فصل: الفصل الأول: في استدانة العبد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


الفصل الأول‏:‏

في استدانة العبد يعني أخذه بالدين‏,‏ يقال‏:‏ أدان واستدان وتدين قال الشاعر‏:‏ يؤنبني في الدين قومي وإنما تدينت فيما سوف يكسبهم حمدا والعبيد قسمان محجور عليه فما لزمه من الدين بغير رضا سيده‏,‏ مثل أن يقترض أو يشتري شيئا في ذمته ففيه روايتان إحداهما‏,‏ يتعلق برقبته اختارها الخرقي وأبو بكر لأنه دين لزمه بغير إذن سيده فتعلق برقبته‏,‏ كأرش جنايته والثانية يتعلق بذمته يتبعه الغريم به إذا أعتق وأيسر وهذا مذهب الشافعي لأنه متصرف في ذمته بغير إذن سيده فتعلق بذمته كعوض الخلع من الأمة‏,‏ وكالحر القسم الثاني المأذون له في التصرف أو في الاستدانة‏,‏ فما يلزمه من الدين هل يتعلق بذمة السيد أو برقبته‏؟‏ على روايتين وقال مالك والشافعي‏:‏ إن كان في يده مال‏,‏ قضيت ديونه منه وإن لم يكن في يده شيء تعلق بذمته‏,‏ يتبع به إذا عتق وأيسر لأنه دين ثبت برضا من له الدين أشبه غير المأذون له فوجب أن لا يتعلق برقبته‏,‏ كما لو استقرض بغير إذن سيده وقال أبو حنيفة‏:‏ يباع إذا طالب الغرماء بيعه وهذا معناه أنه تعلق برقبته لأنه دين ثبت برضا من له الدين فيباع فيه‏,‏ كما لو رهنه ولنا أنه إذا أذن له في التجارة فقد أغرى الناس بمعاملته‏,‏ وأذن فيها فصار ضامنا كما لو قال لهم‏:‏ داينوه‏,‏ أو أذن في استدانة تزيد على قيمته ولا فرق بين الدين الذي لزمه في التجارة المأذون فيها‏,‏ أو فيما لم يؤذن له فيه مثل إن أذن له في التجارة في البر فاتجر في غيره‏,‏ فإنه لا ينفك عن التغرير إذ يظن الناس أنه مأذون له في ذلك أيضا‏.‏

الفصل الثاني‏:‏

فيما لزمه من الدين من أروش جناياته أو قيم متلفاته‏,‏ فهذا يتعلق برقبة العبد على كل حال مأذونا‏,‏ أو غير مأذون رواية واحدة وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وكل ما يتعلق برقبته فإن السيد يتخير بين تسليمه للبيع وبين فدائه‏,‏ فإن سلمه فبيع وكان ثمنه أقل من أرش جنايته فليس للمجني عليه إلا ذلك لأن العبد هو الجاني‏,‏ فلا يجب على غيره شيء وإن كان ثمنه أكثر فالفضل لسيده وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد‏,‏ أن السيد لا يرجع بالفضل ولعله يذهب إلى أنه دفعه إليه عوضا عن الجناية فلم يبق لسيده فيه شيء كما لو ملكه إياه عوضا عن الجناية وهذا ليس بصحيح فإن المجني عليه لا يستحق أكثر من قدر أرش الجناية عليه‏,‏ كما لو جنى عليه حر والجاني لا يجب عليه أكثر من قدر جنايته ولأن الحق تعلق بعينه‏,‏ فكان الفضل من ثمنه لسيده كالرهن ولا يصح قولهم‏:‏ إنه دفعه عوضا لأنه لو كان عوضا لملكه المجني عليه ولم يبع في الجناية‏,‏ وإنما دفعه ليباع فيؤخذ منه عوض الجناية ويرد إليه الباقي‏,‏ ولذلك لو أتلف درهما لم يبطل حق سيده منه بذلك لعجزه عن أداء الدرهم من غير ثمنه وإن اختار السيد فداءه لزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته لأن أرش الجناية إن كان أكثر‏,‏ فلا يتعلق بغير العبد الجاني لعدم الجناية من غيره وإنما تجب قيمته وإن كان أقل‏,‏ فلم يجب بالجناية إلا هو وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه أرش جنايته بالغا ما بلغ لأنه يجوز أن يرغب فيه راغب‏,‏ فيشتريه بأكثر من ثمنه فإذا منع بيعه لزمه جميع الأرش لتفويته ذلك وللشافعي قولان كالروايتين‏.‏

الفصل الثالث‏:‏

في تصرفاته أما غير المأذون‏,‏ فلا يصح بيعه ولا شراؤه بعين المال لأنه تصرف من المحجور فيما حجر عليه فيه فأشبه المفلس ولأنه تصرف في ملك غيره بغير إذنه‏,‏ فهو كتصرف الفضولي ويتخرج أن يصح ويقف على إجازة السيد كذلك وأما شراؤه بثمن في ذمته واقتراضه فيحتمل أن لا يصح لأنه محجور عليه أشبه السفيه‏,‏ ويحتمل أن يصح لأن الحجر لحق غيره أشبه المفلس والمريض ويتفرع عن هذين الوجهين أن التصرف وإن كان فاسدا‏,‏ فللبائع والمقرض أخذ ماله إن كان باقيا سواء كان في يد العبد أو السيد‏,‏ وإن كان تالفا فله قيمته أو مثله إن كان مثليا‏,‏ فإن تلف في يد السيد رجع بذلك عليه لأن عين ماله تلف في يده وإن شاء كان ذلك متعلقا برقبة العبد لأنه الذي أخذه منه وإن تلف في يد العبد‏,‏ فالرجوع عليه وهل يتعلق برقبته أو ذمته‏؟‏ على روايتين وإن قلنا‏:‏ التصرف صحيح والمبيع في يد العبد فللبائع فسخ البيع‏,‏ وللمقرض الرجوع فيما أقرض لأنه قد تحقق إعسار المشتري والمقترض فهو أسوأ حالا من الحر المعسر وإن كان السيد قد انتزعه من يد العبد ملكه بذلك‏,‏ وله ذلك لأنه أخذ من عبده مالا في يده بحق فهو كالصيد فإذا ملكه السيد‏,‏ كان كهلاكه في يد العبد ولا يملك البائع والمقرض انتزاعه من السيد بحال وإن كان قد تلف‏,‏ استقر ثمنه في رقبة العبد أو في ذمته سواء تلف في يد العبد أو السيد وأما العبد المأذون له فيصح تصرفه في قدر ما أذن له فيه لا نعلم فيه خلافا‏,‏ ولا يصح فيما زاد نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا أذن له في نوع انفك الحجر عنه وجاز له التصرف مطلقا لأن الحجر لا يتجزأ‏,‏ فإذا زال بعضه زال كله ولنا أنه متصرف بالإذن‏,‏ فاختص تصرفه بمحل الإذن كالوكيل وقولهم‏:‏ إن الحجر لا يتجزأ لا يصح‏,‏ فإنه لو صرح بالإذن له في بيع عين ونهيه عن بيع أخرى صح وكذلك في الشراء‏,‏ كالوكيل وإن أذن له السيد في ضمان أو كفالة ففعل‏,‏ صح وهل يتعلق بذمة السيد أو رقبة العبد‏؟‏ على وجهين وإن رأى السيد عبده يتجر فلم ينهه‏,‏ لم يصر بذلك مأذونا له‏.‏

