فصل: مسألة: جواز الإسلام في شيء واحد على أن يقبضه في أوقات متفرقة أجزاء معلومة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وإذا أسلم في شيء واحد على أن يقبضه في أوقات متفرقة أجزاء معلومة فجائز‏]‏

‏.‏ قال الأثرم‏:‏ قلت لأبي عبد الله‏:‏ الرجل يدفع إلى الرجل الدراهم في الشيء يؤكل‏,‏ فيأخذ منه كل يوم من تلك السلعة شيئا‏؟‏ فقال‏:‏ على معنى السلم إذا‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم قال‏:‏ لا بأس ثم قال‏:‏ مثل الرجل القصاب يعطيه الدينار على أن يأخذ منه كل يوم رطلا من لحم قد وصفه وبهذا قال مالك وقال الشافعي‏:‏ إذا أسلم في جنس واحد إلى أجلين ففيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ لا يصح لأن ما يقابل أبعدهما أجلا أقل مما يقابل الآخر‏,‏ وذلك مجهول فلم يجز ولنا أن كل بيع جاز في أجل واحد‏,‏ جاز في أجلين وآجال كبيوع الأعيان فإذا قبض البعض وتعذر قبض الباقي‏,‏ ففسخ العقد رجع بقسطه من الثمن ولا يجعل للباقي فضلا عن المقبوض لأنه مبيع واحد متماثل الأجزاء‏,‏ فيقسط الثمن على أجزائه بالسوية كما لو اتفق أجله‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وإذا لم يكن السلم فيه كالحديد والرصاص‏,‏ وما لا يفسد ولا يختلف قديمه وحديثه لم يكن عليه قبضه قبل محله‏]‏

‏.‏ يعني بالسلم‏:‏ المسلم فيه‏,‏ باسم المصدر كما يسمى المسروق سرقة والمرهون رهنا قال إبراهيم‏:‏ خذ سلمك أو دون سلمك ولا تأخذ فوق سلمك ومتى أحضر المسلم فيه على الصفة المشروطة‏,‏ لم يخل من ثلاثة أحوال‏:‏ أحدها أن يحضره في محله فيلزمه قبوله لأنه أتاه بحقه في محله‏,‏ فلزمه قبوله كالمبيع المعين وسواء كان عليه في قبضه ضرر‏,‏ أو لم يكن فإن أبى قيل له‏:‏ إما أن تقبض حقك وإما أن تبرئ منه فإن امتنع قبضه الحاكم من المسلم إليه للمسلم‏,‏ وبرئت ذمته منه لأن الحاكم يقوم مقام الممتنع بولايته وليس له أن يبرئ لأنه لا يملك الإبراء الحال الثاني أن يأتي به قبل محله‏,‏ فينظر فيه فإن كان مما في قبضه قبل محله ضرر إما لكونه مما يتغير‏,‏ كالفاكهة والأطعمة كلها أو كان قديمه دون حديثه كالحبوب ونحوها‏,‏ لم يلزم المسلم قبوله لأن له غرضا في تأخيره بأن يحتاج إلى أكله أو إطعامه في ذلك الوقت وكذلك الحيوان لأنه لا يأمن تلفه‏,‏ ويحتاج إلى الإنفاق عليه إلى ذلك الوقت وربما يحتاج إليه في ذلك الوقت دون ما قبله وهكذا إن كان مما يحتاج في حفظه إلى مؤنة كالقطن ونحوه‏,‏ أو كان الوقت مخوفا يخشى نهب ما يقبضه فلا يلزمه الأخذ في هذه الأحوال كلها لأن عليه ضررا في قبضه ولم يأت محل استحقاقه له‏,‏ فجرى مجرى نقص صفة فيه وإن كان مما لا ضرر في قبضه بأن يكون لا يتغير كالحديد والرصاص والنحاس‏,‏ فإنه يستوي قديمه وحديثه ونحو ذلك الزيت والعسل ولا في قبضه ضرر الخوف‏,‏ ولا تحمل مؤنة فعليه قبضه لأن غرضه حاصل مع زيادة تعجيل المنفعة فجرى مجرى زيادة الصفة وتعجيل الدين المؤجل الحال الثالث‏,‏ أن يحضره بعد محل الوجوب فحكمه حكم ما لو أحضر المبيع بعد تفرقهما‏.‏

فصل‏:‏

ولا يخلو إما أن يحضر المسلم فيه على صفته أو دونها‏,‏ أو أجود منها فإن أحضره على صفته لزم قبوله لأنه حقه وإن أتى به دون صفته لم يلزمه قبوله لأن فيه إسقاط حقه‏,‏ فإن تراضيا على ذلك وكان من جنسه جاز وإن كان من غير جنسه‏,‏ لم يجز لما تقدم وإن اتفقا على أن يعطيه دون حقه ويزيده شيئا لم يجز لأنه أفرد صفة الجودة بالبيع‏,‏ وذلك لا يجوز ولأن بيع المسلم فيه قبل قبضه غير جائز فبيع وصفه أولى الثالث‏,‏ أن يحضره أجود من الموصوف فينظر فيه فإن أتاه به من نوعه لزمه قبوله لأنه أتى بما تناوله العقد وزيادة تابعة له‏,‏ فينفعه ولا يضره إذ لا يفوته غرض فإن أتاه به من نوع آخر لم يلزمه قبوله لأن العقد تناول ما وصفاه على الصفة التي شرطاها‏,‏ وقد فات بعض الصفات فإن النوع صفة وقد فات‏,‏ فأشبه ما لو فات غيره من الصفات وقال القاضي‏:‏ يلزمه قبوله لأنهما جنس واحد يضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة فأشبه الزيادة في الصفة مع اتفاق النوع والأول أجود لأن أحدهما يصلح لما لا يصلح له الآخر فإذا فوته عليه‏,‏ فوت عليه الغرض المتعلق به فلم يلزمه قبوله كما لو فوت عليه صفة الجودة وهذا مذهب الشافعي فإن تراضيا على أخذ النوع بدلا عن النوع الآخر‏,‏ جاز لأنهما جنس واحد لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا ويضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة فجاز أخذ أحدهما عن الآخر‏,‏ كالنوع الواحد وقال بعض أصحاب الشافعي‏:‏ لا يجوز له أخذه للمعنى الذي منع لزوم أخذه وقال إبراهيم‏:‏ لا تأخذ فوق سلمك في كيل ولا صفة ولنا أنهما تراضيا على دفع المسلم فيه من جنسه فجاز‏,‏ كما لو تراضيا على دفع الرديء مكان الجيد أو الجيد مكان الرديء وبهذا ينتقض ما ذكروه فإنه لا يلزم أخذ الرديء‏,‏ ويجوز أخذه ولأن المسلم أسقط حقه من النوع فلم يبق بينهما إلا صفة الجودة وقد سمح بها صاحبها‏.‏

