فصل: الأصل الثالث من أصول الأدلة: الإجماع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المستصفى من علم الأصول ***


الأصل الثالث من أصول الأدلة‏:‏ الإجماع

وفيه أبواب

الباب الأول في إثبات كونه حجة على منكريه

ومن حاول إثبات كون الإجماع حجة افتقر إلى تفهيم لفظ الإجماع أولا، وبيان تصوره ثانيا، وبيان إمكان الاطلاع عليه ثالثا، وبيان الدليل على كونه حجة رابعا‏.‏ أما تفهيم لفظ الإجماع‏:‏ فإنما نعني به اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة على أمر من الامور الدينية، ومعناه في وضع اللغة‏:‏ الاتفاق والازماع، وهو مشترك بينهما، فمن أزمع وصمم العزم على إمضاء أمر يقال أجمع، والجماعة إذا اتفقوا يقال‏:‏ أجمعوا، وهذا يصلح لإجماع اليهود والنصارى، وللاتفاق في غير أمر الدين، لكن العرف خصص اللفظ بما ذكرناه، وذهب النظام إلى أن الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته، وإن كان قول واحد، وهو على خلاف اللغة والعرف، لكنه سواه على مذهبه، إذ لم ير الإجماع حجة، وتواتر إليه بالتسامع تحريم مخالفة الإجماع، فقال‏:‏ هو كل قول قامت حجته‏.‏ أما الثاني‏:‏ وهو تصوره‏:‏ فدليل تصوره وجوده، فقد وجدنا الامة مجمعة على أن الصلوات خمس وأن صوم رمضان واجب، وكيف يمتنع تصوره والامة كلهم متعبدون باتباع النصوص والأدلة القاطعة، ومعرضون للعقاب بمخالفتها، فكما لا يمتنع اجتماعهم على الاكل والشرب لتوافق الدواعي، فكذلك على اتباع الحق واتقاء النار، فإن قيل‏:‏ الامة مع كثرتها واختلاف دواعيها في الاعتراف بالحق والعناد فيه، كيف تتفق آراؤها فذلك محال منها، كاتفاقهم على أكل الزبيب مثلا في يوم واحد، قلنا‏:‏ لا صارف جميعهم إلى تناول الزبيب خاصة ولجميعهم باعث على الاعتراف بالحق، كيف وقد تصور إطباق اليهود مع كثرتهم على الباطل، فلم لا يتصور إطباق المسلمين على الحق، والكثرة إنما تؤثر عند تعارض الاشباه والدواعي والصوارف ومستند الإجماع في الاكثر نصوص متواترة وأمور معلومة ضرورة بقرائن الاحوال، والعقلاء كلهم فيه على منهج واحد، نعم‏:‏ هل يتصور الإجماع عن اجتهاد أو قياس‏؟‏ ذلك فيه كلام سيأتي إن شاء الله‏.‏ أما الثالث‏:‏ وهو تصور الاطلاع على الإجماع‏:‏ فقد قال قوم‏:‏ لو تصور إجماعهم فمن الذي يطلع عليهم مع تفرقهم في الاقطار‏؟‏ فنقول‏:‏ يتصور معرفة ذلك بمشافهتهم إن كانوا عددا يمكن لقاؤهم، وإن لم يمكن عرف مذهب قوم بالمشافهة، ومذهب الآخرين بأخبار التواتر عنهم، كما عرفنا أن مذهب جميع أصحاب الشافعي منع قتل المسلم بالذمي، وبطلان النكاح بلا ولي، ومذهب جميع النصارى التثليث، ومذهب جميع المجوس التثنية، فإن قيل‏:‏ مذهب أصحاب الشافعي وأبي حنيفة مستند إلى قائل واحد وهو الشافعي وأبو حنيفة، وقول الواحد يمكن أن يعلم، وكذلك مذهب النصارى يستند إلى عيسى عليه السلام، أما قول جماعة لا ينحصرون كيف يعلم‏؟‏ قلنا‏:‏ وقول أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أمور الدين يستند إلى ما فهموه من محمد صلى الله عليه وسلم وسمعوه منه، ثم إذا انحصر أهل الحل والعقد فكما يمكن أن يعلم قول واحد أمكن أن يعلم قول الثاني إلى العشرة والعشرين، فإن قيل‏:‏ لعل أحدا منهم في أسر الكفار وبلاد الروم‏؟‏ قلنا‏:‏ تجب مراجعته، ومذهب الاسير ينقل كمذهب غيره، وتمكن معرفته فمن شك في موافقته للآخرين لم يكن متحققا للإجماع، فإن قيل‏:‏ فلو عرف مذهبه ربما يرجع عنه بعده‏؟‏ قلنا‏:‏ لا أثر لرجوعه بعد انعقاد الإجماع، فإنه يكون محجوجا به ولا يتصور رجوع جميعهم إذ يصير أحد الإجماعين خطأ، وذلك ممتنع بدليل السمع‏.‏ أما الرابع‏:‏ وهو إقامة الحجة على استحالة الخطأ على الامة‏:‏ وفيه الشأن كله، وكونه حجة إنما يعلم بكتاب أو سنة متواترة أو عقل أما الإجماع فلا يمكن إثبات الإجماع به، وقد طمعوا في التلقي من الكتاب والسنة والعقل وأقواها السنة، ونحن نذكر المسالك الثلاثة‏:‏ المسلك الأول‏:‏ التمسك بالكتاب وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 341‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 011‏)‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏ ‏(‏الاعراف‏:‏ 181‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 301‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 011‏)‏ ومفهومه أن ما اتفقتم فيه فهو حق، وقوله عزوجل‏:‏ ‏{‏فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 95‏)‏ مفهومه إن اتفقتهم فهو حق فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض، بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر، وأقواها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 511‏)‏ فإن ذلك يوجب اتباع سبيل المؤمنين، وهذا ما تمسك به الشافعي وقد أطنبنا في كتاب تهذيب الاصول في توجيه الاسئلة على الآية ودفعها، والذي نراه أن الآية ليست نصافي الغرض، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الاعداء عنه نوله ما تولى، فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهي، وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم، فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل، ولو فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية بذلك لقبل، ولم يجعل ذلك رفعا للنص، كما لو فسر المشاقة بالموافقة واتباع سبيل المؤمنين بالعدول عن سبيلهم‏.‏ المسلك الثاني‏:‏ وهو الاقوى التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تجتمع أمتي على الخطأ وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود ولكن ليس بالمتواتر، كالكتاب، والكتاب متواتر، لكن ليس بنص، فطريق تقرير الدليل أن نقول تظاهرت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الامة من الخطأ، واشتهر على لسان المرموقين والثقات من الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم ممن يطول ذكره من نحو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تجتمع أمتي على الضلالة، ولم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة وسألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيها ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم، وإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يد الله مع الجماعة، ولا يبالي الله بشذوذ من شذ ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم وروي‏:‏ لا يضرهم خلاف من خالفهم إلا ما أصابهم من لاواء ومن خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه، ومن فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية‏.‏ وهذه الاخبار لم تزل ظاهرة في الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا، لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الامة وخلفها، بل هي مقبولة من موافقي الامة ومخالفيها، ولم تزل الامة تحتج بها في أصول الدين وفروعه، فإن قيل‏:‏ فما وجه الحجة ودعوى التواتر في آحاد هذه الاخبار غير ممكن ونقل الآحاد لا يفيد العلم، قلنا في تقرير وجه الحجة طريقان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن ندعي العلم الضروري بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عظم شأن هذه الامة، وأخبر عن عصمتها عن الخطأ، بمجموع هذه الاخبار المتفرقة، وإن لم تتواتر آحادها، وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى العلم بشجاعة علي، وسخاوة حاتم، وفقه الشافعي وخطابة الحجاج، وميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه، وتعظيمه صحابته وثنائه عليهم، وإن لم تكن آحاد الاخبار فيها متواترة، بل يجوز الكذب على كل واحد منها لو جردنا النظر إليه، ولا يجوز على المجموع، وذلك يشبه ما يعلم من مجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال، ولكن ينتفي الاحتمال عن مجموعها حتى يحصل العلم الضروري‏.‏ الطريق الثاني‏:‏ أن لا ندعي علم الاضطرار، بل علم الاستدلال من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أن هذه الاحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع، ولا يظهر أحد فيها خلافا وإنكارا إلى زمان النظام، ويستحيل في مستقر العادة توافق الامم في أعصار متكررة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته، مع اختلاف الطباع، وتفاوت الهمم والمذاهب في الرد والقبول، ولذلك لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف وإبداء تردد فيه‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أن المحتجين بهذه الاخبار أثبتوا بها أصلا مقطوعا به وهو الإجماع الذي يحكم به على كتاب الله تعالى وعلى السنة المتواترة، ويستحيل في العادة التسليم لخبر يرفع به الكتاب المقطوع به، إلا إذا استند إلى مستند مقطوع به، فأما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلوما، حتى لا يتعجب متعجب ولا يقول قائل‏:‏ كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستند إلى خبر غير معلوم الصحة‏؟‏ وكيف تذهل عنه جميع الامة إلى زمان النظام فيختص بالتنبه له هذا وجه الاستدلال‏؟‏ وللمنكرين في معارضته ثلاثة مقامات‏:‏ الرد، والتأويل، والمعارضة‏:‏ المقام الأول‏:‏ في الرد‏.‏ وفيه أربعة أسئلة‏:‏ السؤال الأول‏:‏ قولهم‏:‏ لعل واحدا خالف هذه الاخبار وردها ولم ينقل إلينا‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا أيضا تحيله العادة إذ الإجماع أعظم أصول الدين، فلو خالف فيه مخالف لعظم الامر فيه واشتهر الخلاف، إذ لم يندرس خلاف الصحابة في دية الجنين ومسألة الحرام وحد الشرب، فكيف اندرس الخلاف في أصل عظيم يلزم فيه التضليل والتبديع لمن أخطأ في نفيه وإثباته‏؟‏ وكيف اشتهر خلاف النظام مع سقوط قدره وخسة رتبته وخفي خلاف أكابر الصحابة والتابعين‏؟‏ هذا مما لا يتسع له عقل أصلا‏.