فصل: الاستعارة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.الاستعارة:

111 - الاستعارة ضرب من ضروب التشبيه، وتكون العلاقة بين المعنى الأصلي للفظ بالوضع الأصلي والمعنى في الاستعمال المجازي المشابهة، فإذا قال القائل عن رجل شجاع معبرًا عنه بكلمة الأسد، أو قال عن رجل خطيب شجاع أنه على ابن أبي طالب، فإن العلاقة تكون في الأول الشجاعة التي يضرب بالأسد المثل فيها، وفي الثاني الشجاعة والخطابة.
وعلى ذلك يكون بين التشبيه والاستعارة اتصال، وإن شئت فقل: إنها طريق من طرق التشبيه، أو هي تشبيه فيه مبالغة، فإن المشبه يدّعي فيها أنه فرد من أفراد المشبه به، ولذلك لا بُدَّ فيها من أمرين: أولهما: ألَّا تكون ثمَّة أداة تشبيه كالكاف أو الاستعمال أو أن يكون المشبه محمولًا عليه والمشبه محمولًا مثلًا، وألا يكون المشبه مذكورًا بأي صورة من الصور، وثانيهما: أن يكون اللفظ الدال على المشبه به لفظًا عامًّا كاسم جنس، لكن يدخل المشبه في عموم أفراده بمظهر اللفظز، كأن يقول: تقدم للأعداء أسد له لبد، فانتقم الله تعالى به منهم، فإن قرينة القول تدل على أنه إنسان، وكأنك ادَّعيت أنَّ من أفراد الأسد ذلك الرجل الشجاع الذي أطلقت عليه اسم الأسد.
وقد عرَّف أبو الحسن الرماني الاستعارة، فيقال: وهي تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة، وهذا التعريف هو في معنى ما ذكرنا، غير أنَّه أشار إلى أن الاستعارة نقل اللفظ من المعنى الذي وضع له إلى معنى آخر لعلاقة المشابهة بين المعنيين، وهو في المعنى ادّعاء أنَّ لفظ المشبه به اتسع حتى صار عامًّا، فدخل في عمومه المشبه، ويفرق بين المعنى بالوضع الأول والمعنى بالوضع الثاني بالقرينة، فهي مانعة من إرادة المعنى بالوضع الأصلي.
والاستعارات في ألفاظ القرآن كثيرة، منها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
فالتعبير بأمّ الكتاب تعبير مجازي بالاستعارة؛ لأنَّ الأم هي الأصل وهي التي تقوم على أولادها، ويرجعون إليها في غذائهم وعواطفهم، فتشبهت بها الآيات المحكمات التي هي أصل الدين ومرجعه, وإذا كانت متشابهات، فهي تفسير بالرجوع إلى هذا الأصل، وهو المحكمات.
ومثل ذلك قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، والتعبير مجازي بالاستعارة، والمراد بالأم الأصل، وهو الشريعة المتفقة في كل الديانات، فينسخ الله تعالى ويثبت، ولكن أصل هذه الشرائع لا يتغير، وهو الذي بينه الله تعالى في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].
ومن الاستعارة في الأفعال قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ} [التوبة: 111]. فقد شبه سبحانه وتعالى - تقديم المؤمنين أنفسهم رجاء ما عنده من نعيم مقيم ورضوان من الله أكبر، شبَّه ذلك بمبايعة بينهم وبين ربهم لكمال الالتزام عليهم، ورجاء ما طلبوه من رضوان ونعيم مقيم، وهي استعارة تمثيلية، والاستعارة التمثيلية فيها تشبه حال بحال، لا تشبيه ألفاظ مفردة بمثلها، وإن المشبه محذوف، ولذا تحقق كونها استعارة.
ومن الاستعارة التعبير عن النفاق بالمرض، وإن ذلك كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى في وصف المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125].
وفي الآيتين الكريمتين نجده سبحانه وتعالى - عبَّر عن النفاق بالمرض، وذلك للمشابهة بين مرض الأجساد والنفاق، فهو يفسد القلوب، والعقول والمدارك، كما يفسد المرض الأجساد ويضعف الحركات وقد يشلها، ومعه الوهن دائمًا.
