهار القدرة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏ ‏[‏ البقره‏:‏ 117، آل عمران‏:‏ 47 و 59، الانعام‏:‏ 73، النحل‏:‏ 240، مريم‏:‏ 35، ‏(‏يس‏:‏ 82‏)‏ غافر‏:‏ 68 لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه، ولكن يمتنع لمعناه، إذ معنى التكليف طلب ما فيه كلفة، والطلب يستدعي مطلوبا، وذك المطلوب ينبغي أن يكون مفهوما للمكلف بالاتفاق، فيجوز أن يقول‏:‏ تحرك، إذ التحرك مفهوم، فلو قال له‏:‏ تمرك، فليس بتكليف، إذ معناه ليس بمعقول ولا مفهوم ولا له معنى في نفسه، فإنه لفظ مهمل، فلو كان له معنى في بعض اللغات يعرفه الآمر دون المأمور، فلا يكون ذلك تكليفا أيضا، لان التكليف هو الخطاب بما فيه كلفة، وما لا يفهمه المخاطب لا يكون خطابا معه، وإنما يشترط كونه مفهوما ليتصور منه الطاعة، لان التكليف اقتضاء طاعة، فإذا لم يكن في العقل طاعة لم يكن اقتضاء الطاعة متصورا معقولا، إذ يستحيل أن يقوم بذات العاقل طلب الخياطة من الشجر، لان الطلب يستدعي مطلوبا معقولا أولا، وهذا غير معقول، أي لا وجود له في العقل، فإن الشئ قبل أن يوجد في نفسه، فله وجود في العقل، وإنما يتوجه إليه الطلب بعد حصوله في العقل، وإحداث القديم غير داخل في العقل، فكيف يقوم بذاته طلب إحداث القديم‏؟‏ وكذلك سواد الابيض لا وجود له في العقل، وكذلك قيام القاعدة، فكيف يقول له‏:‏ قم وأنت قاعد‏؟‏ فهذا الطلب يمتنع قيامه بالقلب لعدم المطلوب، فإنه كما يشترط في المطلوب أن يكون معدوما في الاعيان، يشترط أن يكون موجودا في الاذهان، أي في العقل، حتى يكون إيجاده في الاعيان على وفقه في الاذهان، فيكون طاعة وامتثالا، أي احتذاء لمثال ما في نفس الطالب، فما لا مثال له في النفس لا مثال له في الوجود، فإن قيل‏:‏ فإذا لم يعلم عجز المأمور عن القيام تصور أن يقوم بذاته طلب القيام قلنا‏:‏ ذلك طلب مبني على الجهل، وربما يظن الجاهل أن ذلك تكليف فإذا انكشف تبين أنه لم يكن طلبا، وهذا لا يتصور من الله تعالى‏.‏ فإن قيل‏:‏ فإذا لم تؤثر القدرة الحادثة في الايجاد وكانت مع الفعل كان كل تكليف تكليفا بما لا يطاق قلنا‏:‏ نحن ندرك بالضرورة تفرقه بين أن يقال للقاعد الذي ليس بزمن‏:‏ أدخل البيت، وبين أن يقال له إطلع السماء، أو يقال له‏:‏ قم، مع استدامة القعود، أو إقلب السواد حركة والشجرة فرسا، إلا أن النظر في أن هذه التفرقة إلى ماذا ترجع ويعلم أنها ترجع إلى تمكن، وقدرة بالاضافة إلى أحد هذه الاوامر دون البقية، ثم النظر في تفصيل تأثير القدرة، وقت حدوث القدرة كيف ما استقر أمره لا يشككنا في هذا، ولذلك جاز أن نقول‏:‏ ‏{‏لا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 682‏)‏ فإن استوت الامور كلها فأي معنى لهذا الدعاء، وأي معنى لهذه التفرقة الضرورية‏؟‏ فغرضنا من هذه المسألة غير موقوف على البحث عن وجه تأثير القدرة ووقتها، وعلى الجملة سبب غموض هذا، أن التكليف نوع خاص من كلام النفس، وفي فهم أصل كلام النفس غموض، فالتفريع عليه، وتفصيل أقسامه لا محالة يكون أغمض‏.‏

مسألة ‏(‏الجمع بين الاضداد‏)‏

كما لا يجوز أن يقال‏:‏ إجمع بين الحركة والسكون، لا يجوز أن يقال‏:‏ لا تتحرك ولا تسكن، لان الانتهاء عنهما محال، كالجمع بينهما، فإن قيل‏:‏ فمن توسط مزرعة مغصوبة فيحرم عليه المكث ويحرم عليه الخروج، إذ في كل واحد، إفساد زرع الغير فهو عاص بهما‏؟‏ قلنا‏:‏ حظ الاصولي من هذا أن يعلم أنه لا يقال له‏:‏ لا تمكث ولا تخرج، ولا ينهى عن الضدين، فإنه محال‏:‏ كما لا يؤمر بجمعهما، فإن قيل‏:‏ فما يقال له‏؟‏ قلنا‏:‏ يؤمر بالخروج كما يؤمر المولج في الفرج الحرام بالنزع، وإن كان به مماسا للفرج الحرام، ولكن يقال له‏:‏ إنزع على قصد التوبة، لا على قصد الالتذاذ، فكذلك في الخروج من الغصب تقليل الضرر في المكث تكثيره، وأهون الضررين يصير واجبا وطاعة بالاضافة إلى أعظمهما، كما يصير شرب الخمر واجبا في حق من غص بلقمة، وتناول طعام الغير واجبا على المضطر في المخمصة وإفساد مال الغير ليس حراما لعينه، ولذلك لو أكره عليه بالقتل وجب أو جاز، فإن قيل‏:‏ فلم يجب الضمان بما يفسده في الخروج‏؟‏ قلنا‏:‏ الضمان لا يستدعي العدوان إذ يجب على المضطر في المخمصة مع وجوب الاتلاف ويجب على الصبي وعلى من رمى إلى صف الكفار وهو مطيع به فإن قيل فالمضي في الحج الفاسد إن كان حراما للزوم القضاء فلم يجب، وإن كان واجبا و طاعة، فلم وجب القضاء ولم عصى به‏؟‏ قلنا‏:‏ عصى بالوطء المفسد، وهو مطيع بإتمام الفاسد، والقضاء يجب بأمر مجدد، وقد يجب بما هو طاعة إذا تطرق إليه خلل، وقد يسقط القضاء بالصلاة في الدار المغصوبة، مع أنه عدوان، فالقضاء كالضمان، فإن قيل‏:‏ فبم تنكرون على أبي هاشم حيث ذهب إلى أنه لو مكث عصى ولو خرج عصى، وأنه ألقى بنفسه في هذه الورطة، فحكم العصيان ينسحب على فعله، قلنا‏:‏ وليس لاحد أن يلقي بنفسه في حال تكلف ما لا يمكن، فمن ألقى نفسه من سطح فانكسرت رجله لا يعصى بالصلاة قاعدا، وإنما يعصى بكسر الرجل لا بترك الصلاة قائما، وقول القائل ينسحب عليه حكم العدوان إن أراد به أنه إنما نهي عنه مع النهي عن ضده، فهو محال، والعصيان عبارة عن ارتكاب منهي، قد نهي عنه، فإن لم يكن نهي لم يكن عصيان، فكيف يفرض النهي عن شئ وعن ضده أيضا‏؟‏ ومن جوز تكليف ما لا يطاق عقلا فإنه يمنعه شرعا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 682‏)‏ إن قيل‏:‏ فإن رجحتم جانب الخروج لتقليل الضرر فما قولكم فيمن سقط على صدر صبي محفوف بصبيان وقد علم أنه لو مكث قتل من تحته أو انتقل قتل من حواليه ولا ترجيح، فكيف السبيل‏؟‏ قلنا‏:‏ يحتمل أن يقال‏:‏ إمكث، فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من حي قادر، وأما ترك الحركة فلا يحتاج إلى استعمال قدرة، ويحتمل أن يقال‏:‏ يتخير إذ لا ترجيح، ويحتمل أن يقال لا حكم لله تعالى فيه، فيفعل ما يشاء، لان الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص، ولا نص في هذه المسألة، ولا نظير لها في المنصوصات، حتى يقاس عليه، فبقي على ما كان قبل ورود الشرع، ولا يبعد خلو واقعة عن الحكم، فكل هذا محتمل، وأما تكليف المحال فمحال‏.‏

