فصل: الربا في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.المعاملات المالية:

216 - اشتمل القرآن الكريم على بيان الحلال والحرام في الأموال وطرق كسبها، لكن بيانها كان إجماليًّا ولم يكن تفصيليًّا كالأسرة؛ لأن المعاملات مختلفة في تفصيلها وطرقها، ويجمع أحكامها قواعد عامة تعرض القرآن لبيانها، وذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بيانه فيها.
وأوّل ما أمر به القرآن بالنسبة للمعاملات عدم أكل اأموال الناس من غير أساس من التعامل المشروع أو الإنتاج مما أخرجت، ومن التحويل في الصناعات المختلفة، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
وإن هذا النص يدل على أمور ثلاثة:
أولها: النهي عن أكل مال الناس بالباطل، أي: بغير حق موجب.
وثانيها: أنَّ أكل الناس بالباطل وشيوعه مثل شيوع الرشا والربا، وغيرهم من المعاملات الفاسدة التي تتضمَّن في ذاتها أكل الأموال بالباطل يؤدي إلى ضياع قوة الأمة، وتقل روح التعاون في الجماعات، ولذا كان قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.
ولقد صرَّح القرآن الكريم بالنهي عن الرشوة، وخصوصًا رشوة الحاكم التي تذهب بالثقة، وتفسد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتجعل أمور الناس فوضى، فقد قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
وإن هذا النص الكريم يدل على حرمة الرشوة، وقد سمَّاها في موضع آخر السحت، ويدل على أن الرشوة أكل لأموال الناس، وإفساد للحكم، وضياع للعدل، وقد أشرنا إلى ذلك عند الكلام في أنَّ الأصل للعلاقة بين الناس هو مراعاة العدالة.
وقد ذكر القرآن أنَّ من أسباب ضياع اليهود وفساد الحكم فيهم السحت، وقد قال تعالى فيهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42].
ومن أكل المال بالباطل تطفيف الكيل أو الميزان أو تقدير الأشياء بأيّ نوع من التقدير، فقد قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152].
وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 1 - 14].
وترى من هذا الوعيد الشديد للذين يطففون، الذين يظلمون الناس في الكيل.
وقد يقول قائل: لماذا اختص القرآن من بين المعاملات المادية إيفاء الكيل والميزان بالذكر؟
ونقول: إن الوفاء في الكيل والميزان صورة حسية لعدالة المؤمن في المعاملات، ويتحقق فيها بالحسّ معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به».
فالأمر بوفاء الكيل والميزان أمر بالعدالة النفسية والأدبية في كل العلاقات الإنسانية. وقد اهتمَّ القرآن بذلك.
209 - وإن الإسلام لحرصه على أن يكون التعامل على أساس سليم من العدالة والرضا الصحيح، أمر بكتابة الديون والعقود، والإشهاد عليها لكيلَا تكون مشاحة، والمشاحة تؤدي إلى المنازعة، بل أكل أموال الناس بالباطل، ولذا قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282 - 283].
هذا نص شامل من نصوص القرآن الكريم معجزة هذا الوجود، وهو يدل على أمور.
أولها: لزوم كتابة الدَّيْن، وأن تكون هذه الكتابة يتولَّاها كاتب عدل مأمون تحريف القول، أو تغييره، وأن على هذا الكاتب أن يجيب إذا دعي إلى الكتابة، والكتابة مطلوبة في كل الأحوال، سواء أكان الدين صغيرًا أم كبيرًا، بشرط أنه مقدار يدخل في معنى عرفًا.
ثانيها: أنَّ الذي يملي الدَّيْن هو مَنْ عليه الدَّيْن، فإن كان ضعيفًا لا يدرك العقود، أو سفيهًا لا يحكم التصرف، أو كان لا يستطيع أن يملي لضعف في بيانه، أو في تعبيره، يملي ولي يختاره، أو يكون مختارًا له من قبل القضاء المهيمن أو الشرع.
ثالثها: أنه لا يستثنى في الكتابة إلَّا التجارة الحاضرة التي تدار بين التجار، كأن تكون سلعة عند تاجر، فيأخذها من جاره، أو متعامل معه على أن يرسل إليه الثمن لهذه التجارة الحاضرة إن باعها، فلتسهيل التعامل استثنيت من الكتابة.