فصل‏:‏

إذا جاءه بالأجود‏,‏ فقال‏:‏ خذه وزدني درهما لم يصح وقال أبو حنيفة‏:‏ يصح كما لو أسلم في عشرة فجاءه بأحد عشر ولنا أن الجودة صفة‏,‏ فلا يجوز إفرادها بالعقد كما لو كان مكيلا أو موزونا فإن جاءه بزيادة في القدر‏,‏ فقال‏:‏ خذه وزدني درهما ففعلا صح لأن الزيادة ها هنا يجوز إفرادها بالعقد‏.‏

فصل‏:‏

وليس له إلا أقل ما تقع عليه الصفة لأنه إذا أسلم إليه ذلك‏,‏ فقد سلم إليه ما تناوله العقد فبرئت ذمته منه وعليه أن يسلم إليه الحنطة نقية من التبن والقصل والشعير ونحوه مما لا يتناوله اسم الحنطة وإن كان فيه تراب كثير يأخذ موضعا من المكيال‏,‏ لم يجز وإن كان يسيرا لا يؤثر في المكيال ولا يعيبها لزمه أخذه ولا يلزمه أخذ التمر إلا جافا ولا يلزم أن يتناهى جفافه لأنه يقع عليه الاسم ولا يلزمه أن يقبل معيبا بحال ومتى قبض المسلم فيه فوجده معيبا‏,‏ فله المطالبة بالبدل أو الأرش كالمبيع سواء‏.‏

فصل‏:‏

ولا يقبض المكيل إلا بالكيل ولا الموزون إلا بالوزن‏,‏ ولا يقبضه جزافا ولا بغير ما يقدر به لأن الكيل والوزن يختلفان فإن قبضه بذلك‏,‏ فهو كقبضه جزافا فيقدره بما أسلم فيه ويأخذ قدر حقه‏,‏ ويرد الباقي ويطالب بالعوض وهل له أن يتصرف في قدر حقه منه قبل أن يعتبره‏؟‏ على وجهين مضى ذكرهما في بيوع الأعيان وإن اختلفا في قدره‏,‏ فالقول قول القابض مع يمينه قال القاضي‏:‏ ويسلم إليه ملء المكيال وما يحمله ولا يكون ممسوحا ولا يدق ولا يهز لأن قوله‏:‏ أسلمت إليك في قفيز يقتضي ما يسعه المكيال وما يحمله‏,‏ وهو ما ذكرنا‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ولا يجوز أن يأخذ رهنا ولا كفيلا من المسلم إليه‏]‏

واختلفت الرواية في الرهن والضمين في السلم فروى المروزي‏,‏ وابن القاسم وأبو طالب منع ذلك وهو اختيار الخرقي وأبو بكر ورويت كراهة ذلك عن علي‏,‏ وابن عمر وابن عباس والحسن‏,‏ وسعيد بن جبير والأوزاعي وروى حنبل جوازه ورخص فيه عطاء ومجاهد‏,‏ وعمرو بن دينار والحكم ومالك‏,‏ والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي‏,‏ وابن المنذر لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فرهان مقبوضة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏‏.‏ وقد روى عن ابن عباس وابن عمر أن المراد به السلم ولأن اللفظ عام فيدخل السلم في عمومه ولأنه أحد نوعي البيع‏,‏ فجاز أخذ الرهن بما في الذمة منه كبيوع الأعيان ووجه الأول أن الراهن والضمين إن أخذا برأس مال السلم‏,‏ فقد أخذا بما ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب لأن ذلك قد ملكه المسلم إليه وإن أخذا بالمسلم فيه فالرهن إنما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن‏,‏ والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من الرهن ولا من ذمة الضامن ولأنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره‏)‏ رواه أبو داود ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن مقام ما في ذمة المضمون عنه‏,‏ فيكون في حكم أخذ العوض والبدل عنه وهذا لا يجوز‏.‏

فصل‏:‏

فإن أخذ رهنا أو ضمينا بالمسلم فيه ثم تقايلا السلم‏,‏ أو فسخ العقد لتعذر المسلم فيه بطل الرهن لزوال الدين الذي به الرهن وبرئ الضامن‏,‏ وعلى المسلم إليه رد رأس مال السلم في الحال ولا يشترط قبضه في المجلس لأنه ليس بعوض ولو أقرضه ألفا وأخذ به رهنا ثم صالحه من الألف على طعام معلوم في ذمته‏,‏ صح وزال الرهن لزوال دينه من الذمة‏,‏ وبقي الطعام في الذمة ويشترط قبضه في المجلس كي لا يكون بيع دين بدين فإن تفرقا قبل القبض‏,‏ بطل الصلح ورجع الألف إلى ذمته برهنه لأنه يعود على ما كان عليه كالعصير إذا تخمر ثم عاد خلا وهكذا لو صالحه عن الدراهم بدنانير في ذمته‏,‏ فالحكم مثل ما بينا في هذه المسألة‏.‏

فصل‏:‏

وإذا حكمنا بصحة ضمان السلم فلصاحب الحق مطالبة من شاء منهما وأيهما قضاه برئت ذمتهما منه فإن سلم المسلم إليه المسلم فيه إلى الضامن ليدفعه إلى المسلم‏,‏ جاز وكان وكيلا وإن قال‏:‏ خذه عن الذي ضمنت عني لم يصح وكان قبضا فاسدا مضمونا عليه لأنه إنما استحق الأخذ بعد الوفاء‏,‏ فإن أوصله إلى المسلم برئ بذلك لأنه سلم إليه ما سلطه المسلم إليه في التصرف فيه وإن أتلفه فعليه ضمانه لأنه قبضه على ذلك وإن صالح المسلم الضامن عن المسلم فيه بثمنه لم يصح لأن هذا إقالة‏,‏ فلا يصح من غير المسلم إليه وإن صالحه المسلم إليه بثمنه صح وبرئت ذمته وذمة الضامن لأن هذا إقالة وإن صالحه على غير ثمنه‏,‏ لم يصح لأنه بيع المسلم فيه قبل القبض‏.‏

