فصل: الأصل الرابع: دليل العقل والاستصحاب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المستصفى من علم الأصول ***


الأصل الرابع‏:‏ دليل العقل والاستصحاب

اعلم أن الاحكام السمعية لا تدرك بالعقل، لكن دل العقل على براءة الذمة عن الواجبات، وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل عليهم السلام وتأييدهم بالمعجزات، وانتفاء الاحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع، ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع، فإذا ورد نبي وأوجب خمس صلوات فتبقى الصلاة السادسة غير واجبة، لا بتصريح النبي بنفيها لكن كان وجوبها منتفيا، إذ لا مثبت للوجوب فبقي على النفي الأصلي لان نطقه بالايجاب قاصر على الخمسة، فبقي على النفي في حق السادسة، وكأن السمع لم يرد، وكذلك إذا أوجب صوم رمضان بقي صوم شوال على النفي الأصلي، وإذا أوجب عبادة في وقت بقيت الذمة بعد انقضاء الوقت على البراءة الأصلية، وإذا أوجب على القادر بقي العاجز على ما كان عليه، فإذا النظر في الاحكام إما أن يكون في إثباتها أو في نفيها، أما إثباتها فالعقل قاصر عن الدلالة عليه، وأم النفي فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد الدليل السمعي بالمعنى الناقل من النفي الأصلي، فانتهض دليلا على أحد الشطرين وهو النفي، فإن قيل‏:‏ إذا كان العقل دليلا بشرط أن لا يرد سمع فبعد بعثة الرسل ووضع الشرع لا يعلم نفي السمع، فلا يكون انتفاء الحكم معلوما، ومنتهاكم عدم العلم بورود السمع وعدم العلم لا يكون حجة‏؟‏ قلنا‏:‏ انتفاء الدليل السمعي قد يعلم، وقد يظن، فإنا نعلم أنه لا دليل على وجوب صوم شوال، ولا على وجوب صلاة سادسة، إذ نعلم أنه لو كان لنقل وانتشر ولما خفي على جميع الامة، وهذا علم بعدم الدليل، وليس هو عدم العلم بالدليل، فإن عدم العلم بالدليل ليس بحجة، والعلم بعدم الدليل حجة أما الظن، فالمجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة في وجوب الوتر والاضحية وأمثالهما فرآها ضعيفة ولم يظهر له دليل مع شدة بحثه وعنايته بالبحث غلب على ظنه انتفاء الدليل، فنزل ذلك منزلة العلم في حق العمل، لانه ظن استند إلى بحث واجتهاد، وهو غاية الواجب على المجتهد، فإن قيل‏:‏ ولم يستحيل أن يكون واجبا ولا يكون عليه دليل، أو يكون عليه دليل لم يبلغنا‏؟‏ قلنا‏:‏ أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال، لانه تكليف بما لا يطاق، ولذلك نفينا الاحكام قبل ورود السمع، وأما إن كان عليه دليل ولم يبلغنا فليس دليلا في حقنا، إذ لا تكليف علينا إلا فيما بلغنا، فإن قيل‏:‏ فيقدر كل عامي أن ينفي مستندا إلى أنه لم يبلغه الدليل‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا إنما يجوز للباحث المجتهد المطلع على مدارك الأدلة القادر على الاستقصاء، كالذي يقدر على التردد في بيته لطلب متاع إذا فتش وبالغ، أمكنه أن يقطع بنفي المتاع، أو يدعي غلبة الظن، أما الاعمى الذي لا يعرف البيت ولا يبصر ما فيه فليس له أن يدعي نفي المتاع من البيت، فإن قيل‏:‏ وهل للاستصحاب معنى سوى ما ذكرتموه‏؟‏ قلنا‏:‏ يطلق الاستصحاب على أربعة أوجه يصح ثلاثة منها‏:‏ الأول‏:‏ ما ذكرناه‏.‏ والثاني‏:‏ استصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص واستصحاب النص إلى أن يرد نسخ، أما العموم فهو دليل عند القائلين به، وأما النص فهو دليل على دوام الحكم بشرط أن لا يرد نسخ، كما دل العقل على البراءة الأصلية، بشرط أن لا يرد سمع مغير‏.‏ الثالث‏:‏ استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه، كالملك عند جريان العقد المملك وكشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام، فإن هذا وإن لم يكن حكما أصليا فهو حكم شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعا ولولا دلالة الشرع على دوامه إلى حصول براءة الذمة لما جاز استصحابه، فالاستصحاب ليس بحجة إلا فيما دل الدليل على ثبوته ودوامه بشرط عدم المغير، كما دل على البراءة العقل وعلى الشغل السمعي وعلى الملك الشرعي، ومن هذا القبيل الحكم بتكرر اللزوم والوجوب إذا تكررت أسبابها، كتكرر شهر رمضان وأوقات الصلوات، ونفقات الاقارب عند تكرر الحاجات، إذا أفهم انتصاب هذه المعاني أسبابا لهذه الاحكام من أدلة الشرع إما بمجرد العموم عند القائلين به أو بالعموم وجملة من القرائن عند الجميع، وتلك القرائن تكريرات وتأكيدات وإمارات عرف حملة الشريعة قصد الشارع إلى نصبها أسبابا، إذا لم يمنع مانع، فلولا دلالة الدليل على كونها أسبابا لم يجز استصحابها، فإذن الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي، وليس راجعا إلى عدم العلم بالدليل، بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير أو مع ظن انتفاء المغير عند بذل الجهد في البحث والطلب‏.‏ الرابع‏:‏ استصحاب الإجماع في محل الخلاف وهو غير صحيح ولنرسم فيه وفي افتقار النافي إلى دليل مسألتين‏:‏

مسألة ‏(‏استصحاب الإجماع‏)‏

لا حجة في استصحاب الإجماع في محل الخلاف خلافا لبعض الفقهاء، ومثاله المتيمم إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة، لان الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها فطريان وجود الماء، كطريان هبوب الريح، وطلوع الفجر، وسائر الحوادث، فنحن نستصحب دوام الصلاة إلى أن يدل دليل على كون رؤية الماء قاطعا للصلاة، وهذا فاسد، لان هذا المستصحب لا يخلو إما أن يقر بأنه لم يقم دليلا في المسألة لكن قال‏:‏ أنا ناف ولا دليل على النافي، وأما أن يظن أنه أقام دليلا، فإن أقر بأنه لم يدل فسنبين وجوب الدليل على النافي، وإن ظن أنه أقام دليلا فقد أخطأ، فإنا نقول‏:‏ إنما يستدام الحكم الذي دل الدليل على دوامه، فالدليل على دوام الصلاة ههنا لفظ الشارع أو إجماع، فإن كان لفظا فلا بد من بيان لذلك اللفظ، فلعله يدل على دوامها عند العدم لا عند الوجود فإن دل بعمومه على دوامها عند العدم والوجود جميعا، كان ذلك تمسكا بعموم عند القائلين به فيجب إظهار دليل التخصيص، وإن كان ذلك بإجماع، فالإجماع منعقد على دوام الصلاة عند العدم، أما حال الوجود فهو مختلف فيه، ولا إجماع مع الخلاف، ولو كان الإجماع شاملا حال الوجود لكان المخالف خارقا للإجماع، كما أن المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الفجر خارق للإجماع، لان الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب، وانعقد مشروطا بعدم الماء، فإذا وجد فلا إجماع فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه بعلة جامعة، فأما أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع فهو محال، وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يدل دليل السمع، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع، وههنا انعقد الإجماع بشرط العدم، وانتفى الإجماع عند الوجوب أيضا فهذه الدقيقة وهي أن كل دليل يضاد نفس الخلاف، فلا يمكن استصحابه مع الخلاف، والإجماع يضاده نفس الخلاف، إذ لا إجماع مع الخلاف، بخلاف العموم والنص، ودليل العقل، فإن الخلاف لا يضاده، فإن المخالف مقر بأن العموم مقر بأن العموم تناول بصيغته محل الخلاف إذ قوله صلى الله عليه وسلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل شامل بصيغته صوم رمضان، مع خلاف الخصم فيه فيقول‏:‏ أسلم شمول الصيغة، لكني أخصصه بدليل فعليه الدليل وهاهنا، المخالف لا يسلم شمول الإجماع محل الخلاف، إذ يستحيل الإجماع مع الخلاف، ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل، فهذه الدقيقة لا بد من التنبه لها، فإن قيل‏:‏ الإجماع يحرم الخلاف، فكيف يرتفع بالخلاف، قلنا‏:‏ هذا الخلاف غير محرم بالإجماع، وإنما لم يكن المخالف خارقا للإجماع، لان الإجماع إنما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل، فإن قيل‏:‏ فالدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلى أن يقوم دليل على انقطاعه، قلنا‏:‏ فلينظر في ذلك الدليل، أهو عموم أو نص يتناول حالة الوجود أم لا، فإن كان هو الإجماع مشروط بالعدم، فلا يكون دليلا عند الوجود، فإن قيل‏:‏ بم تنكرون على من يقول الأصل أن كل ما ثبت دام إلى وجود قاطع، فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه، بل الثبوت هو الذي يحتاج إلى الدليل، كما أنه إذا ثبت موت زيد، وثبت بناء دار أو بلد، كان دوامه بنفسه لا بسبب‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا وهم باطل، لان كل ما ثبت جاز أن يدوم، فلا بد لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت، ولولا دليل العادة على أن من مات لا يحيا، والدار إذا بنيت لا تنهدم ما لم تهدم أو يطول الزمان لما عرفنا دوامه بمجرد ثبوته، كما إذا أخبر عن قعود الامير وأكله، ودخوله الدار، ولم تدل العادة على دوام هذه الاحوال فإنا لا نقضي بدوام هذه الاحوال أصلا، فكذلك خبر الشرع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع الوجود، فيفتقر دوامها إلى دليل آخر‏.‏ فإن قيل‏:‏ ليس هو مأمورا بالشروع فقط، بل بالشروع مع الاتمام‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم، هو مأمور بالشروع مع العدم، وبالاتمام مع العدم، أما مع وجود فهو محل الخلاف، فما الدليل على أنه مأمور في حالة الوجود بالاتمام‏.‏ فإن قيل‏:‏ لانه منهي عن إبطال العمل، وفي استعمال الماء إبطال العمل، قلنا‏:‏ هذا الامر إنجرار إلى ما جررناكم إليه، وانقياد للحاجة إلى الدليل، وهذا الدليل وإن كان ضعيفا فبيان ضعفه ليس من حظ الاصولي، ثم هو ضعيف، لانه إن أردتم بالبطلان إحباط ثوابه فلا نسلم أنه لا يثاب على فعله، وإن أردتم أنه أوجب عليه مثله فليس الصحة عبارة عما لا يجب فعل مثله على ما قررناه من قبل فإن قيل‏:‏ الأصل أنه لا يجب شئ بالشك ووجوب استئناف الصلاة مشكوك فيه، فلا يرتفع به اليقين، قلنا‏:‏ هذا يعارضه أن وجوب المضي في هذه الصلاة مشكوك فيه، وبراءة الذمة بهذه الصلاة مع وجود الماء مشكوك فيه، فلا يرتفع به اليقين، ثم نقول‏:‏ من يوجب الاستئناف يوجبه بدليل يغلب على الظن، كما يرفع البراءة الأصلية بدليل يغلب على الظن، كيف واليقين قد يرفع بالشك في بعض المواضع، فالمسائل فيه متعارضة، وذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة، ورضيعة بأجنبية، وماء طاهر بماء نجس، ومن نسي صلاة من خمس صلوات احتجوا بأن الله تعالى صوب الكفار في مطالبتهم للرسل بالبرهان حين قال تعالى‏:‏ ‏{‏تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين‏}‏ ‏(‏إبراهيم‏:‏ 01‏)‏ فقد اشتغل الناس بالبراهين المغيرة للاستصحاب، قلنا‏:‏ لانهم لم يستصحبوا الإجماع، بل النفي الأصلي الذي دل العقل عليه، إذ الأصل في فطرة الآدمي أن لا يكون نبيا، وإنما يعرف ذلك بآيات وعلامات، فهم مصيبون في طلب البرهان ومخطئون في المقام على دين آبائهم بمجرد الجهل من غير برهان‏.‏