‏ السؤال الثاني‏:‏ قالوا قد استدللتم بالخبر على الإجماع، ثم استدللتم بالإجماع على صحة الخبر، فهب أنهم أجمعوا على الصحة، فما الدليل على أن ما أجمعوا على صحته فهو صحيح وهل النزاع إلا فيه‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، بل استدللنا على الإجماع بالخبر، وعلى صحة الخبر بخلو الاعصار عن المدافعة والمخالفة له، مع أن العادة تقتضي إنكار إثبات أصل قاطع يحكم به على القواطع بخبر غير معلوم الصحة، فعلمنا بالعادة كون الخبر مقطوعا به، لا بالإجماع، والعادة أصل يستفاد منها معارف، فإن بها يعلم بطلان دعوى معارضة القرآن واندراسها، وبها يعلم بطلان دعوى نص الامامة، وإيجاب صلاة الضحى وصوم شوال، وإن ذلك لو كان لاستحال في العادة الكسوت عنه‏.‏ السؤال الثالث‏:‏ قالوا‏:‏ بم تنكرون على من يقول‏:‏ لعلهم أثبتوا الإجماع، لا بهذه الاخبار، بل بدليل آخر، قلنا‏:‏ قد ظهر منهم الاحتجاج بهذه الاخبار في المنع من مخالفة الجماعة وتهديد من يفارق الجماعة ويخالفها، وهذا أولى من أن يقال‏:‏ لو كان لهم فيه مستند لظهر وانتشر، فإنه قد نقل تمسكهم أيضا بالآيات‏.‏ السؤال الرابع‏:‏ قولهم‏:‏ لما علمت الصحابة صحة هذه الاخبار لم لم يذكروا طريق صحتها للتابعين، حتى كان ينقطع الارتياب ويشاركونهم في العلم‏؟‏ قلنا‏:‏ لانهم علموا تعريفه عليه السلام عصمة هذه الامة بمجموع قرائن وأمارات وتكريرات ألفاظ وأسباب دلت ضرورة على قصده إلى بيان نفي الخطأ عن هذه الامة، وتلك القرائن لا تدخل تحت الحكاية ولا تحيط بها العبارات، ولو حكوها لتطرق إلى آحادها احتمالات، فاكتفوا بعلم التابعين بأن الخبر المشكوك فيه لا يثبت به أصل مقطوع به، ويقع التسليم في العادة به، فكانت العادة في حق التابعين أقوى من الحكاية‏.‏ المقام الثاني‏:‏ في التأويل ولهم تأويلات ثلاثة‏:‏ الأول‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تجتمع أمتي على ضلالة ينبئ عن الكفر والبدعة فلعله أراد عصمة جميعهم عن الكفر بالتأويل والشبهة، وقوله‏:‏ على الخطأ لم يتواتر وإن صح، فالخطأ عام يمكن حمله على الكفر‏؟‏ قلنا‏:‏ الضلال في وضع اللسان لا يناسب الكفر، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ووجدك ضالا فهدى‏}‏ ‏(‏الضحى‏:‏ 7‏)‏ وقال تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏فعلتها إذا وأنا من الضالين‏}‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 02‏)‏ وما أراد من الكافرين، بل أراد من المخطئين، يقال‏:‏ ضل فلان عن الطريق، وضل سعي فلان، كل ذلك الخطأ، كيف وقد فهم ضرورة من هذه الالفاظ تعظيم شأن هذه الامة وتخصيصها بهذه الفضيلة، أما العصمة عن الكفر فقد أنعم بها في حق علي وابن مسعود وأبي وزيد على مذهب النظام، لانهم ماتوا على الحق، وكم من آحاد عصموا عن الكفر حتى ماتوا، فأي خاصية للامة، فدل أنه أراد ما لم يعصم عنه الآحاد من سهو وخطأ وكذب ويعصم عنه الامة تنزيلا لجميع الامة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في العصمة عن الخطأ في الدين، أما في غير الدين من إنشاء حرب وصلح وعمارة بلدة فالعموم يقتضي العصمة للامة عنه أيضا، ولكن ذلك مشكوك فيه، وأمر الدين مقطوع بوجوب العصمة فيه، كما في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أخطأ في أمر تأبير النخل ثم قال‏:‏ أنتم أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم‏.‏ التأويل الثاني‏:‏ قولهم‏:‏ غاية هذا أن يكون عاما يوجب العصمة عن كل خطأ، ويحتمل أن يكون المراد به بعض أنواع الخطأ من الشهادة في الآخرة أو ما يوافق النص المتواتر، أو يوافق دليل العقل دون ما يكون بالاجتهاد والقياس، قلنا‏:‏ لا ذاهب من الامة إلى هذا التفصيل إذ ما دل من العقل على تجويز الخطأ عليهم في شئ دل على تجويزه في شئ آخر، وإذا لم يكن فارق لم يكن تخصيص بالتحكم دون دليل، ولم يكن تخصيص أولى من تخصيص، وقد ذم من خالف الجماعة، وأمر بالموافقة، فلو لم يكن ما فيه العصمة معلوما استحال الاتباع إلا أن ثبت العصمة مطلقا، وبه ثبتت فضيلة الامة وشرفها، فأما العصمة عن البعض دون البعض فهذا يثبت لكل كافر، فضلا عن المسلم، إذ ما من شخص يخطئ في كل شئ بل كل إنسان فإنه يعصم عن الخطأ في بعض الاشياء التأويل الثالث‏:‏ أن أمته صلى الله عليه وسلم كل من آمن به إلى يوم القيامة، فجملة هؤلاء من أول الاسلام إلى آخر عمر الدنيا، لا يجتمعون على خطأ، بل كل حكم انقضى على اتفاق أهل الاعصار كلها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو حق، إذ الامة عبارة عن الجميع كيف والذين ماتوا في زماننا هم من الامة، وإجماع من بعدهم ليس إجماع جميع الامة بدليل أنهم لو كانوا قد خالفوا ثم ماتوا لم ينعقد بعدهم إجماع، وقبلنا من الامة من خالف وإن كان قد مات، فكذلك إذا لم يوافقوا‏؟‏ قلنا‏:‏ كما لا يجوز أن يراد بالامة المجانين والاطفال والسقط والمجتن وإن كانوا من الامة، فلا يجوز أن يراد به الميت والذي لم يخلق بعد، بل الذي يفهم قوم يتصور منهم اختلاف واجتماع، ولا يتصور الاجتماع والاختلاف من المعدوم، والميت، والدليل عليه أنه أمر باتباع الجماعة، وذم من شذ عن الموافقة، فإن كان المراد به ما ذكروه فإنما يتصور الاتباع والمخالفة في القيامة لا في الدنيا، فيعلم قطعا أن المراد به إجماع يمكن خرقه ومخالفته، في الدنيا، وذلك هم الموجودن في كل عصر، أما إذا مات فيبقى أثر خلافه فإن مذهبه لا يموت بموته، وسيأتي فيه كلام شاف إن شاء الله تعالى‏.‏ المقام الثالث‏:‏ المعارضة بالآيات والاخبار أما الآيات‏:‏ فكل ما فيها منع من الكفر والردة والفعل الباطل، فهو عام مع الجميع، فإن لم يكن ذلك ممكنا فكيف نهوا عنه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ ‏(‏الاعراف‏:‏ 33‏}‏ ‏(‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 712‏}‏ ‏(‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 881‏)‏ وأمثال ذلك، قلنا‏:‏ ليس هذا نهيا لهم عن الاجتماع، بل نهي للآحاد، وإن كان كل واحد على حياله داخلا في النهي وإن سلم، فليس من شرط النهي وقوع المنهي عنه ولا جواز وقوعه، فإن الله تعالى علم أن جميع المعاصي لا تقع منهم ونهاهم عن الجميع وخلاف المعلوم غير واقع، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 56‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏فلا تكونن من الجاهلين‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 53‏)‏ وقد علم أنه قد عصمه منهم وأن ذلك لا يقع، وأما الاخبار فقوله عليه السلام‏:‏ بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وقوله عليه السلام‏:‏ خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف وما يستحلف، ويشهد وما يستشهد وكقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي قلنا‏:‏ هذا وأمثاله يدل على كثرة العصيان والكذب، ولا يدل على أنه لا يبقى متمسك بالحق، ولا يناقض قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال كيف ولا تجري هذه الاخبار في الصحة والظهور مجرى الاحاديث التي تمسكنا بها‏.‏ المسلك الثالث‏:‏ التمسك بالطريق المعنوي وبيانه أن الصحابة إذا قضوا بقضية وزعموا أنهم قاطعون بها، فلا يقطعون بها إلا عن مستند قاطع، وإذا كثروا كثرة تنتهي إلى حد التواتر، فالعادة تحيل عليهم قصد الكذب، وتحيل عليهم الغلط حتى لا يتنبه واحد منهم للمحق في ذلك، وإلى أن القطع بغير دليل قاطع، خطأ، فقطعهم في غير محل القطع محال في العادة، فإن قضوا عن اجتهاد واتفقوا عليه فيعلم أن التابعين كانوا يشددون النكير على مخالفيهم ويقطعون به وقطعهم بذلك قطع في غير محل القطع فلا يكون ذلك أيضا إلا عن قاطع، وإلا فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم الحق مع كثرتهم حتى لا يتنبه واحد منهم للحق، وكذلك نعلم أن التابعين لو أجمعوا على شئ أنكر تابعوا التابعين على المخالف وقطعوا بالانكار، وهو قطع في غير محل القطع، فالعادة تحيل ذلك إلا عن قاطع، وعلى مساق هذا قالوا‏:‏ لو رجع أهل الحل والعقد إلى عدد ينقص عن عدد التواتر، فلا يستحيل عليهم الخطأ في العاد ولا تعمد الكذب لباعث عليه، فلا حجة فيه، وهذه الطريقة ضعيفة عندنا، لان منشأ الخطأ إما تعمد الكذب، وإما ظنهم ما ليس بقاطع قاطعا، والأول غير جائز على عدد التواتر، وأما الثاني فجائز، فقد قطع اليهود ببطلان نبوة عيسى ومحمد عليهما السلام، وهم أكثر من عدد التواتر، وهو قطع في غير محل القطع، لكن ظنوا ما ليس بقاطع قاطعا‏:‏ والمنكرون لحدوث العالم والنبوات والمرتكبون لسائر أنواع البدع والضلالات، عددهم بالغ مبلغ عدد التواتر ويحصل الصدق بإخبارهم، ولكن أخطؤوا بالقطع في غير محل القطع، وهذا القائل يلزمه أن يجعل إجماع اليهود والنصارى حجة ولا تخصيص لهذه الامة، وقد أجمعوا على بطلان دين الاسلام، فإن قيل‏:‏ هذا تمسك بالعادة، وأنتم في نصرة المسلك الثاني استروحتم إلى العادة وهذا عين الأول‏؟‏ قلنا‏:‏ العادة لا تحيل على عدد التواتر أن يظنوا ما ليس بقاطع قاطعا، وعن هذا قلنا‏:‏ شرط خبر التواتر أن يستند إلى محسوس، والعادة تحيل الانقياد والسكوت عمن دفع الكتاب والسنة المتواترة بإجماع دليله خبر مظنون غير مقطوع به، وكل ما هو ضروري يعلم بالحس أو بقرينة الحال أو بالبديهة، فمنهاجه واحد، ويتفق الناس على دركه، والعادة تحيل الذهول عنه على أهل التواتر، وما هو نظري فطرقه مختلفة، فلا يستحيل في العادة أن يجتمع أهل التواتر على الغلط فيه، فهذا هو الفرق بين المسلكين، فإن قيل‏:‏ اعتمادكم في هذا المسلك الثاني أن ما أجمعوا عليه حق وليس بخطأ، فما الدليل على وجوب اتباعه وكل مجتهد مصيب للحق، ولا يجب على مجتهد آخر اتباعه، والشاهد المزور مبطل، ويجب على القاضي اتباعه، فوجوب الاتباع شئ، وكون الشئ حقا غير ه‏؟‏ قلنا‏:‏ أجمعت الامة على وجوب اتباع الإجماع، وأنه من الحق الذي يجب اتباعه، وبحسب كونهم محقين في قولهم يجب اتباع الإجماع، ثم نقول‏:‏ كل حق علم كونه حقا، فالأصل فيه وجوب الاتباع والمجتهد يجب اتباعه إلا على المجتهد الذي هو محق أيضا، فقدم حق حصل باجتهاده على ما حصل باجتهاد غيره في حقه، والشاهد المزور لو علم كونه مزورا لم يتبع، ويدل عليه أيضا ذمة من خالف الجماعة، وأنه ذكر هذا في معرض الثناء على الامة ولا يتحقق ذلك إلا بوجوب الاتباع، وإلا فلا يبقى له معنى، إلا أنهم محقون إذا أصابوا دليل الحق، وذلك جائز في حق كل واحد من أفراد المؤمنين، فليس فيه مدح وتخصيص البتة

