فصل: كتاب الصلح

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب الصلح

الصلح معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين ويتنوع أنواعا صلح بين المسلمين وأهل الحرب‏,‏ وصلح بين أهل العدل وأهل البغي وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏‏.‏ وروى أبو هريرة‏,‏ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما‏)‏ أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح وروي عن عمر‏,‏ أنه كتب إلى أبي موسى بمثل ذلك وأجمعت الأمة على جواز الصلح في هذه الأنواع التي ذكرناها ولكل واحد منها باب يفرد له‏,‏ يذكر فيه أحكامه وهذا الباب للصلح بين المتخاصمين في الأموال وهو نوعان صلح على إقرار وصلح على إنكار ولم يسم الخرقي الصلح إلا في الإنكار خاصة‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏والصلح الذي يجوز هو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه‏,‏ فيصطلحان على بعضه فإن كان يعلم ما عليه فجحده‏,‏ فالصلح باطل‏]‏ وجملة ذلك أن الصلح على الإنكار صحيح وبه قال مالك وأبو حنيفة‏,‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يصح لأنه عاوض على ما لم يثبت له فلم تصح المعاوضة كما لو باع مال غيره ولأنه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه‏,‏ فبطل كالصلح على حد القذف ولنا عموم قوله‏:‏ عليه السلام ‏(‏الصلح بين المسلمين جائز‏)‏ فيدخل هذا في عموم قوله فإن قالوا‏:‏ فقد قال‏:‏ ‏(‏إلا صلحا أحل حراما‏)‏ وهذا داخل فيه لأنه لم يكن له أن يأخذ من مال المدعى عليه‏,‏ فحل بالصلح قلنا‏:‏ لا نسلم دخوله فيه ولا يصح حمل الحديث على ما ذكروه لوجهين أحدهما أن هذا يوجد في الصلح بمعنى البيع‏,‏ فإنه يحل لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله وكذلك الصلح بمعنى الهبة فإنه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه‏,‏ الإسقاط يحل له ترك أداء ما كان واجبا عليه الثاني أنه لو حل به المحرم لكان الصلح صحيحا‏,‏ فإن الصلح الفاسد لا يحل الحرام وإنما معناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه كما لو صالحه على استرقاق حر‏,‏ أو إحلال بضع محرم أو صالحه بخمر أو خنزير وليس ما نحن فيه كذلك وعلى أنهم لا يقولون بهذا فإنهم يبيحون لمن له حق يجحده غريمه‏,‏ أن يأخذ من ماله بقدره أو دونه فإذا حل له ذلك من غير اختياره ولا علمه فلأن يحل برضاه وبذله أولى‏,‏ وكذلك إذا حل مع اعتراف الغريم فلأن يحل مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقه إلا بذلك أولى ولأن المدعي ها هنا يأخذ عوض حقه الثابت له‏,‏ والمدعى عليه يدفعه لدفع الشر عنه وقطع الخصومة ولم يرد الشرع بتحريم ذلك في موضع‏,‏ ولأنه صلح يصح مع الأجنبي فصح مع الخصم كالصلح مع الإقرار يحققه أنه إذا صح مع الأجنبي مع غناه عنه فلأن يصح مع الخصم مع حاجته إليه أولى وقولهم‏:‏ إنه معاوضة قلنا‏:‏ في حقهما أم في حق أحدهما‏؟