مسألة ‏(‏النافي هل عليه دليل‏؟‏‏)‏

اختلفوا في أن النافي هل عليه دليل‏؟‏ فقال قوم‏:‏ لا دليل عليه، وقال قوم‏:‏ لا بد من الدليل، وفرق فريق ثالث بين العقليات والشرعيات، فأوجبوا الدليل في العقليات دون الشرعيات‏.‏ والمختار أن ما ليس بضروري فلا يعرف إلا بدليل، والنفي فيه كالاثبات، وتحقيقه أن يقال للنافي‏:‏ ما ادعيت نفيه عرفت انتفاءه، أو أنت شاك فيه، فإن أقر بالشك فلا يطالب الشاك بالدليل، فإنه يعترف بالجهل وعدم المعرفة، وإن قال‏:‏ أنا متيقن للنفي، قيل‏:‏ يقينك هذا حصل عن ضرورة أو عن دليل، ولا تعد معرفة النفي ضرورة، فإنا نعلم أنا لسنا في لجة بحر أو على جناح نسر، وليس بين أيدينا نيل ولا تعد معرفة النفي ضرورة، وإن لم يعرفه ضرورة فإنما عرفه عن تقليد أو عن نظر، فالتقليد لا يفيد العلم، فإن الخطأ جائز على المقلد والمقلد معترف بعمى نفسه، وإنما يدعي البصيرة لغيره، وإن كان عن نظر فلا بد من بيانه، فهذا أصل الدليل، ويتأيد بلزوم إشكالين بشعين على إسقاط الدليل عن النافي، وهو أن لا يجب الدليل على نافي حدوث العالم، ونافي الصانع ونافي حدوث العالم، ونافي الصانع ونافي النبوات ونافي تحريم الزنا والخمر والميتة ونكاح المحارم وهو محال، والثاني‏:‏ أن الدليل إذا سقط عن هؤلاء لم يعجز أن يعبر المثبت عن مقصود إثباته بالنفي، فيقول بدل قوله‏:‏ محدث، إنه ليس بقديم، وبدل قوله‏:‏ قادر إنه ليس بعاجز وما يجري مجراه‏.‏ ولهم في المسألة شبهتان‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قولهم أنه لا دليل على المدعى عليه بالدين لانه ناف، والجواب من أربعة أوجه‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏‏:‏ أن ذلك ليس لكونه نافيا، ولا لدلالة العقل على سقوط الدليل عن النافي، بل ذلك بحكم الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ البينة على المدعي واليمين على من أنكر ولا يجوز أن يقاس عليه غيره، لان الشرع إنما قضى به للضرورة إذ لا سبيل إلى إقامة دليل على النفي، فإن ذلك إنما يعرف بأن يلازمه عدد التواتر من أول وجوده إلى وقت الدعوى، فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولا وفعلا بمراقبة اللحظات، فكيف يكلف إقامة البرهان على ما يستحيل إقامة البرهان عليه، بل المدعي أيضا لا دليل عليه، لان قول الشاهدين لا يحصل المعرفة، بل الظن بجريان سبب اللزوم من إتلاف أو دين وذلك في الماضي، أما في الحال فلا يعلم الشاهد شغل الذمة، فإنه يجوز براءتها بأداء أو إبراء، ولا سبيل للخلق إلى معرفة شغل الذمة وبراءتها إلا بقول الله تعالى وقول الرسول المعصوم، ولا ينبغي أن يظن أن على المدعي أيضا دليلا، فإن قول الشاهد إنما صار دليلا بحكم الشرع، فإن جاز ذلك فيمين المدعى عليه أيضا لازم، فليكن ذلك دليلا‏.‏ ‏(‏والجواب الثاني‏)‏‏:‏ أن المدعى عليه يدعي علم الضرورة ببراءة ذمة نفسه، إذ يتيقن أنه لم يتلف ولم يلتزم ويعجز الخلق كلهم عن معرفته، فإنه لا يعرفه إلا الله تعالى‏:‏ فالنافي في العقليات إن ادعى معرفة إن ادعى معرفة النفي ضرورة فهو محال، وإن أقر بأنه مختص بمعرفته اختصاصا لا يمكن أن يشاركه فيه إلا الله، فعند ذلك لا يطالب بالدليل، وكذلك أنه إذا أخبر عن نفسه بنفي الجوع ونفي الخوف وما جرى مجراه، وعند ذلك يستوي الاثبات والنفي، فإنه لو ادعى وجود الجوع والخوف كان ذلك معلوما له ضرورة، ويعسر على غيره معرفته، والعقليات مشتركة النفي منها و الاثبات والمحسوسات أيضا يستوي فيها النفي والاثبات‏.‏ ‏(‏الثالث‏)‏‏:‏ أن النافي في مجلس الحكم عليه دليل وهي اليمين كما على المدعي دليل وهو البينة، وهذا ضعيف، إذ اليمين يجوز أن تكون فاجرة، فأي دلالة لها من حيث العقل، لولا حكم الشرع نعم هو كالبينة، فإن قول الشاهدين أيضا يجوز أن يكون غلطا وزورا، فاستعماله من هذا الوجه صحيح كما سبق، أو يقال‏:‏ كما وجب على النافي في مجلس القضاء أن يعضد جانبه بزيادة على دعوى النفي فليجب ذلك في الاحكام فهذا أيضا له وجه‏.‏ ‏(‏الرابع‏)‏‏:‏ أن يد المدعى عليه دليل على نفي ملك المدعي وهو ضعيف، لان اليد تسقط دعوى المدعي شرعا، وإلا فاليد قد تكون عن غصب وعارية فأي دلالة لها‏.‏ ‏(‏الشبهة الثانية‏)‏‏:‏ وهي أنه كيف يكلف الدليل على النفي، وهو متعذر كإقامة الدليل على براءة الذمة، فنقول‏:‏ تعذره غير مسلم، فإن النزاع إما في العقليات وإما في الشرعيات، أما العقليات فيمكن أن يدل على نفيها بأن إثباتها يفضي إلى المحال، وما أفضى إلى المحال فهو محال لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏ ‏(‏الانبياء‏:‏ 22‏)‏ ومعلوم أنهما لم تفسدا، فدل ذلك على نفي الثاني، ويمكن إثباته بالقياس الشرطي الذي سميناه في المقدمة طريق التلازم‏:‏ فإن كل إثبات له لوازم، فانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وكذلك المتحدي ليس نبيا، إذ لو كان نبيا لكان معه معجزة، إذ تكليف المحال محال فهذا طريق وهو الصحيح‏.‏ الطريق الثاني‏:‏ أن يقال للمثبت لو ثبت ما ادعيته لعلم ذلك بضرورة أو دليل، ولا ضرورة مع الخلاف ولا دليل، فيدل ذلك على الانتفاء، وهذا فاسد، فإنه ينقلب على النافي فيقال له‏:‏ لو انتفى الحكم لعلم انتفاؤه بضرورة أو بدليل ولا ضرورة ولا دليل، ولا يمكنه أن يتمسك بالاستصحاب، بأن يقول مثلا‏:‏ الأصل عدم إله ثان، فمن ادعاه فعليه الدليل، إذ لا يسلم له أن الأصل العدم بخلاف البراءة الأصلية، فإن العقل قد دل على نفي الحكم قبل السمع من حيث دل على أن الحكم هو التكليف والخطاب من الله تعالى وتكليف المحال محال، ولو كلفناه من غير رسول مصدق بالمعجزة يبلغ إلينا تكليفه، كان ذلك تكليف محال، فاستندت البراءة الأصلية إلى دليل عقلي بخلاف عدم الاله الثاني، وأما قولهم‏:‏ لو ثبت إله ثان لكان لله تعالى عليه دليل فهو تحكم من وجهين‏:‏ ‏(‏أحدهما‏)‏‏:‏ أنه يجوز أن لا ينصب الله تعالى على بعض الاشياء دليلا، ويستأثر بعلمه‏.‏ ‏(‏الثاني‏)‏‏:‏ إنه يجوز أن ينصب عليه دليلا، ونحن لا نتنبه له، ويتنبه له بعض الخواص أو بعض الانبياء ومن خصص بحاسة سادسة وذوق أخر، بل الذي يقطع به أن الانبياء يدركون أمورا نحن لا ندركها وأن في مقدورات الله أمورا ليس في قوة البشر معرفتها، ويجوز أن يكون لله تعالى صفات لا تدرك بهذه الحواس ولا بهذا العقل، بل بحاسة سادسة أو سابعة، بل لا يستحيل أن تكون اليد والوجه عبارة عن صفات لا نفهمها ولا دليل عليها، ولو لم يرد السمع بها لكان نفيها خطأ، فلعل من الصفات من هذا القبيل ما لم يرد السمع بالتعبير عنه، ولا فينا قوة إدراكها، بل لو لم يخلق لنا السمع لانكرنا الاصوات ولم نفهمها، ولو لم يخلق لنا ذوق الشعر لانكرنا تفرقة صاحب العروض بين الموزون وغير الموزون، فما يدرينا أن في قدرة الله تعالى أنواعا من الحواس، لو خلقها لنا لادركنا بها أمورا أخر نحن ننفيها، فكان هذا إنكارا بالجهل ورميا في العماية، أما الشرعيات فقد تصادف الدليل عليها من الإجماع، كنفي وجوب صوم شوال وصلاة الضحى، أو النص، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا زكاة في الحلى، ولا زكاة في المعلوفة أو من القياس، كقياس الخضراوات على الرمان والبطيخ المنصوص على نفي الزكاة عنه، كقول الراوي‏:‏ لا زكاة في الرمان والبطيخ، بل هو عفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لا يساعد مثل هذا الدليل فنبحث عن مدارك الاثبات، فإذا لم نجد رجعنا إلى الاستصحاب للنفي الأصلي الثابت بدليل العقل، وهو دليل عند عدم ورود السمع، وحيث أوردنا في تصانيف الخلاف أن النافي لا دليل عليه أردنا به أنه ليس عليه دليل سمعي، إذ يكفيه استصحاب البراءة الأصلية التي كنا نحكم بها لولا بعثة الرسول وورود السمع، فإن قيل‏:‏ دليل العقل مشروط بانتفاء السمع، وانتفاء السمع غير معلوم، وعدم العلم به لا يدل على عدمه ولا سبيل إلى دعوى العلم بانتفائه، فإن ذلك لا يعلم‏؟‏ قلنا‏:‏ قد بينا أن انتفاءه تارة يعلم كما في انتفاء وجوب صوم شوال وصلاة الضحى، وتارة يظن بأن يبحث من هو من أهل البحث عن مدارك الشرع، والظن فيه كالعلم لانه صادر عن اجتهاد، إذ قد يقول لو كان لوجدته، فإذا لم أجده مع شدة بحثي دل على أنه ليس بكائن، كطالب المتاع في البيت إذا استقصى، فإن قيل أليس للاستقصاء غاية محدودة، بل للبحث بداية ووسط ونهاية، فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي المغير‏؟‏ قلنا‏:‏ مهما رجع رجع إلى نفسه فعلم أنه بذل غاية وسعه في الطلب كطالب المتاع في البيت، فإن قيل‏:‏ البيت محصور وطلب اليقين فيه ممكن، ومدارك الشرع غير محصورة، فإن الكتاب وإن كان محصورا فالاخبار غير محصورة، وربما كان راوي الحديث مجهولا‏؟‏ قلنا‏:‏ إن كان ذلك في ابتداء الاسلام قبل انتشار الاخبار، ففرض كل مجتهد ما هو جهد رأيه إلى أن يبلغه الخبر، وإن كان بعد أن رويت الاخبار وصنفت الصحاح، فما دخل فيها محصور عند أهلها وقد انتهى إلى المجتهدين وأوردوها في مسائل الخلاف‏.‏ وعلى الجملة‏:‏ فدلالة العقل على النفي الأصلي مشروطة بنفي المغير، كما أن دلالة العموم مشروطة بنفي المخصص، وكل واحد من المخصص والمغير تارة يعلم انتفاؤه وتارة يظن وكل واحد دليل في الشرع‏.‏ هذا تمام الكلام في الأصل الرابع وهو منتهى الكلام في القطب الثاني المشتمل على أصول الأدلة المثمرة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل‏.‏

خاتمة لهذا القطب ببيان أن ثم ما يظن أنه من أصول الأدلة وليس منها

وهو أيضا أربعة‏:‏ شرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستحسان، والاستصلاح‏.‏ فهذه أيضا لا بد من شرحها‏.‏

الأصل الأول‏:‏ من الاصول الموهومة شرع من قبلنا من الانبياء فيما لم يصرح شرعنا بنسخه

ونقدم على هذا الأصل

مسألة وهي أنه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه هل كان متعبدا بشرع أحد من الانبياء