مسألة ‏(‏المقتضى بالتكليف‏)‏

اختلفوا في المقتضى بالتكليف، والذي عليه أكثر المتكلمين أن المقتضى به الاقدام أو الكف وكل واحد كسب العبد، فالامر بالصوم أمر بالكف، والكف فعل يثاب عليه، والمقتضى بالنهي عن الزنا والشرب التلبس بضد من وقال بعض أضداده، وهو الترك، فيكون مثابا على الترك الذي هو فعله المعتزلة‏:‏ قد يقتضي الكف فيكون فعلا، وقد يقتضي أن لا يفعل ولا يقصد التلبس بضده فأنكر الأولون، هذا وقالوا‏:‏ المنتهي بالنهي مثاب، ولا يثاب إلا على شئ وأن لا يفعل عدم وليس بشئ، ولا تتعلق به قدرة، إذ القدرة تتعلق بشئ، فلا يصح الاعدام بالقدرة، وإذا لم يصدر منه شئ فكيف يثاب على لا شئ‏؟‏ والصحيح أن الامر فيه منقسم، أما الصوم فالكف فيه مقصود، ولذلك تشترط فيه النية، وأما الزنا والشرب فقد نهي عن فعلهما، فيعاقب فاعلهما، ومن لم يصدر منه ذلك فلا يعاقب، ولا يثاب إلا إذا قصد كف الشهوة عنهما مع التمكن، فهو مثاب على فعله، وأما من لم يصدر منه المنهي عن فعله فلا يعاقب عليه ولا يثاب، لانه لم يصدر منه شئ، ولا يبعد أن يكون مقصود الشرع أن لا تصدر منه الفواحش، ولا يقصد منه التلبس بأضدادها‏.‏

مسألة ‏(‏هل المكره مكلف‏؟‏‏)‏

فعل المكره يجوز أن يدخل تحت التكليف، بخلاف فعل المجنون والبهيمة، لان الخلل تم في المكلف لا في المكلف به، فإن شرط تكليف المكلف السماع والفهم وذلك في المجنون والبهيمة معدوم، والمكره يفهم، وفعله في حيز الامكان، إذ يقدر على تحقيقه وتركه، فإن أكره على أن يقتل جاز أن يكلف ترك القتل، لانه قادر عليه، وإن كان فيه خوف الهلاك، وإن كلف على وفق الاكراه فهو أيضا ممكن، بأن يكره بالسيف على قتل حية همت بقتل مسلم، إذ يجب قتلها، أو أكره الكافر على الاسلام، فإذا أسلم نقول‏:‏ قد أدى ما كلف، وقالت المعتزلة‏:‏ إن ذلك محال لانه لا يصح منه إلا فعل ما أكره عليه فلا يبقى له خيرة، وهذا محال، لانه قادر على تركه، ولذلك يجب عليه ترك ما أكره عليه إذا أكره على قتل مسلم، وكذلك لو أكره على قتل حية فيجب قتل الحية، وإذا أكره على إراقة الخمر فيجب عليه إراقة الخمر، وهذا ظاهر، ولكن فيه غور، وذلك لان الامتثال إنما يكون طاعة إذا كان الانبعاث له بباعث الامر والتكليف دون باعث الاكراه، فإن أقدم للخلاص من سيف المكره لا يكون مجيبا داعي الشرع، وإن انبعث بداعي الشرع بحيث كان يفعله لولا الاكراه، بل كان يفعله لو أكره على تركه، فلا يمتنع وقوعه طاعة، لكن لا يكون مكرها، وإن وجد صورة التخويف فليتنبه لهذه الدقيقة‏.‏

مسألة ‏(‏الامر بالشرط والمشروط‏)‏

ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلا حالة الامر، بل يتوجه الامر بالشرط، والمشروط، ويكون مأمورا بتقديم الشرط، فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الاسلام، كما يخاطب المحدث بالصلاة، بشرط تقديم الوضوء، والملحد بتصديق الرسول، بشرط تقديم الايمان بالمرسل، وذهب أصحاب الرأي إلى إنكار ذلك، والخلاف إما في الجواز وإما في الوقوع‏.‏ أما الجواز العقلي‏:‏ فواضح‏.‏ إذ لا يمتنع أن يقول الشارع‏:‏ بني الاسلام على خمس وأنتم مأمورون بجميعها، وبتقديم الاسلام من جملتها، فيكون الايمان مأمورا به لنفسه ولكونه شرطا لسائر العبادات، كما في المحدث والملحد، فإن منع مانع الجميع وقال‏:‏ كيف يؤمر بما لا يمكن امتثاله، والمحدث لا يقدر على الصلاة، فهو مأمور بالوضوء، فإذا توضأ توجه عليه حينئذ الامر بالصلاة قلنا‏:‏ فينبغي أن يقال‏:‏ لو ترك الوضوء والصلاة جميع عمره لا يعاقب على ترك الصلاة، لانه لم يؤمر قط بالصلاة، وهذا خلاف الإجماع، وينبغي أن لا يصح أمره بعد الوضوء بالصلاة بل بالتكبير، فإنه يشترط تقديمه، ولا بالتكبير بل بهمزة التكبير أولا، ثم بالكاف ثانيا، وعلى هذا الترتيب، وكذلك السعي إلى الجمعة، ينبغي أن لا يتوجه الامر به إلا بالخطوة الأولى ثم بالثانية‏.‏ وأما الوقوع الشرعي فنقول‏:‏ كان يجوز أن يخصص خطاب الفروع بالمؤمنين كما خصص وجوب العبادات بالاحرار و المقيمين والاصحاء والطاهرات دون الحيض، ولكن وردت الأدلة بمخاطبتهم، وأدلته ثلاثة‏:‏ الأول‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما سلككم في سقر ئ قالوا لم نك من المصلين‏}‏ ‏(‏المدثر‏:‏ 24، 34‏)‏ الآية‏.‏ فأخبر أنه عذبهم بترك الصلاة وحذر المسلمين به، فإن قيل‏:‏ هذه حكاية قول الكفار فلا حجة فيها قلنا ذكره الله تعالى في معرض التصديق لهم بإجماع الامة، وبه يحصل التحذير، إذ لو كان كذبا لكان كقولهم، عذبنا لانا مخلوقون وموجودون، كيف وقد عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وكنا نكذب بيوم الدين‏}‏ ‏(‏المدثر‏:‏ 64‏)‏ فكيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه فإن قيل‏:‏ العقاب بالتكذيب، لكن غلظ بإضافة ترك الطاعات إليه‏؟‏ قلنا‏:‏ لا يجوز أن يغلظ بترك الطاعات، كما لا يجوز أن يغلظ بترك المباحات التي لم يخاطبوا بها، فإن قيل‏:‏ عوقبوا إلا بترك الصلاة، لكن لاخراجهم أنفسهم بترك الايمان عن العلم بقبح ترك الصلاة قلنا‏:‏ هذا باطل من أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أنه ترك للظاهر من غير ضرورة، ولا دليل، فإن ترك العلم بقبح ترك الصلاة غير ترك الصلاة، وقد قالوا‏:‏ ‏{‏لم نك من المصلين‏}‏ ‏(‏المدثر‏:‏ 34‏)‏‏.‏ الثاني‏:‏ أن ذلك يوجب التسوية بين كافر باشر القتل وسائر المحظورات وبين من اقتصر على الكفر، لان كليهما استويا في إخراج النفس بالكفر عن العلم بقبح المحظورات، والتسوية بينهما خلاف الإجماع‏.‏ الثالث‏:‏ أن من ترك النظر والاستدلال ينبغي أن لا يعاقب على ترك الايمان، لانه أخرج نفسه بترك النظر عن أهلية العلم بوجوب المعرفة والايمان، فإن قيل‏:‏ لم نك من المصلين أي من المؤمنين، لكن عرفوا أنفسهم بعلامة المؤمنين، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ نهيت عن قتل المصلين أي المؤمنين، لكن عرفهم بما هو شعارهم‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا محتمل لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل، ولا دليل للخصم الدليل الثاني‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله‏}‏ ‏(‏الفرقان‏:‏ 86‏)‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يضاعف له العذاب‏}‏ ‏(‏الفرقان‏:‏ 96‏)‏، فالآية نص في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزنا، لا كمن جمع بين الكفر والاكل والشرب‏.‏ والدليل الثالث‏:‏ إنعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرسول، كما يعذب على الكفر بالله تعالى، وهذا يهدم معتمدهم إذ قالوا‏:‏ لا تتصور العبادة مع الكفر، فكيف يؤمر بها‏؟‏ احتجوا بأنه لا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر، ومع انتفاء وجوبه لو أسلم، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله‏؟‏ قلنا‏:‏ وجب حتى لو مات على الكفر لعوقب على تركه، لكن إذا أسلم عفى له عما سلف، فالاسلام يجب ما قبله، ولا يبعد نسخ الامر قبل التمكن من الامتثال، فكيف يبعد سقوط الوجوب بالاسلام‏؟‏ فإن قيل إذا لم تجب الزكاة إلا بشرط الاسلام، والاسلام الذي هو شرط الوجوب هو بعينه مسقط، فالاستدلال بهذا على أنه لم يجب أولى من إيجابه، ثم الحكم بسقوطه‏؟‏ قلنا‏:‏ لا بعد في قولنا‏:‏ استقر الوجوب بالاسلام وسقط بحكم العفو، فليس في ذلك مخالفة نص، ونصوص القرآن دلت على عقاب الكافر المتعاطي للفواحش، وكذا الإجماع دل على الفرق بين كافر قتل الانبياء والأولياء وشوش الدين، وبين كافر لم يرتكب شيئا من ذلك، فما ذكرناه أولى، فإن قيل‏:‏ فلم أوجبتم القضاء على المرتد دون الكافر الأصلي‏؟‏ قلنا‏:‏ القضاء إنما وجب بأمر مجدد، فيتبع فيه موجب الدليل ولا حجة فيه، إذ قد يجب القضاء على الحائض ولم تؤمر بالاداء، وقد يؤمر بالاداء من لا يؤمر بالقضاء، وقد اعتذر الفقهاء بأن المرتد قد التزم بالاسلام القضاء، والكافر لم يلتزم وهذا ضعيف، فإن ما ألزمه الله تعالى فهو لازم التزمه العبد أو لم يلتزمه، فإن كان يسقط بعدم التزامه فالكافر الأصلي لم يلتزم العبادات، وترك المحظورات فينبغي أن لا يلزمه ذلك‏.‏