الفصل الرابع‏:‏

في تصرفاته إن كان مأذونا له في التجارة قبل إقراره في قدر ما أذن له‏,‏ ولم يقبل فيما زاد ولا يقبل إقرار غير المأذون له بالمال فإن أقر بعين في يده أو دين يتعلق برقبته لم يقبل على سيده لأنه يقر بحق على غيره فلم يقبل‏,‏ كما لو أقر أن سيده باعه ويثبت في ذمته يتبع به بعد العتق وإن أقر بجنايته استوى في ذلك المأذون له وغيره وينقسم ذلك أقساما أربعة أحدها‏,‏ جناية موجبها المال كإتلافه أو جناية خطأ‏,‏ أو شبه عمد أو جناية عمد فيما لا قصاص فيه كالجائفة‏,‏ ونحوها فلا يقبل إقراره بها لأنه إقرار بالمال فلم يقبل‏,‏ كما لو أقر بدراهم أو دنانير القسم الثاني جناية موجبها حد سوى السرقة‏,‏ أو قصاص فيما دون النفس فيقبل إقراره بذلك وبه قال أبو حنيفة ومالك‏,‏ والشافعي وقال له زفر وداود والمزني‏,‏ وجرير‏:‏ لا يقبل لأنه يسقط به حق السيد فلا يقبل كالإقرار بجناية الخطإ ولنا‏,‏ ما روي عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه قطع يد عبد بإقراره بالسرقة وجلد عبدا أقر عنده بالزنا نصف الحد ولا مخالف له في الصحابة فكان إجماعا ولأن ما لا يقبل إقرار السيد فيه على العبد‏,‏ يقبل فيه إقرار العبد كالطلاق ولأن العبد غير متهم فيه لأن ضرره به أخص وهو بألمه أمس‏,‏ فقبل إقراره كما لو أقرت به الزوجة وخرج على هذين المعنيين جناية الخطإ فإن إقرار السيد بها مقبول ولا يتضرر العبد بها القسم الثالث‏,‏ إقراره بالسرقة يقبل في الحد فيقطع‏,‏ ولا يقبل في المال سواء كانت العين تالفة أو باقية في يد السيد‏,‏ أو في يد العبد وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن لا يقطع إذا أقر بسرقة عين موجودة في يده وبهذا قال أبو حنيفة لأن العين محكوم بها لسيده فلا يقطع بسرقة عين لسيده ولأن المطالبة بالمسروق شرط في القطع‏,‏ وهذه لا يملك غير السيد المطالبة بها ولأن هذا شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولنا‏,‏ خبر على ـ رضي الله عنه ـ ولأنه مقر بسرقة عين تبلغ نصابا فوجب قطعه كما لو أقر حر بسرقة عين في يد غيره‏,‏ وما ذكروه يبطل بهذه الصورة وإنما لم ترد العين إلى المسروق منه لحق السيد وأما في حق العبد‏,‏ فقد يثبت للمقر له ولهذا لو عتق وعادت العين إلى يده لزمه ردها إلى المقر له القسم الرابع‏,‏ الإقرار بما يوجب القصاص في النفس فروي عن أحمد أنه لا يقبل وعموم قول الخرقي إن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا‏,‏ أو قصاصا أو طلق زوجته لزمه ذلك يقتضي قبول إقراره‏,‏ وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأنه أقر بما يوجب قصاصا‏,‏ فقبل كإقراره بقطع اليد ولأنه أحد نوعي القصاص‏,‏ فقبل إقراره به كالآخر ولأنه لا يقبل إقرار سيده عليه به فقبل إقراره به‏,‏ كالحد واحتج أصحابنا بأن مقتضى القياس أن لا يقبل إقراره بالقصاص أصلا لأنه إقرار على مال سيده ولأنه متهم‏,‏ إذ يحتمل أن يكون عن مواطأة بينهما ليعفو على مال فيستحق رقبة العبد‏,‏ ولذلك لم تحمل العاقلة اعترافا فتركنا موجب القياس لخبر على ـ رضي الله عنه ـ ففيما عداه يبقى على موجب القياس ويفارق القصاص في النفس القصاص في الطرف لأنه قد يحتمل أنه أراد التخلص من سيده ولو بفوات نفسه وكل موضع حكمنا بقبول إقراره بالقصاص‏,‏ فحكمه حكم الثابت بالبينة فلولي الجناية العفو والاستيفاء‏,‏ والعفو على مال فإن عفا تعلق الأرش برقبة العبد‏,‏ على ما مر بيانه ويحتمل أن لا يملك العفو على مال لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الإقرار بمال‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وبيع الكلب باطل وإن كان معلما‏]‏

لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل أي كلب كان وبه قال الحسن‏,‏ وربيعة وحماد والأوزاعي‏,‏ والشافعي وداود وكره أبو هريرة ثمن الكلب ورخص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر بن عبد الله وعطاء‏,‏ والنخعي وجوز أبو حنيفة بيع الكلاب كلها وأخذ ثمنها وعنه رواية في الكلب العقور‏,‏ أنه لا يجوز بيعه واختلف أصحاب مالك فمنهم من قال‏:‏ لا يجوز ومنهم من قال‏:‏ الكلب المأذون في إمساكه يجوز بيعه‏,‏ ويكره واحتج من أجاز بيعه بما روى عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد‏)‏ ولأنه يباح الانتفاع به‏,‏ ويصح نقل اليد فيه والوصية به فصح بيعه‏,‏ كالحمار ولنا ما روي أبو مسعود الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏نهى عن ثمن الكلب‏,‏ ومهر البغي وحلوان الكاهن‏)‏ متفق عليه وعن رافع بن خديج قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏ثمن الكلب خبيث‏,‏ ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث‏)‏ متفق عليهما وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب فإن جاء يطلبه فاملئوا كفه ترابا‏)‏ رواه أبو داود ولأنه حيوان نهى عن اقتنائه في غير حال الحاجة إليه‏,‏ أشبه الخنزير أو حيوان نجس العين أشبه الخنزير فأما حديثهم‏,‏ فقال أحمد‏:‏ هذا من الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف وقال الدارقطني‏:‏ الصحيح أنه موقوف على جابر وقال الترمذي‏:‏ لا يصح إسناد هذا الحديث وقد روى عن أبي هريرة‏,‏ ولا يصح أيضا ويحتمل أنه أراد ولا كلب صيد وقد جاءت اللغة بمثل ذلك‏,‏ قال الشاعر‏:‏ وكل أخ مفارقه أخوه ** لعمر أبيك إلا الفرقدان

أي‏:‏ والفرقدان ثم هذا الحديث حجة على من أباح بيع غير كلب الصيد‏.‏

فصل‏:‏

ولا تجوز إجارته نص عليه أحمد وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم‏:‏ يجوز لأنها منفعة مباحة فجازت المعاوضة عنها كنفع الحمير ولنا‏,‏ أنه حيوان محرم بيعه لخبثه فحرمت إجارته كالخنزير وقياسهم ينتقض بضراب الفحل‏,‏ فإنها منفعة مباحة ولا يجوز إجارتها ولأن إباحة الانتفاع لم تبح بيعه‏,‏ فكذلك إجارته ولأن منفعته لا تضمن في الغصب فإنه لو غصبه غاصب مدة‏,‏ لم يلزمه لذلك عوض فلم يجز أخذ العوض عنها في الإجارة كنفع الخنزير‏.‏

فصل‏:‏

وتصح الوصية بالكلب الذي يباح اقتناؤه لأنها نقل لليد فيه من غير عوض وتصح هبته لذلك وقال القاضي‏:‏ لا تصح لأنها تمليك في الحياة‏,‏ أشبهت البيع والأول أصح ويفارق البيع لأنه يؤخذ عوضه وهو محرم ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ومن قتله وهو معلم‏,‏ فقد أساء ولا غرم عليه‏]‏

أما قتل المعلم فحرام وفاعله مسيء ظالم‏,‏ وكذلك كل كلب مباح إمساكه لأنه محل منتفع به يباح اقتناؤه فحرم إتلافه كالشاة ولا نعلم في هذا خلافا ولا غرم على قاتله وبهذا قال الشافعي وقال مالك وعطاء‏:‏ عليه الغرم لما ذكرنا في تحريم إتلافه ولنا‏,‏ أنه محل يحرم أخذ عوضه لخبثه فلم يجب غرمه بإتلافه كالخنزير‏,‏ وإنما يحرم إتلافه لما فيه من الإضرار وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الضرر والإضرار‏.‏

فصل‏:‏

‏ فأما قتل ما لا يباح إمساكه فإن الكلب الأسود البهيم يباح قتله لأنه شيطان قال عبد الله بن الصامت‏:‏ سألت أبا ذر فقلت‏:‏ ‏(‏ما بال الأسود من الأحمر من الأبيض‏؟‏ فقال‏:‏ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني فقال‏:‏ الكلب الأسود شيطان‏)‏ رواه مسلم‏,‏ وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال‏:‏ ‏(‏لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم‏)‏ ويباح قتل الكلب العقور لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم الغراب‏,‏ والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور‏)‏ متفق عليه‏,‏ ويقتل كل واحد من هذين وإن كان معلما للخبرين وعلى قياس الكلب العقور كل ما آذى الناس‏,‏ وضرهم في أنفسهم وأموالهم يباح قتله لأنه يؤذي بلا نفع أشبه الذئب‏,‏ وما لا مضرة فيه لا يباح قتله لما ذكرنا من الخبر وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ‏(‏أمر بقتل الكلاب حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله‏,‏ ثم نهى عن قتلها وقال‏:‏ عليكم بالأسود البهيم ذي الطفيتين فإنه شيطان‏)‏ رواه مسلم‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجوز اقتناء الكلب‏,‏ إلا كلب الصيد أو كلب ماشية أو حرث لما روي عن أبي هريرة‏,‏ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال‏:‏ ‏(‏من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراط‏)‏ وعن ابن عمر قال‏:‏ سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان‏)‏ قال سالم‏:‏ وكان أبو هريرة يقول‏:‏ أو كلب حرث متفق عليه وإن اقتناه لحفظ البيوت‏,‏ لم يجز للخبر ويحتمل الإباحة وهو قول أصحاب الشافعي لأنه في معنى الثلاثة فيقاس عليها والأول أصح لأن قياس غير الثلاثة عليها يبيح ما يتناول الخبر تحريمه قال القاضي‏:‏ وليس هو في معناها‏,‏ فقد يحتال اللص لإخراجه بشيء يطعمه إياه ثم يسرق المتاع وأما الذئب فلا يحتمل هذا في حقه‏,‏ ولأن اقتناءه في البيوت يؤذي المارة بخلاف الصحراء‏.‏