فصل‏:‏

والذي يصح أخذ الرهن به كل دين ثابت في الذمة يصح استيفاؤه من الرهن كأثمان البياعات‏,‏ والأجرة في الإجارات والمهر وعوض الخلع‏,‏ والقرض وأرش الجنايات وقيم المتلفات ولا يجوز أخذ الرهن بما ليس بواجب‏,‏ ولا مآله إلى الوجوب كالدية على العاقلة قبل الحول لأنها لم تجب بعد ولا يعلم إفضاؤها إلى الوجوب‏,‏ فإنهم لو جنوا أو افتقروا أو ماتوا لم تجب عليهم فلم يصح أخذ الرهن بها فأما بعد الحول‏,‏ فيجوز أخذ الرهن بها لأنها قد استقرت في ذمتهم ويحتمل جواز أخذ الرهن بها قبل الحول لأن الأصل بقاء الحياة واليسار والعقل ولا يجوز أخذ الرهن بالجعل في الجعالة قبل العمل لأنه لم يجب ولا يعلم إفضاؤه إلى الوجوب وقال القاضي‏:‏ يحتمل أخذ الرهن به لأن مآله إلى الوجوب واللزوم فأشبهت أثمان البياعات والأولى أولى لأن إفضاءها إلى الوجوب محتمل فأشبهت الدية قبل الحول ويجوز أخذ الرهن به بعد العمل لأنه قد وجب ولا يجوز أخذ الرهن بمال الكتابة لأنه غير لازم فإن للعبد تعجيز نفسه‏,‏ ولا يمكن استيفاء دينه من الرهن لأنه لو عجز صار الرهن للسيد لأنه من جملة مال المكاتب وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز‏:‏ ولنا‏,‏ أنها وثيقة لا يمكن استيفاء الحق منها فلم يصح كضمان الخمر‏,‏ ولا يجوز أخذ الرهن بعوض المسابقة لأنها جعلة ولم يعلم إفضاؤها إلى الوجوب لأن الوجوب‏,‏ إنما يثبت بسبق غير المخرج وهذا غير معلوم ولا مظنون وقال بعض أصحابنا‏:‏ فيها وجهان هل هي إجارة أو جعالة‏؟‏ فإن قلنا‏:‏ هي إجارة جاز أخذ الرهن بعوضها وقال القاضي‏:‏ إن لم يكن فيها محلل فهي جعالة‏,‏ وإن كان فيها محلل فعلى وجهين وهذا كله بعيد لأن الجعل ليس هو في مقابلة العمل بدليل أنه لا يستحقه إذا كان مسبوقا وقد عمل العمل وإنما هو عوض عن السبق‏,‏ ولا تعلم القدرة عليه ولأنه لا فائدة للجاعل فيه ولا هو مراد له وإذا لم تكن إجارة مع عدم المحلل‏,‏ فمع وجوده أولى لأن مستحق الجعل هو السابق وهو غير معين‏,‏ ولا يجوز استئجار رجل غير معين ثم لو كانت إجارة لكان عوضها غير واجب في الحال ولا يعلم إفضاؤه إلى الوجوب ولا يظن‏,‏ فلم يجز أخذ الرهن به كالجعل في رد الآبق واللقط ولا يجوز أخذ الرهن بعوض غير ثابت في الذمة كالثمن المعين‏,‏ والأجرة المعينة في الإجارة والمعقود عليه في الإجارة إذا كان منافع معينة مثل إجارة الدار‏,‏ والعبد المعين والجمل المعين مدة معلومة‏,‏ أو لحمل شيء معين إلى مكان معلوم لأن هذا حق تعلق بالعين لا بالذمة ولا يمكن استيفاؤه من الرهن لأن منفعة العين لا يمكن استيفاؤها من غيرها وتبطل الإجارة بتلف العين وإن وقعت الإجارة على منفعة في الذمة‏,‏ كخياطة ثوب وبناء دار جاز أخذ الرهن به لأنه ثابت في الذمة‏,‏ ويمكن استيفاؤه من الرهن بأن يستأجر من ثمنه من يعمل ذلك العمل فجاز أخذ الرهن به‏,‏ كالدين ومذهب الشافعي في هذا كله كما قلنا‏.‏

فصل‏:‏

فأما الأعيان المضمونة كالمغصوب والعواري‏,‏ والمقبوض ببيع فاسد والمقبوض على وجه السوم ففيها وجهان أحدهما‏,‏ لا يصح الرهن بها وهو مذهب الشافعي لأن الحق غير ثابت في الذمة فأشبه ما ذكرنا ولأنه إن رهنه على قيمتها إذا تلفت‏,‏ فهو رهن على ما ليس بواجب ولا يعلم إفضاؤه إلى الوجوب وإن أخذ الرهن على عينها لم يصح لأنه لا يمكن استيفاء عينها من الرهن فأشبه أثمان البياعات المتعينة والثاني يصح أخذ الرهن بها وهو مذهب أبي حنيفة‏,‏ وقال‏:‏ كل عين كانت مضمونة بنفسها جاز أخذ الرهن بها يريد ما يضمن بمثله أو قيمته كالمبيع يجوز أخذ الرهن به لأنه مضمون بفساد العقد لأن مقصود الرهن الوثيقة بالحق‏,‏ وهذا حاصل فإن الرهن بهذه الأعيان يحمل الراهن على أدائها وإن تعذر أداؤها استوفى بدلها من ثمن الرهن‏,‏ فأشبهت الدين في الذمة‏.‏