الفن الرابع من القطب الأول فيما يظهر الحكم به

وهو الذي يسمى سببا، وكيفية نسبة الحكم إليه، وفيه أربعة فصول

الفصل الأول في الاسباب

إعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الله تعالى في كل حال لا سيما بعد انقطاع الوحي، أظهر الله سبحانه خطابه لخلقه بأمور محسوسة نصبها أسبابا لاحكامه، وجعلها موجبة ومقتضية للاحكام على مثال اقتضاء العلة الحسية معلولها، ونعني بالاسباب ها هنا أنها هي التي أضاف الاحكام إليها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 581‏)‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وهذا ظاهر فيما يتكرر من العبادات، كالصلاة والصوم والزكاة، فإن ما يتكرر الوجوب بتكرره، فجدير بأن يسمى سببا، أما ما لا يتكرر كالاسلام والحج فيمكن أن يقال ذلك معلوم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 79‏)‏ وكذا وجوب المعرفة على كل مكلف يعلم بالعمومات فلا حاجة إلى إضافتها إلى سبب، ويمكن أن يقال سبب وجوب الايمان والمعرفة الأدلة المنصوبة، وسبب وجوب الحج البيت دون الاستطاعة، ولما كان البيت واحدا لم يجب الحج إلا مرة واحدة، والايمان معرفة، فإذا حصلت دامت، والامر فيه قريب‏.‏ هذا قسم العبادات، وأما قسم الغرامات والكفارات والعقوبات، فلا تخفى أسبابها، وأما قسم المعاملات فلحل الاموال والابضاع وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره، وهذا ظاهر، وإنما المقصود أن نصب الاسباب أسبابا للاحكام أيضا، حكم من الشرع، فلله تعالى في الزاني حكمان‏.‏ أحدهما‏:‏ وجوب الحد عليه‏.‏ والثاني‏:‏ نصب الزنا سببا للوجوب في حقه، لان الزنا لا يوجب الرجم لذاته وعينه، بخلاف العلل العقلية، وإنما صار موجبا بجعل الشرع إياه موجبا، فهو نوع من الحكم، فلذلك أوردناه في هذا القطب، ولذلك يجوز تعليله، ونقول‏:‏ نصب الزنا علة للرجم‏.‏ والسرقة علة للقطع لكذا وكذا، فاللواط في معناه فينتصب أيضا سببا، والنباش في معنى السارق، وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب القياس‏.‏ وأعلم أن اسم السبب مشترك في اصطلاح الفقهاء، وأصل اشتقاقه من الطريق، ومن الحبل الذي به ينزح الماء من البئر وحده ما يحصل الشئ عنده لا به، فإن الوصول بالسير لا بالطريق، ولكن لا بد من الطريق، ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل، ولكن لا بد من الحبل، فاستعار الفقهاء لفظ السبب من هذا الموضع، وأطلقوه على أربعة أوجه‏:‏ الوجه الأول وهو أقربها إلى المستعار منه ما يطلق في مقابلة المباشرة، إذ يقال‏:‏ إن حافر البئر مع المردي فيه صاحب سبب، والمردي صاحب علة، فإن الهلاك بالتردية لكن عند وجود البئر، فما يحصل الهلاك عنده لا به يسمى سببا‏.‏ الثاني‏:‏ تسميتهم الرمي سببا للقتل، من حيث أنه سبب للعلة، وهو على التحقيق علة العلة، ولكن لما حصل الموت لا بالرمي بل بالواسطة أشبه ما لا يحصل الحكم إلا به‏.‏ الثالث‏:‏ تسميتهم ذات العلة مع تخلف وصفها سببا، كقولهم‏:‏ الكفارة تجب باليمين دون الحنث، فاليمين هو السبب، وملك النصاب هو سبب الزكاة دون الحول مع أنه لا بد منهما في الوجوب ويريدون بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه، ويقابلون هذا بالمحل والشرط فيقولون‏:‏ ملك النصاب سبب والحول شرط‏.‏ الرابع‏:‏ تسميتهم الموجب سببا، فيكون السبب بمعنى العلة، وهذا أبعد الوجوه عن وضع اللسان‏:‏ فإن السبب في الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به، ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية، لانها لا توجب الحكم لذاتها، بل بإيجاب الله تعالى، ولنصبه هذه الاسباب علامات لاظهار الحكم، فالعلل الشرعية في معنى العلامات المظهرة، فشابهت ما يحصل الحكم عنده‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ في وصف السبب بالصحة والبطلان والفساد