الباب الثاني في بيان أركان الإجماع

وله ركنان‏:‏ المجمعون ونفس الإجماع‏:‏ الركن الأول‏:‏ المجمعون‏:‏ وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذا يتناول كل مسلم، لكن لكل ظاهر طرفان واضحان في النفي والاثبات وأوساط متشابهة، أما الواضح في الاثبات فهو كل مجتهد مقبول الفتوى فهو أهل الحل والعقد قطعا، ولا بد من موافقته في الإجماع، وأما الواضح في النفي، فالاطفال والمجانين والاجنة، فإنهم وإن كانوا من الامة، فنعلم أنه عليه الصلاة والسلام ما أراد بقوله‏:‏ لا تجتمع أمتي على الخطأ إلا من يتصور منه الوفاق والخلاف في المسألة بعد فهمهما فلا يدخل فيه من لا يفهمها، وبين الدرجتين العوام المكلفون، والفقيه الذي ليس بأصولي، والاصولي الذي ليس بفقيه والمجتهد الفاسق والمبتدع والناشئ من التابعين، مثلا‏:‏ إذا قارب رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة، فنرسم في كل واحد مسألة‏:‏

مسألة ‏(‏إجماع أهل الحل والعقد‏)‏

يتصور دخول العوام في الإجماع، فإن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك في دركه العوام والخواص، كالصلوات الخمس ووجوب الصوم والزكاة والحج، فهذا مجمع عليه والعوام وافقوا الخواص في الإجماع، وإلى ما يختص بدركه الخواص كتفصيل أحكام الصلاة والبيع والتدبير والاستيلاد، فما أجمع عليه الخواص، فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد، لا يضمرون فيه خلافا أصلا، فهم موافقون أيضا فيه، ويحسن تسمية ذلك إجماع الامة قاطبة، كما أن الجند إذا حكموا جماعة من أهل الرأي والتدبير في مصالحة أهل قلعة فصالحوهم على شئ يقال‏:‏ هذا باتفاق جميع الجند، فإذا كل مجمع عليه من المجتهدين، فهو مجموع عليه من جهة العوام وبه يتم إجماع الامة، فإن قيل‏:‏ فلو خالف عامي في واقعة أجمع عليها الخواص من أهل العصر، فهل ينعقد الإجماع دونه إن كان ينعقد، فكيف خرج العامي من الامة، وإن لم ينعقد فكيف يعتد بقول العامي‏؟‏ قلنا‏:‏ قد اختلف الناس فيه، فقال قوم‏:‏ لا ينعقد، لانه من الامة، فلا بد من تسليمه بالجملة أو بالتفصيل، وقال آخرون، وهو الاصح‏:‏ إنه ينعقد بدليلين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن العامي ليس أهلا لطلب الصواب، إذ ليس له آلة هذا الشأن، فهو كالصبي والمجنون في نقصان الآلة، ولا يفهم من عصمة الامة من الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الاصابة لاهليته‏.‏ والثاني‏:‏ وهو الاقوى أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام في هذا الباب، أعني خواص الصحابة وعوامهم، ولان العامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل، وأنه ليس يدري ما يقول وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه، وعن هذالا يتصور صدور هذا من عامي عاقل، لان العاقل يفوض ما لا يدري إلى من يدري، فهذه صورة فرضت، ولا وقوع لها أصلا، ويدل على انعقاد الإجماع أن العامي يعصي بمخالفته العلماء ويحرم ذلك عليه، ويدل على عصيانه ما ورد من ذم الرؤساء الجهال إذا ضلوا وأضلوا بغير علم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏(‏4‏)‏ لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 38‏)‏ فردهم عن النزاع إلى أهل الاستنباط، وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء وتحريم فتوى العامة بالجهل والهوى وهذا لا يدل على انعقاد الإجماع دونهم، فإنه يجوز أن يعصي بالمخالفة، كما يعصي من يخالف خبر الواحد، ولكن يمتنع وجود الإجماع لمخالفته والحجة في الإجماع فإذا امتنع بمعصية أو بما ليس بمعصية فلا حجة، وإنما الدليل ما ذكرنا من قبل‏.‏

مسألة ‏(‏يعتد بقول الاصولي والفقيه المبرز‏)‏

إذا قلنا لا يعتبر قول العوام لقصور آلتهم فرب متكلم ونحوي ومفسر ومحدث هو ناقض الآلة في درك الاحكام، فقال قوم‏:‏ لا يعتد إلا بقول أئمة المذاهب المستقلين بالفتوى، كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من ضم إلى الائمة الفقهاء الحافظين لاحكام الفروع الناهضين بها، لكن أخرج الاصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع ولا يحفظها، والصحيح أن الاصولي العارف بمدارك الاحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنظوم، وصيغة الامر والنهي، والعموم وكيفية تفهيم النصوص، والتعليل أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع، بل ذو الآلة، من هو متمكن من درك الاحكام إذا أراد، وإن لم يحفظ الفروع، والاصولي قادر عليه، والفقيه الحافظ للفروع لا يتمكن منه، وآية أنه لا يعتبر حفظ الفروع أن العباس والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبا عبيدة بن الجراح وأمثالهم ممن لم ينصب نفسه للفتوى ولم يتظاهر بها تظاهر العبادلة، وتظاهر علي وزيد بن ثابت ومعاذ، كانوا يعتدون بخلافهم لو خالفوا، وكيف لا وكانوا صالحين للامامة العظمى، ولا سيما لكون أكثرهم في الشورى، وما كانوا يحفظون الفروع، بل لم تكن الفروع موضوعة بعد، لكن عرفوا الكتاب والسنة، وكانوا أهلا لفهمهما، والحافظ لفروع قد لا يحفظ دقائق فروع الحيض، والوصايا، فأصل هذه الفروع كهذه الدقائق، فلا يشترط حفظها، فينبغي أن يعتد بخلاف الاصولي وبخلاف الفقيه المبرز، لانهما ذوا آلة على الجملة، يقولان ما يقولان عن دليل، أما النحوي والمتكلم فلا يعتد بهما، لانهما من العوام في حق هذا العلم، إلا أن يقع الكلام في مسألة تنبني على النحو أو على الكلام، فإن قيل‏:‏ فهذه المسألة قطعية أم اجتهادية‏؟‏ قلنا‏:‏ هي اجتهادية، ولكن إذا جوزنا أن يكون قوله معتبرا صار الإجماع مشكوكا فيه عند مخالفته فلا يصير حجة قاطعة، إنما يكون حجة قاطعة إذا لم يخالف هؤلاء، أما خلاف العوام فلا يقع، ولو وقع فهو قول باللسان، وهو معترف بكونه جاهلا بما يقول، فبطلان قوله مقطوع به، كقول الصبي، فأما هذا فليس كذلك، فإن قيل‏:‏ فإذا قلد الاصولي الفقهاء فيما اتفقوا عليه في الفروع وأقر بأنه حق هل ينعقد الإجماع، قلنا‏:‏ نعم، لانه لا مخالفة، وقد وافق الاصولي جملة وإن لم يعرف التفصيل، كما أن الفقهاء اتفقوا على أن ما أجمع عليه المتكلمون في باب الاستطاعة والعجز والاجسام والاعراض والضد والخلاف، فهو صواب، فيحصل الإجماع بالموافقة الجملية، كما يحصل من العوام، لان كل فريق كالعامي، بالاضافة إلى ما لم يحصل علمه، وإن حصل علما آخر‏.‏

مسألة ‏(‏عدم انعقاد الإجماع بالمجتهد الفاسق المبتدع‏)‏

إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر، بل هو كمجتهد فاسق وخلاف المجتهد الفاسق معتبر، فإن قيل‏:‏ لعله يكذب في إظهار الخلاف وهو لا يعتقده‏.‏ قلنا‏:‏ لعله يصدق، ولا بد من موافقته ولو لم نتحقق موافقته، كيف وقد نعلم اعتقاد الفاسق بقرائن أحواله في مناظراته واستدلالاته، والمبتدع ثقة يقبل قوله، فإنه ليس يدري أنه فاسق، أما إذا كفر ببدعته فعند ذلك لا يعتبر خلافه وإن كان يصلي إلى القبلة ويعتقد نفسه مسلما‏.‏ لان الامة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة، بل عن المؤمنين وهو كافر، وإن كان لا يدري أنه كافر، نعم‏:‏ لو قال بالتشبيه والتجسيم وكفرناه فلا يستدل على بطلان مذهبه بإجماع مخالفيه على بطلان التجسيم مصيرا إلى أنهم كل الامة دونه، لان كونهم كل الامة موقوف على إخراج هذا من الامة والاخراج من الامة موقوف على دليل التكفير، فلا يجوز أن يكون دليل تكفيره ما هو موقوف على تكفيره، فيؤدي إلى إثبات الشئ بنفسه، نعم‏:‏ بعد أن كفرناه بدليل عقلي لو خالف في مسألة أخرى لم يلتفت إليه، فلو تاب وهو مصر على المخالفة في تلك المسألة التي أجمعوا عليها في حال كفره، فلا يلتفت إلى خلافه بعد الاسلام، لانه مسبوق بإجماع كل الامة وكان المجمعون في ذلك الوقت كل الامة دونه، فصار كما لو خالف كافر كافة الامة ثم أسلم وهو مصر على ذلك الخلاف، فإن ذلك لا يلتفت إليه إلا على قول من يشترط انقراض العصر في الإجماع، فإن قيل‏:‏ فلو ترك بعض الفقهاء الإجماع بخلاف المبتدع المكفر إذا لم يعلم أن بدعته توجب الكفر وظن أن الإجماع لا ينعقد دونه، فهل يعذر من حيث أن الفقهاء لا يطلعون على معرفة ما يكفر به من التأويلات‏؟‏ قلنا‏:‏ للمسألة صورتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أن يقول الفقهاء‏:‏ نحن لا ندري أن بدعته توجب الكفر أم لا، ففي هذه الصورة لا يعذرون فيه إذ يلزمهم مراجعة علماء الاصول، ويجب على العلماء تعريفهم، فإذا أفتوا بكفره فعليهم التقليد، فإن لم يقنعهم التقليد فعليهم السؤال عن الدليل، حتى إذا ذكر لهم دليله فهموه لا محالة، لان دليله قاطع، فإن لم يدركه فلا يكون معذورا كمن لا يدرك دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا عذر مع نصب الله تعالى الأدلة القاطعة‏.‏ الصورة الثانية‏:‏ أن لا يكون قد بلغته بدعته وعقيدته، فترك الإجماع لمخالفته، فهو معذور في خطئه وغير مؤاخذ به، وكان الإجماع لم ينتهض حجة في حقه، كما إذا لم يبلغه الدليل الناسخ لانه غير منسوب إلى تقصير، بخلاف الصورة الأولى، فإنه قادر على المراجعة والبحث فلا عذر له في تركه، فهو كمن قبل شهادة الخوارج وحكم بها فهو مخطئ، لان الدليل على تكفير الخوارج على علي عثمان رضي الله عنهما، والقائلين بكفرهما المعتقدين استباحة دمهما ومالهما ظاهر يدرك على القرب، فلا يعذر من لا يعرفه بخلاف من حكم بشهادة الزور، وهو لا يعرف، لانه لا طريق له إلى معرفة صدق الشاهد وله طريق إلى معرفة كفره، فإن قيل وما الذي يكفر به‏؟‏ قلنا‏:‏ الخطب في ذلك طويل، وقد أشرنا إلى شئ منه في كتاب

