فصل: ثم دخلت سنة خمس وأربعين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين

فمن الحوادث فيها

 غزو المسلمين الروم

إن المسلمين غزوا الروم فهزموهم هزيمة منكرة وقتلوا جماعة من بطارقتهم‏.‏

وفيها ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة‏.‏

فاستقضى مروان بن عبد الله بن الحارث بن نوفل وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام وكان على الكوفة من قبله المغيرة بن شعبة وعلى القضاء شريح وعلى البصرة عبد الله بن عامر وعلى قضائها عميرة بن يثربي وعلى خراسان قيس بن الهيثم من قبل عبد الله بن عامر‏.‏

وفيها تحركت الخوارج الذين كانوا انحازوا عمن قتل منهم بالنهروان ومن كان ارتُث من جرحاهم بالنهروان فبرىء وعفا عنهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

وكان حيان بن ظبيان السلمي يرى رأي الخوارج وكان ممن ارتث يوم النهروان فعفا عنه علي رضي الله عنه في أربعمائة عفى عنهم من المرتثين يوم النهر فلبث في أهله شهرًا أو نحوه ثم خرج إلى الري في رجال كانوا يرون ذلك الرأي فلم يزالوا مقيمين بالريّ حتى بلغهم قتل علي رضي الله عنه فدعا أصحابه أولئك وكانوا تسعة عشر رجلًا فأتوه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الإخوان من المسلمين إنه قد بلغني أن أخاكم ابن ملجم قعد لعلي عند أغباش الصبح فشد عليه فقتله فأخذ القوم يحمدون الله على قتله فقال حيان‏:‏ إنه والله ما تلبث الأيام لابن آدم حتى تذيقه الموت فيدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا الفجرة فانصرفوا رحمكم الله إلى مصرنا فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا عذر لنا في القعود وولاتنا ظلمة وسنة الهدى متروكة فإن ظفرنا الله بهم يشفي صدور قوم مؤمنين وإن نقتل فهي مفارقة الظالمين ففيها راحة ولنا في أسلافنا الصالحين أسوة‏.‏

فقالوا‏:‏ كلنا قابل منك ما ذكرت وحامد رأيك فرد بنا المصر فإنا راضون بهديك‏.‏

فخرج وخرجوا معه مقبلين إلى الكوفة فأحب العافية وأحسن في الناس السيرة ولم يفتش على أهل الأهواء عن أهوائهم وكان يقال له‏:‏ إن فلانًا يرى رأي الشيعة وفلانًا يرى رأي الخوارج فيقول‏:‏ قضى الله ألا تزالون مختلفين وسيحكم الله بين عباده فأمنه الناس وكانت الخوارج يلقي بعضهم بعضًا ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهروان ويرون في جهاد أهل القبلة‏.‏

ففزعوا إلى ثلاثة نفر المستورد بن عُلّفة التيمي وحيان بن ظبيان ومعاذ بن حصن الطائي فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان فتشاوروا فيمن يولون عليهم فقال لهم المستورد‏:‏ أيها المؤمنون ما أبالي من كان منكم الوالي وما شرف الدنيا نريد وما إلى البقاء فيها من سبيل فقال حيان‏:‏ أما أنا فلا حاجة لي فيها وأنا بك وبكل امرىء من إخواني راض فانظروا من شئتم منكم فسموه فأنا أول من يتابعه‏.‏

فقال معاذ بن حصين‏:‏ إذا قلتما هذا وأنتما سيدا المسلمين فمن يرأس المسلمين وليس كلكم يصلح لهذا الأمر وإنما ينبغي أن يلي على المسلمين إذا كانوا سواء في الفضل أبصرهم بالحرب وأفقههم في الدين وأنتما بحمد الله ممن يرضى بهذا الأمر فليتوله أحدكما قالا‏:‏ فتوله أنت فقد رضيناك فأنت والحمد لله الكامل في دينك ورأيك‏.‏

فقال‏:‏ أنتما أسن مني فليتوله أحدكما‏.‏

فقال جماعة من الخوارج‏:‏ قد رضينا بكم أيها الثلاثة فولوا أيكم أحببتم فليس في الثلاثة رجل قال لصاحبه‏:‏ تولها فإني بك راض ثم بايعوا المستورد وذلك في جمادى الآخرة ثم أجمعوا على الخروج في غرة هلال شعبان سنة ثلاث وأربعين‏.‏

وفي هذه السنة

 قدم زياد على معاوية من فارس

بعد أن كان قد امتنع بقلعة من قلاعها أكثر من سنة فصالحه معاوية على مال يحمله إليه وكان سبب ذلك أن عبد الرحمن بن أبي بكرة كان يلي ما كان لزياد بالبصرة فبلغ معاوية أن لزياد أموالًا عند عبد الرحمن وخاف زياد على أشياء كانت في يدي عبد الرحمن لزياد فكتب إليه يأمره بإحرازها وبعث معاوية المغيرة بن شعبة لينظر في أموال زياد فقدم البصرة وأخذ عبد الرحمن وكتب إلى معاوية‏:‏ إني لم أصب في يدي عبد الرحمن شيئًا يحل لي أخذه وكتب معاوية إلى زياد‏:‏ علام تهلك نفسك أقبل فأعلمني علم ما صار إليك من المال وما خرج من يديك وما بقي عندك وأنت آمن فأتاه فأخبره فصدقه ثم سأله أن يأذن له في نزول الكوفة فأذن له فشخص إليها‏.‏