إعلم أن هذا يطلق في العبادات تارة وفي العقود أخرى، وإطلاقه في العبادات مختلف فيه، فالصحيح عند المتكلمين عبارة عما وافق الشرع وجب القضاء أو لم يجب، وعند الفقهاء عبارة عما أجزأ وأسقط الفضاء، حتى أن صلاة من ظن أن متطهر صحيحة في إصطلاح المتكلمين، لانه وافق الامر المتوجه عليه في الحال، وأما القضاء فوجوبه بأمر مجدد، فلا يشتق منه إسم الصحة، وهذه الصلاة فاسدة عند الفقهاء، لانها غير مجزئة، وكذلك من قطع صلاته بإنقاذ غريق، فصلاته صحيحة عند المتكلم فاسدة عند الفقيه، وهذه الاصطلاحات وإن اختلفت فلا مشاحة فيها، إذ المعنى متفق عليه، وأما إذا أطلق في العقود فكل سبب منصوب لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه، يقال أنه صح، وإن تخلف عنه مقصوده يقال إنه بطل، فالباطل هو الذي لا يثمر، لان السبب مطلوب لثمرته، والصحيح هو الذي أثمر، والفاسد مرادف للباطل في إصطلاح أصحاب الشافعي رضي الله عنه، فالعقد إما صحيح وإما باطل، وكل باطل فاسد‏.‏ وأبو حنيفة أثبت قسما آخر في العقود بين البطلان والصحة، وجعل الفاسد عبارة عنه، وزعم أن الفاسد معتقد لافادة الحكم، لكن المعني بفساده أنه غير مشروع بوصفه، والمعني بانعقاده أنه مشروع بأصله، كعقد الربا فإنه مشروع من حيث أنه بيع، وممنوع من حيث أنه يشتمل على زيادة في العوض، فاقتضى هذا درجة بين الممنوع بأصله ووصفه جميعا بين المشروع بأصله ووصفه جميعا، فلو صح له هذا القسم لم يناقش في التعبير عنه بالفاسد ولكنه ينازع فيه، إذ كل ممنوع بوصفه فهو ممنوع بأصله كما سبق ذكره‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في وصف العبادة بالاداء والقضاء والاعادة

اعلم أن الواجب إذا أدي في وقته سمي أداء، وإن أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع المقدر سمي قضاء، وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في الوقت سمي إعادة فالاعادة اسم لمثل ما فعل، والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود، ويتصدى النظر في شيئين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه يخترم قبل الفعل، فلو أخر عصي بالتأخير، فلو أخر وعاش، قال القاضي رحمه الله ما يفعله هذا قضاء لانه تقدر وقته بسبب غلبة الظن وهذا غير مرضي عندنا، فإنه لما انكشف خلاف ما ظن زال حكمه، وصار كما لو علم أنه يعيش، فينبغي أن ينوي الاداء، أعني المريض إذا أخر الحج إلى السنة الثانية وهو مشرف على الهلاك ثم شفي‏.‏ الثاني‏:‏ أن الزكاة على الفور عند الشافعي رحمه الله، فلو أخر ثم أدى فيلزم على مساق كلام القاضي رحمه الله أن يكون قضاء، والصحيح أنه أداء لانه لم يعين وقته بتقدير وتعيين، وأنما أوجبنا البدء بقرينة الحاجة وإلا فالاداء في جميع الاوقات موافق لموجب الامر وامتثال له، وكذلك من لزمه قضاء صلاة على الفور فأخر فلا نقول أنه قضاء القضاء، ولذلك نقول‏:‏ يفتقر وجوب القضاء إلى أمر مجدد، ومجرد الامر بالاداء كاف في دوام اللزوم، فلا يحتاج إلى دليل آخر وأمر مجدد، فإذا الصحيح أن إسم القضاء مخصوص بما عين وقته شرعا ثم فات الوقت قبل الفعل‏.‏ دقيقة‏:‏ أعلم أن القضاء قد يطلق مجازا وقد يطلق حقيقة، فإنه تلو الاداء وللاداء أربعة أحوال‏:‏ الأولى‏:‏ أن يكون واجبا، فإذا تركه المكلف عمدا أو سهوا وجب عليه القضاء، ولكن حط المأثم عنه عند سهوه على سبيل العفو، فالاتيان بمثله بعده يسمى قضاء حقيقة‏.‏ الثانية‏:‏ أن لا يجب الاداء كالصيام في حق الحائض، فإنه حرام، فإذا صامت بعد الطهر فتسميته قضاء مجاز محض، وحقيقته أنه فرض مبتدأ، لكن لما تجدد هذا الفرض بسبب حالة عرضت منعت من إيجاب الاداء حتى فات لفوات إيجابه سمي قضاء، وقد أشكل هذا على طائفة فقالوا‏:‏ وجب الصوم على الحائض دون الصلاة، بدليل وجوب القضاء، وجعل هذا الاسم مجازا أولى من مخالفة الإجماع إذ لا خلاف أنه لو ماتت الحائض لم تكن عاصية فكيف تؤمر بما تعصي به لو فعلته وليس الحيض كالحدث، فإن إزالته تمكن، فإن قيل فلم تنوي قضاء رمضان‏؟‏ قلنا‏:‏ إن عينت بذلك أنها تنوي قضاء ما منع الحيض من وجوبه فهو كذلك، وإن عنيت أنه قضاء لما وجب عليها في حالة الحيض فهو خطأ ومحال، فإن قيل‏:‏ فلينو البالغ القضاء لما فات في حالة الصغر، قلنا‏:‏ لو أمر بذلك لنواه ولكن لم يجعل فوات الايجاب بالصبا سببا لايجاب فرض مبتدأ بعد البلوغ، كيف والمجاز إنما يحسن بالاشتهار، وقد اشتهر ذلك في الحيض دون الصبا، ولعل سبب اختصاص اشتهاره أن الصبا يمنع أصل التكليف، والحائض مكلفة فهي بصدد الايجاب الحالة الثالثة‏:‏ حالة المريض والمسافر إذا لم يجب عليهما، لكنهما إن صاما وقع عن الفرض، فهذا يحتمل أن يقال أنه مجاز أيضا، إذ لا وجوب، ويحتمل أن يقال‏:‏ إنه حقيقة، إذ فعله في الوقت لصح منه، فإذا أخل بالفعل مع صحته فعله فهو شبيه بمن وجب عليه وتركه سهوا أو عمدا أو نقول‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 481 - 581‏)‏ فهو على سبيل التخيير، فكان الواجب أحدهما لا بعينه، إلا أن هذا البدل لا يمكن إلا بعد فوات الأول، والأول سابق بالزمان فسمي قضاء لتعلقه بفواته، بخلاف العتق والصيام في الكفارة إذ لا يتعلق أحدهما بفوات الآخر، ولكن يلزم على هذا أن تسمى الصلاة في آخر الوقت قضاء، لانه مخير بين التقديم والتأخير، كالمسافر، والاظهر أن تسمية صوم المسافر قضاء مجاز، أو القضاء إسم مشترك بين ما فات أداؤه الواجب وبين ما خرج عن وقته المشهور المعروف به، ولرمضان خصوص نسبة إلى الصوم ليس ذلك لسواه، بدليل أن الصبي المسافر لو بلغ بعد رمضان لا يلزمه، ولو بلغ في آخر وقت الصلاة لزمته فإخراجه عن مظنة أدائه في حق العموم يوهم كونه قضاء، والذي يقتضيه التحقيق أنه ليس بقضاء، فإن قيل‏:‏ فالنائم والناسي يقضيان ولا خطاب عليهما، لانهما لا يكلفان‏؟‏ قلنا‏:‏ هما منسوبان إلى الغفلة والتقصير، ولكن الله تعالى عفا عنهما وحط عنهما المأثم بخلاف الحائض والمسافر، ولذلك يجب عليهما الامساك بقية النهار تشبها بالصائمين دون الحائض، ثم في المسافر مذهبان ضعيفان‏:‏ أحدهما‏:‏ مذهب أصحاب الظاهر، أن المسافر لا يصح صومه في السفر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 481 - 581‏)‏ فلم يأمره إلا بأيام أخر، وهو فاسد، لان سياق الكلام يفهمنا إضمار الافطار، ومعناه‏:‏ من كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 06‏)‏، يعني فضرب فانفجرت، ولان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر كانوا يصومون ويفطرون ولا يعترض بعضهم على بعض‏.‏ والثاني‏:‏ مذهب الكرخي أن الواجب أيام أخر، ولكن لو صام رمضان صح، وكان معجلا للواجب كمن قدم الزكاة على الحول وهو فاسد لان الآية لا تفهم إلا الرخصة في التأخير وتوسيع الوقت عليه، والمؤدي في أول الوقت الموسع غير معجل بل هو مؤد في وقته، كما سبق في الصلاة في أول الوقت‏.‏ الحالة الرابعة‏:‏ حال المريض، فإن كان لا يخشى الموت في الصوم فهو كالمسافر أما الذي يخشى الموت أو الضرر العظيم فيعصي بترك الاكل فيشبه الحائض من هذا الوجه، فلو صام يحتمل أن يقال‏:‏ لا ينعقد لانه عاص به فكيف يتقرب بما يعصي به، ويحتمل أن يقال‏:‏ إنما عصي بجنايته على الروح التي هي حق الله تعالى، فيكون كالمصلي في الدار المغصوبة، يعصي لتناوله حق الغير، ويمكن أن يقال‏:‏ قد قيل للمريض كل، فكيف يقال له‏:‏ لا تأكل وهو معنى الصوم، بخلاف الصلاة والغصب، ويمكن أن يجاب بأنه قيل له‏:‏ لا تهلك نفسك، وقيل له صم، فلم يعص من حيث أنه صائم، بل من حيث سعيه في الهلاك، ويلزم عليه صوم يوم النحر، فإنه نهي عنه لترك إجابة الدعوة إلى أكل القرابين والضحايا، وهي ضيافة الله تعالى، ويعسر الفرق بينهما جدا، فهذه احتمالات يتجاذبها المجتهدون، فإن قلنا‏:‏ لا ينعقد صومه، فتسمية تداركه قضاء مجاز محض، كما في حق الحائض، وإلا فهو كالمسافر‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ في العزيمة والرخصة