رابعها: أنه إذا كان الدائن والمدين على سفر، ولم يجدوا كاتبًا، فإن الرهان التي تقبض تقوم مقام الكتابة في الاستيثاق من وفاء الدَّيْن.
خامسها: أنه لا بُدَّ من الشهادة بأن يكون ثمَّة شاهدان يحضران الإملاء، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، على أن يكونوا جميعًا من العدول، والشهادة لأجل الأداء عند الارتياب أو المشاحة، ولذلك قال الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أي: عند الأداء.
هذا تفصيل محكم جاء في محكم التنزيل، وإذا علمنا أنَّ مشاحات الناس أكثرها في المداينات والمبايعات، وسواء أكانت في داخل الإقليم أم في أقاليم أخرى، علمنا لماذا عني القرآن الكريم المنزَّل من عند الحكيم العليم بالمداينات والعقول تلك العناية.
وإن تعجب فاعجب من قول كثيرين من الفقهاء أنَّ الأمر هنا للإرشاد لا للإلزام، وعجبنا من أن يتصوروا أن ذلك التفصيل إرشاد، وليس حكمًا تكليفيًّا، والله أعلم بكتابه.

.الربا في القرآن:

218 - من وقت البعث المحمدي، الإسلام لا يرى التعامل بالربا علاقة صالحة، بل إنه في الآية التي نزلت بمكة كان فيها استنكار، وعدَّه عملًا غير صالح، اقرأ قوله تعالى في سورة الروم المكية:
{وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].
وهذا النص يفيد أنّ الربا لا يرضى عنه الله، وإن كان فيه زيادة فهي زيادة آثمة، وإذا كان المتعاملون يريدون أن يتضاعف مالهم فسبيل ذلك هو إعطاء شطر من المال للسائل والمحروم، فإنَّ المال ينمو بذلك وتكون الزيادة خيرًا؛ لأن ذلك السبيل هو التعاون، وجاءت من بعد ذلك في المدينة الآيات المحرّمة للربا تحريمًا قاطعًا حاسمًا، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 130 - 132].
والربا المذكور هنا، وفي الآية التي تلوناها من قبل، وفي الآية التي سنتلوها من بعد هو الزيادة في الدَّيْن نظير الأجل، فليس هو الدَّيْن ذاته، إنما هو الزيادة، ونذكر هذا تصحيحًا لفهم بعض الذين يبيحون الربا أو بعضه، فقد قال قائل منهم - عفا الله عنه: إنَّ المحرَّم هو ما زاد على ضعف الدَّيْن. وسارع إلى تصديقهم بعض القانونيين الذين يؤمنون بها في هذا الزمان أكثر من إيمانهم بالقرآن.
والوصف بالمضاعفة للزيادة في هذا الزمان هو لبيان ما يؤدي إليه الربا؛ إذ تتضاعف الزيادة مضاعفة كثيرة، وفي ذلك ما فيه من إرهاق المدين، وقبح حال الدائن، وأكله المال بالباطل من غير عمل ولا كَدٍّ، ولا تعرَّض للخسارة.
ولقد نزلت آية في تحريم الربا تحريمًا لا يقبل أي تأويل، ولو كان فاسدًا، كالذي قيل في معنى الربا في الآية السابقة، فقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 275 - 281].
هذا نص صريح قاطع في التحريم.
219 - ولكن قومًا ممن تعلموا علم الإسلام لم يأخذوا بظاهر معناه، بل لأنهم عودوا المناقشة اللفظية في الألفاظ، وإلقاء ظلال من الإبهام على معانيها الواضحة البينة، وقد لانت نفوسهم، وأخذوها لحكم الزمان لا لحكم القرآن، وكأنهم تعلموا ليخرجوا الكتاب على غير مخارجه، ويتأوَّلوه بغير متأوله، ومرنوا على ذلك، وأضلوا كثيرًا بعد ضلالهم.