ومن الاستعارات القرآنية التي تعلو إلى أسمى مراتب البلاغة، ولا يصل إليها بيان إنساني، إنما هو بيان القرآن فقط، قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
ففي هذا النص السامي تلاقينا عدة استعارات تبلغ أعلى درجات السمو البياني، ولنأت من آخر النص الكريم، فآخره كأوله من اجتذاب النفوس والعقول والمشاعر إلى معانيه ومبانيه، أضاف اللباس إلى الجوع، وفي ذلك تشبيه بالجوع من إضافة المشبه به على سبيل الاستعارة، فالجوع القائم المستمكن الذي يعم فيه القل ويكثر العدم، والخوف الذي يفزع النفوس، ويذهب بالاطمئنان، ويلقي بالاضطراب شبه باللباس السابغ؛ لأن اللباس يعم ويكسو الجسم كله، وكذلك الجوع إذا عمّ، والخوف إذا طمّ، فإنه لا يبقى في الجماعة أحدًا لم ينله؛ لأن الأزمات الجائحة، والخوف من عدو داهم لا ينجو منه أحد، فكان التعبير عن هذه الحالة باللباس، وفوق ذلكم فإن اللباس يلتصق بالجسم ويلازمه ولا يفارقه، وكذلك الجوع والهم والغم والخوف، وفي ذلك تصوير للأمة أو المدينة إذا عمَّها البؤس والشقاء وداهمها الخوف من كل ما يحيط بها.
وهناك استعارة أخرى، وهي قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} فإن اللباس يلبس ولا يذاق، ولكن لباس الجوع والخوف؛ لأنه يتصل بالنفس، وبالنعمة تزول بعد أن كفروا بها، عبر عنه بالذوق، فشبه حال النزول بحال الإذاقة، للنزول الذي ترتب عليه أن أحسّوا بمرارة المذاق بعد أن كانوا في بحبوحة العيش، فكان التعبير بأذاق أنسب لهذا المعنى.
وهناك استعارة تمثيلية ثبتت من مجموع العبارات، وهي تشبيه حال جماعة من الناس كانت مؤمنة مرزوقة، فلما كفرت بالنعم فلم تقم بحقها، ولم تؤد الطاعات، ولم تنته عن المنهيات بحال قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها واسعًا من كل مكان فجحدت نعمة الله تعالى فضاق زرقها، وبدلت من الأمن خوفًا، ومن الرعد جوعًا.
112 - ومن الأمثلة التي ساقها الرماني للاستعارة قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، يقول في التعليق على هذا النص الكريم: أصل الاشتعال للنار وهو في هذا النص أبلغ، وحقيقته كثرة شيب الرأس، إلّا أن الكثرة لما كانت تتزايد تزايدًا سريعًا، صارت في الانتشار والإسراع كاشتعال النار، وله موقع في البلاغة عجيب، وذلك أنه انتشر في الرأس انتشارًا لا يتلافى كاشتعال النار.
وإنَّ هذا التعبير لم يكن معروفًا عند العرب، وذلك أنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار، للسرعة وللبياض وللملازمة؛ ولأنه ينتهي بتدمير ما تتصل به، وتجعل حطامه ترابًا.
ويسوق الرماني من أمثلة الاستعارة قوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]، ويقول الرماني في ذلك: نسلخ مستعار، وحقيقته يخرج منها النهار، والاستعارة أبلغ؛ لأن السلخ إخراج الشيء مما لابسه، وعسر انتزاعه منه لالتصاقه به، فكذلك لباس الليل.
هذا ما قاله الرماني، ولكي نتصور الاستعارة وما تضفيه من معانٍ على الحقيقة المجردة نقول: إنَّ مفردات الراغب الأصفهاني جاء فيها من مادة سلخ، السلخ نزع جلد الحيوان، وقال تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أي: ننزعه، ومؤدَّى هذا الكلام أن المسلوخ المنزوع هو النهار، وأنَّ الجسم الذي انسلخ منه هو الليل، ولذلك قال تعالى كنتيجة للسلخ: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ}، أي: إنا لنزع كانت نتيجته أن صار الناس في ليل مظلم، ويكون معنى الاستعارة أنَّ القرآن الكريم شبه فيه النهار بالنسبة لليل بإهاب من النور أحاط بالليل إحاطة الإهاب بالشاة مثلًا، فلما نزع كان الليل، والجامع بين السلخ والنزع، وهو الرفع لشيء ملازم محتك، ولا شكَّ أن الاستعارة أبلغ كما ذكر الرماني، ولكن ما وجه البلاغة المفضلة، نقول فيما نحسب أن الاستعارة تدل على أن الذي أحاط هو النهار، ونسلخ لا تدل على أيهما هو المحيط بالآخر، ولكن المسلوخ هو النهار، إن هذا يدل على أن النور بالنسبة للكرة الأرضية عارض من نور الشمس، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى - الشمس فقال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 38، 39].