اعلم أن العزم عبارة عن القصد المؤكد‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فنسي ولم نجد له عزما‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 511‏)‏ أي قصدا بليغا، وسمي بعض الرسل أولي العزم، لتأكيد قصدهم في طلب الحق، والعزيمة في لسان حملة الشرع عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى، والرخصة في اللسان عبارة عن اليسر والسهولة، يقال‏:‏ رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء، وفي الشريعة عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم، فإن لم يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوال وصلاة الضحى لا يسمى رخصة، وما أباحه في الأصل من الاكل والشرب لا يسمى رخصة، ويسمى تناول الميتة رخصة، وسقوط صوم رمضان عن المسافر يسمى رخصة، وعلى الجملة فهذا الاسم يطلق حقيقة ومجازا فالحقيقة في الرتبة العليا كإباحة النطق بكلمة الكفر بسبب الاكراه، وكذلك إباحة شرب الخمر، وإتلاف مال الغير بسب الاكراه، والمخمصة والغصص بلقمة لا يسيغها إلا الخمر التي معه، وأما المجاز البعيد عن الحقيقة فتسمية ما حط عنا من الاصر والاغلال التي وجبت على من قبلنا في الملل المنسوخة رخصة، وما لم يجب علينا ولا على غيرنا لا يسمى رخصة، وهذا لما أوجب على غيرنا، فإذا قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق اسم الرخصة تجوزا فإن الايجاب على غيرنا ليس تضييقا في حقنا، والرخصة فسحة في مقابلة التضييق، ويتردد بين هاتين الدرجتين صور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها أقرب إلى المجاز، منها‏:‏ القصر والفطر في حق المسافر، وهو جدير بأن يسمى رخصة حقيقة، لان السبب هو شهر رمضان، وهو قائم، وقد دخل المسافر تحت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 581‏)‏ وأخرج عن العموم بعذر وعسر، أما التيمم عند عدم الماء فلا يحسن تسميته رخصة، لانه لا يمكن تكليف استعمال الماء مع عدمه، فلا يمكن أن يقال‏:‏ السبب قائم مع استحالة التكليف، بخلاف المكره على الكفر والشرب، فإنه قادر على الترك، نعم‏:‏ تجويز ذلك عند المرض أو الجراحة أو بعد الماء عنه أو بيعه بأكثر من ثمن المثل رخصة، بل التيمم عند فقهاء الماء، كالاطعام عند فقد الرقبة، وذلك ليس برخصة، بل أوجبت الرقبة في حالة، والاطعام في حالة، فلا نقول السبب قائم عند فقد الرقبة، بل الظهار سبب لوجوب العتق في حالة، ولوجوب الاطعام في حالة، فإن قيل‏:‏ إن كان سبب وجوب الوضوء مندفعا عند فقد الماء، فسبب تحريم الكفر والشرب والميتة مندفع عند خوف الهلاك، فكان المحرم محرم بشرط انتفاء الخوف، قلنا‏:‏ المحرم في الميتة الخبث، وفي الخمر الاسكار وفي الكفر كونه جهلا بالله تعالى أو كذبا عليه، وهذه المحرمات قائمة، وقد اندفع حكمها بالخوف، فكل تحريم اندفع بالعذر والخوف مع إمكان تركه يسمى اندفاعه رخصة ولا يمنع من ذلك تغيير العبارة، بأن يجعل انتفاء العذر شرطا مضموما إلى الموجب، فإن قيل‏:‏ فالرخص تنقسم إلى ما يعصى بتركه، كترك أكل الميتة، والافطار عند خوف الهلاك، وإلى ما لا يعصى كالافطار والقصر وترك كلمة الكفر، وترك قتل من أكره على قتل نفسه، فكيف يسمى ما يجب الاتيان به رخصة‏؟‏ وكيف فرق بين البعض والبعض‏؟‏ قلنا أما تسميته رخصة وإن كانت واجبة فمن حيث أن فيه فسحة، إذ لم يكلف إهلاك نفسه بالعطش، وجوز له تسكينه بالخمر وأسقط عنه العقاب، فمن حيث إسقاط العقاب عن فعله هو فسحة ورخصة، ومن حيث إيجاب العقاب على تركه هو عزيمة‏.‏ وأما سبب الفرق‏:‏ فأمور مصلحية رآها المجتهدون، وقد اختلفوا فيها‏:‏ فمنهم من لم يجوز الاستسلام للصائل، ومنهم من جوز وقال‏:‏ قتل غيره محظور كقتله، وإنما جوز له نظرا له، وله أن يسقط حق نفسه إذا قابله مثله، وليس له أن يهلك نفسه ليمتنع عن ميتة وخمر، فإن حفظ المهجة أهم في الشرع من ترك اليمتة والخمر في حالة نادرة، ومنها السلم‏:‏ فإنه بيع ما لا يقدر على تسليمه في الحال، فقد يقال إنه رخصة لان عموم نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام‏:‏ عن بيع ما ليس عنده يوجب تحريمه، وحاجة المفلس اقتضت الرخصة في السلم، ولا شك في أن تزويج الآبقة يصح ولا يسمى ذلك رخصة، فإذا قوبل ببيع الآبق فهو فسحة، لكن قيل النكاح عقد آخر فارق شرطه البيع، فلا مناسبة بينهما، ويمكن أن يقال‏:‏ السلم عقد آخر، فهو بيع دين، وذلك بيع عين، فافترقا، وافتراقهما في الشرط لا يلحق أحدهما بالرخص، فيشبه أن يكون هذا مجازا، فقول الراوي‏:‏ نهي عن بيع ما ليس عند الانسان وأرخص في السلم تجوز في الكلام، واعلم أن بعض أصحاب الرأي قالوا‏:‏ حد الرخصة أنه الذي أبيح مع كونه حراما، وهذا متناقض، فإن الذي أبيح لا يكون حراما، وحذق بعضهم وقال‏:‏ ما أرخص فيه مع كونه حراما، وهو مثل الأول، لان الترخيص إباحة أيضا، وقد بنوا هذا على أصلهم إذ قالوا الكفر قبيح لعينه فهو حرام، فبالاكراه رخص له فيما هو قبيح في نفسه، وعن هذا لو أصر ولم يتلفظ بالكفر كان مثابا، وزعموا أن المكره على الافطار لو لم يفطر يثاب، لان الافطار قبيح، والصوم قيام بحق الله تعالى، والمكره على إتلاف المال أيضا لو استسلم قالوا يثاب، والمكره على تناول الميتة وشرب الخمر زعموا أنه يأثم إن لم يتناول، وفي هذه التفاصيل نظر فقهي لا يتعلق بمحض الاصول، والمقصود أن قولهم أنه رخص في الحرام متناقض لا وجه له والله تعالى أعلم‏.‏ وقد تم النظر في القطب الأول وهو النظر في حقيقة الحكم وأقسامه فلننظر الآن في مثمر الحكم وهو الدليل‏.‏