وفيها‏:‏ ولد الحجاج بن يوسف‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

عمرو بن العاص

ابن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم أبو عبد اللّه‏:‏ أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ حدثنا ابن معاوية قال‏:‏ حدثنا ابن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدًثني عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال‏:‏ قال عمرو بن العاص‏:‏ كنت للإسلام مجانبًا معاندًا حضرت بدرًا مع المشركين فنجوت ثم حضرت أحدًا فنجوت ثم حضرت الخندق فنجوت فقلت في نفسي‏:‏ كم أوضع والله ليظهرن محمد على قريش فلم أحضر الحديبية ولا صلحها وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح ورجعت قريش إلى مكة فجعلت أقول‏:‏ يدخل محمد إلى مكة بأصحابه ما مكة لنا بمنزل ولا الطائف وما شيء خير من الخروج وأنا بعد نأي عن الإسلام أرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم فقدمت مكة فجمعت رجالًا من قومي كانوا يرون رأيي ويسمعون مني ويقدموني فيما نابهم فقلت لهم‏:‏ كيف أنا فيكم قالوا‏:‏ ذو رأينا ومدد وهننا مع يمن نَقِيبة وبركة أمر قلت‏:‏ تعلمن والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوًا منكرًا وإني قد رأيت رأيًا قالوا‏:‏ ما هو قلت‏:‏ نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يديه محمد وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا قالوا‏:‏ هذا الرأي قلت فاجمعوا ما تهدون له وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم فجمعنا أدمًا كثيرًا ثم خرجنا فقدمنا على النجاشي فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه بكتاب كتبه إِليه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابي‏:‏ هذا عمرو بن أمية الضمري ولو قد دخلت على النجاشي سألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه فإذا فعلت ذلك سررت قريشًا وكنت قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد‏.‏

فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع فقال‏:‏ مرحبًا بصديقي أهديت لي من بلادك شيئًا قلت‏:‏ نعم أيها الملك أهديت لك أدمًا كثيرًا ثم قربته إليه فأعجبه وفرق منه أشياء بين بطارقته وأمر بسائره فأدخل في موضع فلما رأيت طيبة نفسه قلت‏:‏ أيها الملك إني رأيت رجلًا خرج من عندك وهو رسول رجل هو عدونا وقد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله فغضب ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة أنه كسره وابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي وأصابني من الذل ما لو شقت الأرض دخلت فيها فرقًا منه فقلت له‏:‏ أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك إياه‏.‏

قال‏:‏ فاستحيا وقال‏:‏ يا عمرو تسألني أن أعطيك رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى والذي كان يأتي عيسى أعطيكه لتقتله قال عمرو‏:‏ وغير الله قلبي عما كنت عليه وقلت في نفسي‏:‏ عرف هذا الحق العرب والعجم وتخّالف أنت قلت‏:‏ وتشهد أيها الملك بهذا قال‏:‏ نعم أشهد به عند الله يا عمرو أطعه واتبعه والله إنه لعلى الحق وليظهرن على كل من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده قلت‏:‏ أفتبايعني له على الإسلام قال‏:‏ نعم فبسط يده فبايعته على الإسلام ودعي لي بطست فغسل عني الدم وكساني ثيابًا وكانت ثيابي قد امتلأت من الدّم فألقيتها ثم خرجت إلى أصحابي فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك وقالوا‏:‏ هل أدركت من صاحبك ما أردت فقلت لهم‏:‏ كرهت أن أكلمه في أول مرة وقلت‏:‏ أعود إليه قالوا‏:‏ الرأي ما رأيت وفارقتهم وكأني أعمد لحاجة فعمدت إلى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت تدفع فركبت معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشعبية فخرجت بها ومعي نفقة واتبعت بعيرًا وخرجت أريد المدينة حتى أتيت على مر الظهران ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة إذا رجلان قد سبقا في بعير كبير يريدان منزلًا وأحدهما داخل في خيمة والآخر قائم يمسك الراحلتين فنظرت فإذا خالد بن الوليد أبا سليمان قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ أين تريد قال‏:‏ محمدًا دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم والله لو أقمنا لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها قلت‏:‏ والله وأنا قد أردت محمدًا وأردت الإسلام‏.‏

وخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعًا في المنزل ثم ترافقنا حتى قدمنا المدينة فما أنسى قول رجل لقينا ببئر أبي عتبة يصيح‏:‏ يا رباح يا رباح فتفاءلنا بقوله وسررنا ثم نظر إلينا فسمعته يقول‏:‏ قد أعطيت مكة المقادة بعد هذين فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد ثم ولى مدبرًا إلى المسجد سريعًا فظننت أنه يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا وكان كما ظننت وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا ونودي بالعصر فانطلقنا جميعًا حتى طلعنا عليه صلى الله عليه وسلم وإن لوجهه تهللًا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا فتقدم خالد بن الوليد فبايع ثم تقدم عثمان فبايع ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يغفر لي ما تأخر فقال‏:‏ إن الإسلام يجب ما كان قبله والهجرة تجب ما كان قبلها ‏"‏ فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد أحدًا من أصحابي في أمر حربه من حيث أسلمنا قال عبد الحميد‏:‏ أخبرني أبي‏:‏ أنهم قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان‏.‏

قال علماء السير‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في وجوه منها غزاة ذات السلاسل وأمده فيها بثمانين منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ومنها إلى صنم هديل وهو سواع فكسره وإلى بني فزارة فصدقهم‏.‏

واستعمله أبو بكر على الشام وأمده بخالد بن الوليد فكان أمير الناس يوم أجنادين ويوم فحل وفي حصار دمشق حتى فتحت‏.‏

وولاه عمر وعثمان ثم مال إلى معاوية وكان أحد الحكمين على ما سبق ذكره‏.‏

ذكر وفاته

كان عند الموت يقول‏:‏ كأن على عنقي جبال رضوى وكأن في جوفي الشوك وكأن نفسي تخرج من ثقب إبرة وأعتق كل مملوك له‏.‏

أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا محمد بن الفتح قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين ابن أخي ميمي قال‏:‏ أخبرنا جعفر بن محمد الخواص قال‏:‏ أخبرنا ابن مسروق قال‏:‏ حدثني عمر بن محمد قال‏:‏ حدثني محمد بن دينار قال‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد أبو عبد الرحمن‏.‏

العتبي قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ دخل ابن عباس على عمرو بن العاص يعوده فقال‏:‏ كيف تجدك يا أبا عبد الله قال أجدني قد أفسدت ديني بدنياي أصلحت من دنياي قليلًا وأفسدت من آخرتي كثيرًا فوددت أن الذي أفسدت هو الذي أصلحت أن الذي أصلحت هو الذي أفسدت ولو كان ينجيني ترك ما في يدي لتركته ولو كنت أدرك ما أطلب طلبت فقد صرت كالمنجنيق بين السماء والأرض لا يرقى بيد ولا يرقى برجل فهو متحير بين الحياة والموت ويأمل أن يكون في الموت راحته ويخاف مما قدمت يده فعظني يا ابن أخي فقال‏:‏ يا أبا عبد الله إن شئت أن تبكي بكيت فلست تدري متى يقع الأمر وأنت تأمرنا بالرحيل وأنت مقيم ولو دعوت دعوة لا تلقي صولها إلى يوم القيامة‏.‏

قال‏:‏ فغضب عمرو وقال‏:‏ تؤنسني من نفسي وتؤنسني من رحمة ربي اللهمِ خذ مني حتى ترضى فقال ابن عباس‏:‏ هيهات يا عبد الله سلفت جديدًا وتعطي خلقًا فقال عمرو‏:‏ مالي ولك يا ابن عباس ما سرحت كلمة إلى ربي إلا أخذت بغيها ثم تمثل عمرو‏:‏ كّم عائد رجلًا وليس يعوده إلا لينظر هل يراه يفرق أخبرنا أبو الحسن الأنصاري قال‏:‏ أخبرنا علي بن عبد الله النيسابوري قال‏:‏ أخبرنا عبد الغافر بن محمد قال‏:‏ أخبرنا ابن عمروية قال‏:‏ أخبرنا إبراهيم بن محمد شعبان‏.‏

قال‏:‏ أخبرنا مسلم بن الحجاج قال‏:‏ حدثنا محمد بن المثنى قال‏:‏ حدثنا الضحاك - يعني أبا عاصم - قال‏:‏ حدثنا حيوية بن شريح قال‏:‏ حدثنا يزيد بن أبي حبيب قال‏:‏ أخبرنا ابن شِماسة المَهْريّ قال‏:‏ حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلًا وحول وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول‏:‏ يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أما بشرك بكذا قال‏:‏ فأقبل بوجهه فقال‏:‏ إن أفضل ما تَعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أني قد كنت على أطباق ثلاث‏:‏ لقد رأيتني وما أحد أشد بغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أحب إلي من أن يكون استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ ابسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه فقبضت يدي فقال‏:‏ ما لك يا عمرو قلت‏:‏ أردت أن أشترط قال‏:‏ ماذا قلت‏:‏ أن يغفر لي قال‏:‏ ‏"‏ أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله ‏"‏ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني عنه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه فلومت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ثم ولينا أشياء بعد فلست أدري ما حالي فيها فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنًا ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي‏.‏

توفي عمرو بن العاص في هذه السنة بمصر وهو واليها وقيل‏:‏ في سنة ثلاث وأربعين وكان قد

 ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين

فمن الحوادث فيها غزوة بسر بن أبي أرطأة الروم حتى بلغ القسطنطينية فيما ذكر الواقدي‏.‏

 وفيها ولى معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص

مصر بعد موت أبيه فوليها له نحوًا من سنتين‏.‏

 وفيها قتل المستورد بن علفة الخارجي

فيما ذكر هشام بن الكلبي وقال قوم‏:‏ قتل في سنة اثنتين وأربعين‏.‏

ذكرُ سبب قتله

قد ذكرنا اجتماع بقايا الخوارج الذين كانوا ارتثوا يوم النهر واعتمادهم على الثلاثة الذين هذا أحدهم ومبايعتهم المستورد وأن ذلك كان في جمادى وأنهم اجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان على الخروج في شعبان فبلغ خبرهم إلى المغيرة بن شعبة فقال لصاحب الشرطة‏:‏ سر بالشرطة حتى تحيط بدار حيان بن ظبيان فآتني به فأتاه ومعه نحو من عشرين من أصحابه فانطلق به إلى المغيرة بن شعبة فقال لهم‏:‏ ما حملكم على ما أردتم من شق عصا المسلمين قالوا‏:‏ ما أردنا من ذلك من شيء قال‏:‏ بل بلغني وصدق ذلك عندي اجتماعكم فقالوا‏:‏ أما اجتماعنا فإن حيان بن ظبيان أقرأنا للقرآن فنحن نجتمع في منزله فنقرأ القرآن عليه قال‏:‏ إذهبوا بهم إلى السجن فلم يزالوا فيه نحوًا من سنة‏.‏

وسمع إخوانهم بأخذهم فخرج المستورد فنزل دارًا بالحيرة وكان إخوانه يختلفون إليه ويتجهزون فلما كثر اختلاف أصحابه إليه قال‏:‏ تحولوا بنا عن هذا المكان فإني لا آمن أن يطلع عليكم فإنهم لفي ذلك يقول بعضهم لبعض‏:‏ نأتي مكان كذا وكذا ويقول بعضهم‏:‏ نأتي مكان كذا وكذا إذ أشرف عليهم حجًار بن أبجَر وإذا بفارسين قد أقبلا فدخلا الدار ثم جاء آخر ثم جاء آخر وكان خروجهم قد اقترب فقال حجار لصاحب الدار‏:‏ ويحك ما هذه الخيل الذي أراها تدخل هذه الدار فقال‏:‏ لا أدري إلا أن الرجال يختلفون إلى هذه الدار رجالًا وفرسانًا فركب حجار حتى انتهى إلى بابهم وإذا عليه رجل منهم فإذا أتى إنسان استأذن فقال له‏:‏ من أنت قال‏:‏ حجار بن أبجر فدخل يستأذن له فدخل خلفه فإذا الرجل يقول لهم‏:‏ قد جاء حجار فقالوا‏:‏ والله ما جاء لخير فقال حجار‏:‏ السلام عليكم ثم انصرف فقال بعضهم لبعض‏:‏ أدركوه فاحبسوه فإنه مؤذن بكم فخرح منهم جماعة إليه فإذا هو قد ركب فرسه فقالوا‏:‏ لم يأت لشيء يروعكم قالوا‏:‏ أفتؤمننا من الإذن بنا قال‏:‏ أنتم آمنون ثم تفرقوا عن ذلك المكان‏.‏

وبلغ خبرهم المغيرة فحذر الناس أن يؤويهم وبعث المستورد إِلى أصحابه اخرجوا فاتعدوا سورًا وخرجوا إليها متقطعين من أربعة وخمسة‏.‏

فبلغ الخبر المغيرة فبعث معقل بن قيس في ثلاثة آلاف وقال له‏:‏ يا معقل إني قد بعثت معك فرسان أهل المصر ثم أمرت بهم فانتخبوا انتخابًا فسر إلى هذه العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا وشهدوا علينا بالكفر فادعهم إلى التوبة وإلى الدخول في الجماعة فإن فعلوا فاقبل منهم وأكفف عنهم وإن لم يفعلوا فناجزهم واستعن بالله عليهم فقال له‏:‏ هل بلغك - أصلحك الله - أين منزل القوم‏.‏

قال‏:‏ نعم كتب إليّ سماك بن عبيد القيسِي وكان عاملًا له على المدائن يخبرني أنهم ارتحلوا حتى نزلوا بهرسير وأنهم أرادوا أن يعبروا إلى المدينة العتيقة التي بها منازل كسرى فمنعهم سماك أن يجوزوا فنزلوا بمدينة بهرسير مقيمين فاخرجوا إليهم وانكمش في آثارهم ولا تدعهم والإقامة في بلد أكثر من الساعة التي تدعوهم فيها فإن قبلوا وإلا فناهضهم فإنهم لن يقيموا ببلد يومين إلا أفسدوا كل من خالطهم فخرج من يومه فبات بسورا فبعث المغيرة مولاه ورادًا إِلى المسجد فقام فقال‏:‏ أيها الناس إن معقل قد سار إلى هذه العصبة المارقة وهو بائت الليلة بسورا فلا يتخلف عنه أحد من أصحابه ألا وإن الأمير يخرج على كل رجل من المسلمين ويعزم عليهم أن يبيتوا بالكوفة وأيما رجل من هذا البعث وجدناه بعد يومنا هذا بالكوفة فقد أحل بنفسه‏.‏