منهم من قال‏:‏ لم يكن متعبدا، ومنهم من قال‏:‏ كان متعبدا، ثم منهم من نسبه إلى نوح عليه السلام، وقوم نسبوه إلى إبراهيم عليه السلام، وقوم نسبوه إلى موسى، وقوم إلى عيسى عليهما السلام، والمختار أن جميع هذه الاقسام جائز عقلا، لكن الواقع منه غير معلوم بطريق قاطع، ورجم الظن فيما لا يتعلق به الآن تعبد عملي لا معنى له، فإن قيل‏:‏ الدليل القاطع على أنه لم يكن على ملة أنه لو كان لافتخر به أولئك القوم ونسبوه إلى أنفسهم، ولكان يشتهر تلبسه بشعارهم وتتوفر الدواعي على نقله‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا يعارضه أنه لو كان منسلخا عن التكليف والتعبد بالشرائع لظهر مخالفته أصناف الخلق وتوفرت الدواعي على نقله ويشبه أن يكون اختفاء حاله قبل البعث معجزة خارقة للعادة وذلك من عجائب أموروه، وللمخالف شبهتان‏:‏ الأولي‏:‏ أن موسى وعيسى دعوا إلى دينهما كافة المكلفين من عباد الله تعالى، فكان هو داخلا تحت العموم، وهذا باطل من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لم ينقل إلينا على التواتر عنهما عموم صيغة حتى ننظر في فحواه، فلا مستند لهذه الدعوى إلا المقايسة بدين نبينا صلى الله عليه وسلم، والمقايسة في مثل هذا باطل وإن كان عموم فلعله استثنى عنه من ينسخ شريعتهما‏.‏ الثاني‏:‏ أنه ربما كان زمانه زمان فترة الشرائع واندراسها وتعذر القيام بها، ولاجله بعث صلى الله عليه وسلم، فمن أين يعلم قيام الحجة على تفصيل شريعتهما‏.‏ الثانية‏:‏ من شبههم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ويحج ويعتمر ويتصدق ويذبح الحيوان ويجتنب الميتة، وذلك لا يرشد إليه العقل‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا فاسد من وجهين‏:‏ ‏(‏أحدهما‏)‏‏:‏ أن شيئا من ذلك لم يتواتر بنقل مقطوع به ولا سبيل إلى إثباته بالظن‏.‏ ‏(‏الثاني‏)‏‏:‏ أنه ربما ذبح الحيوان بناء على أنه لا تحريم إلا بالسمع، ولا حكم قبل ورود الشرع وترك الميتة عيافة بالطبع، كما ترك أكل الضب عيافة، والحج والصلاة إن صح فلعله فعله تبركا بما نقل جملته من أنبياء السلف وإن اندرس تفصيله، ونرجع الآن إلى الأصل المقصود وهو أنه بعد بعثته هل كان متعبدا بشريعة من قبله‏؟‏ والقول في الجواز العقلي والوقوع السمعي‏.‏ أما الجواز العقلي‏:‏ فهو حاصل، إذ لله تعالى أن يتعبد عباده بما شاء من شريعة سابقة أو مستأنفة، أو بعضها سابقة وبعضها مستأنفة، ولا يستحيل منه شئ لذاته ولا لمفسدة فيه، وزعم بعض القدرية أنه لا يجوز بعثة نبي إلا بشرع مستأنف، فإنه إن لم يجدد أمرا فلا فائدة في بعثته، ولا يرسل الله تعالى رسولا بغير فائدة، ويلزمهم على هذا تجويز بعثته بمثل تلك الشريعة إذا كانت قد اندرست، وإرساله بمثلها إذا كانت قد اشتملت على زوائد، وأن يكون الأول مبعوثا إلى قوم، والثاني مبعوثا إليهم وإلى غيرهم، ولعلهم يخالفون إذا كانت الأولى غضة طرية، ولم تشتمل الثانية على مزيد، فنقول‏:‏ يدل على جوازه ما يدل على جواز نصب دليلين وبعثة رسولين معا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 41‏)‏ وكما أرسل موسى وهارون وداود وسليمان، بل كخلق العينين مع الاكتفاء في الابصار بإحداهما، ثم كلامهم بناء على طلب الفائدة في أفعال الله تعالى، وهو تحكم‏.‏ أما الوقوع السمعي‏:‏ فلا خلاف في أن شرعنا ليس بناسخ جميع الشرائع بالكلية، إذ لم ينسخ وجوب الايمان، وتحريم الزنا والسرقة والقتل والكفر، ولكن حرم عليه صلى الله عليه وسلم هذه المحظورات بخطاب مستأنف، أو بالخطاب الذي نزل إلى غيره وتعبد باستدامته، ولم ينزل عليه الخطاب إلا بما خالف شرعهم، فإذا نزلت واقعة لزمه اتباع دينهم، إلا إذا أنزل عليه وحي مخالف لما سبق، فإلى هذا يرجع الخلاف والمختار أنه لم يتعبد صلى الله عليه وسلم بشريعة من قبله ويدل عليه أربعة مسالك‏:‏ المسلك الأول‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له‏:‏ بم تحكم‏؟‏ قال‏:‏ بالكتاب والسنة والاجتهاد، ولم يذكر التوراة والانجيل وشرع من قبلنا، فزكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصوبه، ولو كان ذلك من مدارك الاحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه، فإن قيل‏:‏ إنما لم يذكر التوراة والانجيل، لان في الكتاب آيات تدل على الرجوع إليهما‏؟‏ قلنا‏:‏ سنبين سقوط تمسكهم بتلك الآيات، بل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 84‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ثم نقول في الكتاب ما يدل على اتباع السنة والقياس، فكان ينبغي أن يقتصر على ذكر الكتاب، فإن شرع في التفصيل كانت الشريعة السابقة أهم مذكور، فإن قيل‏:‏ اندرجت التوراة والانجيل تحت الكتاب، فإنه اسم يعم كل كتاب‏؟‏ قلنا‏:‏ إذا ذكر الكتاب والسنة لم يسبق إلى فهم المسلمين شئ سوى القرآن وكيف يفهم غيره ولم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والانجيل، والعناية بتمييز المحرف عن غيره، كما عهد منه تعلم القرآن‏؟‏ ولو وجب ذلك لتعلمه جميع الصحابة، لانه كتاب منزل لم ينسخ إلا بعضه، وهو مدرك بعض الاحكام، ولم يتعهد حفظ القرآن، إلا لهذه العلة، وكيف وطالع عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت عيناه وقال‏:‏ لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي‏؟‏‏.‏ المسلك الثاني‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لو كان متعبدا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها، وكان لا ينتظر الوحي، ولا يتوقف في الظهار ورمي المحصنات والمواريث، ولكان يرجع أولا إليها، لا سيما أحكام هي ضرورة كل أمة، فلا تخلو التوراة عنها، فإن لم يراجعها لاندراسها وتحريفها فهذا يمنع التعبد، وإن كان ممكنا فهذا يوجب البحث والتعلم ولم يراجع قط إلا في رجم اليهود ليعرفهم أن ذلك ليس مخالفا لدينهم‏.