فصل‏:‏

قال القاضي‏:‏ كل ما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به وما لم يجز الرهن به‏,‏ لم يجز أخذ الضمين به إلا ثلاثة أشياء عهدة المبيع يصح ضمانها ولا يصح الرهن بها والكتابة لا يصح الرهن بدينها‏,‏ وفي ضمانها روايتان وما لم يجب لا يصح الرهن به ويصح ضمانه والفرق بينهما من وجهين أحدهما‏,‏ أن الرهن بهذه الأشياء يبطل الإرفاق فإنه إذا باع عبده بألف ودفع رهنا يساوي ألفا‏,‏ فكأنه ما قبض الثمن ولا ارتفق به والمكاتب إذا دفع ما يساوي كتابته‏,‏ فما ارتفق بالأجل لأنه كان يمكنه بيع الرهن أو بقاء الكتابة ويستريح من تعطيل منافع عبده والضمان بخلاف هذا الثاني أن ضرر الرهن يعم لأنه يدوم بقاؤه عند المشتري فيمنع البائع التصرف فيه‏,‏ والضمان بخلافه‏.‏

فصل‏:‏

إذا اختلف المسلم والمسلم إليه في حلول الأجل فالقول قول المسلم إليه لأنه منكر وإن اختلفا في أداء المسلم فيه‏,‏ فالقول قول المسلم لذلك وإن اختلفا في قبض الثمن فالقول قول المسلم إليه لذلك وإن اتفقا عليه وقال أحدهما‏:‏ كان في المجلس قبل التفرق وقال الآخر‏:‏ بعده فالقول قول من يدعي القبض في المجلس لأن معه سلامة العقد‏,‏ وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب دعواه قدمت أيضا بينته لأنها مثبتة والأخرى نافية‏.‏

باب القرض‏:‏

والقرض نوع من السلف وهو جائز بالسنة والإجماع أما السنة‏,‏ فروى أبو رافع ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرا فقدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم- إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع‏,‏ فقال يا رسول الله لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًّا فقال‏:‏ أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاء‏)‏ رواه مسلم وعن ابن مسعود‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة‏)‏ وعن أنس قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا‏:‏ الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت‏:‏ يا جبريل‏,‏ ما بال القرض أفضل من الصدقة‏؟‏ قال‏:‏ لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة‏)‏ رواهما ابن ماجه وأجمع المسلمون على جواز القرض‏.‏

فصل‏:‏

والقرض مندوب إليه في حق المقرض‏,‏ مباح للمقترض لما روينا من الأحاديث ولما روي أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا‏,‏ كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه‏)‏ وعن أبي الدرداء أنه قال‏:‏ ‏"‏ لأن أقرض دينارين ثم يردان‏,‏ ثم أقرضهما أحب إلى من أن أتصدق بهما ولأن فيه تفريجا عن أخيه المسلم وقضاء لحاجته‏,‏ وعونا له فكان مندوبا إليه كالصدقة عليه وليس بواجب قال أحمد لا إثم على من سئل القرض فلم يقرض وذلك لأنه من المعروف‏,‏ فأشبه صدقة التطوع وليس بمكروه في حق المقرض قال أحمد‏:‏ ليس القرض من المسألة يعني ليس بمكروه وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يستقرض بدليل حديث أبي رافع ولو كان مكروهًا‏,‏ كان أبعد الناس منه ولأنه إنما يأخذه بعوضه فأشبه الشراء بدين في ذمته قال ابن أبي موسى‏:‏ لا أحب أن يتحمل بأمانته ما ليس عنده يعني ما لا يقدر على وفائه ومن أراد أن يستقرض فليعلم من يسأله القرض بحاله‏,‏ ولا يغره من نفسه إلا أن يكون الشيء اليسير الذي لا يتعذر رد مثله قال أحمد‏:‏ إذا اقترض لغيره ولم يعلمه بحاله لم يعجبني وقال‏:‏ ما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه قال القاضي‏:‏ يعني إذا كان من يقترض له غير معروف بالوفاء لكونه تغريرا بمال المقرض‏,‏ وإضرارا به أما إذا كان معروفا بالوفاء لم يكره لكونه إعانة له‏,‏ وتفريجا لكربته‏.‏

فصل‏:‏

ولا يصح إلا من جائز التصرف لأنه عقد على المال فلم يصح إلا من جائز التصرف كالبيع وحكمه في الإيجاب والقبول حكم البيع على ما مضى ويصح بلفظ السلف والقرض لورود الشرع بهما‏,‏ وبكل لفظ يؤدي معناهما مثل أن يقول‏:‏ ملكتك هذا على أن ترد على بدله أو توجد قرينة دالة على إرادة القرض فإن قال‏:‏ ملكتك ولم يذكر البدل‏,‏ ولا وجد ما يدل عليه فهو هبة فإن اختلفا فالقول قول الموهوب له لأن الظاهر معه‏,‏ لأن التمليك من غير عوض هبة‏.‏

فصل‏:‏

ولا يثبت فيه خيار ما لأن المقرض دخل على بصيرة أن الحظ لغيره فأشبه الهبة والمقترض متى شاء رده‏,‏ فيستغني بذلك عن ثبوت الخيار له ويثبت الملك في القرض بالقبض وهو عقد لازم في حق المقرض جائز في حق المقترض فلو أراد المقرض الرجوع في عين ماله‏,‏ لم يملك ذلك وقال الشافعي‏:‏ له ذلك لأن كل ما يملك المطالبة بمثله ملك أخذه إذا كان موجودا كالمغصوب والعارية ولنا أنه أزال ملكه بعوض من غير خيار‏,‏ فلم يكن له الرجوع فيه كالمبيع ويفارق المغصوب والعارية‏,‏ فإنه لم يزل ملكه عنهما ولأنه لا يملك المطالبة بمثلهما مع وجودهما وفي مسألتنا بخلافه فأما المقترض‏,‏ فله رد ما اقترضه على المقرض إذا كان على صفته لم ينقص ولم يحدث به عيب لأنه على صفة حقه‏,‏ فلزمه قبوله كالمسلم فيه وكما لو أعطاه غيره ويحتمل أن لا يلزم المقترض قبول ما ليس بمثلي لأن القرض فيه يوجب رد القيمة على أحد الوجهين فإذا رده بعينه لم يرد الواجب عليه‏,‏ فلم يجب قبوله كالمبيع‏.‏