‏ الأول ممنوع‏,‏ والثاني مسلم وهذا لأن المدعي يأخذ عوض حقه من المنكر لعلمه بثبوت حقه عنده فهو معاوضة في حقه والمنكر يعتقد أنه يدفع المال لدفع الخصومة واليمين عنه‏,‏ ويخلصه من شر المدعي فهو أبرأ في حقه وغير ممتنع ثبوت المعاوضة في حق أحد المتعاقدين دون الآخر‏,‏ كما لو اشترى عبدا شهد بحريته فإنه يصح ويكون معاوضة في حق البائع واستنقاذا له من الرق في حق المشتري‏,‏ كذا ها هنا إذا ثبت هذا فلا يصح هذا الصلح إلا أن يكون المدعي معتقدا أن ما ادعاه حق‏,‏ والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه فيدفع إلى المدعي شيئا افتداء ليمينه وقطعا للخصومة‏,‏ وصيانة لنفسه عن التبذل وحضور مجلس الحاكم فإن ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم ذلك‏,‏ ويرون دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم والشرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشر عنهم ببذل أموالهم‏,‏ والمدعي يأخذ ذلك عوضا عن حقه الثابت له فلا يمنعه الشرع من ذلك أيضا سواء كان المأخوذ من جنس حقه‏,‏ أو من غير جنسه بقدر حقه أو دونه فإن أخذ من جنس حقه بقدره فهو مستوف له‏,‏ وإن أخذ دونه فقد استوفى بعضه وترك بعضه وإن أخذ من غير جنس حقه فقد أخذ عوضه ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقه أكثر مما ادعاه لأن الزائد لا مقابل له‏,‏ فيكون ظالما بأخذه وإن أخذ من غير جنسه جاز ويكون بيعا في حق المدعي لاعتقاده أخذه عوضا فيلزمه حكم إقراره فإن كان المأخوذ شقصا في دار أو عقار‏,‏ وجبت فيه الشفعة وإن وجد به عيبا فله رده والرجوع في دعواه‏,‏ ويكون في حق المنكر بمنزلة الإبراء لأنه دفع المال افتداء ليمينه ودفعا للضرر عنه‏,‏ لا عوضا عن حق يعتقده فيلزمه أيضا حكم إقراره فإن وجد بالمصالح عنه عيبا لم يرجع به على المدعي لاعتقاده أنه ما أخذ عوضا وإن كان شقصا لم تثبت فيه الشفعة لأنه يعتقده على ملكه لم يزل‏,‏ وما ملكه بالصلح ولو دفع المدعى عليه إلى المدعي ما ادعاه أو بعضه لم يثبت فيه حكم البيع ولا تثبت فيه الشفعة لأن المدعي يعتقد أنه استوفى بعض حقه وأخذ عين ماله‏,‏ مسترجعا لها ممن هي عنده فلم يكن بيعا كاسترجاع العين المغصوبة‏,‏ فأما إن كان أحدهما كاذبا مثل أن يدعي المدعي شيئا يعلم أنه ليس له وينكر المنكر حقا يعلم أنه عليه‏,‏ فالصلح باطل في الباطن لأن المدعي إذا كان كاذبا فما يأخذه أكل مال بالباطل أخذه بشره وظلمه ودعواه الباطلة‏,‏ لا عوضا عن حق له فيكون حراما عليه كمن خوف رجلا بالقتل حتى أخذ ماله‏,‏ وإن كان صادقا والمدعى عليه يعلم صدقه وثبوت حقه فجحده لينتقص حقه‏,‏ أو يرضيه عنه بشيء فهو هضم للحق وأكل مال بالباطل فيكون ذلك حراما‏,‏ والصلح باطل ولا يحل له مال المدعي بذلك وقد ذكره الخرقي في قوله ‏"‏ وإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل ‏"‏ يعني في الحقيقة‏,‏ وأما الظاهر لنا فهو الصحة لأننا لا نعلم باطن الحال وإنما ينبني الأمر على الظواهر والظاهر‏,‏ من المسلم السلامة‏.‏