‏ المسلك الثالث‏:‏ أن ذلك لو كان مدركا لكان تعلمها ونقلها وحفظها من فروض الكفايات، كالقرآن والاخبار، ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الاحكام، كما وجب عليهم المناشدة في نقل الاخبار ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول، وميراث الجد، والمفوضة، وبيع أم الولد، وحد الشرب والربا في غير النسيئة ومتعة النساء، ودية الجنين، وحكم المكاتب إذا كان عليه شئ من النجوم، والرد بالعيب بعد الوطئ والتقاء الختانين، وغير ذلك من أحكام لا تنفك الاديان والكتب عنها، ولم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة، لا سيما وقد أسلم من أخبارهم من تقوم الحجة بقولهم، كعبد الله بن سلام، وكعب الاحبار، ووهب، وغيرهم، ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب، فكيف يحصل القياس قبل العلم‏؟‏ المسلك الرابع‏:‏ إطباق الامة قاطبة على أن هذه الشريعة ناسخة، وأنها شريعة رسولنا صلى الله عليه وسلم بجملتها، ولو تعبد بشرع غيرها لكان مخبرا لا شارعا ولكان صاحب نقل لا صاحب شرع، إلا أن هذا ضعيف لانه إضافة تحتمل المجاز، وأن معلوما بواسطته وإن لم يكن هو شارعا لجميعه‏.‏ وللمخالف التمسك بخمس آيات وثلاثة أحاديث‏:‏ ‏(‏الآية الأولى‏)‏‏:‏ أنه تعالى لما ذكر الانبياء قال‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 09‏)‏‏.‏ قلنا‏:‏ أراد بالهدى التوحيد ودلالة الأدلة العقلية على وجدانيته وصفاته بدليلين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 09‏)‏ ولم يقل بهم، وإنما هداهم الأدلة التي ليست منسوبة إليهم، أما الشرع فمنسوب إليهم فيكون اتباعهم فيه اقتداء بهم‏.‏ الثاني‏:‏ أنه كيف أمر بجميع شرائعهم وهي مختلفة وناسخة ومنسوخة ومتى بحث عن جميع ذلك وشرائعهم كثيرة فدل على أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم وهو التوحيد‏.‏ ‏(‏الآية الثانية‏)‏‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة ابراهيم‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 321‏)‏ وهذا يتمسك به من نسبه إلى إبراهيم عليه لسلام وتعارضه الآية الأولى، ثم لا حجة فيها إذ قال‏:‏ ‏{‏أوحينا إليك‏}‏ فوجب بما أوحي إليه لا بما أوحي إلى غيره وقوله‏:‏ ‏{‏أن اتبع‏}‏ أي افعل مثل فعله، وليس معناه كن متبعا له وواحدا من أمته، كيف والملة عبارة عن أصل الدين والتوحيد والتقديس الذي تتفق فيه جميع الشرائع، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 130‏)‏ ولا يجوز تسفيه الانبياء المخالفين له ويدل عليه أنه لم يبحث عن ملة إبراهيم، وكيف كان يبحث مع اندراس كتابه وأسناد أخباره‏.‏ ‏(‏الآية الثالثة‏)‏‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 31‏)‏ وهذا يتمسك به من نسبه إلى نوح عليه السلام، وهو فاسد، إذا تعارضه الآيتان السابقتان، ثم الدين عبارة عن أصل التوحيد، وإنما خصص نوحا بالذكر تشريفا له وتخصيصا، ومتى راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيل شرع نوح، وكيف أمكن ذلك مع أنه أقدم الانبياء وأشد الشرائع اندراسا، كيف وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا‏}‏ فلو قال شرع لنوح ما وصاكم به لكان ربما دل هذا على غرضهم وأما هذا فيصرح بضده‏.‏ ‏(‏الآية الرابعة‏)‏‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 44‏)‏ الآية، وهو أحد الانبياء فليحكم بها، واستدل بهذا من نسبه إلى موسى عليه السلام وتعارضه الآيات السابقة، ثم المراد بالنور والهدى أصل التوحيد، وما يشترك فيه النبيون دون الاحكام المعرضة للنسخ، ثم لعله أراد النبيين في زمانه دون من بعدهم، ثم هو على صيغة الخبر لا على صيغة الامر فلا حجة فيه، ثم يجوز أن يكون المراد حكم النبيين بها بأمر ابتدأهم به الله تعالى وحيا إليهم لا بوحي موسى عليه السلام‏.‏ ‏(‏الآية الخامسة‏)‏‏:‏ قوله تعالى بعد ذكر التوراة وأحكامها‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 44‏)‏ قلنا‏:‏ المراد به ومن لم يحكم بما أنزل الله مكذبا به وجاحدا له لا من حكم بما أنزل الله عليه خاصة، أو من لم يحكم به ممن أوجب عليه الحكم به من أمته وأمة كل نبي إذا خالفت ما أنزل على نبيهم، أو يكون المراد به يحكم بمثلها النبيون وإن كان بوحي خاص إليهم لا بطريق التبعية‏.‏ وأما الاحاديث‏:‏ فأولها‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم طلب منه القصاص في سن كسرت فقال‏:‏ كتاب الله يقضي بالقصاص وليس في القرآن قصاص السن إلا ما حكي عن التوراة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسن بالسن‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 54‏)‏ قلنا‏:‏ بل فيه‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 491‏)‏ فدخل السن تحت عمومه‏.‏ ‏(‏الحديث الثاني‏)‏‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏)‏‏:‏ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وقرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 41‏)‏ وهذا خطاب مع موسى عليه السلام، قلنا‏:‏ ما ذكره صلى الله عليه وسلم تعليلا للايجاب، لكن أوجب بما أوحي إليه ونبه على أنهم أمروا كما أمر موسى، وقوله‏:‏ ‏{‏لذكري‏}‏ أي لذكر إيجابي للصلاة، ولولا الخبر لكان السابق إلى الفهم أنه لذكر الله تعالى بالقلب، أو لذكر الصلاة بالايجاب‏.‏ الحديث الثالث‏:‏ مراجعته ‏(‏صلى الله عليه وسلم التوراة في رجم اليهوديين وكان ذلك تكذيبا لهم في إنكار الرجم إذ كان يجب أن يراجع الانجيل فإنه آخر ما أنزل الله فلذلك لم يراجع في واقعة سوى هذه، والله أعلم‏.‏