قال عبد الرحمن بن جندب أعن عبد الله بن عقبة الغنوي قال‏:‏ كنت فيمن خرج مع المستورد وكنت أحدث رجل منهم فخرجنا حتى أتينا الصًراة فأقمنا بها حتى تتامت جماعتنا ثم خرجنا حتى انتهينا إلى بَهُرسير فدخلناها ونذر بنا سماك بن عبيد العبسي وكان على المدينة العتيقة فلما ذهبنا لنعبر الجسر إليهم قاتلنا عليه ثم قطعه علينا فأقمنا ببهرسير‏.‏

قال‏:‏ فدعاني المستورد فقال لي أتكتب يا أبن أخي قلت‏:‏ نعم فدعا بِرَق ودواة وقال‏:‏ اكتب‏:‏ من عبد الله المستورد أمير المؤمنين إِلى سماك بن عبيد أما بعد‏.‏

فإنا نقمنا على قومنا الجور في الأحكام وتعطيل الحدود والاستئثار بالفيء وإنا ندعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه وولاية أبي بكر وعمر والبراءة من عليِّ وعثمان لإحداثهما في الدين وتركهما حكم الكتاب فإن تقبل فقد أدركت رشدك وإن لا تقبل فقد أبلغنا في الإعذار إليك وقد آذناك بحرب ونبذنا إليك على سواء إن الله لا يحب الخائنين‏.‏

ثم قال المستورد‏:‏ انطلق بهذا الكتاب إلى سماك فادفعه إليه واحفظ ما يقول لك والقني‏.‏

فقلت له‏:‏ أصلحك الله لو أمرتني أن أستعرض دجلة فألقي نفسي فيها ما عصيتك ولكن ما آمن أن يتعلق بي سماك فيحبسني عنك فإذا أنا قد فاتني ما أرجو من الجهاد‏.‏

فتبسم وقال‏:‏ يا ابن أخي إنما أنت رسول والرسول لا يعرض له ولو خشيت ذلك عليك لم أبعثك‏.‏

فخرجت حتى عبرت إليهم في معبر فقالوا‏:‏ من أنت فقلت‏:‏ رسول أمير المؤمنين المستورد فلما وصلت إلى سماك أريته الكتاب قال‏:‏ اذهب إلى صاحبك فقل له‏:‏ اتق الله وارجع عن رأيك هذا وأدخل في جماعة المسلمين ثم قال لأصحابه‏:‏ إنهم خلوا بهذا‏.‏

فأخذوا يقرءون عليه القرآن ويتخشعون ويتباكون فظن أنهم على شيء ثم قال‏:‏ انطلق يا بني إلى صاحبك إنما تندم لو قد اكتنفتكم الخيل وأشرعت في صدوركم الرماح هناك تمنى أنك كنت في بيت آبائك‏.‏

فانصرفت من عنده إلى صاحبي فأخبرته فقال‏:‏ ‏"‏ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم‏.‏

فمكثنا يومين أو ثلاثة فاستبان لهم مسير معقل بن قيس إلينا فجمعنا المستورد وقال‏:‏ أشيروا علي فقال بعضنا‏:‏ والله ما خرجنا نريد إلا الله وقد جاءونا فأين نذهب عنهم‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ بل نعتزل ونتنحى وندعو الناس‏.‏

فقال‏:‏ يا معشر المسلمين إني والله ما خرجت ألتمس الدنيا ولا البقاء وما أحب أنها لي بحذافيرها وما أحب إلا التماس الشهادة وإني قد نظرت فيما استشرتكم به فرأيت ألاٌ أقيم لهم حتى يقدمون علي وهم جامون ولكني رأيت أن أسير حتى أمعن فإنهم إذا بلغهم ذلك خرجوا في طلبنا فتقطعوا وتبددوا فعلى ذلك الحال ينبغي لنا أن نقاتلهم فأخرجوا بنا على إسم الله‏.‏

فخرجنا فمضينا على شاطىء دجلة حتى انتهينا إلى جرجَرايا فعبرنا دجلة فمضينا كما نحن في أرض جُوخَى حتى بلغنا المذار فأقمنا‏.‏

وقال عبد الله بن الحارث‏:‏ كنت في الذين خرجوا مع معقل حين خرج وكان أول منزل نزلناه سورا‏.‏

قال‏:‏ فمكثنا به يومًا حتى اجتمع إليه جل أصحابه ثم خرجنا مسرعين مبادرين لعدونا أن يفوتنا ثم سرنا حتى دنونا من المدائن فاستقبلنا الناس يخبروننا أنهم قد ارتحلوا فشق ذلك علينا وأيقنا بالعناء وطول الطلب‏.‏