فصل‏:‏

ولو ادعى على رجل وديعة أو قرضا أو تفريطا في وديعة أو مضاربة‏,‏ فأنكره واصطلحا صح لما ذكرناه‏.‏

فصل‏:‏

وإن صالح عن المنكر أجنبي صح‏,‏ سواء اعترف للمدعي بصحة دعواه أو لم يعترف وسواء كان بإذنه أو غير إذنه وقال أصحاب الشافعي‏:‏ إنما يصح إذا اعترف للمدعي بصدقه وهذا مبني على صلح المنكر‏,‏ وقد ذكرناه ثم لا يخلو الصلح إما أن يكون عن دين أو عين فإن كان عن دين‏,‏ صح سواء كان بإذن المنكر أو بغير إذنه لأن قضاء الدين عن غيره جائز بإذنه وبغير إذنه‏,‏ فإن ‏(‏عليا وأبا قتادة رضي الله عنهما قضيا عن الميت فأجازه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏)‏ وإن كان الصلح عن عين بإذن المنكر فهو كالصلح منه لأن الوكيل يقوم مقام الموكل وإن كان بغير إذنه‏,‏ فهو افتداء للمنكر من الخصومة وإبراء له من الدعوى وذلك جائز وفي الموضعين‏,‏ إذا صالح عنه بغير إذنه لم يرجع عليه بشيء لأنه أدى عنه مالا يلزمه أداؤه وخرجه القاضي وأبو الخطاب على الروايتين فيما إذا قضى دينه الثابت بغير إذنه وليس هذا بجيد لأن هذا لم يثبت وجوبه على المنكر‏,‏ ولا يلزمه أداؤه إلى المدعي فكيف يلزمه أداؤه إلى غيره ولأنه أدى عنه ما لا يجب عليه‏,‏ فكان متبرعا كما لو تصدق عنه ومن قال برجوعه فإنه يجعله كالمدعي في الدعوى على المنكر لا غير‏,‏ أما أن يجب له الرجوع بما أداه حتما فلا وجه له أصلا لأن أكثر ما يجب لمن قضى دين غيره أن يقوم مقام صاحب الدين وصاحب الدين ها هنا لم يجب له حق‏,‏ ولا لزم الأداء إليه ولا يثبت له أكثر من جواز الدعوى فكذلك هذا ويشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدعي‏,‏ فأما إن لم يعلم لم يحل له دعوى بشيء لا يعلم ثبوته وأما ما إذا صالح عنه بإذنه‏,‏ فهو وكيله والتوكيل في ذلك جائز ثم إن أدى عنه بإذنه رجع إليه‏,‏ وهذا قول الشافعي وإن أدى عنه بغير إذنه متبرعا لم يرجع بشيء وإن قضاه محتسبا بالرجوع خرج على الروايتين في من قضى دين غيره بغير إذنه لأنه قد وجب عليه أداؤه بعقد الصلح‏,‏ بخلاف ما إذا صالح وقضى بغير إذنه فإنه قضى ما لا يجب على المنكر قضاؤه‏.‏