الأصل الثاني‏:‏ من الاصول الموهومة قول الصحابي

وقد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقا، وقوم إلى أنه حجة إن خالف القياس، وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقتدوا باللذين من بعدي وقوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا، والكل باطل عندنا، فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة، وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف، وكيف يختلف المعصومان، كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه، فانتفاء الدليل على العصمة، ووقوع الاختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة‏.‏ وللمخالف خمس شبه‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قولهم‏:‏ وإن لم تثبت عصمتهم فإذا تعبدنا باتباعهم لزم الاتباع، كما أن الراوي الواحد لم تثبت عصمت لكن لزم اتباعه للتعبد به، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديت اهتديتم والجواب‏:‏ أن هذا خطاب مع عوام أهل عصره صلى الله عليه وسلم بتعريف درجة الفتوى لاصحابه حتى يلزم اتباعهم، وهو تخيير لهم في الاقتداء بمن شاؤوا منهم، بدليل أن الصحابي غير داخل فيه، إذ له أن يخالف صحابيا آخر، فكما خرج الصحابة بدليل فكذلك خرج العلماء بدليل، وكيف وهذا لا يدل على وجوب الاتباع بل على الاهتداء إذا اتبع، فلعله يدل على مذهب من يجوز للعالم تقليد العالم، أو من يخير العامي في تقليد الائمة من غير تعيين الافضل‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ أن دعوى وجوب الاتباع إن لم تصح لجميع الصحابة فتصح للخلفاء الاربعة، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عليكم سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وظاهر قوله عليكم للايجاب، وهو عام، قلنا‏:‏ فيلزمكم على هذا تحريم الاجتهاد على سائر الصحابة رضي الله عنهم، إذا اتفق الخلفاء، ولم يكن كذلك، بل كانوا يخالفون، وكانوا يصرحون بجواز الاجتهاد فيما ظهر لهم، وظاهر هذا تحريم مخالفة كل واحد من الصحابة، وإن انفرد فليس في الحديث شرط الاتفاق، وما اجتمعوا في الخلافة حتى يكون اتفاقهم اتفاق الخلفاء، وإيجاب اتباع كل واحد منهم محال مع اختلافهم في مسائل، لكن المراد بالحديث إما أمر الخلق بالانقياد وبذل الطاعة لهم، أي عليكم بقبول إمارتهم وسنتهم، أو أمر الأمة بأن ينهجوا منهجهم في العدل والانصاف والاعراض عن الدنيا وملازمة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفقر والمسكنة والشفقة على الرعية، أو أراد منع من بعدهم عن نقض أحكامهم، فهذه احتمالات ثلاثة تعضدها الأدلة التي ذكرناها‏.‏ الشبهة الثالثة‏:‏ قولهم‏:‏ إنه إن لم يجب اتباع الخلفاء، فيجب اتباع أبي بكر وعمر، بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قلنا‏:‏ تعارضه الاخبار السابقة، فيتطرق إليه الاحتمالات الثلاثة، ثم نقول بموجبه، فيجب الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد، ثم ليت شعري، لو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيهما يتبع‏.‏ الشبهة الرابعة‏:‏ أن عبد الرحمن بن عوف ولى عليا الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين، فأبى وولى عثمان فقبل، ولم ينكر عليه، قلنا‏:‏ لعله اعتقد بقوله عليه السلام‏:‏ من بعدي جواز تقليد العالم للعالم، وعلي رضي الله عنه لم يعتقد أو اعتقد أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر إيجاب التقليد ولا حجة في مجرد مذهبه ويعارضه مذهب علي إذ فهم أنه إنما أراد عبد الرحمن اتباعهما في السيرة والعدل، وفهم على إيجاب التقليد‏.‏ الشبهة الخامسة‏:‏ أنه إذا قال الصحابي قولا يخالف القياس فلا محمل له إلا سماع خبر فيه ‏,‏ قلنا‏:‏ فهذا إقرار بأن قوله ليس بحجة وإنما الحجة الخبر، إلا أنكم أثبتم الخبر بالتوهم المجرد ومستندنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم في قبول خبر الواحد وهم إنما عملوا بالخبر المصرح بروايته دون الموهوم المقدر الذي لا يعرف لفظه ومورده، فقوله ليس بنص صريح في سماع خبر، بل ربما قاله عن دليل ضعيف ظنه دليلا وأخطأ فيه، والخطأ جائز عليه، وربما يتمسك الصحابي بدليل ضعيف، وظاهر موهوم، ولو قاله عن نص قاطع لصرح به، نعم لو تعارض قياسان، وقول الصحابي مع أحدهما، فيجوز للمجتهد إن غلب على ظنه الترجيح بقول الصحابي أن يرجح، وكذلك نوع من المعنى يقتضي تغليظ الدية بسبب الجرم، وقياس أظهر منه يقتضي نفي التغليظ، فربما يغلب على ظن المجتهد أن ذلك المعنى الاخفى الذي ذهب إليه الصحابي يترجح به، ولكن يختلف ذلك باختلاف المجتهدين، أما وجوب اتباعه ولم يصرح بنقل خبر فلا وجه له، وكيف وجميع ما ذكروه أخبار آحاد ونحن أثبتنا القياس والإجماع، وخبر الواحد بطرق قاطعة لا بخبر الواحد، وجعل قول الصحابي حجة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبره إثبات أصل من أصول الاحكام ومداركه فلا يثبت إلا بقاطع كسائر الاصول‏.‏

مسألة ‏(‏هل يجوز تقليد الصحابي‏؟‏‏)‏

إن قال قائل‏:‏ إن لم يجب تقليدهم فهل يجوز تقليدهم‏؟‏ قلنا‏:‏ أما العامي فيقلدهم، وأما العالم فإنه إن جاز له تقليد العالم جاز له تقليدهم، وإن حرمنا تقليد العالم للعالم فقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في تقليد الصحابة، فقال في القديم‏:‏ يجوز تقليد الصحابي إذا قال قولا وانتشر قوله ولم يخالف وقال في موضع آخر‏:‏ يقلد وإن لم ينتشر، ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلد العالم صحابيا، كما لا يقلد عالما آخر، ونقل المزني عنه ذلك، وأن العمل على الأدلة التي بها يجوز للصحابة الفتوى وهو الصحيح المختار عندنا إذ كل ما دل على تحريم تقليد العالم للعالم كما سيأتي في كتاب ‏(‏الاجتهاد‏)‏ لا يفرق فيه بين الصحابي وغيره‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف لا يفرق بينهم مع ثناء الله تعالى وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 95‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد رضي الله عن المؤمنين‏}‏ ‏(‏الفتح‏:‏ 81‏)‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ خير الناس قرني وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أصحابي كالنجوم إلى غير ذلك‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد في علمهم ودينهم، ومحلهم عند الله تعالى، ولا يوجب تقليدهم لا جوازا ولا وجوبا فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى أيضا على آحاد الصحابة، ولا يتميزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه، كقوله صلى اللهه عليه وسلم‏:‏ لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله قد ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه يقول الحق وإن كان مرا وقال لعمر‏:‏ والله ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك، وقال صلى الله عليه وسلم في قصة أسارى بدر حيث نزلت الآية على وفق رأي عمر، لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر وقال صلوات الله عليه‏:‏ إن منكم لمحدثين وإن عمر لمنهم وكان علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة يقولون ما كنا نظن إلا أن ملكا بين عينيه يسدده، وأن ملكا ينطق على لسانه، وقال صلى الله عليه وسلم في حق علي‏:‏ اللهم أدر الحق مع علي حيث دار وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أقضاكم علي، وأفرضكم زيد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وقال عليه السلام‏:‏ رضيت لامتي ما رضي ابن أم عبد وقال عليه السلام لابي بكر وعمر‏:‏ لو اجتمعا على شئ ما خالفتهما وأراد في مصالح الحرب، وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء أصلا‏.‏