فصل التفرقة بين الاسلام والزندقة

والقدر الذي نذكره الآن أنه يرجع إلى ثلاثة أقسام‏:‏ الأول‏:‏ ما يكون نفس اعتقاده كفرا، كإنكار الصانع وصفاته وجحد النبوة‏.‏ الثاني‏:‏ ما يمنعه اعتقاده من الاعتراف بالصانع وصفاته وتصديق رسله، ويلزمه إنكار ذلك من حيث التناقض‏.‏ الثالث‏:‏ ما ورد التوقيف بأنه لا يصدر إلا من كافر كعبادة النيران والسجود للصنم، وجحد سورة من القرآن، وتكذيب بعض الرسل، واستحلال الزنا والخمر وترك الصلاة، وبالجملة إنكار ما عرف بالتواتر والضرورة من الشريعة‏.‏

مسألة

قال قوم، لا يعتد بإجماع غير الصحابة وسنبطله، وقال قوم‏:‏ يعتد بإجماع التابعين بعد الصحابة، ولكن لا يعتد بخلاف التابعي في زمان الصحابة ولا يندفع إجماع الصحابة بخلافه، وهذا فاسد مهما بلغ التابعي رتبة الاجتهاد قبل تمام الإجماع، لانه من الامة، فإجماع غيره لا يكون إجماع جميع الامة، بل إجماع البعض، والحجة في إجماع الكل، نعم‏:‏ لو أجمعوا ثم بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم فهو مسبوق بالإجماع، فليس له الآن أن يخالف، كمن أسلم بعد تمام الإجماع، ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 10‏)‏ وهذا مختلف فيه، ويدل عليه إجماع الصحابة على تسويغ الخلاف للتابعي وعدم إنكارهم عليه، فهو إجماع منهم على جواز الخلاف، كيف وقد علم أن كثيرا من أصحاب عبد الله كعلقمة والاسود وغيرهما كانوا يفتون في عصر الصحابة، وكذا الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، فكيف لا يعتد بخلافهم، وعلى الجملة فلا يفضل الصحابي التابعي إلا بفضيلة الصحبة، ولو كانت هذه الفضيلة تخصص الإجماع لسقط قول الانصار بقول المهاجرين، وقول‏:‏ المهاجرين بقول العشرة وقول العشرة بقول الخلفاء الاربعة، وقولهم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فإن قيل‏:‏ روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن مجاراة الصحابة، وقالت‏:‏ فروج يصقع مع الديكة، قلنا‏:‏ ما ذكرناه مقطوع به، ولم يثبت عن عائشة ما ذكرتم إلا بقول الآحاد، وإن ثبت فهو مذهبها، ولا حجة فيه، ثم لعلها أرادت منعه من مخالفتهم فيما سبق إجماعهم عليه، أو لعلها أنكرت عليه خلافه في مسألة لا تحتمل الاجتهاد في اعتقادها، كما أنكرت على زيد بن أرقم في مسألة العينة، وظنت أن وجوب حسم الذريعة قطعي، واعلم أن هذه المسألة يتصور الخلاف فيها مع من يوافق على أن إجماع الصحابة يندفع بمخالفة واحد من الصحابة، أما من ذهب إلى أنه لا يندفع خلاف الاكثر بالاقل كيفما كان فلا يختص كلامه بالتابعي‏.‏

مسألة ‏(‏هل ينعقد إجماع الاكثر أم لا‏؟‏‏)‏

الإجماع من الاكثر ليس بحجة مخالفة الاقل، وقال قوم‏:‏ إن بلغ عدد الاقل عدد التواتر اندفع الإجماع، وإن نقص فلا يندفع، والمعتمد عندنا أن العصمة إنما تثبت للامة بكليتها، وليس هذا إجماع الجميع، بل هو مختلف فيه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 01‏)‏ فإن قيل‏:‏ قد تطلق الامة ويراد بها الاكثر كما يقال بنو تميم يحمون الجار، ويكرمون الضيف، ويراد الاكثر‏؟‏ قلنا‏:‏ من يقول بصيغة العموم يحمل ذلك على الجميع، ولا يجوز التخصيص بالتحكم، بل بدليل وضرورة، ولا ضرورة ههنا، ومن لا يقول به فيجوز أن يريد به الاقل، وعند ذلك لا يتميز البعض المراد عما ليس بمراد، ولا بد من إجماع الجميع ليعلم أن البعض المراد داخل فيه، كيف وقد وردت أخبار تدل على قلة أهل الحق حيث قال صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ الاقلون، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ سيعود الدين غريبا كما بدا غريبا وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أكثرهم لا يعقلون‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 301‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقليل من عبادي الشكور‏}‏ ‏(‏سبأ‏:‏ 13‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كم من فئة قليلة‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 942‏)‏ الآية وإذا لم يكن ضابط، ولا مرد فلا خاص إلا باعتبار قول الجميع‏.‏ الدليل الثاني‏:‏ إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد، فكم من مسألة قد انفرد فيها الآحاد بمذهب كانفراد ابن عباس بالعول فإنه أنكره، فإن قيل‏:‏ لا بل أنكروا على ابن عباس القول بتحليل المتعة، وأن الربا في النسيئة، وأنكرت عائشة على ابن أرقم مسألة العينة، وأنكروا على أبي موسى الاشعري قوله‏:‏ النوم لا ينقض الوضوء، وعلى أبي طلحة القول بأن أكل البرد لا يفطر، وذلك لانفرادهم به، قلنا‏:‏ لا، بل لمخالفتهم السنة الواردة فيه المشهورة بينهم، أو لمخالفتهم أدلة ظاهرة قامت عندهم، ثم نقول‏:‏ هب أنهم أنكروا انفراد المنفرد والمنكر منكر عليهم إنكارهم، ولا ينعقد الإجماع فلا حجة في إنكارهم مع مخالفة الواحد‏.‏ ولهم شبهتان‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قولهم‏:‏ قول الواحد فيما يخبر عن نفسه لا يورث العلم، فكيف يندفع به قول عدد حصل العلم بإخبارهم عن أنفسهم لبلوغهم عدد التواتر، وعن هذا قال قوم‏:‏ عدد الاقل إلى أن يبلغ مبلغ التواتر يدفع الإجماع، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ إن صدق الاكثر وإن علم فليس ذلك صدق جميع الامة، واتفاقهم والحجة في اتفاق الجميع، فسقطت الحجة، لانهم ليسوا كل الامة‏.‏ الثاني‏:‏ إن كذب الواحد ليس بمعلوم، فلعله صادق، فلا تكون المسألة اتفاقا من جميع الصادقين إن كان صادقا‏.‏ الثالث‏:‏ إنه لا نظر إلى ما يضمرون، بل التعبد متعلق بما يظهرون، فهو مذهبهم، وسبيلهم لا ما أضمروه، فإن قيل‏:‏ فهل يجوز أن تضمر الامة خلاف ما تظهر‏؟‏ قلنا‏:‏ ذلك إن كان إنما يكون عن تقية وإلجاء، وذلك يظهر ويشتهر وإن لم يشتهر فهو محال، لانه يؤدي إلى اجتماع الامة على ضلالة وباطل، وهو ممتنع، بدليل السمع‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ إن مخالفة الواحد شذوذ عن الجماعة، وهو منهي عنه، فقد ورد ذم الشاذ، وأنه كالشاذ من الغنم عن القطيع، قلنا‏:‏ الشاذ عبارة عن الخارج عن الجماعة بعد الدخول فيها ومن دخل في الإجماع لا يقبل خلافه بعده، وهو الشذوذ، أما الذي لم يدخل أصلا فلا يسمى شاذا، فإن قيل‏:‏ فقد قال عليه السلام‏:‏ عليكم بالسواد الاعظم فإن الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد قلنا‏:‏ أراد به الشاذ الخارج على الامام بمخالفة الاكثر على وجه يثير الفتنة، وقوله‏:‏ وهو عن الاثنين أبعد أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق، ولهذا قال عليه السلام‏:‏ والثلاثة ركب، وقد قال بعضهم‏:‏ قول الاكثر حجة، وليس بإجماع، وهو متحكم بقوله أنه حجة إذ لا دليل عليه‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ مرادي به أن اتباع الاكثر أولى، قلنا‏:‏ هذا يستقيم في الاخبار، وفي حق المقلد إذا لم يجد ترجيحا بين المجتهدين سوى الكثرة، وأما المجتهد فعليه اتباع الدليل دون الاكثر، لانه إن خالفه واحد لم يلزمه اتباعه وإن انضم إليه مخالف آخر لم يلزمه الاتباع‏.‏

مسألة ‏(‏إجماع أهل المدينة عند مالك‏)‏

قال مالك‏:‏ الحجة في إجماع أهل المدينة فقط، وقال قوم‏:‏ المعتبر إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة، وما أراد المحصلون بهذا إلا أن هذه البقاع قد جمعت في زمن الصحابة أهل الحل والعقد، فإن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة لهم فمسلم له ذلك لو جمعت، وعند ذلك لا يكون للمكان فيه تأثير وليس ذلك بمسلم بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها بل ما زالوا متفرقين في الاسفار، والغزوات والامصار، فلا وجه لكلام مالك، إلا أن يقول عمل أهل المدينة حجة لانهم الاكثرون، والعبرة بقول الاكثرين وقد أفسدناه، أو يقول يدل اتفاقهم في قول أو عمل أنهم استندوا إلى سماع قاطع، فإن الوحي الناسخ نزل فيهم، فلا تشذ عنهم مدارك الشريعة، وهذا تحكم، إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو في المدينة، لكن يخرج منها قبل نقله، فالحجة في الإجماع، ولا إجماع، وقد تكلف لمالك تأويلات ومعاذير استقصيناها في كتاب تهذيب الاصول ولا حاجة إليها هاهنا، وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى أهلها، وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكناهم المدينة، ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم، وقد قال قوم‏:‏ الحجة في اتفاق الخلفاء الاربعة، وهو تحكم لا دليل عليه إلا ما تخيله جماعة في أن قول الصحابي حجة، وسيأتي في موضعه‏.‏