فصل‏:‏

وإن صالح الأجنبي المدعي لنفسه لتكون المطالبة له فلا يخلو من أن يعترف للمدعي بصحة دعواه‏,‏ أو لا يعترف له فإن لم يعترف له كان الصلح باطلا لأنه يشتري منه ما لم يثبت له‏,‏ ولم تتوجه إليه خصومة يفتدي منها فأشبه ما لو اشترى منه ملك غيره وإن اعترف له بصحة دعواه وكان المدعي دينا‏,‏ لم يصح لأنه اشترى ما لا يقدر البائع على تسليمه ولأنه بيع للدين من غير من هو في ذمته ومن أصحابنا من قال‏:‏ يصح وليس بجيد لأن بيع الدين المقر به من غير من هو في ذمته لا يصح فبيع دين في ذمة منكر معجوز عن قبضه أولى وإن كان المدعي عينا‏,‏ فقال الأجنبي للمدعي‏:‏ أنا أعلم أنك صادق فصالحني عنها فإني قادر على استنقاذها من المنكر فقال أصحابنا‏:‏ يصح الصلح وهو مذهب الشافعي لأنه اشترى منه ملكه الذي يقدر على تسليمه ثم إن قدر على انتزاعه‏,‏ استقر الصلح وإن عجز كان له الفسخ لأنه لم يسلم له المعقود عليه‏,‏ فكان له الرجوع إلى بدله ويحتمل أنه إن تبين أنه لا يقدر على تسليمه تبين أن الصلح كان فاسدا لأن الشرط الذي هو القدرة على قبضه معدوم حال العقد فكان فاسدا‏,‏ كما لو اشترى عبده فتبين أنه آبق أو ميت ولو اعترف له بصحة دعواه ولا يمكنه استيفاؤه‏,‏ لم يصح الصلح لأنه اشترى ما لا يمكنه قبضه منه فأشبه شراء العبد الآبق والجمل الشارد فإن اشتراه وهو يظن أنه عاجز عن قبضه‏,‏ فتبين أن قبضه ممكن صح البيع لأن البيع تناول ما يمكن قبضه فصح‏,‏ كما لو علما ذلك ويحتمل أن لا يصح لأنه ظن عدم الشرط فأشبه ما لو باع عبدا يظن أنه حر أو أنه عبد غيره فتبين أنه عبده ويحتمل أن يفرق بين من يعلم أن البيع يفسد بالعجز عن تسليم المبيع‏,‏ وبين من لا يعلم ذلك لأن من يعلم ذلك يعتقد فساد البيع والشراء فكان بيعه فاسدا لكونه متلاعبا بقوله‏:‏ معتقدا فساده ومن لا يعلم يعتقده صحيحا‏,‏ وقد تبين اجتماع شروطه فصح كما لو علمه مقدورا على تسليمه‏.‏

فصل‏:‏

فإن قال الأجنبي للمدعي‏:‏ أنا وكيل المدعى عليه في مصالحتك عن هذه العين‏,‏ وهو مقر لك بها وإنما يجحدها في الظاهر فظاهر كلام الخرقي أن الصلح لا يصح لأنه يجحدها في الظاهر لينتقص المدعي بعض حقه أو يشتريه بأقل من ثمنه‏,‏ فهو هاضم للحق يتوصل إلى أخذ المصالح عنه بالظلم والعدوان فهو بمنزلة ما لو شافهه بذلك‏,‏ فقال‏:‏ أنا أعلم صحة دعواك وأن هذا لك ولكن لا أسلمه إليك‏,‏ ولا أقر لك به عند الحاكم حتى تصالحني منه على بعضه أو عوض عنه وقال القاضي‏:‏ يصح وهذا مذهب الشافعي قالوا‏:‏ ثم ينظر إلى المدعى عليه فإن صدقه على ذلك‏,‏ ملك العين ورجع على الأجنبي وعليه بما أدى عنه إن كان أذن له في الدفع‏,‏ وإن أنكر الإذن في الدفع فالقول قوله مع يمينه ويكون حكمه حكم من قضى دينه بغير إذنه وإن أنكر الوكالة‏,‏ فالقول قوله مع يمينه وليس للأجنبي الرجوع عليه ولا يحكم له بملكها فأما حكم ملكها في الباطن‏,‏ فإن كان وكل الأجنبي في الشراء فقد ملكها لأنه اشتراها بإذنه فلا يقدح إنكاره في ملكها لأن ملكه ثبت قبل إنكاره‏,‏ وإنما هو ظالم بالإنكار للأجنبي وإن كان لم يوكله لم يملكها لأنه اشترى له عينا بغير إذنه‏,‏ ويحتمل أن يقف على إجازته كما قلنا في من اشترى لغيره شيئا بغير إذنه بثمن في ذمته فإن أجازه‏,‏ لزم في حقه وإن لم يجزه لزم من اشتراه وإن قال الأجنبي للمدعي‏:‏ قد عرف المدعي عليه صحة دعواك وهو يسألك أن تصالحه عنه‏,‏ وقد وكلني في المصالحة عنه فصالحه صح وكان الحكم كما ذكرنا لأنه ها هنا لم يمتنع من أدائه بل اعترف به‏,‏ وصالحه عليه مع بذله له فأشبه ما لو لم يجحده‏.‏