ومن الاستعارات الواردة في القرآن التعبير عن العلم والإيمان بالنور وعن الكفر والعناد بالظلمات، مثل قوله في أول سورة إبراهيم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، وقد قال في ذلك الرماني: كل ما جاء ذكره من الظلمات إلى النور فهو مستعار، وحقيقته من الجهل إلى العلم، والاستعارة أبلغ، لما فيه من البيان بالإخراج إلى ما يدرك بالأبصار.
وإن الظلمات ليست الجهل فقط، بل هي تشمل الجهل والكفر والجحود والعصبية الجاهلية وكل ما يسيطر على الأنفس من غير سلطان من الحق ولا العقل، ولا الاتجاه إلى الحق في طريق مستقيم لا التواء فيه، ولذلك عبَّر عن الباطل بالظلمات؛ لأن له أسبابًا متكاثفة بعضها فوق بعض والنور واحد، وهو الحق وطلبه والإذعان له.
وإن الإخراج من الظلمات إلى النور نقول أنه استعارتان، إن جلعنا الاستعارة في معنى الظلمة، فاستعير لفظ الظلمة وهي حسية للجهل والكفر وتحكم الهوى والجحود؛ لأن هذه يحدث منها ضلال في طلب الحق، كما يحدث الضلال من السير في الظلام، فكان وجه الشبه الضلال في كلٍّ، والإيمان مع الإذعان له يبعد عن الضلال بالنور إذ يبعد عن الضلال، كما يبعد النور عن السير في الطريق الضال، ويهدي إلى الطريق المستقيم، أو نقول: إن القرآن الكريم يشبِّه حال الضالين الذين يطلبون الحق ويجدون الهداية ويأخذون بها، ومع رسولهم الكتاب المبين الذي يهدي، بحال أولئك الذين يكونون في ظلام دامس لا يهتدون معه، ويخرجون من الظلمة الحالكة إلى النور، فهو تشبيه حال بحال بجامع الحيرة ثم الاهتداء في كلٍّ.
113 - ويذكر الرماني من الاستعارة البيانية قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، ويقول في ذلك الرماني: العقيم مستعار للريح، وحقيقته ريح ليس بها سحاب غيث، والاستعارة أبلغ؛ لأن حال العقيم أظهر من حال الريح التي لا تأتي بمطر؛ لأن ما يقع لأجل حال منافية أوكد مما يقع في حال منافية وأظهر، والمعنى: إنَّ الاستعارة هنا في لفظ عقيم؛ لأنَّ العقيم لا يرجى معها خير قط ولا تنتج؛ لأن العقم حال تمنع الإنتاج، فعدم إنتاج الريح بماء ذكر سببه، وهي أنها ليست منتجة بذاتها كحال العقيم التي لا تحمل ولا تلد، والوصف بالعقم مناسب لأنهم توقعوا أن يكون غيثًا، فكان فيها الهلاك، ولقد بيِّنَ الله تعالى معنى عقمها في آية أخرى، فقال تعالت كلماته: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24، 25].