مسألة ‏(‏هل يشترط التواتر في الإجماع‏؟‏‏)‏

اختلفوا في أنه هل يشترط أن يبلغ أهل الإجماع عدد التواتر، أما من أخذه من دليل العقل واستحالة الخطأ بحكم العادة، فيلزمه الاشتراط، والذين أخذوه من السمع اختلفوا، فمنهم من شرط ذلك، لانه إذا نقص عددهم فنحن لا نعلم إيمانهم بقولهم فضلا عن غيره، وهذا فاسد من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يعلم إيمانهم لا بقولهم، لكن بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال‏.‏، فإذا لم يكن على وجه الارض مسلم سواهم فهم على الحق‏.‏ الثاني‏:‏ أنا لم نتعبد بالباطن، وإنما أمة محمد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ظاهرا، إذ لا وقوف على الباطن، وإذا ظهر أنا متعبدون باتباعهم فيجوز أن يستدل بهذا على أنهم صادقون، لان الله تعالى لا يتعبدنا باتباع الكاذب وتعظيمه والاقتداء به، فإن قيل‏:‏ كيف يتصور رجوع عدد المسلمين إلى ما دون عدد التواتر، وذلك يؤدي إلى انقطاع التكليف، فإن التكليف يدوم بدوام الحجة، والحجة تقوم بخبر التواتر عن أعلام النبوة، وعن وجود محمد صلى الله عليه وسلم وتحديه بالنبوة، والكفار لا يقومون بنشر أعلام النبوة، بل يجتهدون في طمسها، والسلف من الائمة مجمعون على دوام التكليف إلى القيامة، وفي ضمنه الإجماع على استحالة اندراس الاعلام، وفي نقصان عدد التواتر ما يؤدي إلى الاندراس، وإذا لم يتصور وجود هذه الحادثة فكيف نخوض في حكمها، قلنا‏:‏ يحتمل أن يقال‏:‏ ذلك ممتنع لهذه الأدلة، وإنما معنى تصور هذه المسألة رجوع عدد أهل الحل والعقد إلى ما دون عدد التواتر، وإن قطعنا بأن قول العوام لا يعتبر، فتدوم أعلام الشرع بتواتر العوام، ويحتمل أن يقال‏:‏ يتصور وقوعها، والله تعالى يديم الاعلام بالتواتر الحاصل من جهة المسلمين والكفار، فيتحدثون بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، ووجود معجزته، وإن لم يعترفوا بكونها معجزة، أو يخرق الله تعالى العادة، فيحصل العلم بقول القليل حتى تدوم الحجة، بل نقول‏:‏ قول القليل مع القرائن المعلومة في مناظرته وتسديده قد يحصل العلم من غير خرق عادة، فبجميع هذه الوجوه يبقى الشرع محفوظا، فإن قيل‏:‏ فإذا جاز أن يقل عدد أهل الحل والعقد، فلو رجع إلى واحد، فهل يكون مجرد قوله حجة قاطعة‏؟‏ قلنا‏:‏ إن اعتبرنا موافقة العوام فإذا، قال قولا وساعده عليه العوام ولم يخالفوه فيه فهو إجماع الامة، فيكون حجة، إذ لو لم يكن لكان قد اجتمعت الامة على الضلالة والخطأ، وإن لم نلتفت إلى قول العوام فلم يوجد ما يتحقق به اسم الاجتماع والإجماع، إذ يستدعي ذلك عددا بالضرورة حتى يسمى إجماعا، ولا أقل من اثنين أو ثلاثة، وهذا كله يتصور على مذهب من يعتبر إجماع من بعد الصحابة، فأما من لا يقول إلا بإجماع الصحابة فلا يلزمه شئ من ذلك، لان الصحابة قد جاوز عددهم عدد التواتر‏.‏

مسألة ‏(‏مذهب الظاهرية‏)‏

ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة، وهو فاسد، لان الأدلة الثلاثة على كون الإجماع حجة، أعني الكتاب والسنة والعقل، لا تفرق بين عصر وعصر، فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماع من جميع الامة ومن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين، ويستحيل بحكم العادة أن يشذ الحق عنهم مع كثرتهم عند من يأخذه من العادة، ولهم شبهتان، أضعفهما قولهم الاعتماد على الخبر والآية، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويتبع غير سبيل المؤمنين‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 511‏)‏ يتناول الذين نعتوا بالايمان، وهم الموجودون وقت نزول الآية، فإن المعدوم لا يوصف بالايمان، ولا يكون له سبيل، وقوله عليه السلام‏:‏ لا تجتمع أمتي على الخطأ يتناول أمته الذين آمنوا به وتصور إجماعهم واختلافهم، وهم الموجودون، وهذا باطل، إذ يلزم على مساقه أن لا ينعقد إجماع بعد موت سعد بن معاذ وحمزة ومن استشهد من المهاجرين والانصار ممن كانوا موجودين عند نزول الآية، فإن إجماع من وراءهم ليس إجماع جميع المؤمنين وكل الامة، ويلزم أن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزول الآية وكملت آلته بعد ذلك، وقد أجمعنا وإياهم والصحابة على أن موت واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع، بل إجماع الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم حجة بالاتفاق، وكم من صحابي استشهد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ أن الواجب اتباع سبيل جميع المؤمنين وإجماع جميع الامة، وليس التابعون جميع الامة، فإن الصحابة وإن ماتوا لم يخرجوا بموتهم عن الامة، ولذلك لو خالف واحد من الصحابة إجماع التابعين لا يكون قول جميع الامة، ولا يحرم الاخذ بقول الصحابي، فإذا كان خلاف بعض الصحابة يدفع إجماع التابعين، فعدم وفاقهم أيضا يدفع، لانهم بالموت لم يخرجوا عن كونهم من الامة، قالوا‏:‏ وقياس هذا يقتضي أن لا يثبت وصف الكلية أيضا للصحابة، بل ينتظر لحوق التابعين وموافقتهم من بعدهم إلى القيامة، فإنهم كل الامة، لكن لو اعتبر ذلك لم ينتفع بالإجماع إلا في القيامة، فثبت أن وصف الكلية إنما هو لمن دخل في الوجود دون من لم يدخل، فلا سبيل إلى إخراج الصحابة من الجملة، وعند ذلك لا يثبت وصف كلية الامة للتابعين‏؟‏ والجواب أنه كما بطل على القطع الالتفات إلى اللاحقين بطل الالتفات إلى الماضين، ولولا ذلك لما تصور إجماع بعد موت واحد من المسلمين في زمان الصحابة، والتابعين، ولا بعد أن استشهد حمزة، وقد اعترفوا بصحة إجماع الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موت من مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك إلا لان الماضي لا يعتبر، والمستقبل لا ينتظر وأن وصف كلية الامة حاصل لكل من الموجودين في كل وقت، وأما إجماع التابعين على خلاف قول واحد من الصحابة، فقد قال قوم‏:‏ يصير قول الصحابي مهجورا لانهم كل الامة، وإن سلمنا وهو الصحيح فنقول‏:‏ إن اتفقوا على وفق قوله انعقد الإجماع، إذ موافقته إن لم تقو الإجماع فلا تقدح فيه، وإن أجمعوا على خلاف قوله فلا يصير ذلك القول عندنا مهجورا حتى يحرم على تابعي التابعين موافقته، لانه بعد أن أفتى في المسألة فليس فتوى التابعين فيها فتوى جميع الامة، بل فتوى البعض، فإن قيل إن ثبت نعت الكلية للتابعين فليكن خلاف قولهم بعدهم حراما، وإن قال به صحابي قبلهم، وإن لم يكونوا كل الامة، فينبغي أن لا تقوم الحجة بإجماعهم، ولا يحرم خلافهم، إذ خلاف بعض الامة ليس بحرام، أما أن تكون كلية الامة في شئ دون شئ فهذا متناقض، وجمع بين النفي والاثبات‏؟‏ قلنا‏:‏ ليس بمتناقض، لان الكلية إنما تثبت بالاضافة إلى المسألة التي خاضوا فيها، فإذا نزلت مسألة بعد الصحابة فالتابعون فيها كل الامة إذا أجمعوا فيها، أما ما أفتى فيها الصحابي ففتواه ومذهبه لا ينقطع بموته، وهذا كالصحابي إذا مات بعد الفتوى، وأجمع الباقون على خلافه، لا يكون ذلك إجماعا من الامة، ولو مات ثم نزلت واقعة بعده انعقد الإجماع على كل مذهب، وتكون الكلية حاصلة بالاضافة، فإن قيل‏:‏ إن كان في الامة غائب لا ينعقد الإجماع دونه، وإن لم يكن لذلك الغائب خبر من الواقعة، ولا فتوى فيها، لكن نقول‏:‏ لو كان حاضرا لكان له قول فيها، فلا بد من موافقته، فليكن الميت قبل التابعين كالغائب‏؟‏ قلنا‏:‏ يبطل بالميت الأول من الصحابة، فإن الإجماع انعقد دونه، ولو كان غائبا لم ينعقد، لان الغائب في الحال ذو مذهب ور أي بالقوة فتمكن موافقته، ومخالفته، فيحتمل أن يوافق أو يخالف إذا عرضت المسألة عليه، بخلاف الميت، فإنه لا يتصور في حقه خلاف أو وفاق، لا بالقوة ولا بالفعل، بل المجنون والمريض الزائل العقل والطفل لا ينتظر لانه بطل منه إمكان الوفاق والخلاف، فإن قيل‏:‏ فما أجمع عليه التابعون يندفع، بخلاف واحد من الصحابة إذا نقل، فإن لم ينقل فلعله خالف، ولكن لم ينقل إلينا فلا يستيقن إجماع كل الامة‏؟‏ قلنا‏:‏ يبطل بالميت الأول من الصحابة، فإن إمكان خلافه لا يكون كحقيقة خلافه، وهذا التحقيق، وهو أنه لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج، إذ ما من حكم إلا ويتصور تقدير نسخه وانفراد الواحد بنقله، وموته قبل أن ينقل إلينا فيبطل إجماع الصحابة، لاحتمال أن واحدا منهم أضمر المخالفة، وإنما أظهر الموافقة لسبب، ويرد خبر الواحد لاحتمال أن يكون كاذبا، وإذا عرف الإجماع وانقرض العصر أمكن رجوع واحد منهم قبل الموت، وإن لم ينقل إلينا فيبطل الإجماع على مذهب من يشترط انقراض العصر، فإن قيل‏:‏ إن الأصل عدم النسخ وعدم الرجوع‏؟‏ قلنا‏:‏ والأصل عدم خوضه في الواقعة، وعدم الخلاف والوفاق جميعا، ومع أن الأصل العدم، فالاحتمال لا ينتفي، وإذا ثبت الاحتمال حصل الشك فيصير الإجماع غير مستيقن مع الشك، ولكن يقال‏:‏ لا يندفع الإجماع بكل شك، فإن قيل في مسألة تجويز النسخ وتجويز الرجوع شك بعد استيقان أصل الحجة، وإنما الشك في دوامها، وهاهنا الشك في أصل الإجماع، لان الإجماع موقوف على حصول نعت الكلية لهم، ونعت الكلية موقوف على معرفة انتفاء الخلاف، فإذا شككنا في انتفاء الخلاف شككنا في الكلية فشككنا في الإجماع‏؟‏ قلنا‏:‏ لا بل نعت الكلية حاصل للتابعين، وإنما ينتفي بمعرفة الخلاف فإذا لم يعرف بقيت الكلية، وما ذكروه يضاهي قول القائل‏:‏ الحجة في نص مات الرسول عليه السلام قبل نسخه، فإذا لم يعرف موته قبل نسخه شككنا في الحجة، والحجة الإجماع المنقرض عليه العصر فإذا شككنا في الرجوع فقد شككنا في الحجة، وكذلك القول في قول الميت الأول من الصحابة، فإنا لا نقول‏:‏ صار كلية الباقين مشكوكا فيها، هذا تمام الكلام في الركن الأول‏.‏ الركن الثاني‏:‏ في نفس الإجماع ونعني به اتفاق فتاوى الامة في المسألة في لحظة واحدة انقرض عليه العصر أو لم ينقرض، أفتوا عن اجتهاد أو عن نص، مهما كانت الفتوى نطقا صريحا، وتمام النظر في هذا الركن ببيان أن السكوت ليس كالنطق وأن انقراض العصر ليس بشرط، وأن الإجماع قد ينعقد عن اجتهاد فهذه ثلاث مسائل‏:‏