فصل‏:‏

وللمقرض المطالبة ببدله في الحال لأنه سبب يوجب رد المثل في المثليات فأوجبه حالا كالإتلاف ولو أقرضه تفاريق ثم طالبه بها جملة فله ذلك لأن الجميع حال‏,‏ فأشبه ما لو باعه بيوعا حالة ثم طالبه بثمنها جملة وإن أجل القرض لم يتأجل‏,‏ وكان حالا وكل دين حل أجله لم يصر مؤجلا بتأجيله وبهذا قال الحارث العكلي والأوزاعي‏,‏ وابن المنذر والشافعي وقال مالك والليث‏:‏ يتأجل الجميع بالتأجيل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏المؤمنون عند شروطهم‏)‏ ولأن المتعاقدين يملكان التصرف في هذا العقد بالإقالة والإمضاء فملكا الزيادة فيه‏,‏ كخيار المجلس وقال أبو حنيفة في القرض وبدل المتلف كقولنا وفي ثمن المبيع والأجرة والصداق وعوض الخلع كقولهما لأن الأجل يقتضي جزءا من العوض والقرض لا يحتمل الزيادة والنقص في عوضه‏,‏ وبدل المتلف الواجب فيه المثل من غير زيادة ولا نقص فلذلك لم يتأجل وبقية الأعواض يجوز الزيادة فيها فجاز تأجيلها ولنا‏,‏ أن الحق يثبت حالا والتأجيل تبرع منه ووعد‏,‏ فلا يلزم الوفاء به كما لو أعاره شيئا وهذا لا يقع عليه اسم الشرط‏,‏ ولو سمى فالخبر مخصوص بالعارية فيلحق به مما اختلفا فيه لأنه مثله ولنا‏,‏ على أبي حنيفة أنها زيادة بعد استقرار العقد فأشبه القرض‏,‏ وأما الإقالة‏:‏ فهي فسخ وابتداء عقد آخر بخلاف مسألتنا‏,‏ وأما خيار المجلس فهو بمنزلة ابتداء العقد بدليل أنه يجزئ فيه القبض لما يشترط قبضه‏,‏ والتعين لما في الذمة‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز قرض المكيل والموزون بغير خلاف قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استقراض ماله مثل من المكيل والموزون والأطعمة جائز ويجوز قرض كل ما يثبت في الذمة سلما سوى بني آدم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز قرض غير المكيل والموزون لأنه لا مثل له‏,‏ أشبه الجواهر ولنا ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- استسلف بكرا وليس بمكيل ولا موزون‏)‏ ولأن ما يثبت سلما يملك بالبيع ويضبط بالوصف‏,‏ فجاز قرضه كالمكيل والموزون وقولهم‏:‏ لا مثل له خلاف أصلهم فإن عند أبي حنيفة‏,‏ لو أتلف على رجل ثوبا ثبت في ذمته مثله ويجوز الصلح عنه بأكثر من قيمته فأما ما لا يثبت في الذمة سلما‏,‏ كالجواهر وشبهها فقال القاضي‏:‏ يجوز فيها قرضها ويرد المستقرض القيمة لأن ما لا مثل له يضمن بالقيمة‏,‏ والجواهر كغيرها في القيم وقال أبو الخطاب‏:‏ لا يجوز قرضها لأن القرض يقتضي رد المثل وهذه لا مثل لها ولأنه لم ينقل قرضها‏,‏ ولا هي في معنى ما نقل القرض فيه لكونها ليست من المرافق ولا يثبت في الذمة سلما‏,‏ فوجب إبقاؤها على المنع ويمكن بناء هذا الخلاف على الوجهين في الواجب في بدل غير المكيل والموزون فإذا قلنا‏:‏ الواجب رد المثل لم يجز قرض الجواهر وما لا يثبت في الذمة سلما لتعذر رد مثلها وإن قلنا‏:‏ الواجب رد القيمة جاز قرضه لإمكان رد القيمة ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين‏.‏

فصل‏:‏

فأما بنو آدم‏,‏ فقال أحمد‏:‏ أكره قرضهم فيحتمل كراهية تنزيه ويصح قرضهم وهو قول ابن جريج‏,‏ والمزني لأنه مال يثبت في الذمة سلما فصح قرضه كسائر الحيوان ويحتمل أنه أراد كراهة التحريم‏,‏ فلا يصح قرضهم اختاره القاضي لأنه لم ينقل قرضهم ولا هو من المرافق ويحتمل صحة قرض العبيد دون الإماء وهو قول مالك والشافعي إلا أن يقرضهن من ذوي محارمهن‏,‏ لأن الملك بالقرض ضعيف فإنه لا يمنعه من ردها على المقرض فلا يستباح به الوطء‏,‏ كالملك في مدة الخيار وإذا لم يبح الوطء لم يصح القرض لعدم القائل بالفرق‏,‏ ولأن الأبضاع مما يحتاط لها ولو أبحنا قرضهن أفضى إلى أن الرجل يستقرض أمة‏,‏ فيطؤها ثم يردها من يومه ومتى احتاج إلى وطئها استقرضها فوطئها ثم ردها‏,‏ كما يستعير المتاع فينتفع به ثم يرده ولنا أنه عقد ناقل للملك فاستوى فيه العبيد والإماء كسائر العقود ولا نسلم ضعف الملك فإنه مطلق لسائر التصرفات‏,‏ بخلاف الملك في مدة الخيار وقولهم‏:‏ متى شاء المقترض ردها ممنوع فإننا إذا قلنا‏:‏ الواجب رد القيمة لم يملك المقترض رد الأمة وإنما يرد قيمتها وإن سلمنا ذلك‏,‏ لكن متى قصد المقترض هذا لم يحل له فعله ولا يصح اقتراضه كما لو اشترى أمة ليطأها ثم يردها بالمقابلة أو بعيب فيها‏,‏ وإن وقع هذا بحكم الاتفاق لم يمنع الصحة كما لو وقع ذلك في البيع‏,‏ وكما لو أسلم جارية في أخرى موصوفة بصفاتها ثم ردها بعينها عند حلول الأجل ولو ثبت أن القرض ضعيف لا يبيح الوطء لم يمنع منه في الجواري‏,‏ كالبيع في مدة الخيار وعدم القائل بالفرق ليس بشيء على ما عرف في مواضعه وعدم نقله ليس بحجة فإن أكثر الحيوانات لم ينقل قرضها وهو جائز‏.‏