إذا جاءك رجل وقال لك: أشك في أن هذه الشمس التي هي السراج المنير هي الشمس المذكورة في القرآن، أتصدق له قولًا؟ أم تحسب لكلامه وزنًا، أم تجعله في ظلّ العلماء المشتغلين بالدراسات الإسلامية أيًّا كان لونهم، وأيًّا كان زيهم.
إن رأيت ذلك ففي المتفيهقين من الذين يتكلمون في القرآن وعلوم الإسلام من قال إن عمر قال: (إن للربا تسعة وتسعين وجهًا) ثم يردفون ذلك بأن يقولوا: إن لفظ الربا في القرآن كان غير معروف لعمر، فكيف يكون واضحًا لدينا. كبرت كلمة تنطق بها أفواههم التي أثمت بالقول في كتاب الله تعالى بغير علم.
من هؤلاء تجدنا مضطرين لأن نشرح معنى كلمة الربا، وإن كنا نقول: إن الشمس التي نراها هي التي في القرآن.
يقول أبو بكر الرازي الشهير بالجصَّاص في كتابه (أحكام القرآن): إنَّ الربا قسمان ربًا لغويّ يعرف من اللغة وهو ربا القرآن، وهو ربا الجاهلية، وهو أن يزيد في الدَّيْن في نظير الزيادة في الأجل. والقسم الثاني: هو الربا الاصطلاحي وهو الذي جاء في الحديث: «الذهب بالذهب مثلًا بمثمل، يدًا بيد، والفضة بالفضة مثلًا بمثل يدًا بيد، والتمر بالتمرمثلًا بمثل يدًا بيد، والبر بالبر مثلًا بمثل يدًا بيد، والشعير بالشعير مثلًا بمثل يدًا بيد، والملح بالملح مثلًا بمثل يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى». فهذا النوع من التعامل سمَّاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ربًا، فكان ربا بمعنى الاصطلاح، وهو الذي فيه الوجوه الكثيرة.
أَّما ربا القرآن فهو ربا الجاهلية، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حجة الوداع: «ألَا إنَّ ربا الجاهلية موضوع، وإنَّ أول ربًا أبدأ به هو ربا عمي العباس بن عبد المطلب، فإن تبتم فلكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون».
والربا الجاهلي معروف وهو الزيادة في الدَّيْن في نظير الأجل، فإن سدَّد في عام كانت الزيادة واحدة، وإن لم يسدد ضاعف الزيادة، وهكذا مما نراه في المصارف في هذه الأيام.
ولكن الذين يثيرون الشك حول الشمس والقمر المذكورين في القرآن يثيرون الشك في ربا الجاهلية، فيقولون: ليس ربا الجاهلية هو الربا الذي يكون في القروض الاستغلالية؛ لأن المقترض يستغل الدَّيْن فيكتسب، فيكون من عدلهم المزعوم أن يجعلوا للدائن سهمًا محدودًا في الدَّيْن، سواء أخَّر المقترض أم اكتسب، ويقصرون ربا الجاهلية على الربا الذي يكون فيه قرض استهلاكي، يقترض المدين ليدفع حاجات ضرورية، ويكون الربا في هذه الحال منافيًا للمروءة والخلق الكريم، ذلك تأويلهم الذي لا سند له من نص، أو قياس معقول، ولكنه تفكيرهم الذي يخرجون به عن حدود النص.
220 - إنَّ التأويل بتخصيص لفظ عام في القرآن يكون بتخصيص من القرآن نفسه، أو بتخصيص من المفسّر الأول للقرآن وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فكل تخصيص لعام القرآن الكريم من غير ذلك يكون حكم الهوى في القرآن، ويكون ردًّا سواء، وهذا فوق أنَّ ذلك التأويل الشاذ عند علماء الشريعة فيه مصادمة للنص القرآني، من غير دليل، فإن النص القرآني فيه ما يدل على بطلان ذلك التأويل الذي دفع إليه الهوى، الحال التي كانت عليه البلاد الحجازية تناقضه، والحوادث التي كانت في عصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تقاومه لما يأتي:
أولًا: إنَّ المشركين قالوا مقالة أولئك الذين يحكمون هواهم في القرآن، ذلك أنهم برَّروا أكلهم الربا بأن شبَّهوه بالبيع، وقال الله فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، ومؤدَّى كلامهم أنهم يعتقدون مشابهة بين ما يكسبه المقترض بالبيع والشراء، والإتجار في الشام وفارس، بما يأخذه المرابي من ربا، أي: إنَّهم يقولون: أنه بعض مما يكسبه المقترض بالبيع والشراء، وهو جزء منه، فردَّ عليهم بأنَّ البيع حلال، لأنَّ الكاسب بالبيع يتحمَّل كسبًا وخسارة، وحرَّم الربا لأنه الكسب من غير تعرض للخسارة، وبذلك يكون الكسب من البيع طبيعيًّا، والكسب بالربا غير طبيعي؛ لأن النقد لا يلد النقد.