مسألة ‏(‏الإجماع السكوتي‏)‏

إذا أفتى بعض الصحابة بفتوى وسكت الآخرون لم ينعقد الإجماع، ولا ينسب إلى ساكت قول، وقال قوم‏:‏ إذا انتشر وسكتوا فسكوتهم كالنطق حتى يتم به الإجماع، وشرط قوم انقراض العصر على السكوت، وقال قوم‏:‏ هو حجة وليس بإجماع، وقال قوم‏:‏ ليس بحجة ولا إجماع، ولكنه دليل تجويزهم الاجتهاد في المسألة، والمختار أنه ليس بإجماع ولا حجة، ولا هو دليل على تجويز الاجتهاد في المسألة، إلا إذا دلت قرائن الاحوال على أنهم سكتوا مضمرين الرضا، وجواز الاخذ به عند السكوت، والدليل عليه أن فتواه، إنما تعلم بقوله الصريح الذي لا يتطرق إليه احتمال وتردد، والسكوت متردد، فقد يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب‏:‏ الأول‏:‏ أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول، ونحن لا نطلع عليه، وقد تظهر قرائن السخط عليه مع سكوته‏.‏ الثاني‏:‏ أن يسكت لانه يراه قولا سائغا لمن أداه إليه اجتهاده، وإن لم يكن هو موافقا عليه، بل كان يعتقد خطأه‏.‏ الثالث‏:‏ أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الانكار في المجتهدات أصلا، ولا يرى الجواب إلا فرض كفاية، فإذا كفاه من هو مصيب سكت وإن خالف اجتهاده‏.‏ الرابع‏:‏ أن يسكت وهو منكر لكن ينتظر فرصة الانكار، ولا يرى البدار مصلحة لعارض من العوارض ينتظر زواله ثم يموت قبل زوال ذلك العارض أو يشتغل عنه‏.‏ الخامس‏:‏ أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه وناله ذل وهوان كما قال ابن عباس في سكوته عن إنكار العول في حياة عمر كان رجلا مهيبا فهبته‏.‏ السادس‏:‏ أن يسكت، لانه متوقف في المسألة، لانه بعد في مهلة النظر‏.‏ السابع‏:‏ أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الانكار، وأغناه عن الاظهار، ثم يكون قد غلط فيه، فترك الانكار عن توهم، إذا رأى الانكار فرض كفاية وظن أنه قد كفى، وهو مخطئ في وهمه، فإن قيل‏:‏ لو كان فيه خلاف لظهر‏؟‏ قلنا‏:‏ لو كان فيه وفاق لظهر، فإن تصور عارض يمنع من ظهور الوفاق تصور مثله في ظهور الخلاف‏.‏ وبهذا يبطل قول الجبائي حيث شرط انقراض العصر في السكوت إذ من العوارض المذكورة ما يدوم إلى آخر العصر، أما من قال هو حجة وإن لم يكن إجماعا فهو تحكم، لانه قول بعض الامة والعصمة إنما تثبت للكل فقط، فإن قيل‏:‏ نعلم قطعا أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة، فنقل إليهم مذهب بعض الصحابة مع انتشاره وسكوت الباقين كانوا لا يجوزون العدول عنه، فهو إجماع منهم على كونه حجة، قلنا‏:‏ هذا إجماع غير مسلم، بل لم يزل العلماء مختلفين في هذه المسألة، ويعلم المحصلون أن السكوت متردد، وأن قول بعض الامة لا حجة فيه‏.‏

مسألة ‏(‏انعقاد الإجماع باتفاق الامة‏)‏

إذا اتفقت كلمة الامة ولو في لحظة انعقد الإجماع، ووجبت عصمتهم عن الخطأ، وقال قوم‏:‏ لا بد من انقراض العصر وموت الجميع، وهذا فاسد، لان الحجة في اتفاقهم لا في موتهم، وقد حصل قبل الموت، فلا يزيده الموت تأكيدا، وحجة الإجماع الآية والخبر، وذلك لا يوجب اعتبار العصر، فإن قيل‏:‏ ما داموا في الاحياء فرجوعهم متوقع وفتواهم غير مستقرة، قلنا‏:‏ والكلام في رجوعهم، فإنا لا نجوز الرجوع من جميعهم، إذ يكون أحد الإجماعين خطأ، وهو محال، أما بعضهم فلا يحل له الرجوع، لانه برجوعه خالف إجماع الامة التي وجبت عصمتها عن الخطأ، نعم يمكن أن يقع الرجوع من بعضهم ويكون به عاصيا فاسقا، والمعصية تجوز على بعض الامة، ولا تجوز على الجميع، فإن قيل‏:‏ كيف يكون مخالفا للإجماع وبعد ما تم الإجماع، وإنما يتم بانقراض العصر‏؟‏ قلنا‏:‏ إن عنيتم به أنه لا يسمى إجماعا فهو بهت على اللغة والعرف، وإن عنيتم أن حقيقته لم تتحقق فما حده، وما الإجماع إلا اتفاق فتاويهم، والاتفاق قد حصل، وما بعد ذلك استدامة للاتفاق لا إتمام للاتفاق، ثم نقول‏:‏ كيف يدعي ذلك ونحن نعلم أن التابعين في زمان بقاء أنس بن مالك وأواخر الصحابة كانوا يحتجون بإجماع الصحابة‏؟‏ ولم يكن جواز الاحتجاج بالإجماع مؤقتا بموت آخر الصحابة، ولهذا قال بعضهم‏:‏ يكفي موت الاكثر، وهو تحكم آخر لا مستند له، ثم نقول‏:‏ هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع، فإنه إن بقي واحد من الصحابة جاز للتابعي أن يخالف إذ لم يتم الإجماع، وما دام واحد من عصر التابعين أيضا لا يستقر الإجماع منهم، فيجوز لتابعي الخلاف، وهذا خبط لا أصل له، ولهم شبه‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قولهم إنه‏:‏ ربما قال بعضهم ما قاله عن وهم وغلط، فيتنبه له، فكيف يحجر عليه في الرجوع عن الغلط، وكيف يؤمن ذلك باتفاق يجري في ساعة واحدة‏؟‏ قلنا‏:‏ وبأن يموت من أين يحصل أمان من غلطه، وهل يؤمن من الغلط إلا دلالة النص على وجوب عصمة الامة، وأما إذا رجع وقال‏:‏ تبينت أني غلطت فنقول‏:‏ إنما يتوهم عليك الغلط إذا انفردت، وأما ما قلته في موافقة الامة فلا يحتمل الخطأ، فإن قال‏:‏ تحققت أني قلت ما قلته عن دليل كذا، وقد انكشف لي خلافه قطعا فنقول‏:‏ إنما أخطأت في الطريق لا في نفس المسألة، بل موافقة الامة تدل على أن الحكم حق، وإن كنت في طريق الاستدلال مخطئا‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ إنهم ربما قالوا عن اجتهاد وظن، ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يرجع، وإذا جاز الرجوع دل أن الإجماع لم يتم‏؟‏ قلنا‏:‏ لا حجر على المجتهد في الرجوع إذا انفرد باجتهاده، أما ما وافق فيه اجتهاده اجتهاد الامة فلا يجوز الخطأ فيه ويجب كونه حقا والرجوع عن الحق ممنوع‏.‏ الشبهة الثالثة‏:‏ أنه لو مات المخالف لم تصر المسألة إجماعا بموته، والباقون هم كل الامة، لكنهم في بعض العصر، فلذلك لا يصير مذهب المخالف مهجورا، فإن كان العصر لا يعتبر فليبطل مذهب المخالف، قلنا‏:‏ قال قوم‏:‏ يبطل مذهبه ويصير مهجروا، لان الباقين هم كل الامة في ذلك الوقت، وهو غير صحيح عندنا بل الصحيح، أنهم ليسوا كل الامة بالاضافة إلى تلك المسألة التي أفتى فيها الميت، فإن فتواه لا ينقطع حكمها بموته، وليس هذا للعصر، فإنه جار في الصحابي الواحد إذا قال قولا وأجمع التابعون في جميع عصرهم على خلافه، فقد بينا أنه لا يبطل مذهبه، لانهم ليسوا كل الامة بالاضافة إلى هذه المسألة‏.‏ الشبهة الرابعة‏:‏ ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ اجتمع رأيي ورأي عمر على منع بيع أمهات الأولاد، وأنا الآن أرى بيعهن، فقال عبيدة السلماني‏:‏ رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، قلنا‏:‏ لو صح إجماع الصحابة قاطبة لما كان هذا يدل من مذهب علي على اشتراط انقراض العصر، ولو ذهب إلى هذا صريحا لم يجب تقليده، كيف ولم يجتمع إلا رأيه ورأي عمر كما قال، وأما قول عبيدة‏:‏ رأيك في الجماعة، ما أراد به موافقة الجماعة إجماعا، وإنما أراد به أن رأيك في زمان الالفة والجماعة، والاتفاق والطاعة للامام أحب إلينا من رأيك في الفتنة والفرقة وتفرق الكلمة وتطرق التهمة إلى علي في البراءة من الشيخين رضي الله عنهم فلا حجة فيما ليس صريحا في نفسه‏.‏

مسألة ‏(‏كيفية انعقاد الإجماع‏)‏

يجوز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة، وقال قوم الخلق الكثير لا يتصور اتفاقهم في مظنة الظن، ولو تصور لكان حجة، وإليه ذهب ابن جرير الطبري، وقال قوم، هو متصور وليس بحجة، لان القول بالاجتهاد يفتح باب الاجتهاد ولا يحرمه، والمختار أنه متصور وأنه حجة، وقولهم أن الخلق الكثير كيف يتفقون على حكم واحد في مظنة الظن‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا إنما يستنكر فيما يتساوى فيه الاحتمال، وأما الظن الاغلب فيميل إليه كل واحد، فأي بعد في أن يتفقوا على أن النبيذ في معنى الخمر في الاسكار، فهو في معناه في التحريم، كيف وأكثر الإجماعات مستندة إلى عمومات وظواهر وأخبار آحاد صحت عند المحدثين، والاحتمال يتطرق إليها، كيف وقد أجمعوا على التوحيد والنبوة، وفيهما من الشبهة ما هو أعظم جذبا لاكثر الطباع من الاحتمال الذي في مقابلة الظن الاظهر، وقد أجمعت على إبطال النبوة مذاهب باطلة ليس لها دليل قطعي ولا ظني، فكيف لا يجوز الاتفاق على دليل ظاهر وظن غالب، ويدل عليه جواز الاتفاق عن اجتهاد لا بطريق القياس، كالاتفاق على جزاء الصيد، ومقدار أرش الجناية، وتقدير النفقة، وعدالة الائمة والقضاة، وكل ذلك مظنون وإن لم يكن قياسا‏.‏ ولهم شبه‏:‏ الأولى‏:‏ قولهم‏:‏ كيف تتفق الامة على اختلاف طباعها وتفاوت أفهامها في الذكاء والبلادة على مظنون‏؟‏ قلنا‏:‏ إنما يمتنع مثل هذا الاتفاق في زمان واحد وساعة معينة، لانهم في مهلة النظر قد يختلفون، أما في أزمنة متمادية فلا يبعد أن يسبق الاذكياء إلى الدلالة الظاهرة، ويقررون ذلك عند ذوي البلادة، فيقبلونه منهم ويساعدون عليه، وأهل هذا المذهب قد جوزوا الإجماع على نفي القياس وإبطاله، مع ظهور أدلة صحته، فكيف يمتنع الإجماع على هذا‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ قولهم‏:‏ كيف تجتمع الامة على قياس، وأصل القياس مختلف فيه‏؟‏ قلنا‏:‏ إنما يفرض ذلك من الصحابة، وهم متفقون عليه، والخلاف حدث بعدهم وإن فرض بعد حدوث الخلاف فيستند القائلون بالقياس إلى القياس والمنكرون له إلى اجتهاد ظنوا أنه ليس بقياس، وهو على التحقيق قياس، إذ قد يتوهم غير العموم عموما، وغير الامر أمرا، وغير القياس قياسا، وكذا عكسه‏.‏ الشبهة الثالثة‏:‏ قولهم إن الخطأ في الاجتهاد جائز، فكيف تجتمع الامة على ما يجوز فيه الخطأ، وربما قالوا‏:‏ الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد، فلو انعقد الإجماع عن قياس لحرمت المخالفة التي هي جائز بالإجماع، ولتناقض الإجماعان‏؟‏ قلنا‏:‏ إنما يجوز الخطأ في اجتهاد ينفرد به الآحاد، أما اجتهاد الامة المعصومة فلا يحتمل الخطأ كاجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياسه، فإنه لا يجوز خلافه لثبوت عصمته، فكذا عصمة الامة من غير فرق‏.‏