فصل‏:‏

فأما تربية الجرو الصغير لأحد الأمور الثلاثة فيجوز في أقوى الوجهين لأنه قصده لذلك‏,‏ فيأخذ حكمه كما يجوز بيع العبد الصغير والجحش الصغير الذي لا نفع فيه في الحال لماله إلى الانتفاع ولأنه لو لم يتخذ الصغير‏,‏ ما أمكن جعل الكلب للصيد إذا لا يصير معلما إلا بالتعليم ولا يمكن تعليمه إلا بتربيته‏,‏ واقتنائه مدة يعلمه فيها قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله‏)‏ ولا يوجد كلب معلم بغير تعليم والوجه الثاني لا يجوز لأنه ليس من الثلاثة‏.‏

فصل‏:‏

ومن اقتنى كلبا للصيد ثم ترك الصيد مدة‏,‏ وهو يريد العود إليه لم يحرم اقتناؤه في مدة تركه لأن ذلك لا يمكن التحرز منه وكذلك لو حصد صاحب الزرع زرعه أبيح له إمساك الكلب‏,‏ إلى أن يزرع زرعا آخر ولو هلكت ماشيته فأراد شراء غيرها فله إمساك كلبها لينتفع به في التي يشتريها فأما إن اقتنى كلب الصيد من لا يصيد به‏,‏ احتمل الجواز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى كلب الصيد مطلقا واحتمل المنع لأنه اقتناه لغير حاجة أشبه غيره من الكلاب ومعنى كلب الصيد أي كلب يصيد به وهكذا الاحتمال لأن في من اقتنى كلبا ليحفظ له حرثا‏,‏ أو ماشية إن حصلت أو يصيد به إن احتاج إلى الصيد‏,‏ وليس له في الحال حرث ولا ماشية يحتمل الجواز لقصده ذلك‏,‏ كما لو حصد الزرع وأراد أن يزرع غيره‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجوز بيع الخنزير ولا الميتة‏,‏ ولا الدم قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على القول به وأجمعوا على تحريم الميتة والخمر وعلى أن بيع الخنزير وشراءه‏,‏ حرام وذلك لما روى جابر قال‏:‏ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة يقول‏:‏ ‏(‏إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير‏,‏ والأصنام‏)‏ متفق عليه ولا يجوز بيع ما لا منفعة فيه كالحشرات كلها وسباع البهائم التي لا تصلح للاصطياد‏,‏ كالأسد والذئب وما لا يؤكل ولا يصاد به من الطير كالرخم‏,‏ والحدأة والغراب الأبقع وغراب البين وبيضها‏,‏ فكل هذا لا يجوز بيعه لأنه لا نفع فيه فأخذ ثمنه أكل مال بالباطل‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجوز بيع السرجين النجس وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز لأن أهل الأمصار يتبايعونه لزروعهم من غير نكير‏,‏ فكان إجماعا ولنا أنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة وما ذكروه فليس بإجماع‏,‏ فإن الإجماع اتفاق أهل العلم ولم يوجد ولأنه رجيع نجس‏,‏ فلم يجز بيعه كرجيع الآدمي‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجوز بيع الحر ولا ما ليس بمملوك‏,‏ كالمباحات قبل حيازتها وملكها ولا نعلم في ذلك خلافا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏قال الله عز وجل‏:‏ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه‏,‏ ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره‏)‏ رواه البخاري‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏(‏ وبيع الفهد والصقر المعلم‏,‏ جائز وكذلك بيع الهر وكل ما فيه المنفعة ‏)‏ وجملة ذلك‏,‏ أن كل مملوك أبيح الانتفاع به يجوز بيعه إلا ما استثناه الشرع‏,‏ من الكلب وأم الولد والوقف وفي المدبر والمكاتب‏,‏ والزيت النجس اختلاف نذكره في موضعه -إن شاء الله تعالى- لأن الملك سبب لإطلاق التصرف‏,‏ والمنفعة المباحة يباح له استيفاؤها فجاز له أخذ عوضها وأبيح لغيره بذل ماله فيها‏,‏ توصلا إليها ودفعا لحاجته بها كسائر ما أبيح بيعه‏,‏ وسواء في هذا ما كان طاهرا كالثياب والعقار‏,‏ وبهيمة الأنعام والخيل والصيود‏,‏ أو مختلفا في نجاسته كالبغل والحمار‏,‏ وسباع البهائم وجوارح الطير التي تصلح للصيد‏,‏ التي كالفهد والصقر والبازي‏,‏ والشاهين والعقاب والطير المقصود صوته‏,‏ كالهزاز والبلبل والببغاء‏,‏ وأشباه ذلك فكله يجوز بيعه وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر عبد العزيز وابن أبي موسى‏:‏ لا يجوز بيع الفهد‏,‏ والصقر ونحوهما لأنها نجسة فلم يجز بيعها‏,‏ كالكلب ولنا أنه حيوان أبيح اقتناؤه وفيه نفع مباح‏,‏ من غير وعيد في حبسه فأبيح بيعه كالبغل وما ذكراه يبطل بالبغل‏,‏ والحمار فإنه لا خلاف في إباحة بيعهما وحكمها حكم سباع البهائم في الطهارة‏,‏ والنجاسة وإباحة الاقتناء والانتفاع وأما الكلب فإن الشرع توعد على اقتنائه وحرمه إلا في حال الحاجة‏,‏ فصارت إباحته ثابتة بطريق الضرورة بخلاف غيره‏,‏ ولأن الأصل الإباحة بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحل الله البيع‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏‏.‏ ولما ذكرنا من المعنى خرج منه ما استثناه الشرع لمعان غير موجودة في هذا فبقي على أصل الإباحة وأما الهر فقال الخرقي‏:‏ يجوز بيعها وبه قال ابن عباس‏,‏ والحسن وابن سيرين والحكم‏,‏ وحماد والثوري ومالك‏,‏ والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وعن أحمد أنه كره ثمنها وروي ذلك عن أبي هريرة‏,‏ وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد واختاره أبو بكر لما روى مسلم عن جابر‏,‏ أنه ‏(‏سئل عن ثمن السنور فقال‏:‏ زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك‏)‏ وفي لفظ رواه أبو داود عن جابر ‏(‏‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن السنور‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن وفي إسناده اضطراب ولنا‏,‏ ما ذكرنا فيما يصاد به من السباع ويحمل الحديث على غير المملوك منها أو ما لا نفع فيه منها بدليل ما ذكرنا‏,‏ ولأن البيع شرع طريقا للتوصل إلى قضاء الحاجة واستيفاء المنفعة المباحة ليصل كل واحد إلى الانتفاع بما في يد صاحبه مما يباح الانتفاع به‏,‏ فينبغي أن يشرع ذلك فيه ليصل كل واحد إلى الانتفاع بما في يد صاحبه فما يباح الانتفاع به ينبغي أن يجوز بيعه‏.‏

فصل‏:‏

فإن كان الفهد والصقر ونحوهما‏,‏ مما ليس بمعلم ولا يقبل التعليم لم يجز بيعه لعدم النفع به وإن كان مما يمكن تعليمه‏,‏ جاز بيعه لأن مآله إلى الانتفاع فأشبه الجحش الصغير‏.‏

فصل‏:‏

فأما ما يصاد عليه كالبومة التي يجعلها شباكا‏,‏ لتجمع الطير إليها فيصيده الصياد فيحتمل جواز بيعها‏,‏ للنفع الحاصل منها ويحتمل المنع لأن ذلك مكروه لما فيه من تعذيب الحيوان وكذلك اللقلق ونحوه‏.‏