وثانيًا: قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}، فإنَّ التعبير عن الدَّيْن برأس المال إنما يكون في المال المتخذ للاستغلال، ولا يقال رأس المال للمال المتخذ لاستخدامه في الضرورة، فكان هذا دليلًا من النص يفيد أنَّ التحريم وارد في القرض الاستغلالي ابتداءً، والاستهلاكي تبعًا؛ ذلك أنَّ النص بعمومه يحرم كل زيادة، لأنَّ أيَّ زيادة تنقض التوبة وتكون ظلمًا.
وثالثًا: إنَّ أحوال أهل مكة والطائف تجعل القرض للاستغلال هو الغالب بينهم، وأن القرض للاستهلاك لم يكن شائعًا بينهم، فقد كان أهل مكة وما حولها تجارًا، ينقلون بضائع الروم إلى الفرس عن طريق الشام واليمن، وينقلون بضائع الفرس إلى الروم عن هذه الطريق أيضًا، ولذلك كانت لهم رحلتان تجاريتان إحداهما رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام، كما قال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 - 4].
وإذا كانت مكة والطائف بلدين تجاريتين، فلا بُدَّ أن نتصور أن منهم من كان يتجر بنفسه بائعًا مشتريًا، ومنهم من كان يتَّجر بطريق غيره، فيعطي لمن يتجر بنفسه على أن يكون الربح بينهما بنسبه معلومة، والخسارة تكون على صاحب رأس المال، كما كان يفعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مال خديجة بأمانة الأميين صلى الله تعالى عليه وسلم.
ومنهم من كان يدفع المال إِلى غيره، على أن يكون له كسب محدود مما يئول إلى التاجر، كسب التاجر أو خسر، وقد روى ذلك من معاملات قريش، فقد كان ذو المال يدفع المال إلى التاجر على قدر من المال هو الربا، فإن سدَّد أخذ رأس المال مع الزيادة، وإن لم يأخذ أبقى المال وضاعف الزيادة، ولذلك أثر عن الربويين أنهم كانوا يقولون للمدين: ادفع أو ضاعف، والمراد مضاعفة الزيادة.
وقد قال أصحاب السيرة في مقدمات غزوة بدر أنَّ قريشًا كلها خرجت بكل مالها للتجارة حتى حلى النساء، فأرادها أهل الحق كما صادروا من أموال المؤمنين، فاستنفر أبو سفيان قريشًا، وخرج الجند لحماية العير، فكانت الغزوة، ولا بُدَّ أن يكون في هذا المال ما كان من مال المتاجرين، وما كان من مال غيرهم أخذ للتجار، وما كان ديونًا مأخوذة ليستغلها المدينون.
ورابعًا: إنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال في تحريم ربا الجاهلية: «وأوّل ربًا أبدأ به ربا عمِّي العباس بن عبد المطلب»، ولا يتصور من العباس رضي الله عنه أن يكون عربي محتاجًا لقدر من المال في أموره الضروية، فيأبى إلَّا أن يقرضه ربا، وهو الذي يسقي الحجيج في موسم الحج نقيع الزبيب والتمر.