وجاء معقل حتى نزل على باب مدينة بهرسير فخرج إليه سماك فسلم عليه وبعث إليه ما يصلح الجند فأقام ثلاثًا‏.‏

ثم جمع أصحابه وقال‏:‏ إن هؤلاء المارقة إنما خرجوا على وجوههم إرادة أن تتعجلوا في آثارهم فتقطعوا وتبددوا وإنه ليس شيء يدخل عليكم من ذلك إلا وقد يدخل عليهم مثله فخرج بنا من المدائن فقدم بين يديه أبو الرواغ‏.‏

في ثلاثمائة فارس واتبع أثره فلحقهم أبو الرواغ بالمذار مقيمين فاستشار أصحابه في قتالهم قبل قدوم معقل عليه فقال‏:‏ بعضهم‏:‏ أقدم بنا وقال آخرون‏:‏ حتى يأتينا أميرنا فبات أصحاب أبي الرواغ يتحارسون فخرج القوم عليهم وهم عدتهم هؤلاء ثلائمائة وهؤلاء ثلاثمائة فلما اقتربوا شدوا على أصحاب أبي الرواغ فانهزموا فصاح أبو الرواغ‏:‏ يا فرسان السوء قبحكم الله الكرة الكرة فحمل وحمل أصحابه ثم انكشفوا فقال أبو الرواغ‏:‏ ثكلتكم أمهاتكم انصرفوا بنا فلنكر قريبًا من القوم حتى يأتينا أميرنا فما زالوا يطاردونهم وينحاز أبو الرواغ وأصحابه‏.‏

وبلغ الخبر إلى معقل فأسرع في نحو من سبعمائة فارس من أهل القوة والشجاعة فلما وصل شدوا عليه فانجفل عامة أصحابه فنزل وقال‏:‏ الأرض الأرض ونزل معه أبو الرواغ ونحو من مائتي فارس فلما غشيهم المستورد وأصحابه استقبلوهم بالرماح والسيوف فانجفلت خيل معقل ثم كرت وأقبل شريك بن الأعور مددًا لمعقل فرأى المستورد ما لا يطيق فذهب بأصحابه في الليل فعادوا إلى جَرْجَرايا فتبعهم أبو الرواغ فقاتلهم قتالًا شديدًا وظنوا أن معقلًا يأتي بعده فذهبوا حتى قطعوا دجلة وسار أبو الرواغ في آثارهم وجاء معقل متبعًا آثار أبو الرواغ فانصرفوا إلى ساباط ثم اقتتلوا فهلك الخوارج وصاح المستورد‏:‏ يا معقل ابرز لي فبرز له فأشرع المستورد الرمح في صدر معقل حتى خرج السنان من ظهره وضربه معقل بالسيف على رأسه فخرّا ميتين وتبدد من بقي‏.‏

وفي هذه السنة

 حج بالناس مروان بن الحكم

وكان على المدينة‏.‏ وكان على مكة خالد بن العاص بن هشام وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة وعلى قضائها شريح وعلى البصرة وفارس وسجستان وخراسان عبد الله بن عامر وعلى قضائها عمير بن يثربي‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة

عبد الله بن سلام

يكنى أبا يوسف‏:‏ وكان اسمه الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله وهو من ولد يوسف بن يعقوب بن إِسحاق بن إبراهيم‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال‏:‏ حدثنا عوف عن زرارة بن أبي أوفى عن عبد الله بن سلام قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس نحوه وقالوا‏:‏ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وجئت أنظر إليه فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فأول شيء قال‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس افشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا عفان قال‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عبد الله بن سلام بقدومه فأتاه فقال‏:‏ إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي فإن أخبرتني بها آمنت بك وإن لم تعلمني عرفت أنك لست بنبي قال‏:‏ ‏"‏ وما هن فسأله عن الشبه وعن أول شيء يأكله أهل الجنة وعن أول شيء يحشر الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أخبرني بهن جبريل آنفًا ‏"‏ قال‏:‏ ذاك عدو اليهود قال‏:‏ ‏"‏ أما الشبه فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ذهب بالشبه وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل ذهب بالشبه‏.‏

وأما أول شيء يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت‏.‏

وأما أول شيء يحشر الناس فنار تجيء من قبل المشرق فتحشرهم إلى المغرب ‏"‏‏.‏

فآمن وقال‏:‏ أشهد أنك رسول الله وقال‏:‏ يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإنهم إن سمعوا بإسلامي بهتوني فأخبئني عندك وابعث إليهم فسلهم عني فخبأه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم فجاءوا فقال‏:‏ ‏"‏ أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ‏"‏ قالوا‏:‏ هو خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وعالمنا وابن عالمنا فقال‏:‏ ‏"‏ إن رأيتم إن أسلم فتسلمون ‏"‏ قالوا‏:‏ ‏"‏ أعاذه الله من ذلك فقال‏:‏ ‏"‏ يا عبد الله اخرج إليهم فخرج إليهم فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قالوا‏:‏ شرنا وابن شرنا وجاهلنا وابن جاهلنا فقال ابن سلام‏:‏ قد أخبرتك يا رسول الله أن اليهود قوم بهت‏.‏