فصل‏:‏

فأما بيض ما لا يؤكل لحمه من الطير فإن كان مما لا نفع فيه‏,‏ لم يجز بيعه طاهرا كان أو نجسا وإن كان ينتفع به بأن يصير فرخا‏,‏ وكان طاهرا جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به أشبه أصله وإن كان نجسا‏,‏ كبيض البازي والصقر ونحوه‏,‏ فحكمه حكم فرخه وقال القاضي‏:‏ لا يجوز بيعه لأنه نجس لا ينتفع به في الحال وهذا ملغي بفرخه وبالجحش الصغير‏.‏

فصل‏:‏

قال أحمد‏:‏ أكره بيع القرد قال ابن عقيل‏:‏ هذا محمول على بيعه للإطافة به‏,‏ واللعب فأما بيعه لمن ينتفع به كحفظ المتاع والدكان ونحوه‏,‏ فيجوز لأنه كالصقر والبازي وهذا مذهب الشافعي وقياس قول أبي بكر وابن أبي موسى المنع من بيعه مطلقا‏.‏

فصل‏:‏

وفي بيع العلق التي ينتفع بها مثل التي تعلق على وجه صاحب الكلف فتمص الدم‏,‏ والديدان التي تترك في الشص فيصاد بها السمك وجهان أصحهما جواز بيعها لحصول نفعها‏,‏ فهي كالسمك والثاني لا يجوز لأنها لا ينتفع بها إلا نادرا‏,‏ فأشبهت ما لا نفع فيه‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز بيع دود القز وبزره وقال أبو حنيفة في رواية عنه‏:‏ إن كان مع دود القز قز‏,‏ جاز بيعه وإلا فلا لأنه لا ينتفع بعينه فهو كالحشرات وقيل‏:‏ لا يجوز بيع بزره ولنا أن الدود حيوان طاهر يجوز اقتناؤه لتملك ما يخرج منه‏,‏ أشبه البهائم ولأن الدود وبزره طاهر منتفع به‏,‏ فجاز بيعه كالثوب وقوله‏:‏ لا ينتفع بعينه يبطل بالبهائم التي لا يحصل منها نفع‏,‏ سوى النتاج ويفارق الحشرات التي لا نفع فيها أصلا‏,‏ فإن نفع هذه كثير لأن الحرير الذي هو أشرف ملابس الدنيا إنما يحصل منها‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز بيع النحل إذا شاهدها محبوسة بحيث لا يمكنها أن تمتنع وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز بيعها منفردة لما ذكر في دود القز ولنا‏,‏ أنه حيوان طاهر يخرج من بطونها شراب فيه منافع للناس فجاز بيعه‏,‏ كبهيمة الأنعام واختلف أصحابنا في بيعها في كواراتها فقال القاضي‏:‏ لا يجوز لأنه لا يمكن مشاهدة جميعها ولأنها لا تخلو من عسل يكون مبيعا معها‏,‏ وهو مجهول وقال أبو الخطاب‏:‏ يجوز بيعها في كواراتها ومنفردة عنها فإنه يمكن مشاهدتها في كواراتها إذا فتح رأسها‏,‏ ويعرف كثرته من قلته وخفاء بعضه لا يمنع صحة بيعه‏,‏ كالصبرة وكما لو كان في وعاء فإن بعضه يكون على بعض‏,‏ فلا يشاهد إلا ظاهره والعسل يدخل في البيع تبعا فلا تضر جهالته‏,‏ كأساسات الحيطان فإن لم يمكن مشاهدة النحل لكونه مستورا بأقراصه ولم يعرف لم يجز بيعه لجهالته‏.‏

فصل‏:‏

ذكر الخرقي‏,‏ أن الترياق لا يؤكل لأنه يقع فيه لحوم الحيات فعلى هذا لا يجوز بيعه لأن نفعه إنما يحصل بالأكل‏,‏ وهو محرم فخلا من نفع مباح فلم يجز بيعه‏,‏ كالميتة ولا يجوز التداوي به ولا بسم الأفاعي فأما السم من الحشائش والنبات‏,‏ فإن كان لا ينتفع به أو كان يقتل قليله لم يجز بيعه لعدم نفعه‏,‏ وإن انتفع به وأمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا‏,‏ جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به فأشبه بقية المأكولات‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجوز بيع جلد الميتة قبل الدبغ‏,‏ قولا واحدا قاله ابن أبي موسى وفي بيعه بعد الدبغ عنه خلاف وقد روى حرب عن أحمد أنه قال‏:‏ ‏(‏إن النبي - صلى الله عليه وسلم- نهى عن ثمن الكلب‏)‏ وأما غير ذلك‏,‏ نحو ريش الطير التي لها مخلب أو بعض جلود السباع التي لها أنياب فإن بيعها أسهل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- إنما نهى عن أكل لحومها والصحيح عنه‏,‏ أنه لا يجوز وهذا ينبني على الحكم بنجاسة جلود الميتة وأنها لا تطهر بالدباغ وقد ذكرنا ذلك في بابه‏.‏

فصل‏:‏

فأما بيع لبن الآدميات‏,‏ فقال أحمد‏:‏ أكرهه واختلف أصحابنا في جوازه فظاهر كلام الخرقي جوازه لقوله‏:‏ ‏"‏وكل ما فيه المنفعة‏"‏‏.‏ وهذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي وذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لأنه مائع خارج من آدمية‏,‏ فلم يجز بيعه كالعرق ولأنه من آدمي‏,‏ فأشبه سائر أجزائه والأول أصح لأنه لبن طاهر منتفع به فجاز بيعه كلبن الشاه‏,‏ ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر فأشبه المنافع ويفارق العرق فإنه لا نفع فيه‏,‏ ولذلك لا يباع عرق الشاة ويباع لبنها وسائر أجزاء الآدمي يجوز بيعها فإنه يجوز بيع العبد‏,‏ والأمة وإنما حرم بيع الحر لأنه ليس بمملوك وحرم بيع العضو المقطوع لأنه لا نفع فيه‏.‏

فصل‏:‏

واختلفت الرواية في بيع رباع مكة وإجارة دورها‏,‏ فروي أن ذلك غير جائز وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأبي عبيد وكره إسحاق لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏في مكة‏:‏ لا تباع رباعها ولا تكرى بيوتها‏)‏ رواه الأثرم بإسناده وعن مجاهد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال‏:‏ ‏(‏مكة حرام بيع رباعها‏,‏ حرام إجارتها‏)‏ وهذا نص رواه سعيد بن منصور في ‏"‏ سننه ‏"‏ وروى أنها كانت تدعى السوائب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكره مسدد في ‏"‏ مسنده ‏"‏‏,‏ ولأنها فتحت عنوة ولم تقسم فكانت موقوفة‏,‏ فلم يجز بيعها كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة ولم يقسموها‏,‏ والدليل على أنها فتحت عنوة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين‏,‏ وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار‏)‏ متفق عليه وروت أم هانئ قالت‏:‏ ‏(‏أجرت حموين لي‏,‏ فأراد على أخي قتلهما فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت‏:‏ يا رسول الله إني أجرت حموين لي فزعم ابن أمي على أنه قاتلهما فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ قد أجرنا من أجرت‏,‏ أو أمنا من أمنت يا أم هانئ‏)‏ متفق عليه ولذلك ‏(‏أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ بقتل أربعة فقتل منهم ابن خطل ومقيس بن صبابة‏)‏ وهذا يدل على أنها فتحت عنوة والرواية الثانية‏,‏ أنه يجوز بيع رباعها وإجارة بيوتها وروى ذلك عن طاوس وعمرو بن دينار وهذا قول الشافعي وابن المنذر وهو أظهر في الحجة لأن ‏(‏النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له‏:‏ أين ننزل غدا‏؟‏ قال‏:‏ وهل ترك لنا عقيل من رباع‏؟‏‏)‏ متفق عليه يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب لأنه ورثه دون إخوته لكونه كان على دينه دونهما فلو كانت غير مملوكة‏,‏ لما أثر بيع عقيل شيئا ولأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت لهم دور بمكة لأبي بكر والزبير وحكيم بن حزام وأبي سفيان‏,‏ وسائر أهل مكة فمنهم من باع ومنهم من ترك داره‏,‏ فهي في يد أعقابهم وقد باع حكيم بن حزام دار الندوة فقال ابن الزبير‏:‏ بعت مكرمة قريش فقال‏:‏ يا ابن أخي ذهبت المكارم إلا التقوى أو كما قال واشترى معاوية دارين واشترى عمر دار السجن من صفوان بن أمية‏,‏ بأربعة آلاف ولم يزل أهل مكة يتصرفون في دورهم تصرف الملاك بالبيع وغيره ولم ينكره منكر‏,‏ فكان إجماعا وقد قرره النبي - صلى الله عليه وسلم- بنسبة دورهم إليهم فقال‏:‏ ‏(‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏,‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن‏)‏ وأقرهم في دورهم ورباعهم ولم ينقل أحدا عن داره ولا وجد منه ما يدل على زوال أملاكهم‏,‏ وكذلك من بعده من الخلفاء حتى إن عمر ـ رضي الله عنه ـ مع شدته في الحق لما احتاج إلى دار السجن‏,‏ لم يأخذها إلا بالبيع ولأنها أرض حية لم يرد عليها صدقة محرمة فجاز بيعها كسائر الأرض وما روي من الأحاديث في خلاف هذا فهو ضعيف وأما كونها فتحت عنوة‏,‏ فهو الصحيح الذي لا يمكن دفعه إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أقر أهلها فيها على أملاكهم ورباعهم‏,‏ فيدل ذلك على أنه تركها لهم كما ترك لهوازن نساءهم وأبناءهم وعلى القول الأول من كان ساكن دار أو منزل فهو أحق به‏,‏ يسكنه ويسكنه وليس له بيعه ولا أخذ أجرته‏,‏ ومن احتاج إلى مسكن فله بذل الأجرة فيه وإن احتاج إلى الشراء فله ذلك‏,‏ كما فعل عمر رضي الله عنه وكان أبو عبد الله إذا سكن أعطاهم أجرتها فإن سكن بأجرة فأمكنه أن لا يدفع إليهم الأجرة جاز له ذلك لأنهم لا يستحقونها وقد روي أن سفيان سكن في بعض رباع مكة‏,‏ وهرب ولم يعطهم أجرة فأدركوه‏,‏ فأخذوها منه وذكر لأحمد فعل سفيان فتبسم فظاهر هذا‏,‏ أنه أعجبه قال ابن عقيل‏:‏ والخلاف في غير مواضع المناسك أما بقاع المناسك كموضع السعي والرمي فحكمه حكم المساجد‏,‏ بغير خلاف‏.‏