فصل‏:‏

وإذا اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن‏,‏ لم يجز لأن القرض فيها يوجب رد المثل فإذا لم يعرف المثل لم يمكن القضاء وكذلك لو اقترض مكيلا أو موزونا جزافا لم يجز لذلك ولو قدره بمكيال بعينه‏,‏ أو صنجة بعينها غير معروفين عند العامة لم يجز لأنه لا يأمن تلف ذلك‏,‏ فيتعذر رد المثل فأشبه السلم في مثل ذلك وقال الإمام أحمد في ماء بين قوم‏,‏ لهم نوب في أيام مسماة فاحتاج بعضهم إلى أن يستقي في غير نوبته فاستقرض من نوبة غيره‏,‏ ليرد عليه بدله في يوم نوبته‏:‏ فلا بأس وإن كان غير محدود كرهته فكرهه إذا لم يكن محدودا لأنه لا يمكنه رد مثله وإن كانت الدراهم يتعامل بها عددا فاستقرض عددا‏,‏ رد عددا وإن استقرض وزنا رد وزنا وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعي واستقرض أيوب من حماد بن زيد دراهم بمكة عددا‏,‏ وأعطاه بالبصرة عددا لأنه وفاه مثلما اقترض فيما يتعامل به الناس فأشبه ما لو كانوا يتعاملون بها وزنا فرد وزنا‏.‏

فصل‏:‏

ويجب رد المثل في المكيل والموزون لا نعلم فيه خلافا قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم‏,‏ على أن من أسلف سلفا مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله‏,‏ أن ذلك جائز وأن للمسلف أخذ ذلك ولأن المكيل والموزون يضمن في الغصب والإتلاف بمثله فكذا ها هنا فأما غير المكيل والموزون ففيه وجهان أحدهما يجب رد قيمته يوم القرض لأنه لا مثل له‏,‏ فيضمنه بقيمته كحال الإتلاف والغصب والثاني يجب رد مثله ‏(‏لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- استسلف من رجل بكرا‏,‏ فرد مثله‏)‏‏.‏ ويخالف الإتلاف فإنه لا مسامحة فيه فوجبت القيمة لأنها أحصر‏,‏ والقرض أسهل ولهذا جازت النسيئة فيه فيما فيه الربا ويعتبر مثل صفاته تقريبا‏,‏ فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل والموزون فإن تعذر المثل فعليه قيمته يوم تعذر المثل لأن القيمة ثبتت في ذمته حينئذ وإذا قلنا‏:‏ تجب القيمة وجبت حين القرض لأنها حينئذ ثبتت في ذمته‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز قرض الخبز ورخص فيه أبو قلابة ومالك ومنع منه أبو حنيفة ولنا‏,‏ أنه موزون فجاز قرضه كسائر الموزونات وإذا أقرضه بالوزن‏,‏ ورد مثله بالوزن جاز وإن أخذه عددا فرده عددا‏,‏ فقال الشريف أبو جعفر‏:‏ فيه روايتان إحداهما لا يجوز لأنه موزون أشبه سائر الموزونات والثانية‏,‏ يجوز قال ابن أبي موسى‏:‏ إذا كان يتحرى أن يكون مثلا بمثل فلا يحتاج إلى الوزن والوزن أحب إلى ووجه الجواز‏,‏ ما روت عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏قلت‏:‏ يا رسول الله إن الجيران يستقرضون الخبز والخمير ويردون زيادة ونقصانا فقال‏:‏ لا بأس‏,‏ إن ذلك من مرافق الناس لا يراد به الفضل‏)‏ ذكره أبو بكر في ‏"‏الشافي‏"‏ بإسناده وفيه أيضا بإسناده عن معاذ بن جبل ‏(‏أنه سئل عن استقراض الخبز والخمير‏,‏ فقال‏:‏ سبحان الله إنما هذا من مكارم الأخلاق فخذ الكبير وأعط الصغير‏,‏ وخذ الصغير وأعط الكبير خيركم أحسنكم قضاء سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك‏)‏ ولأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ويشق اعتبار الوزن فيه‏,‏ وتدخله المسامحة فجاز كدخول الحمام من غير تقدير أجرة‏,‏ والركوب في سفينة الملاح وأشباه هذا فإن شرط أن يعطيه أكثر مما أقرضه أو أجود أو أعطاه مثل ما أخذ وزاده كسرة‏,‏ كان ذلك حراما وكذلك إن أقرضه صغيرا قصد أن يعطيه كبيرا لأن الأصل تحريم ذلك وإنما أبيح لمشقة إمكان التحرز منه‏,‏ فإذا قصد أو شرط أو أفردت الزيادة فقد أمكن التحرز منه فحرم بحكم الأصل‏,‏ كما لو فعل ذلك في غيره‏.‏