توفي عبد الله بن سلام بالمدينة في هذه السنة‏.‏

عبد الرحمن بن عسيلة

أبو عبد الله الصنابحي‏:‏ أسند عن أبي بكر الصديق ومعاذ وعبادة في آخرين‏.‏

وكان عبادة يقول‏:‏ من سره أن ينظر إلى رجل كأنما رقي به فوق سبع سموات فعمل على ما رأى فلينظر إلى هذا‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وأربعين

دخول المسلمين مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم ومشتاهم بها‏.‏

 وفيها غزا بسر بن أبي أرطأة البحر

قال عبد الملك بن عمير‏:‏ قرأت في ديوان معاوية بعد موته كتابًا من ملك الصين فيه‏:‏ من ملك الصين الذي على مربطه ألف فيل وبنيت داره بلبن الذهب والفضة ويخدمه بنات ألف ملك والذي له نهران يسقيان الألوة إلى معاوية‏.‏

 وفيها عزل عبد اللّه بن عامر عن البصرة

وكان سبب عزله أن ابن عامر كان لينًا لا يأخذ على أيدي السفهاء ولا يعاقب ففسحت البصرة بذلك وقدم ابن الكواء - واسمه عبد الله أبن أبي أوفى على معاوية فسأله عن الناس فقال‏:‏ أما البصر فقد غلب عليها سفهاؤها وعاملها ضعيف فعزله معاوية وبعث الحارث بن عبد الله الأزدي‏.‏

وفي هذه السنة

 استلحق معاوية نسب زياد ابن سمية بأبيه أبي سفيان

شهد لزياد رجل من البصرة وكان الحسن البصري يذم هذا من فعله ويقول‏:‏ استلحق زيادًا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الولد للفراش وللعاهر الحجر ‏"‏‏.‏

وأخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا هشيم قال‏:‏ حدَّثنا خالد الحذاء عن أبي عثمان قال‏:‏ لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة فقلت‏:‏ ما هذا الذي صنعتم إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول‏:‏ سمع أذني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ ‏"‏ من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ‏"‏ فقال أبو بكرة‏:‏ وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذه السنة عمل معاوية المقصورة بالشام وعملها مروان بالمدينة‏.‏

وفيها‏:‏ حج معاوية بالناس وكان عماله على البلاد في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها غير البصرة فكان عليها الحارث الأزدي‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

رملة بنت أبي سفيان بن حرب وهي أم حبيبة

تزوجها عبد الله بن جحش وهاجر بها إِلى أرض الحبشة فولدت هناك منه حبيبة وقيل‏:‏ إنها ولدتها بمكة وهاجرت بها ثم تنصر عبد الله بن جحش وثبتت على دينها وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أن يزوجه أم حبيبة فزوجه إياها وبعث بها إليه في سنة سبع وقد سبق شرح هذه القصة‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الباقي عن أبي محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ حدثنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثنا محمد بن عبد اللّه عن الزهري قال‏:‏ لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال‏:‏ يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه قالت‏:‏ بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك فقال‏:‏ يا بنية قد أصابك بعدي شر‏.‏

قال محمد بن عمر‏:‏ وحدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن عبد المجيد بن سهيل عن عوف بن الحارث قال‏:‏ سمعت عائشة تقول‏:‏ دعتني أم حبيبة رضي الله عنها عند موتها قالت‏:‏ قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك فقلت‏:‏ غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك فقالت‏:‏ سررتني سرك الله وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك‏.‏

وتوفيت سنة أربع وأربعين‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وأربعين

فمن الحوادث فيها

 ولاية زياد البصرة

إن معاوية ولى الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة فأقام بالبصرة أربعة أشهر وعزله وولى زيادًا فقدم زياد إلى الكوفة ينتظر إلى أمر معاوية فظن المغيرة أنه قدم واليًا عليها فقال لوائل بن حجر الحضرمي‏:‏ إعلم لي علمه فأتاه فلم يقدر منه على شيء وقدم رسول معاوية إلى زياد‏:‏ أن سر إلى البصرة فقدمها في آخر شهر ربيع الآخر أو غرة جمادى الأولى من هذه السنة واستعمله على خراسان وسجستان ثم جمع له الهند والبحرين وعمان‏.‏

فلما قدم البصرة وجد الفسق فيها ظاهرًا فخطب فقال في خطبته‏:‏ كأنكم لم تسمعوا ما أعد الله من الثواب لأهل طاعته والعذاب لأهل معصيته أيكونون كمن طرفَ عنه الدنيا وسدًت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية‏.‏

قال الشعبي‏:‏ ما سمعت متكلمًا قط تكلم فأحسن إِلا أحببت أن يسكت خوفًا أن يسيء إلا زيادًا فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلامًا‏.‏