فصل‏:‏

ومن بنى بناء بمكة بآلة مجلوبة من غير أرض مكة جاز بيعها‏,‏ كما يجوز بيع أبنية الوقوف وأنقاضها وإن كانت من تراب الحرم وحجارته انبنى جواز بيعها على الروايتين في بيع رباع مكة لأنها تابعة لمكة وهكذا تراب كل وقف وأنقاضه قال أحمد‏:‏ وأما البناء بمكة فإني أكرهه قال إسحاق‏:‏ البناء بمكة على وجه الاستخلاص لنفسه‏,‏ لا يحل وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏قيل له‏:‏ ألا تبني لك بمنى بيتا‏؟‏ قال‏:‏ منى مناخ لمن سبق‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

قال أحمد‏:‏ لا أعلم في بيع المصاحف رخصة ورخص في شرائها وقال‏:‏ الشراء أهون وكره بيعها ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وسعيد بن جبير وإسحاق وقال ابن عمر‏:‏ وددت أن الأيدي تقطع في بيعها وقال أبو الخطاب‏:‏ يجوز بيع المصحف مع الكراهة وهل يكره شراؤه وإبداله‏؟‏ على روايتين ورخص في بيعها الحسن والحكم وعكرمة والشافعي‏,‏ وأصحاب الرأي لأن البيع يقع على الجلد والورق وبيع ذلك مباح ولنا‏,‏ قول الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولم نعلم لهم مخالفا في عصرهم ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى‏,‏ فتجب صيانته عن البيع والابتذال وأما الشراء فهو أسهل لأنه استنقاذ للمصحف وبذل لماله فيه فجاز‏,‏ كما أجاز شراء رباع مكة واستئجار دورها من لا يرى بيعها‏,‏ ولا أخذ أجرتها وكذلك أرض السواد ونحوها وكذلك دفع الأجرة إلى الحجام لا يكره مع كراهة كسبه وإن اشترى الكافر مصحفا‏,‏ فالبيع باطل به قال الشافعي وأجازه أصحاب الرأي وقالوا‏:‏ يجبر على بيعه لأنه أهل للشراء والمصحف محل له ولنا‏,‏ أنه يمنع من استدامة الملك عليه فمنع من ابتدائه كسائر ما يحرم بيعه‏,‏ وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم فلا يجوز تمكينهم من التوصل إلى نيل أيديهم إياه‏.‏

فصل‏:‏

ولا يصح شراء الكافر مسلما وهذا قول مالك في إحدى الروايتين عنه والشافعي في أحد القولين وقال أبو حنيفة‏:‏ يصح ويجبر على إزالة ملكه لأنه يملك المسلم بالإرث‏,‏ ويبقى ملكه عليه إذا أسلم في يده فصح شراؤه له كالمسلم ولنا‏,‏ أنه يمنع استدامة ملكه عليه فمنع ابتداءه كالنكاح‏,‏ ولأنه عقد يثبت الملك على المسلم للكافر فلم يصح كالنكاح‏,‏ والملك بالإرث الاستدامة أقوى من ابتداء الملك بالفعل والاختيار بدليل ثبوته بهما للمحرم في الصيد مع منعه من ابتدائه‏,‏ فلا يلزم من ثبوت الأقوى ثبوت ما دونه مع أننا نقطع الاستدامة عليه بمنعه منها وإجباره على إزالتها‏.‏

فصل‏:‏

ولو وكل كافر مسلما في شراء مسلم‏,‏ لم يصح الشراء لأن الملك يقع للموكل ولأن الموكل ليس بأهل لشرائه فلم يصح أن يشتري له‏,‏ كما لو وكل مسلم ذميا في شراء خمر وإن وكل المسلم كافرا يشتري له مسلما فاشتراه ففيه وجهان أحدهما‏,‏ يصح لأن المنع منه إنما كان لما فيه من ثبوت ملك الكافر على المسلم والملك يثبت للمسلم ها هنا فلم يتحقق المانع والثاني‏,‏ لا يصح لأن ما منع من شرائه منع التوكيل فيه كالمحرم في شراء الصيد والكافر في نكاح المسلمة‏,‏ والمسلم لا يجوز أن يكون وكيلا لذمي في شراء خمر‏.‏

فصل‏:‏

وإن اشترى الكافر مسلمًا يعتق عليه بالقرابة كأبيه وأخيه صح الشراء‏,‏ وعتق عليه في قول بعض أصحابنا وحكي فيه أبو الخطاب روايتين إحداهما لا يصح وهو قول بعض الأصحاب لأنه شراء يملك به المسلم‏,‏ فلم يصح كالذي لا يعتق عليه ولأن ما منع من شرائه لم يبح له شراؤه وإن زال ملكه عقيب الشراء‏,‏ كشراء المحرم الصيد والثانية يصح شراؤه لأن المنع إنما ثبت لما فيه من إهانة المسلم بملك الكافر له والملك ها هنا يزول عقيب الشراء بالكلية ويحصل من نفع الحرية أضعاف ما حصل من الإهانة بالملك في لحظة يسيرة ويفارق من لا يعتق عليه فإن ملكه لا يزول إلا بإزالته‏,‏ وكذلك شراء المحرم للصيد فإنه لو ملكه لثبت ملكه عليه‏,‏ ولم يزل ولو قال كافر لمسلم‏:‏ أعتق عبدك عني وعلى ثمنه ففعل صح لأن إعتاقه ليس بتمليك‏,‏ وإنما هو إبطال للرق فيه وإنما حصل الملك فيه حكما فجاز‏,‏ كما يملكه بالإرث حكما ولأن ما يحصل له بالحرية من النفع ينغمر فيه ما يحصل من الضرر بالملك فيصير كالمعدوم وفيه وجه آخر أنه لا يصح بناء على شراء قريبه المسلم‏.‏

فصل‏:‏

ولو أجر مسلم نفسه لذمي لعمل في ذمته‏,‏ صح ‏(‏لأن عليا رضي الله عنه أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة‏,‏ وأتى بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم- فأكله‏)‏‏.‏ وفعل ذلك رجل من الأنصار وأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم- فلم ينكره ولأنه لا صغار عليه في ذلك وإن استأجره في مدة كيوم‏,‏ أو شهر ففيه وجهان أحدهما لا يصح لأن فيه استيلاء عليه وصغارا‏,‏ أشبه الشراء والثاني يصح وهو أولى لأن ذلك عمل في مقابلة عوض أشبه العمل في ذمته‏,‏ ولا يشبه الملك لأن الملك يقتضي سلطانا واستدامة وتصرفا بأنواع التصرفات في رقبته‏,‏ بخلاف الإجارة‏.‏