القطب الثاني في أدلة الاحكام

وهي أربعة الكتاب والسنة والإجماع، ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي، فأما قول الصحابي وشريعة من قبلنا فمختلف فيه‏.‏

الأصل الأول من أصول الأدلة كتاب الله تعالى

واعلم أنا إذا حققنا النظر بان أن أصل الاحكام واحد، وهو قول الله تعالى، إذ قول مشغول الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى، وأما العقل فلا يدل على الاحكام الشرعية بل يدل على نفي الاحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه، إلا أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حقنا فلا يظهر إلا بقول الرسول عليه السلام، لانا لا نسمع الكلام من الله تعالى ولا من جبريل، فالكتاب يظهر لنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذن إن اعتبرنا المظهر لهذه الاحكام فهو قول الرسول فقط، إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله، وإن اعتبرنا السبب الملزم فهو واحد، وهو حكم الله تعالى، لكن إذا لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت الاصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق، فلنبدأ بالكتاب والنظر في حقيقته، ثم في حده المميز له عما ليس بكتاب، ثم في ألفاظه، ثم في أحكامه‏.‏

النظر الأول‏:‏ في حقيقته ومعناه

هو الكلام القائم بذات الله تعالى، وهو صفة قديمة من صفاته، والكلام اسم مشترك قد يطلق على الالفاظ الدالة على ما في النفس تقول‏:‏ سمعت كلام فلان وفصاحته، وقد يطلق على مدلول العبارات، وهي المعاني التي في النفس كما قيل‏:‏ إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول‏}‏ ‏(‏المجادلة‏:‏ 8‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأسروا قولكم أو اجهروا به‏}‏ ‏(‏الملك‏:‏ 31‏)‏ فلا سبيل إلى إنكار كون هذا الاسم مشتركا، وقد قال قوم‏:‏ وضع في الأصل للعبارات، وهو مجاز في مدلولها، وقيل عكسه ولا يتعلق به غرض بعد ثبوت الاشتراك، وكلام النفس ينقسم إلى خبر واستخبار، وأمر ونهي وتنبيه، وهي معان تخالف بجنسها الارادات والعلوم، وهي متعلقة بمتعلقاتها لذاتها كما تتعلق القدرة والارادة والعلم، وزعم قوم أنه يرجع إلى العلوم والارادات، وليس جنسا برأسه، وإثبات ذلك على المتكلم لا على الاصولي‏.‏

فصل كلام الله تعالى واحد

وهو مع وحدته متضمن لجميع معاني الكلام كما أن علمه واحد، وهو مع وحدته محيط بما لا يتناهى من المعلومات، حتى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض، وفهم ذلك غامض، وتفهيمه على المتكلم لا على الاصولي، وأما كلام النفس في حقنا، فهو يتعدد كما تتعدد العلوم، ويفارق كلامه كلامنا من وجه آخر، وهو أن أحدا من المخلوقين لا يقدر على أن يعرف غيره كلام نفسه إلا بلفظ أو رمز أو فعل والله تعالى قادر على أن يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا بكلامه من غير توسط حرف وصوت ودلالة، ويخلق لهم السمع أيضا بكلامه من غير توسط صوت وحرف ودلالة، ومن سمع ذلك من غير توسط فقد سمع كلام الله تحقيقا، وهو خاصية موسى صلوات الله تعالى عليه وعلى نبينا وسائر الانبياء، وأما من سمعه من غيره ملكا كان أو نبيا كان تسميته سامعا كلام الله تعالى، كتسميتنا من سمع شعر المتنبي من غيره بأنه سمع شعر المتنبي، وذلك أيضا جائز، ولاجله قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 6‏)‏‏.‏

النظر الثاني في حده‏:‏

وحد الكتاب ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الاحرف السبعة المشهورة، نقلا متواترا، ونعني بالكتاب القرآن المنزل، وقيدناه بالمصحف لان الصحابة بالغوا في الاحتياط في نقله، حتى كرهوا التعاشير والنقط، وأمروا بالتجريد كيلا يختلط بالقرآن غيره، ونقل إلينا متواترا، فعلم أن المكتوب في المصحف المتفق عليه هو القرآن، وأن ما هو خارج عنه فليس منه، إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي على حفظه أن يهمل بعضه، فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه، فإن قيل‏:‏ هلا حددت تموه بالعجز‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، لان كونه معجزا يدل على صدق الرسول عليه السلام، لا على كونه كتاب الله تعالى لا محالة، إذ يتصور الاعجاز بما ليس بكتاب الله تعالى‏:‏ ولان بعض الآية ليس بمعجز، وهو من الكتاب، فإن قيل‏:‏ فلم شرطتم التواتر‏؟‏ قلنا‏:‏ ليحصل العلم به، لان الحكم بما لا يعلم جهل وكون، الشئ كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي، حتى يتعلق بظننا، فيقال إذا ظننتم كذا فقد حرمنا عليكم فعلا أو حللناه لكم، فيكون التحريم معلوما عند ظننا ويكون ظننا علامة يتعلق التحريم به، لان التحريم بالوضع، فيمكن الوضع عند الظن، وكون الشئ كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي، فالحكم فيه بالظن جهل، ويتشعب عن حد الكلام مسألتان‏:‏

مسألة ‏(‏حكم تتابع الصيام في كفارة اليمين‏)‏

التتابع في صوم كفارة اليمين ليس بواجب على قول، وإن قرأ ابن مسعود‏:‏ فصيام ثلاثة أيام متتابعات، لان هذه الزيادة لم تتواتر، فليست من القرآن، فتحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا، فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار، وقال أبو حنيفة يجب، لانه وإن لم يثبت كونه قرآنا فلا أقل من كونه خبرا، والعمل يجب بخبر الواحد، وهذا ضعيف، لان خبر الواحد لا دليل على كذبه، وهو أن جعله من القرآن فهو خطأ قطعا، لانه وجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه طائفة من الامة تقوم الحجة بقولهم، وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به، وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له، لدليل قد دله عليه، واحتمل أن يكون خبرا، وما تردد بين أن يكون خبرا أو لا يكون فلا يجوز العمل به، وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