فصل‏:‏

وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف قال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية‏,‏ فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس‏,‏ وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولأنه عقد إرفاق وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة‏,‏ مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحا أو نقدا‏,‏ ليعطيه خيرا منه وإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر وكان لحمله مؤنة لم يجز لأنه زيادة وإن لم يكن لحمله مؤنة‏,‏ جاز وحكاه ابن المنذر عن علي وابن عباس والحسن بن علي‏,‏ وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود‏,‏ وأيوب السختياني والثوري وأحمد‏,‏ وإسحاق وكرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة‏,‏ ومالك والأوزاعي والشافعي لأنه قد يكون في ذلك زيادة وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز‏,‏ ومعناه‏:‏ اشتراط القضاء في بلد آخر وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعا وقال عطاء‏:‏ كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق‏,‏ فيأخذونها منه فسئل عن ذلك ابن عباس فلم ير به بأسا وروي عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل عن مثل هذا‏,‏ فلم ير به بأسا وممن لم ير به بأسا ابن سيرين والنخعي رواه كله سعيد وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد أخرى ليربح خطر الطريق والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها‏,‏ بل بمشروعيتها ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة وإن شرط في القرض أن يؤجره داره‏,‏ أو يبيعه شيئا أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وسلف ولأنه شرط عقدا في عقد‏,‏ فلم يجز كما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره وإن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها‏,‏ أو على أن يهدي له هدية أو يعمل له عملا كان أبلغ في التحريم وإن فعل ذلك من غير شرط قبل الوفاء‏,‏ لم يقبله ولم يجز قبوله إلا أن يكافئه‏,‏ أو يحسبه من دينه إلا أن يكون شيئا جرت العادة به بينهما قبل القرض لما روى الأثرم أن رجلا كان له على سماك عشرون درهما فجعل يهدي إليه السمك ويقومه حتى بلغ ثلاثة عشر درهما فسأل ابن عباس فقال‏:‏ أعطه سبعة دراهم وعن ابن سيرين‏,‏ أن عمر أسلف أبي بن كعب عشرة آلاف درهم فأهدى إليه أبي بن كعب من ثمرة أرضه فردها عليه‏,‏ ولم يقبلها فأتاه أبي فقال‏:‏ لقد علم أهل المدينة إني من أطيبهم ثمرة وأنه لا حاجة لنا فيم منعت هديتنا‏,‏ ثم أهدى إليه بعد ذلك فقبل وعن زر بن حبيش قال‏:‏ قلت لأبي بن كعب‏:‏ إني أريد أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق فقال‏:‏ إنك تأتي أرضا فاش فيها الربا فإن أقرضت رجلا قرضا‏,‏ فأتاك بقرضك ومعه هدية فاقبض قرضك واردد عليه هديته رواهما الأثرم وروى البخاري‏,‏ عن أبي بردة عن أبي موسى قال‏:‏ قدمت المدينة‏,‏ فلقيت عبد الله بن سلام وذكر حديثا وفيه‏:‏ ثم قال لي‏:‏ إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان لك على رجل دين فأهدى إليك حمل تبن‏,‏ أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه‏,‏ فإنه ربا قال ابن أبي موسى‏:‏ ولو أقرضه قرضا ثم استعمله عملا لم يكن ليستعمله مثله قبل القرض‏,‏ كان قرضا جر منفعة ولو استضاف غريمه ولم تكن العادة جرت بينهما بذلك حسب له ما أكله لما روى ابن ماجه‏,‏ في ‏"‏ سننه ‏"‏ عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه‏,‏ أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله‏,‏ إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك‏)‏ وهذا كله في مدة القرض فأما بعد الوفاء فهو كالزيادة من غير شرط‏,‏ على ما سنذكره - إن شاء الله تعالى -‏.‏

فصل‏:‏

فإن أقرضه مطلقا من غير شرط فقضاه خيرا منه في القدر‏,‏ أو الصفة أو دونه برضاهما‏,‏ جاز وكذلك إن كتب له بها سفتجة أو قضاه في بلد آخر جاز ورخص في ذلك ابن عمر‏,‏ وسعيد بن المسيب والحسن والنخعي‏,‏ والشعبي والزهري ومكحول‏,‏ وقتادة ومالك والشافعي‏,‏ وإسحاق وقال أبو الخطاب‏:‏ إن قضاه خيرا منه أو زاده زيادة بعد الوفاء من غير مواطأة‏,‏ فعلى روايتين وروي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن عمر‏,‏ أنه يأخذ مثل قرضه ولا يأخذ فضلا لأنه إذا أخذ فضلا كان قرضا جر منفعة ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم- استسلف بكرا‏,‏ فرد خيرا منه وقال‏:‏ ‏(‏خيركم أحسنكم قضاء‏)‏ متفق عليه وللبخاري‏:‏ ‏(‏أفضلكم أحسنكم قضاء‏)‏ ولأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضا في القرض ولا وسيلة إليه ولا إلى استيفاء دينه‏,‏ فحلت كما لو لم يكن قرض وقال ابن أبي موسى‏:‏ إذا زاده بعد الوفاء فعاد المستقرض بعد ذلك يلتمس منه قرضا ثانيا‏,‏ ففعل لم يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه فإن أخذ زيادة‏,‏ أو أجود مما أعطاه كان حراما قولا واحدا وإن كان الرجل معروفا بحسن القضاء‏,‏ لم يكره إقراضه وقال القاضي‏:‏ فيه وجه آخر أنه يكره لأنه يطمع في حسن عادته وهذا غير صحيح فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معروفا بحسن القضاء فهل يسوغ لأحد أن يقول‏:‏ إن إقراضه مكروه‏,‏ ولأن المعروف بحسن القضاء خير الناس وأفضلهم وهو أولى الناس بقضاء حاجته وإجابة مسألته‏,‏ وتفريج كربته فلا يجوز أن يكون ذلك مكروها وإنما يمنع من الزيادة المشروطة ولو أقرضه مكسرة‏,‏ فجاءه مكانها بصحاح بغير شرط جاز وإن جاءه بصحاح أقل منها فأخذها بجميع حقه‏,‏ لم يجز قولا واحدا لأن ذلك معاوضة للنقد بأقل منه فكان ربا‏.‏

فصل‏:‏

وإن شرط في القرض أن يوفيه أنقص مما أقرضه‏,‏ وكان ذلك مما يجري فيه الربا لم يجز لإفضائه إلى فوات المماثلة فيما هي شرط فيه وإن كان في غيره لم يجز أيضا وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي‏,‏ وفي الوجه الآخر يجوز لأن القرض جعل للرفق بالمستقرض وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه‏,‏ بخلاف الزيادة ولنا أن القرض يقتضي المثل فشرط النقصان يخالف مقتضاه فلم يجز‏,‏ كشرط الزيادة‏.‏

فصل‏:‏

ولو اقترض من رجل نصف دينار فدفع إليه دينارا صحيحا وقال‏:‏ نصفه قضاء‏,‏ ونصفه وديعة عندك أو سلما في شيء صح وإن امتنع المقرض من قبوله‏,‏ فله ذلك لأن عليه في الشركة ضررا ولو اشترى بالنصف الثاني من الدينار سلعة جاز إلا أن يكون ذلك عن مشارطة‏,‏ فقال‏:‏ أقضيك صحيحا بشرط إني آخذ منك بنصفه الباقي قميصا فإنه لا يجوز لأنه لم يدفع إليه صحيحا إلا ليعطيه بالنصف الباقي فضل ما بين الصحيح والمكسور من النصف المقضي ولو لم يكن شرطا جاز فإن ترك النصف الآخر عنده وديعة جاز‏,‏ وكانا شريكين فيه وإن اتفقا على كسره كسراه فإن اختلفا لم يجبر أحدهما على كسره لأنه ينقص قيمته‏.‏