فصل‏:‏

ولا يجوز أن يفرق في البيع بين كل ذي رحم محرم وبه قال أبو حنيفة وقال مالك‏:‏ لا يحرم التفريق إلا بين الأم وولدها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة‏)‏‏.‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن وقال‏:‏ ‏(‏لا توله والدة عن ولدها‏)‏ فخصها بذلك‏,‏ فدل على الإباحة فيما سواه وقال الشافعي‏:‏ يحرم بين الوالدين والمولودين وإن سفلوا ولا يحرم بين من عداهم لأن القرابة التي بينهم لا تمنع القصاص ولا شهادة بعضهم لبعض‏,‏ فلم تمنع التفريق في البيع كابني العم ولنا ما روى أحمد‏,‏ في ‏"‏ المسند ‏"‏ حدثنا غندر حدثنا سعيد بن أبي عروبة‏,‏ عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ ‏(‏أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن أبيع غلامين أخوين‏,‏ فبعتهما ففرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال‏:‏ أدركهما فارتجعهما‏,‏ ولا تبعهما إلا جميعا‏)‏‏.‏ وروى عن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لعن الله من فرق بين الوالدة وولدها والأخ وأخيه‏)‏ ولأن بينهما رحما محرما‏,‏ فلم يجز التفريق بينهما كالولد مع أمه ويفارق ابني العم فإنه ليس بينهما رحم محرم‏.‏

فصل‏:‏

فإن فرق بينهما قبل البلوغ فالبيع باطل وبه قال الشافعي فيما دون السبع وقال أبو حنيفة‏:‏ البيع صحيح لأن النهي‏,‏ لمعنى في غير البيع وهو الضرر اللاحق بالتفريق فلم يمنع صحة البيع‏,‏ كالبيع في وقت النداء ولنا حديث على وأن النبي - صلى الله عليه وسلم- أمره بردهما ولو لزم البيع لما أمكن ردهما وروى أبو داود في ‏"‏سننه ‏"‏ ‏(‏أن عليا فرق بين الأم وولدها‏,‏ فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد المبيع‏)‏‏.‏ ولأنه بيع محرم لمعنى فيه ففسد‏,‏ كبيع الخمر ولا يصح ما قاله فإن ضرر التفريق حاصل بالبيع فكان لمعنى فيه فأما تحديده بالسبع فإن عموم اللفظ يمنع ذلك ولا يجوز تخصيصه بغير دليل‏,‏ وإن كان فرق بينهما بعد البلوغ جاز وقال أبو الخطاب‏:‏ فيه روايتان إحداهما لا يجوز لعموم النهي والثانية يجوز وهي الصحيحة لما روي أن ‏(‏سلمة بن الأكوع أتى أبا بكر بامرأة وابنتها‏,‏ فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوهبها له وأهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مارية وأختها سيرين‏,‏ فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم- سيرين لحسان بن ثابت وترك مارية له‏)‏ ولأنه بعد البلوغ يصير مستقلا بنفسه والعادة التفريق بين الأحرار‏,‏ فإن المرأة تزوج ابنتها ويفرق بين الحرة وولدها إذا افترق الأبوان‏.‏

فصل‏:‏

وإذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال كالسلطان الظالم‏,‏ والمرابي فإن علم أن المبيع من حلال ماله فهو حلال وإن علم أنه حرام‏,‏ فهو حرام ولا يقبل قول المشتري عليه في الحكم لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه فإن لم يعلم من أيهما هو‏,‏ كرهناه لاحتمال التحريم فيه ولم يبطل البيع لإمكان الحلال قل الحرام أو كثر وهذا هو الشبهة‏,‏ وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون كثرة الشبهة وقلتها قال أحمد‏:‏ لا يعجبني أن يأكل منه لما روى النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات‏,‏ لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام‏,‏ كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه‏)‏ متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم وفي لفظ رواية البخاري‏:‏ ‏(‏فمن ترك ما اشتبه عليه‏,‏ كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من المأثم أوشك أن يواقع ما استبان‏)‏ وروى الحسن بن علي‏,‏ عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏دع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏)‏ وهذا مذهب الشافعي‏.‏

فصل‏:‏

والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب الأول ما أصله الحظر كالذبيحة في بلد فيها مجوس وعبدة أوثان يذبحون‏,‏ فلا يجوز شراؤها وإن أمكن أن يكون ذابحها مسلما لأن الأصل التحريم فلا يزول إلا بيقين أو ظاهر وكذلك إن كان فيها أخلاط من المسلمين والمجوس لم يجز شراؤها لذلك والأصل فيه حديث عدي بن حاتم‏,‏ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏إذا أرسلت كلبك فخالط كلبا لم يسم عليها فلا تأكل‏,‏ فإنك لا تدري أيها قتله‏)‏ متفق عليه فأما إن كان ذلك في بلد الإسلام فالظاهر إباحتها لأن المسلمين لا يقرون في بلدهم بيع ما لا يحل بيعه ظاهرا والثاني ما أصله الإباحة‏,‏ كالماء يجده متغيرا لا يعلم أبنجاسة تغير أم بغيرها‏؟‏ فهو طاهر في الحكم لأن الأصل الطهارة فلا نزول عنها إلا بيقين أو ظاهر‏,‏ ولم يوجد واحد منهما والأصل في ذلك حديث عبد الله بن زيد قال‏:‏ ‏(‏شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه في الصلاة أنه يجد الشيء قال‏:‏ لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا‏)‏‏.‏ متفق عليه والثالث‏,‏ ما لا يعرف له أصل كرجل في ماله حلال وحرام فهذا هو الشبهة‏,‏ التي الأولى تركها على ما ذكرنا وعملا بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏أنه وجد تمرة ساقطة‏,‏ فقال‏:‏ لولا إني أخشى أنها من الصدقة لأكلتها‏)‏ وهو من باب الورع‏.‏

فصل‏:‏

وكان أحمد - رحمه الله- لا يقبل جوائز السلطان وينكر على ولده وعمه قبولها‏,‏ ويشدد في ذلك وممن كان لا يقبلها سعيد بن المسيب والقاسم‏,‏ وبشر بن سعيد ومحمد بن واسع والثوري‏,‏ وابن المبارك وكان هذا منهم على سبيل الورع والتوقي لا على أنها حرام‏,‏ فإن أحمد قال‏:‏ جوائز السلطان أحب إلى من الصدقة وقال‏:‏ ليس أحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم نصيب فكيف أقول‏:‏ إنها سحت‏؟‏ وممن كان يقبل جوائزهم ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة‏,‏ مثل الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر ورخص فيه الحسن البصري ومكحول والزهري والشافعي واحتج بعضهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏اشترى من يهودي طعاما‏,‏ ومات ودرعه مرهونة عنده‏)‏ ‏(‏وأجاب يهوديا دعاه وأكل من طعامه‏)‏ وقد أخبر الله تعالى أنهم أكالون للسحت وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال‏:‏ لا بأس بجوائز السلطان فإن ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام وقال‏:‏ لا تسأل السلطان شيئا وإن أعطى فخذ‏,‏ فإن ما في بيت المال من الحلال أكثر مما فيه من الحرام .