مسألة ‏(‏هل البسملة آية أم لا‏؟‏‏)‏

البسملة آية من القرآن، لكن هل هي آية من أول كل سورة‏:‏ فيه خلاف، وميل الشافعي رحمه الله إلى أنها آية من كل سورة الحمد، وسائر السور، لكنها في أول كل سورة آية برأسها، وهي مع أول آية من سائر السور آية، وهذا مما نقل عن الشافعي رحمه الله فيه تردد، وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعي على أنها هل هي من القرآن في أول كل سورة، بل الذي يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهي من القرآن، فإن قيل القرآن لا يثبت إلا بطريق قاطع متواتر، فإن كان هذا قاطعا فكيف اختلفوا فيه، وإن كان مظنونا فكيف يثبت القرآن بالظن، ولو جاز هذا لجاز إيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين بقول ابن مسعود، ولجاز للروافض أن يقولوا‏:‏ قد ثبتت إمامة علي رضي الله عنه بنص القرآن ونزلت فيه آيات أخفاها الصحابة بالتعصب، وإنما طريقنا في الرد عليهم أنا نقول‏:‏ نزل القرآن معجزة للرسول عليه السلام، وأمر الرسول عليه السلام بإظهاره مع قوم تقوم الحجة بقولهم وهم أهل التواتر، فلا يظن بهم التطابق على الاخفاء، ولا مناجاة الآحاد به حتى لا يتحدث أحد بالانكار، فكانوا يبالغون في حفظ القرآن، حتى كانوا يضايقون في الحروف، ويمنعون من كتبة أسامي السور مع القرآن، ومن التعاشير والنقط، كيلا يختلط بالقرآن غيره، فالعادة تحيل الاخفاء فيجب أن يكون طريق ثبوت القرآن القطع، وعن هذا المعنى قطع القاضي رحمه الله بخطأ من جعل البسملة من القرآن إلا في سورة النمل فقال‏:‏ لو كانت من القرآن لوجب على الرسول عليه السلام أن يبين أنها من القرآن بيانا قاطعا للشك والاحتمال، إلا أنه قال‏:‏ أخطئ القائل به ولا أكفره، لان نفيها من القرآن لم يثبت أيضا بنص صريح متواتر، فصاحبه مخطئ وليس بكافر، واعترف بأن البسملة منزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة، وأنها كتبت مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم، لكنه لا يستحيل أن ينزل عليه ما ليس بقرآن، وأنكر قول من نسب عثمان رضي الله عنه إلى البدعة في كتبه بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة، وقال لو أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين عنه مع تصلبهم في الدين، كيف وقد أنكروا على من أثبت أسامي السور والنقط والتعشير فما بالهم لم يجيبوا بأنا أبدعنا ذلك، كما أبدع عثمان رضي الله عنه كتبه البسملة لا سيما واسم السور يكتب بخط آخر متميز عن القرآن، والبسملة مكتوبة بخط القرآن متصلة به بحيث لا تتميز عنه، فتحيل العادة السكوت على من يبدعها، لولا أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب أنا نقول‏:‏ لا وجه لقطع القاضي بتخطئة الشافعي رحمه الله، لان إلحاق ما ليس بقرآن بالقرآن كفر، كما أنه من ألحق القنوت أو التشهد أو التعوذ بالقرآن فقد كفر، فمن ألحق البسملة لم لا يكفر ولا سبب له إلا أنه يقال لم يثبت انتفاؤه من القرآن بنص متواتر، فنقول‏:‏ لو لم يكن من القرآن لوجب على الرسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعة ذلك على وجه يقطع الشك، كما في التعوذ والتشهد، فإن قيل‏:‏ ما ليس من القرآن لا حصر له، حتى ينفي إنما الذي يجب التنصيص عليه ما هو من القرآن، قلنا‏:‏ هذا صحيح لو لم تكتب البسملة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن بخط القرآن، ولو لم يكن منزلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة، وذلك يوهم قطعا أنه من القرآن، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرف كونه موهما، ولا جواز السكوت عن نفيه مع توهم الحاقه، فإذا القاضي رحمه الله يقول‏:‏ لو كان من القرآن لقطع الشك بنص متواتر تقوم الحجة به، ونحن نقول‏:‏ لو لم يكن من القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعته ولنفاه بنص متواتر بعد أن أمر بكتبه بخط القرآن، إذ لا عذر في السكوت عن قطع هذا التوهم، فأما عدم التصريح بأنه من القرآن فإنه كان اعتمادا على قرائن الاحوال إذ كان يملي على الكاتب مع القرآن، وكان الرسول عليه السلام في أثناء إملائه لا يكرر مع كل كلمة وآية أنها من القرآن، بل كان جلوسه له وقرائن أحواله تدل عليه، وكان يعرف كل ذلك قطعا، ثم لما كانت البسملة أمر بها في أول كل أمر ذي بال، ووجد ذلك في أوائل السور، ظن قوم أنه كتب على سبيل التبرك، وهذا الظن خطأ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما ترك بعضهم قراءة البسملة في أول السورة، فقطع بأنها آية، ولم ينكر عليه كما ينكر على من ألحق التعوذ والتشهد بالقرآن، فدل على أن ذلك كان مقطوعا به وحدث الوهم بعده، فإن قيل بعد حدوث الوهم والظن صارت البسملة اجتهادية وخرجت عن مظنة القطع، فكيف يثبت القرآن بالاجتهاد‏؟‏ قلنا‏:‏ جوز القاضي رحمه الله الخلاف في عدد الآيات ومقاديرها، وأقر بأن ذلك منوط باجتهاد القراء وأنه لم يبين بيانا شافيا قاطعا للشك، والبسملة من القرآن في سورة النمل، هي مقطوع بكونها من القرآن، وإنما الخلاف في أنها من القرآن مرة واحدة أو مرات، كما كتبت، فهذا يجوز أن يقع الشك فيه، ويعلم بالاجتهاد، لانه نظر في تعيين موضع الآية بعد كونها مكتوبة بخط القرآن، فهذا جائز وقوعه، والدليل على إمكان الوقوع وأن الاجتهاد قد تطرق إليه أن النافي لم يكفر الملحق، والملحق لم يكفر النافي، بخلاف القنوت والتشهد، فصارت البسملة نظرية، وكتبها بخط القرآن مع القرآن مع صلابة الصحابة وتشددهم في حفظ القرآن عن الزيادة قاطع أو كالقاطع في أنها من القرآن، فإن قيل‏:‏ فالمسألة، صارت نظرية وخرجت عن أن تكون معلومة بالتواتر علما ضروريا فهي قطعية أو ظنية‏؟‏ قلنا‏:‏ الانصاف أنها ليست قطعية بل هي اجتهادية، ودليل جواز الاجتهاد فيها وقوع الخلاف فيها في زمان الصحابة رضي الله عنهم حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ سرق الشيطان من الناس آية، ولم يكفر بإلحاقها بالقرآن ولا أنكر عليه، ونعلم أنه لو نقل الصديق رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ البسملة من سورة الحمد، وأوائل السور المكتوبة معها، لقبل ذلك بسبب كونها مكتوبة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو نقل أن القنوت مع القرآن لعلم بطلان ذلك بطريق قاطع لا يشك فيه، وعلى الجملة‏:‏ إذا أنصفنا وجدنا أنفسنا شاكين في مسألة البسملة، قاطعين في مسألة التعوذ والقنوت، وإذا نظرنا في كتبها مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سكوته عن التصريح بنفي كونها من القرآن بعد تحقق سبب الوهم كان ذلك دليلا ظاهرا كالقطع في كونها من القرآن، فدل أن الاجتهاد لا يتطرق إلى أصل القرآن أما ما هو من القرآن وهو مكتوب بخطه فالاجتهاد فيه يتطرق إلى تعيين موضعه وأنه من القرآن مرة أو مرات، وقد أوردنا أدلة ذلك في كتاب حقيقة القرآن وتأويل ما طعن به على الشافعي رحمه الله من ترديده القول في هذه المسألة، فإن قيل‏:‏ قد أوجبتم قراءة البسملة في الصلاة، وهو مبني على كونها قرآنا، وكونها قرآنا لا يثبت بالظن، فإن الظن علامة وجوب العمل في المجتهدات، وإلا فهو جهل أي ليس بعلم، فليكن كالتتابع في قراءة ابن مسعود قلنا‏:‏ وردت أخبار صحيحة صريحة في وجوب قراءة البسملة، وكونها قرآنا متواترا معلوم وإنما المشكوك فيه أنها قرآن مرة في سورة النمل أو مرات كثيرة في أول كل سورة، فكيف تساوي قراءة ابن مسعود ولا يثبت بها القرآن ولا هي خبر، وهاهنا صحت أخبار في وجوب البسملة وصح بالتواتر أنها من القرآن، وعلى الجملة فالفرق بين المسألتين ظاهر‏.‏