وخامسًا: إنَّه لوحظ في بعض أخبار العرب أنَّ الأثرياء كانوا يقترضون، فكان أبو جهل عليه دَيْن لرجل ليس من قريش وماطله، فاستعان بقريش لتحمله على الوفاء، فسخروا منه، وأشاروا عليه بأن يستعين بمحمد بن عبد الله ورسول الله، فأعانه، فقد قال الرسول القوي الأمين بعد أن صكَّ الباب صكَّة أرعدت مفاصله: «أد للرجل دينه»، فأدَّاه صاغرًا غير كابر.
ويروى أن بني المغيرة قد استدانوا من ثقيف قبل أن يسلم الفريقان، فلمَّا جاء القرآن بالنهي عن الربا أنه موضوع، واختلف الدائن الثقفي مع المدين من بني المغيرة، أيحتسب من رأس المال ما أخذه من ربا من قبل التحريم أم لا يحتسب، أراد المدين أن يحتسب، وأراد الدائن ألَّا يحتسب، فاحتكموا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فحكم بينهم بمقتضى النص القرآني.
وأنَّ بني المغيرة لم يكونوا فقراء، بل كانوا قومًا من الأثرياء، وفيهم من قال الله تعالى فيه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر: 11 - 14].
ومنهم من يدَّعي أنَّ النبوة لا تكون إلَّا في رجل ثري عظيم في منظره، وقال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وإذا كان ما بين الأغنياء من تقارض بزيادة، فدعوى إخراج القرض الاستغلالي من نطاق الربا دعوى باطلة، وهي تدل على أنَّ القائلين أخضعوا حكم القرآن لحكم الزمان، فضلَّت مداركهم، وزاغت قلوبهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
وسادس الأمور التي تثبت أنَّ ربا القرآن يعمّ القرض الاستغلالي والقرض الاستهلاكي أنَّ العرب في حياتهم البدائية كانوا يقومون على أدنى معيشة من المادة، فما كانت لهم مطالب متعددة، وما كانوا يحتاجون إلى جهاز لابنة يجهزونها، ولا لأنواع من الأطايب يطلبونها، بل يكتفون بالقليل، وهؤلاء لا يكون فيهم قرض الاستهلاك أبدًا، إن تعدد ألوان المطالب التي قد تضطر للاقتراض لقضائها وليد حياة متحضرة، ولم تكن هذه الحضارة عند أهل البادية.
ولذا نقول: إن ربا الجاهلية، وهو الربا المحرَّم في القرآن يكاد ينصب على قرض الاستغلال ابتداء، والثاني يجيء من عموم النص، وفي التعاون بالزكاة غنًى عن الاقتراض للاستهلاك.
شيوع الريا:
221 - لقد شاع التعامل بالربا، حتى صار يسيطر على النظام الاقتصادي، ويقول اقتصاديو هذا الزمان: كيف يسوغ ترك التعامل بالربا وهو قوام الاقتصاد الحاضر؟
ونقول: إنَّ هذا النظام في كل قارات العالم هم اليهود، وأذكر منهم آل روتشيلد، الذين وزعوه في القارات، ونشروه، وسيطروا به على العالم الاقتصادي، وكان الربا سبيلًا للاستعمار في البلاد الإسلامية، وخصوصًا العربية.
ومهما يكن مصدر الربا، ومهما يكن الذين أشاعوه، فإنا نقرر حقيقتين:
أولاهما: إنَّ تحريم الربا ليس بسبب خلقي، حتى يقصر التحريم، على القروض الاستهلاكية، كما يتوهّم بعض المتفقهة، إنما الأساس في تحريمه اقتصادي، فالإسلام يدعو إلى نظام اقتصادي يقوم على منع الربا؛ لأنَّ الربا من شأنه أن يجعل رأس المال منتجًا من غير عمل عامل، بل من غير تحمُّل لتبعة العمل، وإذا ساد وجدت طائفة من الناس يتَّخذون التعطل سبيلًا، ويأكلون ثمرات غيرهم من التجار والزراع والصناع، ولقد قرَّر المحققون من الذين درسوا الاقتصاد الحقيقي أن الكسب بالانتظار لا ينَّمي الأمة اقتصاديًّا ويفسدها اجتماعيًّا؛ إذ إن الكسب بالانتظار لا ينتج، إنما الذي ينتج هو الذي يعمل زارعًا، أو تاجرًا، أو صانعًا، وإن إذا درست ما أحلّه الله تعالى وما حرمه من المكاسب، تجد أنَّ المكاسب التي أحلها الإسلام، هي التي تزيد ثروة الأمة، وتنمِّي إنتاجها أو تنفع الناس، والمحرّم من المكاسب ما لا ينمي ثروة الأمة، وتنمي إنتاجها أو تنفع الناس، والمحرّم من المكاسب ما لا ينمّي ثروة الأمة، ولا ينفع الناس، ولا شكَّ أن المكسب بالربا ليس فيه تنمية للثروة، ولا عمل لنفع الناس، ولا شك أنَّ المكسب بالربا ليس فيه تنمية للثروة، ولا عمل لنفع، إنما الذي يكون منه هذا هو المقترض، فبأس حق يأخذ المتعطل منه ثمرة عمله من غير تحمُّل لخسارة إن كانت.