فصل‏:‏

قال أحمد - رحمه الله - في من معه ثلاثة دراهم حرام‏:‏ يتصدق بالثلاثة وإن كان معه مائتا درهم‏,‏ فيها عشرة حرام يتصدق بالعشرة لأن هذا كثير وذاك قليل فقيل له‏:‏ قال سفيان‏:‏ ما كان دون العشرة يتصدق به‏,‏ وما كان أكثر يخرج قال‏:‏ نعم لا يجحف به قال القاضي‏:‏ وليس هذا على سبيل التحديد وإنما هو على طريق الاختيار لأنه كلما كثر الحلال بعد تناول الحرام‏,‏ وشق التورع عن الجميع بخلاف القليل فإنه يسهل إخراج الكل والواجب في الموضعين إخراج قدر الحرام والباقي مباح له وهذا لأن تحريمه لم يكن لتحريم عينه‏,‏ وإنما حرم لتعلق حق غيره به فإذا أخرج عوضه زال التحريم عنه كما لو كان صاحبه حاضرا فرضي بعوضه‏,‏ وسواء كان قليلا أو كثيرا والورع إخراج ما يتيقن به إخراج عين الحرام ولا يحصل ذلك إلا بإخراج الجميع لكن لما شق ذلك في الكثير‏,‏ ترك لأجل المشقة فيه واقتصر على الواجب ثم يختلف هذا باختلاف الناس فمنهم من لا يكون له إلا الدراهم اليسيرة فيشق إخراجها لحاجته إليها‏,‏ ومنهم من يكون له مال كثير فيستغني عنها فيسهل إخراجها‏.‏

فصل‏:‏

قد ذكرنا أن الظاهر من المذهب‏,‏ لا يجوز بيع كل ماء عد كمياه العيون ونقع البئر في أماكنه قبل إحرازه في إنائه ولا الكلأ في مواضعه قبل حيازته فعلى هذا متى باع الأرض وفيها كلأ أو ماء‏,‏ فلا حق للبائع فيه وقد ذكرنا رواية أخرى أن ذلك مملوك وأنه يجوز بيعه فعلى هذه الرواية إن باع الأرض فذكر الماء والكلأ في البيع‏,‏ دخل فيه وإن لم يذكره كان الماء الموجود والكلأ للبائع لأنه بمنزلة الزرع في الأرض والماء أصل بنفسه‏,‏ فهو كالطعام في الدار فما يتجدد بعد البيع فهو للمشتري وعلى هذه الرواية‏,‏ إذا باع من هذا الماء آصعا معلومة جاز لأنه كالصبرة وإن باع كل ماء البئر‏,‏ لم يجز لأنه يختلط بغيره ولو باع من النهر الجاري آصعا لم يجز لأن ذلك الماء يذهب ويأتي غيره‏.‏

فصل‏:‏

وعلى كلتا الروايتين متى كان الماء النابع في ملكه‏,‏ أو الكلأ أو المعادن وفق كفايته لشربه‏,‏ وشرب ماشيته لم يجب عليه بذله نص عليه لأنه في ملكه فإذا تساوى هو وغيره في الحاجة‏,‏ كان أحق به كالطعام وإنما توعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على منع فضل الماء‏,‏ ولا فضل في هذا ولأن عليه في بذله ضررا ولا يلزمه نفع غيره بمضرة نفسه وإن كان فيه فضل عن شربه وشرب ماشيته وزرعه‏,‏ واحتاجت إليه ماشية غيره لزمه بذله بغير عوض ولكل واحد أن يتقدم إلى الماء ويشرب‏,‏ ويسقي ماشيته وليس لصاحبه المنع من ذلك لما روى إياس بن عبد الله المزني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من منع فضل الماء‏,‏ ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏نهى أن تسأل المرأة طلاق أختها ونهى أن يمنع الماء مخافة أن يرعى الكلأ‏)‏ يعني إذا كان في مكان كلأ‏,‏ وليس يمكنه الإقامة لرعيه إلا بالسقي من هذا الماء فيمنعهم السقي ليتوفر الكلأ عليه وروى أبو عبيدة بإسناده عن عمر‏,‏ أنه قال‏:‏ ابن السبيل أحق بالماء من الباني عليه وعن أبي هريرة قال‏:‏ ابن السبيل أول شارب وعن بهيسة قالت‏:‏ ‏(‏قال أبي‏:‏ يا رسول الله‏,‏ ما الشيء الذي لا يحل منعه‏؟‏ قال‏:‏ الماء قال‏:‏ يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه‏؟‏ قال‏:‏ الملح‏)‏‏.‏ وليس عليه بذل آلة البئر من الحبل والدلو والبكرة لأنه يخلق ولا يستخلف غيره‏,‏ بخلاف الماء وهذا كله هو الظاهر من مذهب الشافعي ولا فرق فيما ذكرنا بين البنيان والصحارى وعن أحمد أنه قال‏:‏ إنما هذا في الصحارى والبرية دون البنيان يعني أن البنيان إذا كان فيه الماء فليس لأحد الدخول إليه إلا بإذن صاحبه‏.‏

فصل‏:‏

وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره‏؟‏ فيه روايتان إحداهما‏,‏ لا يلزمه وهو مذهب الشافعي لأن الزرع لا حرمة له في نفسه ولهذا لا يجب على صاحبه سقيه بخلاف الماشية والثانية يلزمه بذله لذلك لما روي عن عبد الله بن عمرو ‏(‏أن قيم أرضه بالوهط كتب إليه‏,‏ يخبره أنه قد سقى أرضه وفضل له من الماء فضل يطلب بثلاثين ألفا فكتب إليه عبد الله بن عمرو أقم قلدك ثم اسق الأدنى فالأدنى‏,‏ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن بيع فضل الماء‏)‏ قال أبو عبيد‏:‏ القلد يوم الشرب وفي ‏"‏المسند‏"‏ حدثنا حسن قال حدثنا حماد بن سلمة‏,‏ عن أبي الزبير عن جابر قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء‏)‏ وروى إياس بن عبد الله‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يمنع فضل الماء‏)‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح وفي لفظ‏:‏ ‏(‏نهى عن بيع الماء‏)‏ ولأن في منعه فضل الماء إهلاكه فحرم منعه كالماشية وقولهم‏:‏ لا حرمة له قلنا‏:‏ فلصاحبه حرمة‏,‏ فلا يجوز التسبب إلى إهلاك ماله ويحتمل أن يمنع نفي الحرمة عنه فإن إضاعة المال منهي عنها وإتلافه محرم‏,‏ وذلك دليل على حرمته‏.‏

فصل‏:‏

وإذا اشترى عبدا بمائة فقضاها عنه غيره صح سواء قضاه بأمره أو غير أمره فإن بان العبد مستحقا‏,‏ لزم رد المائة إلى دافعها لأننا تبينا أنه قبض غير مستحق فكأن المائة لم تخرج من يد دافعها وإن بان العبد معيبا فرده بالعيب‏,‏ أو بإقالة أو أصدق امرأة إنسان شيئا فطلقها الزوج قبل دخوله بها‏,‏ أو ارتدت فهل يلزم رد المائة إلى دافعها أو على المشتري والزوج‏؟‏ يحتمل وجهين أحدهما على الدافع لأن القبض حصل منه‏,‏ فالرد عليه كالتي قبلها والثاني على الزوج والمشتري لأن قضاءه بمنزلة الهبة لهما‏,‏ بدليل براءة ذمتها منه والهبة المقبوضة لا يجوز الرجوع فيها وإن كان الدفع بإذن المشتري والزوج احتمل أن يكون الحكم فيه كما لو قضاه بغير إذنه‏,‏ إذا كان فعل ذلك على سبيل التبرع عليه واحتمل أن يكون رده على الزوج والمشتري إذا كان عقدهما صحيحا بكل حال لأن إذنهما في تسليمه إلى من له الدين عليهما إذا اتصل به القبض‏,‏ جرى مجرى قبوله وقبضه بخلاف ما إذا لم يأذن وإن أذنا في دفع ذلك عنهما قرضا فإن الرد يكون عليهما‏,‏ والمقرض يرجع عليهما بعوضه‏.‏

فصل‏:‏

إذا قال العبد لرجل‏:‏ ابتعني من سيدي ففعل فبان العبد معتقا فالضمان على السيد نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة إن كان السيد حاضرا حين غره العبد‏,‏ وإن كان غائبا فالضمان على العبد لأن الغرور منه ولنا أن السيد قبض الثمن بغير استحقاق وضمن العهدة‏,‏ فكان الضمان عليه كما لو كان حاضرا وإن بان العبد مغصوبا أو به عيب‏,‏ فرده فالضمان على السيد لما ذكرنا‏.‏