الباب الثالث في حكم الإجماع

وحكمه وجوب الاتباع وتحريم المخالفة، والامتناع عن كل ما ينسب الامة إلى تضييع الحق، والنظر فيما هو خرق ومخالفة، وما ليس بمخالفة يتهذب برسم مسائل‏:‏

مسألة ‏(‏الإجماع على رأيين‏)‏

إذا اجتمعت الامة في المسألة على قولين كحكمهم، مثلا في الجارية المشتراة إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيبا، فقد ذهب بعضهم إلى أنها ترد مع العقر وذهب بعضهم إلى منع الرد، فلو اتفقوا على هذين المذهبين كان المصير إلى الرد مجانا خرقا للإجماع عند الجماهير، إلا عند شذوذ من أهل الظاهر والشافعي إنما ذهب إلى الرد مجانا لان الصحابة بجملتهم لم يخوضوا في المسألة وإنما نقل فيها مذهب بعضهم، فلو خاضوا فيها بجملتهم واستقر رأي جميعهم على مذهبين لم يجز إحداث مذهب ثالث، ودليله أنه يوجب نسبة الامة إلى تضييع الحق، إذ لا بد لمذهب الثالث من دليل، ولا بد من نسبة الامة إلى تضييعه والغفلة عنه، وذلك محال، ولهم شبه‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قولهم‏:‏ إنهم خاضوا خوض مجتهدين، ولم يصرحوا بتحريم قول ثالث‏؟‏ قلنا‏:‏ وإذا اتفقوا على قول واحد عن اجتهاد فهو كذلك، ولم يجز خلافهم لانه يوجب نسبتهم إلى تضييح الحق والغفلة عن دليله فكذلك هاهنا‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ قولهم إنه لو استدل الصحابة بدليل أو علة لجاز الاستدلال بعلة أخرى، لانهم لم يصرحوا ببطلانها فكذلك القول الثالث لم يصرحوا ببطلانه‏؟‏ قلنا‏:‏ فليجز خلافهم إذا اتفقوا عن اجتهاد، إذ يجوز التعليل بعلة أخرى فيما اتفقوا عليه، لكن الجواب أنه ليس من فرض دينهم الاطلاع على جميع الأدلة، بل يكفيهم معرفة الحق بدليل واحد، فليس في إحداث علة أخرى واستنباطها نسبة إلى تضييع الحق، وفي مخالفتهم في الحكم إذا اتفقوا نسبة إلى التضييع، فكذلك إذا اختلفوا على قولين‏.‏ الشبهة الثالثة‏:‏ إنه لو ذهب بعض الصحابة إلى أن اللمس والمس ينقضان الوضوء وبعضهم إلى أنهما لا ينقضان الوضوء، ولم يفرق واحد بينهما، فقال تابعي‏:‏ ينقض أحدهما دون الآخر، كان هذا جائزا وإن كان قولا ثالثا قلنا‏:‏ لان حكمه في كل مسألة يوافق مذهب طائفة وليس في المسألتين حكم واحد، وليست التسوية مقصودة، ولو قصدوها وقالوا لا فرق واتفقوا عليه لم يجز الفرق، وإذا فرقوا بين المسألتين واتفقوا على الفرق قصدا امتنع الجمع، أما إذا لم يجمعوا ولم يفرقوا فلا يلتئم حكم واحد من مسألتين، بل نقول صريحا لا يخلو إنسان عن معصية وخطأ في مسألة، فالامة مجتمعة على المعصية والخطأ وكل ذلك ليس بمحال إنما يستحيل الخطأ بحيث يضيع الحق حتى لا يقوم به طائفة مع قوله عليه السلام‏:‏ لا تزال طائفة من أمتي على الحق فلهذا نقول‏:‏ يجوز أن تنقسم الامة في مسألتين إلى فرقتين وتخطئ فرقة في مسألة، والفرقة الاخرى تقوم بالحق فيها، والقائمون بالحق يخطئون في المسألة الاخرى، ويقوم بالحق فيها المخطئون في المسألة الأولى حتى يقول مثلا أحد شطري الامة‏:‏ القياس ليس بحجة والخوارج مبطلون، ويقول فريق آخر القياس حجة والخوارج محقون، فيشملهم الخطأ، ولكن في مسألتين، فلا يكون الحق في مسألتين مضيعا بين الامة في كل واحد منهما‏.‏ الشبهة الرابعة‏:‏ إن مسروقا أحدث في مسألة الحرام قولا ثالثا ولم ينكر عليه منكر، قلنا‏:‏ لم يثبت استقرار كافة الصحابة على رأيين في مسألة الحرام بل ربما كان بعضهم فيها في مهلة النظر أو لم يخض فيها، أو لعل مسروقا خالف الصحابة في ذلك الوقت ولم ينطق بوفاقهم وكان أهلا للاجتهاد في وقت وقوع هذه المسألة، كيف ولم يصح هذا عن مسروق إلا بإخبار الآحاد، فلا يدفع بها ما ذكرنا‏.‏

مسألة ‏(‏خلاف القليل للإجماع‏)‏

إذا خالف واحد من الامة أو اثنان لم ينعقد الإجماع دونه، فلو مات لم تصر المسألة إجماعا، خلافا لبعضهم، ودليلنا أن المحرم مخالفة الامة كافة، ومن ذهب إلى مذهب الميت بعد عصره لا يمكن أن يقال مذهبه خلاف كافة الامة، لان الميت من الامة لا ينقطع مذهبه بموته، ولذلك يقال‏:‏ فلان وافق الشافعي أو خالفه، وذلك بعد موت الشافعي، فمذهب الميت لا يصير مهجورا بموته، ولو صار مهجورا لصار مذهب الجميع كالمنعدم عند موتهم، حتى يجوز لمن بعدهم أن يخالفهم، فإن قيل‏:‏ فلو مات في مهلة النظر وهو بعد متوقف فماذا تقولون فيه‏؟‏ قلنا‏:‏ نقطع في طرفين واضحين إحداهما‏:‏ أن يموت قبل الخوض في المسألة وقبل أن تعرض عليه، فالباقون بعده كل الامة، وإن خاض وأفتى فالباقون بعض الامة، وإن مات في مهلة النظر فهذا محتمل، فإنه كما لم يخالفهم لم يوافقهم أيضا، بل المتوقف مخالف للجازم، لكنه بصدد الموافقة فهذه المسألة محتملة عندنا والله أعلم‏.‏

مسألة ‏(‏إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة‏)‏

إذا اتفق التابعون على أحد قولي الصحابة لم يصر القول الآخر مهجورا، ولم يكن الذاهب إليه خارقا للإجماع، خلافا للكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وكثير من القدرية، كالجبائي وابنه، لانه ليس مخالفا لجميع الامة، فإن الذين ماتوا على ذلك المذهب هم من الامة، والتابعون في تلك المسألة بعض الامة، وإن كانوا كل الامة، فمذهبهم باختيار أحد القولين لا يحرم القول الآخر، فإن صرحوا بتحريم القول الآخر فنحن بين أمرين‏:‏ إما أن نقول هذا محال وقوعه لانه يؤدي إلى تناقض الإجماعين، إذ مضت الصحابة مصرحة بتجويز الخلاف، وهؤلاء اتفقوا على تحريم ما سوغوه، وإما أن نقول أن ذلك ممكن، ولكنهم بعض الامة في هذه المسألة، والمعصية من بعض الامة جائزة، وإن كانوا كل الامة في كل مسألة لم يخض الصحابة فيها، لكن هذا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إذ يكون الحق قد ضاع في هذا الزمان، فلعل من يميل إلى هذا المذهب يجعل الحديث من أخبار الآحاد، فإن قيل‏:‏ بم تنكرون على من يقول هذا إجماع يجب اتباعه، وأما الصحابة فقد اتفقوا على قولين‏:‏ بشرط أن لا يعثر من بعدهم على دليل يعين الحق في أحدهما‏:‏ قلنا‏:‏ هذا تحكم واختراع عليهم، فإنهم لم يشترطوا هذا الشرط والإجماع حجة قاطعة، فلا يمكن الشرط في الحجة القاطعة، إذ يتطرق الاحتمال إليه ويخرج عن كونه قاطعا، ولو جاز هذا لجاز أن يقال‏:‏ إذا أجمعوا على قول واحد عن اجتهاد فقد اتفقوا بشرط أن لا يعثر من بعدهم على دليل يعين الحق في خلافه، وقد مضت الصحابة متفقة على تسويغ كل واحد من القولين فلا يجوز خرق إجماعهم‏.‏