الحقيقة الثانية: إنَّ التعامل في الإسلام يقوم على أساس التعاون، وأن يفيض ذو المال على من لا مال عنده، ويتعاونا على الاستغلال بأن يكون ثمَّة مشاركة في الكسب والخسارة، ولذلك كانت المضاربة الشرعية، أو ما يسمَّى شركة مساهمة، ومعناها: أن يدفع المال لمن يستغله على قسمة الربح بينهما بأسهم شائعة، كالثالث والرابع، على أن تكون الخسارة على صاحب رأس المال، وهو المبدأ الذي تقوم عليه الشركات المساهمة، وإنَّ هذا النوع هو الذي يتفق مع مبدأ التعاون الذي دعا إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وهذا غير الربا؛ لأنه استغلال من جانب الرابي، والعمل على غيره من غير أن يتعرَّض للخسارة، وهو يؤدي إلى التنابز.
وقد قرَّر المجددون من علماء الاقتصاد أنَّ سبب الآفات التي تقع هو من نظام الفائدة، وأنَّ ذلك النظام سبب بقائه مع فساده، وإدراك الناس لهذا الفساد أنَّه لا يوجد نظام يحل محله.
222 - وأخيرًا، نقرِّر أنَّ النظام الاقتصادي في الإسلام لا يقوم على الربا، بل إنه يناقضه، لأنَّه يجعل صاحب رأس المال يكسب من غير عمل، ومن غير تعرض للخسارة.
وإن الذي يلاحظ أنَّ العاالم الآن يحكمه نظامان:
أحدهما: يجعل رأس المال كاسبًا ماديًّا دائمًا، من غير أن يقوم صاحبه بعمل يتحمل تبعاته، ويؤدِّي به خدمة عامة تنفع الناس، وتمَدُّ الجماعة بالخير، فعملهم في الحياة أن يملكوا رأس المال، وغيرهم يعمل ويستغله كاسبًا وخاسرًا، ثم يجيء إليهم المال رزقًا رخيصًا، ليس مكسوًّ بجهد عامل.
وثانيهما: نظام يلغي رأس المال، ويجعل العمل وحده هو طريق في مصنع يصنع، أو في حقل يزرع، أو في أي عمل ينفع الجماعة.
والنظامان يتناحران، وقد يؤدي التناحر إلى أن يأخذ بعضهما من الآخر قليلًا أو كثيرًا، أفلا يتَّسع الوجود الإنساني في ذلك المضطرب لنظام يحترم رأس المال على أن يعمل فيه صاحبه يكسب من حلال وينتج ما ينفع الناس، فيكون نعم المال الصالح في يد العبد الصالح، ويمنع أن يكون كسب لأيِّ مال من غير أي عمل وتحمل الخسارة، أي: إنَّه يمنع الكسب بالزمن، إنما يكون الكسب بالعمل، وبرأس المال الذي يعمل فيه صاحبه.
ذلك هو نظام الإسلام الذي سينتهي إليه العالم إن عاجلًا أو آجلًا.
ولو أنَّ الذين يعملون في الاقتصاد من المسلمين يؤمنون بالقرآن كإيمانهم بنظم هذا الزمان لكانوا الدعاة إلى اقتصاد القرآن، وعساهم يفعلون.