فصل في تفريع الشافعي في القديم على تقليد الصحابة ونصوصه

قال في كتاب اختلاف الحديث‏:‏ إنه روي عن علي أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات، قال‏:‏ لو ثبت ذلك عن علي لقلت به، وهذا لانه رأى أنه لا يقول ذلك إلا عن توقيف، إذ لا مجال للقياس فيه، وهذا غير مرضي، لانه لم ينقل فيه حديثا حتى يتأمل لفظه ومورده وقرائنه، وفحواه وما يدل عليه، ولم نتعبد إلا بقبول خبر يرويه صحابي مكشوفا يمكن النظر فيه، كما كان الصحابة يكتفون بذكر مذهب مخالف للقياس ويقدرون ذلك حديثا من غير تصريح به، وقد نص في موضع أن قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة، وهو ضعيف، لان السكوت ليس بقول، فأي فرق بين أن ينتشر أو لا ينتشر‏؟‏ وقد نص على أنه إذا اختلفت الصحابة فالائمة أولى، فإن اختلف الائمة فقول أبي بكر وعمر أولى لمزيد فضلهما، وقال في موضع آخر‏:‏ يجب الترجيح بقول الاعلم والاكثر قياسا لكثرة القائلين على كثرة الرواة وكثرة الاشباه، وإنما يجب ترجيح الاعلم، لان زيادة علمه تقوي اجتهاده وتبعده عن الاهمال والتقصير والخطأ وإن اختلف الحكم والفتوى من الصحابة فقد اختلف قول الشافعي فيه، فقال مرة‏:‏ الحكم أولى، لان العناية به أشد، والمشورة فيه أبلغ، وقال مرة‏:‏ الفتوى أولى، لان سكوتهم على الحكم يحمل على الطاعة للوالي، وكل هذا مرجوع عنه‏:‏ فإن قيل‏:‏ فما قولكم في ترجيح أحد القياسين بقول الصحابي‏؟‏ قلنا‏:‏ قال القاضي، لا ترجيح إلا بقوة الدليل، ولا يقوى الدليل بمصير مجتهد إليه، والمختار أن هذا في محل الاجتهاد، فربما يتعارض ظنان والصحابي في أحد الجانبين، فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي، ويكون ذلك أغلب على ظنه، ويختلف ذلك باختلاف المجتهدين، وقال قوم‏:‏ إنما يجوز ترجيح قياس المصير إذا كان أصل القياس في واقعة شاهدها الصحابي، وإلا فلا فرق بينه وبين غيره وهذا قريب، ولكن مع هذا يحتمل أن يكون مصيره إليه لا لاختصاصه بمشاهدة ما يدل عليه بل بمجرد الظن، أما إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد محتمليه فمنهم من رجح ومنهم من قال‏:‏ إذا لم يقل‏:‏ علمت ذلك من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بقرينة شاهدتها فلا ترجيح به، وهذا اختيار القاضي، فإن قيل‏:‏ فقد ترك الشافعي في الجديد القياس في تغليظ الدية في الحرم بقول عثمان، وكذلك فرق بين الحيوان وغيره في شرط البراءة بقول علي‏؟‏ قلنا له‏:‏ في مسألة شرط البراءة أقوال، فلعل هذا مرجوع عنه، وفي مسألة التغليظ الظن به أنه قوي القياس بموافقة الصحابة، فإن لم يكن كذلك فمذهبه في الاصول أن لا يقلد، والله أعلم‏.‏

الأصل الثالث‏:‏ من الاصول الموهومة الاستحسان

وقد قال به أبو حنيفة، وقال الشافعي‏:‏ من استحسن فقد شرع ورد الشئ قبل فهمه محال، فلا بد أولا من فهم الاستحسان، وله ثلاثة معان‏:‏ الأول‏:‏ وهو الذي يسبق إلى الفهم ما يستحسنه المجتهد بعقله، ولا شك في أنا نجوز ورود التعبد باتباعه عقلا، بل لو ورد الشرع بأن ما سبق إلى أوهامكم أو استحسنتموه بعقولكم أو سبق إلى أوهام العوام مثلا فهو حكم الله عليكم لجوزناه، ولكن وقوع التعبد لا يعرف من ضرورة العقل ونظره، بل من السمع، ولم يرد فيه سمع متواتر ولا نقل آحاد، ولو ورد لكان لا يثبت بخبر الواحد، فإن جعل الاستحسان مدركا من مدارك أحكام الله تعالى ينزل منزلة الكتاب والسنة والإجماع، وأصلا من الاصول لا يثبت بخبر الواحد، ومهما انتفى الدليل وجب النفي‏.‏ المسلك الثاني‏:‏ أنا نعلم قطعا إجماع الامة قبلهم، على أن العالم ليس له أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في دلالة الأدلة، والاستحسان من غير نظر في أدلة الشرع حكم بالهوى المجرد، وهو كاستحسان العامي، ومن لا يحسن النظر فإنه إنما جوز الاجتهاد للعالم دون العامي، لانه يفارقه في معرفة أدلة الشريعة، وتمييز صحيحها من فاسدها، وإلا فالعامي أيضا يستحسن، ولكن يقال‏:‏ لعل مستند استحسانك وهم وخيال لا أصل له، ونحن نعلم أن النفس لا تميل إلى الشئ إلا بسبب مميل إليه، لكن السبب ينقسم إلى ما هو وهم وخيال إذا عرض على الأدلة لم يتحصل منه طائل، وإلى ما هو مشهور من أدلة الشرع، فلم يميز المستحسن ميله عن الاوهام وسوابق الرأي إذا لم ينظر في الأدلة ولم يأخذ منها، ولهم شبه ثلاث‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم‏}‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 55‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‏}‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 81‏)‏ قلنا اتباع أحسن ما أنزل إلينا هو اتباع الأدلة، فبينوا أن هذا مما أنزل إلينا، فضلا عن أن يكون من أحسنه، وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 55‏)‏ ثم نقول‏:‏ نحن نستحسن إبطال الاستحسان، وأن لا يكون لنا شرع سوى المصدق بالمعجزة، فليكن هذا حجة عليهم‏.‏ الجواب الثاني‏:‏ أن يلزم من ظاهر هذا اتباع استحسان العامي والطفل والمعتوه، لعموم اللفظ، فإن قلتم‏:‏ المراد بعض الاستحسانات، وهو استحسان من هو من أهل النظر، فكذلك نقول‏:‏ المراد كل استحسان صدر عن أدلة الشرع، وإلا فأي وجه لاعتبار أهلية النظر في الأدلة مع الاستغناء عن النظر‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، ولا حجة من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أنه خبر واحد لا تثبت به الاصول‏.‏ الثاني‏:‏ أن المراد به ما رآه جميع المسلمين، لانه لا يخلو أن يريد به جميع المسلمين أو آحادهم، فإن أراد الجميع فهو صحيح إذ الامة لا تجتمع على حسن شئ إلا عن دليل، والإجماع حجة، وهو مراد الخبر، وإن أراد الآحاد لزم استحسان العوام، فإن فرق بأنهم ليسوا أهلا للنظر قلنا‏:‏ إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي فائدة لاهلية النظر‏.‏ الثالث‏:‏ أن الصحابة أجمعوا على استحسان منع الحكم بغير دليل ولا حجة، لانهم مع كثرة وقائعهم تمسكوا بالظواهر والاشباه، وما قال واحد‏:‏ حكمت بكذا وكذا لاني استحسنته ولو قال ذلك لشددوا الانكار عليه وقالوا‏:‏ من أنت حتى يكون استحسانك شرعا وتكون شارعا لنا، وما قال معاذ حيث بعثه إلى اليمن أني أستحسن، بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط‏.‏ الشبهة الثالثة‏:‏ إن الامة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة وعوض الماء ولا تقدير مدة السكون واللبث فيه، وكذلك شرب الماء من يد السقاء بغير تقدير العوض، ولا مبلغ الماء المشروب، لان التقدير في مثل هذا قبيح في العادات، فاستحسنوا ترك المضايقة فيه، ولا يحتمل ذلك في إجارة ولا بيع، والجواب من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أنهم من أين عرفوا أن الامة فعلت ذلك من غير حجة ولا دليل، ولعل الدليل جريان ذلك في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع معرفته به وتقريره عليه، لاجل المشقة في تقدير الماء المشروب والمصبوب في الحمام وتقدير مدة المقام والمشقة سبب الرخصة‏.‏ الثاني‏:‏ أن نقول شرب الماء بتسليم السقاء مباح، وإذا أتلف ماءه فعليه ثمن المثل، إذ قرينة حاله تدل على طلب العوض فيما بذله في الغالب، وما يبذل له في الغالب يكون ثمن المثل فيقبله السقاء، فإن منع فعليه مطالبته، فليس في هذا إلا الاكتفاء في معرفة الاباحة بالمعاطاة والقرينة، وترك المماسكة في العوض، وهذا مدلول عليه من الشرع، وكذلك داخل الحمام مستبيح بالقرينة، ومتلف بشرط العوض بقرينة حال الحمامي، ثم ما يبذله إن ارتضى به الحمامي واكتفى به عوضا أخذه وإلا طالبه بالمزيد إن شاء، فليس هذا أمرا مبدعا ولكنه منقاس والقياس حجة‏.‏ التأويل الثاني‏:‏ للاستحسان قولهم المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه، ولا يقدر على إبرازه وإظهاره، وهذا هوس، لان ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال أو تحقيق، ولا بد من ظهوره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه الأدلة أو تزيفه، أما الحكم بما لا يدري ما هو فمن أين يعلم جوازه، أبضرورة العقل أو نظره أو بسمع متواتر أو آحاد، ولا وجه لدعوى شئ من ذلك، كيف وقد قال أبو حنيفة‏:‏ إذا شهد أربعة على زنا شخص لكن عين كل واحد منهم زاوية من زوايا البيت وقال‏:‏ زنى فيها، فالقياس أن لا حد عليه، لكنا نستحسن حده، فيقول له، لم يستحسن سفك دم مسلم من غير حجة إذ لم تجتمع شهادة الاربعة على زنا واحد، وغايته أن يقول‏:‏ تكذيب المسلمين قبيح، وتصديقهم وهم عدول حسن، فنصدقهم ونقدر دورانه في زنية واحدة على جميع الزوايا، بخلاف ما لو شهدوا في أربعة بيوت، فإن تقدير التزاحف بعيد، وهذا هوس، لانا نصدقهم ولا نرجم المشهود عليه، كما لو شهد ثلاثة، وكما لو شهدوا في دور وندرأ الرجم من حيث لم نعلم يقينا اجتماع الاربعة على شهادة واحدة فدرء الحد بالشبهة أحسن، كيف وإن كان هذا دليلا، فلا ننكر الحكم بالدليل، ولكن لا ينبغي أن يسمى بعض الأدلة استحسانا‏.‏ التأويل الثالث‏:‏ للاستحسان، ذكره الكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة ممن عجز عن نصرة الاستحسان، وقال‏:‏ ليس هو عبارة عن قول بغير دليل، بل هو بدليل، وهو أجناس، منها‏:‏ العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن، مثل قوله‏:‏ مالي صدقة، أو لله علي أن أتصدق بمالي، فالقياس لزوم التصدق بكل ما يسمى مالا، لكن استحسن أبو حنيفة التخصيص بمال الزكاة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 301‏)‏ ولم يرد إلا مال الزكاة‏.‏ ومنها‏:‏ أن يعدل بها عن نظائرها بدليل السنة، كالفرق في سبق الحدث والبناء على الصلاة بين السبق والتعمد على خلاف قياس الاحداث وهذا مما لا ينكر، وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ، وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحسانا من بين سائر الأدلة، والله أعلم‏.‏