مسألة ‏(‏الرجوع إلى أحد الرأيين‏)‏

إذا اختلفت الامة على قولين ثم رجعوا إلى قول واحد صار ما اتفقوا عليه إجماعا قاطعا عند من شرط انقراض العصر، ويخلص من الاشكال، أما نحن إذا لم نشترط فالإجماع الأول ولو في لحظة قد تم على تسويغ الخلاف‏:‏ فإذا رجعوا إلى أحد القولين فلا يمكننا في هذه الصورة أن نقول هم بعض الامة في هذه المسألة كما ذكرناه في اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة، فيعظم الاشكال، وطرق الخلاص عنه خمسة‏:‏ أحدها‏:‏ أن نقول هذا محال وقوعه، وهو كفرض إجماعهم على شئ ثم رجوعهم بأجمعهم إلى خلافه، أو اتفاق التابعين على خلافه والشارطون لانقراض العصر يتخذون هذه المسألة عمدة لهم ويقولون مثلا إذا اختلفوا في مسألة النكاح بلا ولي فمن ذهب إلى بطلانه جاز له أن يصر عليه فلم لا يجوز للآخرين أن يوافقوه مهما ظهر لهم دليل البطلان، وكيف يحجز على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يوافق مخالفه‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا استبعاد محض، ونحن نحيل ذلك لانه يؤدي إلى تناقض الإجماعين، فإن الإجماع الأول قد دل على تسويغ الخلاف، وعلى إيجاب التقليد على كل عامي لمن شاء من المجتهدين، ولا يكون الاتفاق على تسويغ ذلك إلا عن دليل قاطع أو كالقاطع في تجويزه، وكيف يتصور رفعه وإحالة وقوع هذا التناقض في الإجماعين أقرب من التحكم باشتراط العصر، ثم يبقى الاشكال في اتفاق التابعين بعد انقراض العصر الأول على اختلاف قولين، ثم لا خلاف في أنه يجوز الرجوع إلى أحدهما في القطعيات، كما رجعوا إلى قتال المانعين للزكاة بعد الخلاف، وإلى أن الائمة من قريش، لان كل فريق يؤثم مخالفه، ولا يجوز مذهبه بخلاف المجتهدات، فإن الخلاف فيها مقرون بتجويز الخلاف وتسويغ الاخذ بكل مذهب أدى إليه الاجتهاد من المذهبين‏.‏ والمخلص الثاني‏:‏ اشتراط انقراض العصر، وهو مشكل فإن اشتراطه تحكم‏.‏ والمخلص الثالث‏:‏ اشتراط كون الإجماع مستندا إلى قاطع لا إلى قياس واجتهاد، فإن من شرط هذا يقول لا يحصل من اختلافهم إجماع على جواز كل مذهب، بل ذلك أيضا مستند إلى اجتهاد، فإذا رجعوا إلى واحد فالنظر إلى ما اتفقوا عليه لتعين الحق، بدليل قاطع في أحد المذهبين، وهو مشكل لانه لو فتح هذا الباب لم يكن التعلق بالإجماع، إذ ما من إجماع إلا ويتصور أن يكون عن اجتهاد، فإذا انقسم الإجماع إلى ما هو حجة وإلى ما ليس بحجة ولا فاصل سقط التمسك به، وخرج عن كونه حجة، فإنه إن ظهر لنا القاطع الذي هو مستندهم فيكون الحكم مستقلا بذلك القاطع، ومستندا إليه لا إلى الإجماع، ولان قوله عليه السلام‏:‏ لا تجتمع أمتي على الخطأ لم يفرق بين إجماع وإجماع، ولا يتخلص من هذا إلا من أنكر تصور الإجماع عن اجتهاد، وعند ذلك يناقض آخر كلامه أوله حيث قال‏:‏ اتفاقهم على تسويغ الخلاف مستنده الاجتهاد‏.‏ المخلص الرابع‏:‏ أن يقال‏:‏ النظر إلى الاتفاق الاخير فأما في الابتداء فإنما جوز الخلاف بشرط أن لا ينعقد إجماع على تعيين الحق في واحد، وهذا مشكل فإنه زيادة شرط في الإجماع والحجج القاطعة لا تقبل الشرط الذي يمكن أن يكون وأن لا يكون، ولو جاز هذا لجاز أن يقال‏:‏ الإجماع الثاني ليس بحجة، بل إنما يكون حجة بشرط أن لا يكون اتفاقا بعد اختلاف، وهذا أولى لانه يقطع عن الإجماع الشرط المحتمل‏.‏ المخلص الخامس‏:‏ هذا، وهو أن الاخير ليس بحجة، ولا يحرم القول المهجور، لان الإجماع إنما يكون حجة بشرط أن لا يتقدم اختلاف، فإذا تقدم لم يكن حجة، وهذا أيضا مشكل، لان قوله عليه السلام‏:‏ لا تجتمع أمتي على الخطأ يحسم باب الشرط، ويوجب كون كل إجماع حجة كيف ما كان، فيكون كل واحد من الإجماعين حجة، ويتناقض، فلعل الأولى الطريق الأول، وهو أن هذا لا يتصور، لانه يؤدي إلى التناقض، وتصويره كتصوير رجوع أهل الإجماع عما أجمعوا عليه، وكتصوير اتفاق التابعين على خلاف إجماع الصحابة، وذلك مما يمتنع وقوعه بدليل السمع فكذلك هذا، فإن قيل‏:‏ فإذا ذهب جميع الامة من الصحابة إلى العول إلا ابن عباس وإلى منع بيع أمهات الأولاد إلا عليا، فإذا ظهر لهما الدليل على العول وعلى منع البيع فلم يحرم عليهما الرجوع إلى موافقة سائر الامة، وكيف يستحيل أن يظهر لهما ما ظهر للامة، ومذهبكم يؤدي إلى هذه الاحالة عند سلوك الطريق الأول‏؟‏ قلنا‏:‏ لا إشكال على الطريق الأول إلا هذا، وسبيل قطعه أن يقال‏:‏ لا يحرم عليهما الرجوع لو ظهر لهما وجه ذلك، ولكنا نقول‏:‏ يستحيل أن يظهر لهما وجه أو يرجعا لا لامتناعه في ذاته، لكن لافضائه إلى ما هو ممتنع سمعا، والشئ تارة يمتنع لذاته وتارة لغيره، كاتفاق التابعين على إبطال القياس وخبر الواحد، فإنه محال لا لذاته، لكن لافضائه إلى تخطئة الصحابة أو تخطئة التابعين كافة، وهو ممتنع سمعا، والله أعلم‏.‏

مسألة ‏(‏ظهور حديث يخالف إجماع الصحابة‏)‏

فإن قال قائل إذا أجمعت الصحابة على حكم ثم ذكر واحد منهم حديثا على خلافه ورواه، فإن رجعوا إليه كان الإجماع الأول باطلا، وإن أصروا على خلاف الخبر فهو محال، لا سيما في حق من يذكره تحقيقا، وإذا رجع هو كان مخالفا للإجماع، وإن لم يرجع كان مخالفا للخبر، وهذا لا مخلص عنه إلا باعتبار انقراض العصر فليعتبر قلنا عنه مخلصان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذا فرض محال، فإن الله يعصم الامة عن الإجماع على نقيض الخبر، أو يعصم الراوي عن النسيان إلى أن يتم الإجماع‏.‏ الثاني‏:‏ أنا ننظر إلى أهل الإجماع، فإن أصروا تبين أنه حق، وأن الخبر إما أن يكون غلط فيه الراوي فسمعه من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وظن أنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم أو تطرق إليه نسخ لم يسمعه الراوي وعرفه أهل الإجماع، وإن لم ينكشف لنا، فإن رجع الراوي كان مخطئا، لانه خالف الإجماع وهو حجة قاطعة، وإن رجع أهل الإجماع إلى الخبر قلنا‏:‏ كان ما أجمعوا عليه حقا في ذلك الزمان إذ لم يكلفهم الله ما لم يبلغهم، كما يكون الحكم المنسوخ حقا قبل بلوغ النسخ، وكما لو تغير الاجتهاد أو يكون كل واحد من الرأيين حقا عند من صوب قول كل مجتهد، فإن قيل‏:‏ فإن جاز هذا فلم لا يجوز أن يقال‏:‏ إذا أجمعت الامة عن اجتهاد جاز لمن بعدهم الخلاف، بل جاز لهم الرجوع، فإن ما قالوه كان حقا ما دام ذلك الاجتهاد باقيا، فإذا تغير تغير الفرض والكل حق، لا سيما إذا اختلفوا عن اجتهاد ثم رجعوا إلى قول واحد، وهلا قلتم‏:‏ إن ذلك جائز لانهم كانوا يجوزون للذاهب إلى إنكار العول وبيع أم الولد القول به ما غلب ذلك على ظنه، فإذا تغير ظنه تغير فرضه وحرم عليه ما كان سائغا له، ولا يكون هذا رفعا للإجماع بل تجويزا للمصير إلى مذهب بشرط غلبة الظن، فإذا تغير الظن لم يكن مجوزا، ويكون هذا مخلصا سادسا في المسألة التي قبل هذه المسألة‏؟‏ قلنا‏:‏ ما أجمعوا عليه عن اجتهاد لا يجوز خلافه بعده، لا لانه حق فقط، لكن لانه حق اجتمعت الامة عليه، وقد أجمعت الامة على أن كل ما أجمعت الامة عليه يحرم خلافه لا كالحق الذي يذهب إليه الآحاد، وأما إذا اختلفوا عن اجتهاد فقد اتفقوا على جواز القول الثاني، فيصير جواز المصير إليه أمرا متفقا عليه، ولايجوز أن يقيد بشرط بقاء الاجتهاد، كما لو اتفقوا على قول واحد بالاجتهاد، فإنه لا يشترط فيه أن لا يتغير الاجتهاد، بل يحرم خلافه مطلقا من غير شرط، فكذلك هذا فإن قيل‏:‏ فلو ظهر للتابعين ذلك الخبر على خلاف ما أجمعت الصحابة عليه ونقله إليهم من كان حاضرا عند إجماع أهل الحل والعقد، ولم يكن الراوي من أهل الحل والعقد‏؟‏ قلنا‏:‏ يحرم على التابعين موافقته ويجب عليه اتباع الإجماع القاطع فإن خبر الواحد يحتمل النسخ والسهو والإجماع لا يحتمل ذلك‏.‏

مسألة ‏(‏هل يثبت الإجماع بخبر الواحد‏)‏

الإجماع لا يثبت بخبر الواحد، خلافا لبعض الفقهاء، والسر فيه أن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة، وخبر الواحد، لا يقطع به فكيف يثبت به قاطع وليس يستحيل التعبد به عقلا لو ورد كما ذكرناه في نسخ القرآن بخبر الواحد، لكن لم يرد، فإن قيل‏:‏ فليثبت في حق وجوب العمل به إن لم يكن العمل به مخالفا لكتاب ولا سنة متواترة، إذ الإجماع كالنص في وجوب العمل، والعمل بما ينقله الراوي من النص واجب، وإن لم يحصل القطع به لصحة النص، فكذا الإجماع‏؟‏ قلنا‏:‏ إنما يثبت العمل بخبر الواحد اقتداء بالصحابة وإجماعهم عليه، وذلك فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ أما ما روي عن الامة من اتفاق أو إجماع، فلم يثبت فيه نقل وإجماع، ولو أثبتناه لكان ذلك بالقياس، ولم يثبت لنا صحة القياس في إثبات أصول الشريعة، هذا هو الاظهر، ولسنا نقطع ببطلان مذهب من يتمسك به في حق العمل خاصة، والله أعلم‏.‏

مسألة ‏(‏ليست من الإجماع الاخذ بالاقل‏)‏

الاخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع خلافا لبعض الفقهاء، ومثاله‏:‏ إن الناس اختلفوا في دية اليهودي، فقيل‏:‏ إنها مثل دية المسلم، وقيل‏:‏ إنها مثل نصفها، وقيل إنها ثلثها، فأخذ الشافعي بالثلث الذي هو الاقل، وظن ظانون أنه تمسك بالإجماع، وهو سوء ظن بالشافعي رحمه الله، فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر فلا مخالف فيه، وإنما المختلف فيه سقوط الزيادة، ولا إجماع فيه، بل لو كان الإجماع على الثلث إجماعا على سقوط الزيادة لكان موجب الزيادة خارقا للإجماع، ولكان مذهبه باطلا على القطع، لكن الشافعي أوجب ما أجمعوا عليه، وبحث عن مدارك الأدلة، فلم يصح عنده دليل على إيجاب الزيادة، فرجع إلى استصحاب الحال في البراءة الأصلية التي يدل عليها العقل، فهو تمسك بالاستصحاب، ودليل العقل لا بدليل الإجماع، كما سيأتي معناه إن شاء الله تعالى، وهذا تمام الكلام في الإجماع الذي هو الأصل الثالث‏.‏