النظر الثالث في ألفاظه

وفيه ثلاث مسائل‏:‏

مسألة ‏(‏الحقيقة والمجاز‏)‏

ألفاظ العرب تشتمل على الحقيقة والمجاز كما سيأتي في الفرق بينهما، فالقرآن يشتمل على المجاز خلافا لبعضهم، فنقول‏:‏ المجاز اسم مشترك، قد يطلق على الباطل الذي لا حقيقة له، والقرآن منزه عن ذلك، ولعله الذي أراده من أنكر اشتمال القرآن على المجاز، وقد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضوعه، وذلك لا ينكر في القرآن مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 28‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏جدارا يريد أن ينقض‏}‏ ‏(‏الكهف‏:‏ 77‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لهدمت صوامع وبيع وصلوات‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 04‏)‏، فالصلوات كيف تهدم ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 43 والمائدة‏:‏ 6‏)‏ ‏{‏الله نور السماوات والارض‏}‏ يؤذن الله وهو يريد رسوله‏.‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 491‏)‏، والقصاص حق، فكيف يكون عدوانا‏؟‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 04‏)‏ ‏{‏ذلول‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 51‏)‏ ‏{‏ويمكرون ويمكر الله‏}‏ ‏(‏الانفال‏:‏ 03‏)‏، ‏{‏كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 46‏)‏ ‏{‏أحاط بهم سرادقها‏}‏ ‏(‏الكهف‏:‏ 92‏)‏ وذلك ما لا يحصى وكل ذلك مجاز كما سيأتي‏.‏

مسألة ‏(‏هل القرآن كله عربي‏؟‏‏)‏

قال القاضي رحمه الله القرآن عربي كله لا عجمية فيه، وقال قوم‏:‏ فيه لغة غير العرب، واحتجوا بأن المشكاة هندية، والاستبرق فارسية، وقوله‏:‏ ‏{‏وفاكهة وأبا‏}‏ ‏(‏عبس‏:‏ 13‏)‏ قال بعضهم‏:‏ الاب ليس من لغة العرب، والعرب قد تستعمل اللفظة العجمية فقد استعمل في بعض القصائد العثجاة يعني صدر المجلس، وهو معرب، كمشكاة، وقد تكلف القاضي إلحاق هذه الكلمات بالعربية، وبين أوزانها، وقال‏:‏ كل كلمة في القرآن استعملها أهل لغة أخرى فيكون أصلها عربيا، وإنما غيرها غيرهم تغييرا ما كما غير العبرانيون فقالوا للاله‏:‏ لاهوت، وللناس‏:‏ ناسوت، وأنكر أن يكون في القرآن لفظ عجمي مستدلا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 301‏)‏، وقال‏:‏ أقوى الأدلة قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي‏}‏ ‏(‏فصلت‏:‏ 44‏)‏ ولو كان فيه لغة العجم لما كان عربيا محضا بل عربيا وعجميا، ولاتخذ العرب ذلك حجة وقالوا‏:‏ نحن لا نعجز عن العربية، أما العجمية فنعجز عنها، وهذا غير مرضي عندنا إذ اشتمال جميع القرآن على كلمتين أو ثلاث أصلها عجمي، وقد استعملتها العرب، ووقعت في ألسنتهم لا يخرج القرآن عن كونه عربيا، وعن إطلاق هذا الاسم عليه، ولا يتمهد للعرب حجة فإن الشعر الفارسي يسمى فارسيا، وإن كانت فيه آحاد كلمات عربية إذا كانت تلك الكلمات متداولة في لسان الفرس فلا حاجة إلى هذا التكلف‏.‏

مسألة ‏(‏المحكم والمتشابه في القرآن‏)‏

في القرآن محكم ومتشابه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 07‏)‏ واختلفوا في معناه، وإذا لم يرد توقيف في بيانه فينبغي أن يفسر بما يعرفه أهل اللغة، ويناسب اللفظ من حيث الوضع ولا يناسبه قولهم‏:‏ المتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور، والمحكم ما وراء ذلك، ولا قولهم المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم والمتشابه ما ينفرد الله تعالى بعلمه، ولا قولهم المحكم الوعد والوعيد، والحلال والحرام والمتشابه القصص والامثال، وهذا أبعد، بل الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال والمتشابه ما تعارض فيه الاحتمال‏.‏ الثاني‏:‏ أن المحكم ما انتظم وترتب ترتيبا مفيدا ما على ما ظاهر أو على تأويل ما لم يكن فيه متناقض ومختلف، لكن هذا المحكم يقابله المثبج، والفاسد دون المتشابه، وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الاسماء المشتركة، كالقرء، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 732‏)‏ فإنه مردد بين الزوج والولي، و كاللمس المردد بين المس والوطئ، وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله، فإن قيل‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 7‏)‏ الواو للعطف أم الأولى الوقف على الله‏؟‏ قلنا‏:‏ كل واحد محتمل، فإن كان المراد به وقت القيامة، فالوقف أولى، وإلا فالعطف، إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لاحد من الخلق، فإن قيل‏:‏ فما معنى الحروف في أوائل السور، إذ لا يعرف أحد معناها‏؟‏ قلنا‏:‏ أكثر الناس فيها وأقربها أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ أنها أسامي السور حتى تعرف بها، فيقال‏:‏ سورة يس وطه، وقيل‏:‏ ذكرها الله تعالى لجمع دواعي العرب إلى الاستماع لانها تخالف عادتهم فتوقظهم عن الغفلة حتى تصرف قلوبهم إلى الاصغاء فلم يذكرها لارادة معنى، وقيل‏:‏ إنما ذكرها كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج عنها جميع كلام العرب تنبيها أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم وحروفهم، وقد ينبه ببعض الشئ على كله، يقال قرأ سورة البقرة وأنشد ألاهبي يعني جميع السورة والقصيدة قال الشاعر‏:‏ يناشدني حاميم والرمح شاجرفهلا تلا حاميم قبل التقدم كنى بحاميم عن القرآن، فقد ثبت أنه ليس في القرآن ما لا تفهمه العرب، فإن قيل العرب إنما تفهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 81‏)‏ و‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 5‏)‏ الجهة والاستقرار، وقد أريد به غيره، فهو متشابه‏؟‏ قلنا‏:‏ هيهات فإن هذه كنايات واستعارات يفهمها المؤمنون من العرب، المصدقون بأن الله تعالى ليس كمثله شئ، وأنها مؤولة تأويلات تناسب تفاهم العرب‏.‏

النظر الرابع في أحكامه

ومن أحكامه تطرق التأويل إلى ظاهر ألفاظه وتطرق التخصيص إلى صيغ عمومه، وتطرق النسخ إلى مقتضياته، أما التخصيص والتأويل فسيأتي في القطب الثالث إذا فصلنا وجوه الاستثمار والاستدلال من الصيغ والمفهوم وغيرها، وأما النسخ فقد جرت العادة بذكره بعد كتاب الاخبار، لان النسخ يتطرق إلى الكتاب والسنة جميعا، لكنا ذكرناه في أحكام الكتاب لمعنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ إن إشكاله وغموضه من حيث تطرقه إلى كلام الله تعالى مع استحالة البداءة عليه‏.‏ الثاني‏:‏ إن الكلام على الاخبار قد طال لاجل تعلقه بمعرفة طرقها من التواتر والآحاد، فرأينا ذكره على أثر أحكام الكتاب أولى‏.‏ وهذا‏:‏