فصل‏:‏

وإن اشترى اثنان عبدا فغاب أحدهما‏,‏ وجاء الآخر يطلب نصيبه منه فله ذلك وقال أبو حنيفة ليس له ذلك لأنه لا يمكنه تسليمه إلا بتسليم نصيب الغائب وليس له تسليمه بغير إذنه ولنا‏,‏ أنه طلب حصته فكان له ذلك كما لو أوجب لكل واحد منهما منفردا وما ذكروه يبطل بهذه الصورة وإن قال الحاضر‏:‏ أنا أدفع جميع الثمن‏,‏ ويدفع إلى جميع العبد لم يكن له ذلك وقال أبو حنيفة‏:‏ له ذلك ولنا أن شريكه لم يأذن للحاضر في قبض نصيبه ولا للبائع في دفعه إليه‏,‏ فلم يكن لهما ذلك كما لو كانا حاضرين فإن سلم إليه فتلف العبد‏,‏ فللغائب تضمين أيهما شاء لأن الدافع فرط بدفع ماله بغير إذنه والشريك قبض مال غيره بغير إذنه فإن ضمن الشريك لم يرجع على أحد لأن التلف حصل في يده‏,‏ فاستقر الضمان عليه وإن ضمن الدافع رجع على القابض لذلك ويقوى عندي أنه إذا لم يمكن تسليم نصيب أحد المشتريين إليه إلا بتسليم نصيب صاحبه أنه لا يجوز التسليم إليه لما ذكرنا ها هنا‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب الإشهاد في البيع لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏ وأقل أحوال الأمر الاستحباب ولأنه أقطع للنزاع وأبعد من التجاحد‏,‏ فكان أولى ويختص ذلك بما له خطر فأما الأشياء القليلة الخطر‏,‏ كحوائج البقال والعطار وشبههما‏,‏ فلا يستحب ذلك فيها لأن العقود فيها تكثر فيشق الإشهاد عليها وتقبح إقامة البينة عليها‏,‏ والترافع إلى الحاكم من أجلها بخلاف الكثير وليس الإشهاد بواجب في واحد منهما ولا شرطا له روى ذلك عن أبي سعيد الخدري وهو قول الشافعي‏,‏ وأصحاب الرأي وإسحاق وأبي أيوب وقالت طائفة‏:‏ ذلك فرض لا يجوز تركه وروي ذلك عن ابن عباس وممن رأى الإشهاد على البيع عطاء وجابر بن زيد والنخعي لظاهر الأمر‏,‏ ولأنه عقد معاوضة فيجب الإشهاد عليه كالنكاح ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته}‏ [البقرة: 283]. وقال أبو سعيد‏:‏ صار الأمر إلى الأمانة وتلا هذه الآية ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏اشترى من يهودي طعاما‏,‏ ورهنه درعه‏)‏ ‏(‏واشترى من رجل سراويل‏)‏ ‏(‏ومن أعرابي فرسا فجحده الأعرابي حتى شهد له خزيمة بن ثابت‏,‏‏)‏ ولم ينقل أنه أشهد في شيء من ذلك وكان الصحابة يتبايعون في عصره في الأسواق فلم يأمرهم بالإشهاد ولا نقل عنهم فعله‏,‏ ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم- ولو كانوا يشهدون في كل بياعاتهم لما أخل بنقله ‏(‏وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية ولم يأمره بالإشهاد وأخبره عروة أنه اشترى شاتين فباع إحداهما ولم ينكر عليه ترك الإشهاد‏)‏ ولأن المبايعة تكثر بين الناس في أسواقهم وغيرها‏,‏ فلو وجب الإشهاد في كل ما يتبايعونه أفضى إلى الحرج المحطوط عنا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏‏.‏ والآية المراد بها الإرشاد إلى حفظ الأموال والتعليم كما أمر بالرهن والكاتب‏,‏ وليس بواجب وهذا ظاهر‏.‏

فصل‏:‏

ويكره البيع والشراء في المسجد وبه قال إسحاق لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد‏,‏ فقولوا‏:‏ لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا‏:‏ لا ردها الله عليك‏)‏ أخرجه الترمذي‏,‏ وقال حديث حسن غريب ولأن المساجد لم تبن لهذا ورأى عمران القصير رجلا يبيع في المسجد فقال‏:‏ هذه سوق الآخرة‏,‏ فإن أردت التجارة فاخرج إلى سوق الدنيا فإن باع فالبيع صحيح لأن البيع تم بأركانه وشروطه ولم يثبت وجود مفسد له‏,‏ وكراهة ذلك لا توجب الفساد كالغش في البيع والتدليس والتصرية وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏"‏قولوا‏:‏ لا أربح الله تجارتك‏"‏ من غير إخبار بفساد البيع دليل على صحته‏,‏ والله أعلم‏.‏

باب السلم‏:‏

وهو أن يسلم عوضا حاضرا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل ويسمى سلما‏,‏ وسلفا يقال‏:‏ أسلم وأسلف وسلف وهو نوع من البيع‏,‏ ينعقد بما ينعقد به البيع وبلفظ السلم والسلف ويعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع‏,‏ وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏ وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه‏,‏ وأذن فيه ثم قرأ هذه الآية ولأن هذا اللفظ يصلح للسلم ويشمله بعمومه وأما السنة فروى ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏أنه قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث‏,‏ فقال‏:‏ من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم‏)‏ متفق عليه‏,‏ وروى البخاري عن محمد بن أبي المجالد قال‏:‏ ‏(‏أرسلنى أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف‏,‏ فقالا‏:‏ كنا نصيب المغانم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب فقلت‏:‏ أكان لهم زرع أم لم يكن لهم زرع‏؟‏ قال‏:‏ ما كنا نسألهم عن ذلك‏)‏ وأما الإجماع فقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز‏,‏ ولأن المثمن في البيع أحد عوضي العقد فجاز أن يثبت في الذمة كالثمن‏,‏ ولأن بالناس حاجة إليه لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكمل وقد تعوزهم النفقة فجوز لهم السلم ليرتفقوا‏,‏ ويرتفق المسلم بالاسترخاص‏.‏

مسألة‏:‏

قال أبو القاسم - رحمه الله -‏:‏ ‏[‏وكل ما ضبط بصفة فالسلم فيه جائز‏)‏‏.‏ وجملة ذلك أن السلم‏,‏ لا يصح إلا بشروط ستة‏:‏ أحدها أن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهرا فيصح في الحبوب والثمار‏,‏ والدقيق والثياب والإبريسم‏,‏ والقطن والكتان والصوف‏,‏ والشعر والكاغد والحديد‏,‏ والرصاص والصفر والنحاس‏,‏ والأدوية والطيب والخلول‏,‏ والأدهان والشحوم والألبان‏,‏ والزئبق والشب والكبريت‏,‏ والكحل وكل مكيل أو موزون‏,‏ أو مزروع وقد جاء الحديث في الثمار وحديث ابن أبي أوفى في الحنطة‏,‏ والشعير والزبيب والزيت وأجمع أهل العلم على أن السلم في الطعام جائز‏,‏ قاله ابن المنذر وأجمعوا على جواز السلم في الثياب ولا يصح السلم فيما لا ينضبط بالصفة كالجوهر من اللؤلؤ والياقوت‏,‏ والفيروزج والزبرجد والعقيق‏,‏ والبلور لأن أثمانها تختلف اختلافا متباينا بالصغر والكبر وحسن التدوير‏,‏ وزيادة ضوئها وصفائها ولا يمكن تقديرها ببيض العصفور‏,‏ ونحوه لأن ذلك يختلف ولا بشيء معين لأن ذلك يتلف وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن مالك صحة السلم فيها‏,‏ إذا اشترط منها شيئا معلوما وإن كان وزنا فبوزن معروف والذي قلناه أولى لما ذكرنا ولا يصح فيما يجمع أخلاطا مقصودة غير متميزة كالغالية‏,‏ والند والمعاجين التي يتداوى بها للجهل بها ولا في الحوامل من الحيوان لأن الولد مجهول غير متحقق‏,‏ ولا في الأواني المختلفة الرءوس والأوساط لأن الصفة لا تأتي عليه وفيه وجه آخر أنه يصح السلم فيه إذا ضبط بارتفاع حائطه ودور أعلاه وأسفله لأن التفاوت في ذلك يسير‏,‏ ولا يصح في القسي المشتملة على الخشب والقرن والعضب‏,‏ والتوز إذ لا يمكن ضبط مقادير ذلك وتمييز ما فيه منها وقيل‏:‏ يجوز السلم فيها‏,‏ والأولى ما ذكرنا قال القاضي‏:‏ والذي يجمع أخلاطا على أربعة أضرب أحدها مختلط مقصود متميز كالثياب المنسوجة من قطن وكتان‏,‏ أو قطن وإبريسم فيصح السلم فيها لأن ضبطها ممكن الثاني‏,‏ ما خلطه لمصلحته وليس بمقصود في نفسه كالإنفحة في الجبن‏,‏ والملح في العجين والخبز والماء في خل التمر والزبيب فيصح السلم فيه لأنه يسير لمصلحته الثالث‏,‏ أخلاط مقصودة غير متميزة كالغالية والند والمعاجين فلا يصح السلم فيها لأن الصفة لا تأتي عليها الرابع‏,‏ ما خلطه غير مقصود ولا مصلحة فيه كاللبن المشوب بالماء فلا يصح السلم فيه‏.‏