الأصل الرابع‏:‏ من الاصول الموهومة الاستصلاح

وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة، ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها فنقول‏:‏ المصلحة بالاضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام‏:‏ قسم شهد الشرع لاعتبارها، وقسم شهد لبطلانها، وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها‏.‏ أما ما شهد الشرع لاعتبارها‏:‏ فهي حجة، ويرجع حاصلها إلى القياس، وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع، وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع، فإنه نظر في كيفية استثمار الاحكام من الاصول المثمرة، ومثاله حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم، قياسا على الخمر، لانها حرمت، لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف، فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما شهد الشرع لبطلانها

مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان‏:‏ إن عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال‏:‏ لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به، فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الاحوال، ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي‏.‏

القسم الثالث‏:‏ ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين

وهذا في محل النظر، فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر وهو‏:‏ أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات، وإلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات، والتزيينات، وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات، ويتعلق بأذيال كل قسم من الاقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها، ولنفهم أولا معنى المصلحة ثم أمثلة مراتبها‏:‏ أما المصلحة‏:‏ فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو‏:‏ أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الاصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الاصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة، وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس، وهذه الاصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص أدبه حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسل والانساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق، إذ به يحصل حفظ الاموال التي هي معاش الخلق، وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الاصول الخمسة، والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتال والزنا والسرقة وشرب المسكر، أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة فكقولنا‏:‏ المماثلة مرعية في استيفاء القصاص، لانه مشروع للزجر والتشفي، ولا يحصل ذلك إلا بالمثل، وكقولنا‏:‏ القليل من الخمر، إنما حرم لانه يدعو إلى الكثير، فيقاس عليه النبيذ، فهذا دون الأول، ولذلك اختلفت فيه الشرائع‏.‏ ما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة لان السكر يسد باب التكليف والتعبد الرتبة الثانية‏:‏ ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات، كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير، فذلك لا ضرورة إليه، لكنه محتاج إليه في اقتناء المصالح، وتقييد الاكفاء خيفة من الفوات، واستغناما للصلاح المنتظر في المآل، وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه، وشراء الملبوس والمطعوم لاجله، فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف الشرائع المطلوب بها مصالح الخلق، أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل، بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر والتظاهر بالاصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها، أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا‏:‏ لا تزوج الصغيرة إلا من كفؤ، وبمهر مثل فإنه أيضا مناسب، ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح، ولهذا اختلف العلماء فيه‏.‏ الرتبة الثالثة‏:‏ ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد، ورعاية أحسن المنا هج في العادات والمعاملات، مثاله‏:‏ سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته، من حيث أن العبد نازل القدر والرتبة، ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه، فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة، أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات، لان ذلك مناسب للمصلحة إذ ولاية الاطفال تستدعي استغراقا وفراغا، والعبد مستغرق بالخدمة، فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل، أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى، ولكن قول القائل سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقوله سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه، فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا، وهذا لا ينفك عن الانتظام، لو صرح به الشرع ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى، بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه والمناسب قد يكون منقوصا، فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تقييد، كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتقاء الازواج وسرعة الاغترار بالظواهر، لكان واقعا في الرتبة الثانية، ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها، وفي نكاح الكفؤ فهو في الرتبة الثالثة، لان الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد، لان ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال، ولا يليق ذلك بالمروءة، ففوض الشرع ذلك إلى الولي، حملا للخلق على أحسن المناهج، وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالاثبات عند النزاع، لكان من قبيل الحاجات، ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى، فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالاعلان والاظهار عند من له رتبة ومنزلة على الجملة، فليلحق برتبة التحسينات، فإذا عرفت هذه الاقسام فنقول الواقع في الرتبتين الاخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل، إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات، فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد الشرع بالرأي فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس، وسيأتي، أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد له أصل معين، ومثاله‏:‏ إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الاسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الاسارى أيضا، فيجوز أن يقول قائل‏:‏ هذا الاسير مقتول بكل حال، فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع، لانا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الامكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع، لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية، وليس في معناها، ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة، فينا غنية عن القلعة، فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها، لانها ليست قطعية، بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم، لانها ليست كلية، إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين، ولانه ليس يتعين واحد للاغراق، إلا أن يتعين بالقرعة، ولا أصل لها، وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا، فلا رخصة فيه لان المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للاكلة حفظا للروح، فإنه تنقدح الرخصة فيه، لانه إضرار به لمصلحته، وقد شهد الشرع للاضرار بشخص في قصد صلاحه، كالفصد والحجامة وغيرهما، وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام، فهو كقطع اليد، لكن ربما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك، فيمنع منه لانه ليس فيه يقين الخلاص، فلا تكون المصحلة قطعية، فإن قيل‏:‏ فالضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة فهل تقولون بها‏؟‏ قلنا‏:‏ قد قال بها مالك رحمه الله، ولا نقول به، لا لابطال النظر إلى جنس المصلحة لكن، لان هذه مصلحة تعارضها أخرى، وهي مصلحة المضروب، فإنه ربما يكون بريئا من الذنب، وترك الضرب في مذنب أهون من ضرب برئ، فإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الاموال، ففي الضرب فتح باب إلى تعذيب البرئ، فإن قيل‏:‏ فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فماذا ترون‏؟‏ قلنا‏:‏ هذه المسألة في محل الاجتهاد، ولا يبعد قتله، إذ وجب بالزندقة قتله، وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى، لانهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة، والزنديق يرى التقية عين الزندقة، فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم، وذلك لا ينكره أحد، فإن قيل‏:‏ رب ساع في الارض بالفساد بالدعوة إلى البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرمهم وسفك دمائهم بإثارة الفتنة والمصلحة قتله لكف شره، فما ذا ترون فيه‏؟‏ قلنا‏:‏ إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا يسفك دمه، إذ في تخليد الحبس عليه كفاية شره، فلا حاجة إلى القتل، فلا تكون هذه المصلحة ضرورية، فإن قيل‏:‏ إذا كان الزمان زمان فتنة ولم يقدر على تخليد الحبس فيه مع تبدل الولايات على قرب، فليس في إبقائه وحبسه إلا إيغار صدره وتحريك داعيته، ليزداد في الفساد والاغراء جدا عند الافلات، قلنا‏:‏ هذا الآن رجم بالظن، وحكم بالوهم، فربما لا يفلت ولا تتبدل الولاية والقتل بتوهم المصلحة لا سبيل إليه، فإن قيل‏:‏ فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الاسلام لو لم يقصد، الترس، بل يدرك ذلك بغلبة الظن، قلنا‏:‏ لا جرم ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة، وعللوا بأن ذلك مظنون‏.