فصل‏:‏

ولو أفلس غريمه‏,‏ فأقرضه ألفا ليوفيه كل شهر شيئا معلوما جاز لأنه إنما انتفع باستيفاء ما هو مستحق له ولو كان له عليه حنطة فأقرضه ما يشتري به حنطة يوفيه إياها‏,‏ لم يكن محرما لذلك ولو أراد رجل أن يبعث إلى عياله نفقة فأقرضها رجلا على أن يدفعها إلى عياله فلا بأس‏,‏ إذا لم يأخذ عليها شيئا ولو أقرض أكاره ما يشتري به بقرا يعمل عليها في أرضه أو بذرا يبذره فيها فإن شرط ذلك في القرض‏,‏ لم يجز لأنه شرط ما ينتفع به فأشبه شرط الزيادة وإن لم يكن شرطا فقال ابن أبي موسى‏:‏ لا يجوز لأنه قرض جر منفعة قال‏:‏ ولو قال‏:‏ أقرضني ألفا‏,‏ وادفع إلى أرضك أزرعها بالثلث كان خبيثا والأولى جواز ذلك إذا لم يكن مشروطا لأن الحاجة داعية إليه والمستقرض إنما يقصد نفع نفسه‏,‏ وإنما يحصل انتفاع المقرض ضمنا فأشبه أخذ السفتجة به وإيفاءه في بلد آخر‏,‏ ولأنه مصلحة لهما جميعا فأشبه ما ذكرنا‏.‏

فصل‏:‏

قال أحمد في من اقترض من رجل دراهم‏,‏ وابتاع بها منه شيئا فخرجت زيوفا‏:‏ فالبيع جائز ولا يرجع عليه بشيء يعني لا يرجع البائع على المشتري ببدل الثمن لأنها دراهمه‏,‏ فعيبها عليه وإنما له على المشتري بدل ما أقرضه إياه بصفته زيوفا وهذا يحتمل أنه أراد فيما إذا باعه السلعة بها وهو يعلم عيبها فأما إن باعه في ذمته بدراهم ثم قبض هذه بدلا عنها غير عالم بها‏,‏ فينبغي أن يجب له دراهم خالية من العيب ويرد هذه عليه وللمشتري ردها على البائع‏,‏ وفاء عن القرض ويبقى الثمن في ذمته وإن حسبها على البائع وفاء عن القرض ووفاه الثمن جيدا‏,‏ جاز قال‏:‏ ولو أقرض رجلا دراهم وقال‏:‏ إذا مت فأنت في حل كانت وصية وإن قال‏:‏ إن مت فأنت في حل لم يصح وذلك لأن هذا إبراء معلق على شرط ولا يصح تعليقه على الشروط‏,‏ والأول وصية لأنه علق ذلك على موت نفسه والوصية جائزة قال‏:‏ ولو أقرضه تسعين دينارا بمائة عددا والوزن واحد وكانت لا تنفق في مكان إلا بالوزن‏,‏ جاز وإن كانت تنفق برءوسها فلا وذلك لأنها إذا كانت تنفق في مكان برءوسها كان ذلك زيادة‏,‏ لأن التسعين من المائة تقوم مقام التسعين التي أقرضه إياها ويستفضل عشرة ولا يجوز اشتراط الزيادة‏,‏ وإذا كانت لا تنفق إلا بالوزن فلا زيادة فيها وإن كثر عددها قال‏:‏ ولو قال‏:‏ اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة فلا بأس‏,‏ ولو قال‏:‏ اكفل عني ولك ألف لم يجز وذلك لأن قوله‏:‏ اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح فجازت كما لو قال‏:‏ ابن لي هذا الحائط ولك عشرة وأما الكفالة‏,‏ فإن الكفيل يلزمه الدين فإذا أداه وجب له على المكفول عنه فصار كالقرض‏,‏ فإذا أخذ عوضا صار القرض جارا للمنفعة فلم يجز‏.‏

فصل‏:‏

قد ذكرنا أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا‏,‏ أو كان بحاله ولو كان ما أقرضه موجودا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله‏,‏ سواء تغير سعره أو لم يتغير وإن حدث به عيب لم يلزمه قبوله وإن كان القرض فلوسا أو مكسرة فحرمها السلطان‏,‏ وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها ولم يلزمه قبولها‏,‏ سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها لأنها تعيبت في ملكه نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة وقال‏:‏ يقومها كم تساوي يوم أخذها‏؟‏ ثم يعطيه وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا قال القاضي‏:‏ هذا إذا اتفق الناس على تركها‏,‏ فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها وقال مالك والليث بن سعد‏,‏ والشافعي‏:‏ ليس له إلا مثل ما أقرضه لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى نقص سعرها ولنا أن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وإبطال ماليتها‏,‏ فأشبه كسرها أو تلف أجزائها وأما رخص السعر فلا يمنع ردها‏,‏ سواء كان كثيرا مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق‏,‏ أو قليلا لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت‏.‏

فصل‏:‏

وإذا أقرضه ما لحمله مؤنة‏,‏ ثم طالبه بمثله ببلد آخر لم يلزمه لأنه لا يلزمه حمله له إلى ذلك البلد فإن طالبه بالقيمة لزمه لأنه لا مؤنة لحملها فإن تبرع المستقرض بدفع المثل وأبى المقرض قبوله‏,‏ فله ذلك لأن عليه ضررا في قبضه لأنه ربما احتاج إلى حمله إلى المكان الذي أقرضه فيه‏,‏ وله المطالبة بقيمة ذلك في البلد الذي أقرضه فيه لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه وإن كان القرض أثمانا أو ما لا مؤنة في حمله‏,‏ وطالبه بها وهما ببلد آخر لزمه دفعه إليه لأن تسليمه إليه في هذا البلد وغيره واحد‏.‏

فصل‏:‏

وإن أقرض ذمي ذميا خمرا‏,‏ ثم أسلما أو أحدهما بطل القرض ولم يجب على المقترض شيء سواء كان هو المسلم أو الآخر لأنه إذا أسلم لم يجز أن يجب عليه خمر لعدم ماليتها‏,‏ ولا يجب بدلها لأنها لا قيمة لها ولذلك لا يضمنها إذا أتلفها وإن كان المسلم الآخر لم يجب له شيء لذلك‏.‏