وهكذا نجد الاستعارات البيانيية في القرآن كثيرًا؛ وذلك لأسباب كثيرة نذكر منها ثلاثة:
أولها: إنَّ اللغة العربية لا تتسع للمعاني النفسية السامية في القرآن، فإنه علم تدل على حقائقه ألفاظ ذات دلالة معينة، وكانت بلغة العرب الذين لم يصلوا هم ولا غيرهم إلى الحقائق العلمية والنفسية التي يتصدى القرآن الكريم لبيانها، وكشف عيون الحقائق فيها، فكان لا بُدَّ من الاستعانة بالاستعارة من الألفاظ التي وضعت للمعاني الحسية لتكشف بها العلوم النفسية والاجتماعية والعقلية، ولتقرب المعاني إلى ذهن الأعراب، ومن هم أعلى منهم إدراكًا؛ لأنه الكتاب المبين، وليخرج الأميين إلى حيث العلم وإلى الكتاب الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
ثانيها: إنّ القرآن الكريم فيه الأخبار عن الأمور المغيبة التي وقعت في الماضي، والأمور القابلة، وخصوصًا ما يكون في الجنة من نعيم وفي النار من عذاب أليم، فنعيم الجنة فيه فاكهة ونخل ورمان، وفيها أنهار من عسل مصفى، وفيها أنها من خمر لذة للشاربيين، وهكذا، ولكن أهي من نوع خمر الدنيا، وفاكهتها؟ لقد ورد عن ابن عباس أنها ليست كخمر الدنيا، وما يذكر فيها ليس من نوع ما في الدنيا، ولا من جنسه، ولقد قال عليه الصلاة والسلام: «فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
ونحن نؤمن أولًا بأنَّ نعيم الجنة حسي وعذاب النار حسي، ونؤمن ثانيًا بأنَّ كل ذلك ليس من جنس ما هو في الدنيا، بل هو أعلى وأعظم، فكأن الألفاظ التي تقال عن ذلك مستعارة من ألفاظ الدنيا، ليمكن تقريبها إلى النفوس والأشخاص الذين لا يرون إلا المحسوس.
ثالثها: إنَّ الاستعارة تثير صورًا بيانية في الألفاظ والمعاني كالتشبيه؛ لأنها تربط بين المعاني بعضها مع بعض، وفيها نقل ألفاظ الناس من معان إلى القريب منها المتناسب معها، فوق ما يثيره من أخيلة تحلق بالتالي للقرآن في أجواء من البيان، اقرأ قوله تعالى في تصوير حال من اعتراه الندم، ولا يجد مخلصًا إلا أن يعترف قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149].
فالتعبير في قوله تعالى: {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} هو استعارة في الدلالة على الندم؛ لأن النادم يحس بالسقوط، ويحس بأنه هبط، فشبه القرآن حالهم في أن الندم برح بهم بمن سقط في يده، وهو دال على سقوطه فيما لا يليق، فشبه المعنى الخاص بالندم من ألم، ومن ظهور للخطأ، أو الإحساس بالخطيئة بمن سقط في يده دليل إثمه، ولا يجد مناصًا من التخلص من جرمه، وأنَّ الصورة البيانية التي تصورها كلمة سقط، وتبين حالهم لا يقوم مقامها كلمة ندموا.
ولقد صوَّر سبحانه وتعالى حال أهل الكهف في أنهم لا يسمعون.
فقال - تبارك وتعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11].
فإن كلمة ضرب تدل على أن الله تعالى منع السماع، كأنه غلق عليهم باب السمع، وضرب عليه، فلا يفتح سنين عددًا، وذلك يصور حالهم من أنهم لا يسمعون ما يجرى، والناس يسحبونهم أيقاظًا يحسون بما يحس غيرهم، ولقد بيِّن الرماني معنى الاستعارة هنا، فقال: حقيقة معناه، منعناهم الإحساس بآذانهم من غير صمم، والاستعارة أبلغ؛ لأنه كالضرب على الكتاب فلا يقرأ، كذلك المنع من الإحساس فلا يحس، وإنما دلَّ على الإحساس بالضرب على الآذان دون الضرب على الأبصار، لأنه أدلّ على المراد من حيث كان قد يضرب على الأبصار من غير ذهاب للبصر فلا يبطل الإدراك رأسًا، وذلك بتغميض الأجفان، وليس كذلك منع الأسماع من غير صمم في الآذان؛ لأنه إذا ضرب عليها دلَّ على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك ولأنَّ الآذان كانت طريقهم إلى الانتباه، فلما ضربوا عليها لم يكن سبيل الله.
ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الضرب على الآذان يفيد فقد الإحساس المطلق بعمل الله، وهو غير الضرب على الأبصار؛ لأن عدم الإبصار لا يقتضي فقد الإحساس؛ إذ قد يكون غير مبصر بإغماض، ولكن الإسماع لا يفقده مع بقاء الآلة سليمة إلا بفقد الإحساس، فإذا كان الله تعالى قد ضرب على آذانهم مع بقاء الآذان سليمة، فإن ذلك لا يكون إلا بفقد الإحساس، والله على كل شيء قدير.