‏ ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع، والظن القريب من القطع إذا صار كليا وعظم الخطر فيه، فتحتقر الاشخاص الجزئية بالاضافة إليه، فإن قيل إن في توقفنا عن الساعي في الارض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك، وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره، قلنا‏:‏ لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك، بل هو أولى من الترس، فإنه لم يذنب ذنبا، وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل وكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبيعته وسجيته، فإن قيل‏:‏ كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة، وفي مسألة الترس، وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان، وهذا يخالف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمنا متعمدا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 39‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 151‏)‏ وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر، فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك، فإذا غاية الامر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الاسلام، فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين، ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى‏؟‏ قلنا‏:‏ لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد المنع من ذلك، ويتأيد بمثله السفينة، وأنه يلزم منه قتل ثلث الامة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة، إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد محصور كعشرة مثلا وتترس بمسلم، فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع، بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل، أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد، وإنما نشأ هذا من الكثرة، ومن كونه كليا، لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد، وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح، ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل، ولا خلاف، أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم وإن كان التحريم عاما، لكن تخصصه بغير هذه الصورة، فكذلك ههنا التخصيص ممكن، وقول القائل هذا سفك دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي، فإن حفظ أهل الاسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع، والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل، فإن قيل‏:‏ فتوظيف الخراج من المصالح، فهل إليه سبيل أم لا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا سبيل إليه مع كثرة الاموال في أيدي الجنود، أما إذا خلت الايدي من الاموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الاسلام، أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامنة في بلاد الاسلام، فيجوز للامام أن يوظف على الاغنياء مقدار كفاية الجند، ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالاراضي فلا حرج، لانا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين وما يؤديه كل واحد منهم قليل، بالاضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الاسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الامور، ويقطع مادة الشرور، وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة، فإن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الادوية، وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه، وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس لكن هذا تصرف في الاموال، والاموال مبتذلة، يجوز ابتذالها في الاغراض التي هي أهم منها، وإنما لمحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك، فإن قيل‏:‏ فبأي طريق بلغ الصحابة حد الشرب إلى ثمانين، فإن كان حد الشرب مقدرا، فكيف زادوا بالمصلحة، وإن لم يكون مقدرا وكان تعزيرا فلم افتقروا إلى الشبه بحد القذف‏؟‏ قلنا‏:‏ الصحيح أنه لم يكن مقدرا، لكن ضرب الشارب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعال وأطراف الثياب، فقد ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين، فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا، والتعزيرات مفوضة إلى رأي الائمة، فكأنه ثبت الإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل لهم، اعملوا بما رأيتموه أصوب، بعد أن صدرت الجناية الموجبة للعقوبة، ومع هذا، فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع، فرأوا الشرب مظنة القذف، لان من سكر هذى ومن هذى افترى، ورأوا الشرع يقيم مظنة الشئ مقام نفس الشئ، كما أقام النوم مقام الحدث وأقام الوطئ مقام شغل الرحم، والبلوغ مقام نفس العقل، لان هذه الاسباب مظان هذه المعاني، فليس ما ذكروه مخالفة للنص بالمصلحة أصلا، فإن قيل‏:‏ فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالاشخاص، مثل المفقود زوجها إذا اندرس خبر موته وحياته وقد انتظرت سنين وتضررت بالعزوبة أيفسخ نكاحها للمصلحة أم لا‏؟‏ وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين أحدهما سابق واستبهم الامر ووقع اليأس عن البيان بقيت المرأة محبوسة طول العمر عن الازواج ومحرمة على زوجها المالك لها في علم الله تعالى‏؟‏ وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها عشر سنين وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد بالاشهر أو تكتفي بتربص أربع سنين‏؟‏ وكل ذلك مصلحة ودفع ضرر، ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا‏؟‏ قلنا‏:‏ المسألتان الأوليان مختلف فيهما، فهما في محل الاجتهاد، فقد قال عمر‏:‏ تنكح زوجة المفقود بعد أربع سنين من انقطاع الخبر، وبه قال الشافعي في القديم، وقال في الجديد، تصبر إلى قيام البينة على موته أو انقضاء مدة يعلم أنه لا يعيش إليها، لانا إن حكمنا بموته بغير بينة فهو بعيد إذ لا تدارس الاخبار أسباب سوى الموت، لا سيما في الخامل الذكر النازل القدر، وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس على منصوص، والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من أعسار وجب وعنة، فإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطئ، وذلك في الحضرة لا يؤثر، فكذلك في الغيبة، فإن قيل‏:‏ سبب الفسخ دفع الضرر عنها ورعاية جانبها، فيعارضه أن رعاية جانبه أيضا مهم ودفع الضرر عنه واجب، وفي تسليم زوجته إلى غيره في غيبته، ولعله محبوس أو مريض معذور إضرار به، فقد تقابل الضرران، وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن، فليس تصفو هذه المصلحة عن معارض، وكذلك اختلف قول الشافعي في مسألة الوليين، ولو قيل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد فليس ذلك حكما بمجرد مصلحة، لا يعتضد بأصل معين، بل تشهد له الاصول المعينة، أما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي، ولم يبلغنا خلاف عن العلماء، وقد أوجب الله تعالى التربص بالاقراء إلا على اللائي يئسن من المحيض، وليست هذه من الآيسات، ما من لحظة إلا ويتوقع فيها هجوم الحيض وهي شابة، فمثل هذا القدر النادر لا يسلطنا على تخصيص النص، فإنا لم نر الشرع يلتفت إلى النوادر في أكثر الاحوال، وكان لا يبعد عندي لو اكتفي بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين، لكن لما أوجبت العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب التعبد فإن قيل‏:‏ فقد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الاصول الموهومة، فليلحق هذا بالاصول الصحيحة ليصير أصلا خامسا بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل، قلنا‏:‏ هذا من الاصول الموهومة، إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ، لانا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود، فهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطرحة، ومن صار إليها فقد شرع، كما أن من استحسن فقد شرع، وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجا من هذه الاصول، لكنه لا يسمى قياسا، بل مصلحة مرسلة، إذ القياس أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الاحوال وتفاريق الامارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة، وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة، وحيث ذكرنا خلافا فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الاقوى، ولذلك قطعنا بكون الاكراه مبيحا لكلمة الردة، وشرب الخمر، وأكل مال الغير، وترك الصوم والصلاة، لان الحذر من سفك الدم أشد من هذه الامور، ولا يباح به الزنا، لانه مثل محذور الاكراه، فإذا منشأ الخلاف في مسألة الترس الترجيح، إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة، ورجح الكل على الجزء في قطع اليد المتأكلة، وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس‏؟‏ فيه خلاف ولذلك يمكن إظهار هذه المصالح في صيغة البرهان، إذ تقول في مسألة الترس مخالفة مقصود الشرع حرام وفي الكف عن قتال الكفار، مخالفة لمقصود الشرع‏.‏ فإن قيل‏:‏ لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام، ولكن لا نسلم أن هذه مخالفة‏؟‏ قلنا‏:‏ قهر الكفار واستعلاء الاسلام مقصود، وفي هذا استئصال الاسلام واستعلاء الكفر، فإن قيل‏:‏ فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود، وفي هذا مخالفة المقصود‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا مقصود، وقد اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين، ولا بد من الترجيح، والجزئي محتقر بالاضافة إلى الكلي، وهذا جزئي بالاضافة، فلا يعارض بالكلي، فإن قيل‏:‏ مسلم أن هذا جزئي، ولكن لا يسلم أن الجزئي محتقر بالاضافة إلى الكلي، فاحتقار الشرع له يعرف بنص أو قياس على منصوص‏؟‏ قلنا‏:‏ قد عرفنا ذلك لا بنص واحد معين، بل بتفاريق أحكام واقتران دلالات، لم يبق معها شك في أن حفظ خطة الاسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار، وسيعود الكفار عليه بالقتل، فهذا مما لا يشك فيه، كما أبحنا أكل مال الغير بالاكراه، لعلمنا بأن المال حقير في ميزان الشرع بالاضافة إلى الدم وعرف ذلك بأدلة كثيرة، فإن قيل‏:‏ فهلا فهمتم أن حفظ الكثير أهم من حفظ القليل في مسألة السفينة وفي الاكراه وفي المخمصة‏؟‏ قلنا، لم نفهم ذلك، إذ أجمعت الامة على أنه لو أكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله، وأنه لا يحل لمسلمين أكل مسلم في المخمصة، فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة، أما ترجيح الكلي فمعلوم إما على القطع وإما بظن قريب من القطع يجب اتباع مثله في الشرع، ولم يرد نص على خلافه، بخلاف الكثرة، إذ الإجماع في الاكراه وفي المخمصة منع منه فبهذه الشروط التي ذكرناها يجوز اتباع المصالح، وتبين أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه، بل من استصلح فقد شرع، كما أن من استحسن فقد شرع، وتبين به أن الاستصلاح على ما ذكرنا، وهذا تمام الكلام في القطب الثاني من الاصول‏.‏