وما زال زياد يشدد أمر السلطان وتجرد السيف فخافه الناس خوفًا شديدًا حتى إن الشيء كان يوجد فلا يتجاسر أحد أن يرفعه حتى يأتيه صاحبه واستعان زياد بعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمران بن حصين ولاه قضاء البصرة والحكم بن عمرو الغفاري ولاه خراسان وسمرة بن جندب وعبد الرحمن بن سمرة وأنس بن مالك‏.‏

وفي هذه السنة

 مشتى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالشام

وفيها‏:‏

 حج بالناس مروان بن الحكم

وكان على المدينة وكانت الولاة والعمال على الأمصار من تقدم ذكرهم في السنة قبلها‏.‏

 ذكر من توفي من الأكابر في هذه السنة

حفصة بنت عمر بن الخطاب

كانت عند خنيس بن حذافة السهمي وهاجرت معه إلى المدينة فمات عنها بعد الهجرة فقدم النبي صلى الله عليه وسلم من بدر فتزوجها‏.‏

وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقها فقال له جبريل‏:‏ راجعها فإنها صوامة قوامة‏.‏

وفي رواية أنه أراد طلاقها فقال جبريل‏:‏ لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة‏.‏

توفيت في شعبان هذه السنة وهي بنت ستين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ ماتت في خلافة عثمان بالمدينة‏.‏

زيد بن ثابت

ابن زيد بن لوذان أبو سعيد‏:‏ كان يكتب الوحي‏.‏

أنبأنا عبد الوهاب الحافظ أخبرنا عاصم بن الحسن أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا عثمان بن أحمد بإسناده عن الحسن بن البراء قال‏:‏ كان زيد بن ثابت ترجمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه إلى الملوك وتعلم الفارسية في ثمان عشرة ليلة من رسول كسرى وتعلم الرومية والحبشية والقبطية من خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال‏:‏ قال زيد بن ثابت‏:‏ كانت وقعة بغاث وأنا ابن ست سنين وكانت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن إحدى عشرة سنة وأتى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ غلام من الخزرج قد قرأ ست عشرة سورة فلم أجز في بدر ولا أحد وأجزت في الخندق‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وحدثنا محمد بن معاوية قال‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب يهود وقال‏:‏ ‏"‏ إني لا آمنهم أن يبدلوا كتابي ‏"‏ فقال‏:‏ فتعلمته في بضع عشر‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وقال محمد بن عمر كان زيد يكتب كتاب العربية وكتاب العبرانية وأول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق وكان ممن ينقل التراب يومئذ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعلمهم بالفرائض زيد‏)‏ واستعمله عمر على القضاء‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا عفان قال‏:‏ حدَّثنا شعبة عن ابن إسحاق أنه سمع مسروقًا يقول‏:‏ أتيت المدينة فسألت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا زيد بن ثابت من الراسخين في العلم‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وحدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال‏:‏ حدًثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عباس‏:‏ أنه أخذ لزيد بن ثابت بالركاب فقال‏:‏ تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هكذا يفعل بعلمائنا وكبرائنا‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا أبو معاوية الضرير قال‏:‏ حدثنا الأعمش عن ثابت بن عبيد قال‏:‏ كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته وأزمته إذا خرج إلى الرجال‏.‏

قال‏:‏ وأخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال‏:‏ حدثنا هشام بن حسان قال‏:‏ حدثنا محمد بن سيرين قال‏:‏ خرج زيد بن ثابت يوم الجمعة فاستقبله الناس راجعين فدخل دارًا فقيل له‏:‏ فقال‏:‏ من لا قال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدًثنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن السباق عن زيد بن ثابت قال‏:‏ أرسل إِلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فقال‏:‏ إن القتل قد استحر بقراء القرآن وإني أخشى أن يذهب كثيرًا من القرآن فإني أرى أن يجمع القرآن وأنت رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فتتبع القران فاجمعه‏.‏

قال زيد‏:‏ فوالله لوكلفني نقل جبل أنقله حجرًا حجرًا ما كان أثقل علي مما أمرني به فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب والأكتاف وصدور الرجال فوجدت آخر سورة التوبة مع خريمة بن ثابت‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏ الآيتين‏.‏

قال علماء السير‏:‏ أتى خريمة بن ثابت بهاتين الآيتين قال زيد‏:‏ من يشهد معك قال‏:‏ عمر أنا‏.‏

وكان أبو بكر قد قال‏:‏ إِذا أتاكم أحد بشيء من القرآن تنكرانه فشهد عليه رجلان فأثبتاه‏.‏

ولما نسخ عثمان المصاحف أمر أبي بن كعب أن يملي وزيدًا أن يكتب وكان عمر رضي الله عنه يستخلف زيدًا على المدينة إذا سافر ولما حوصر عثمان كان زيد يذب عنه ودخل عليه فقال‏:‏ هذه الأنصار يقولون جئنا لننصر الله مرتين فقال عثمان‏:‏ أما القتال فلا‏.‏

توفي زيد بالمدينة في هذه السنة وهو ابن ستة وخمسين سنة ومات قبل أن تصفر الشمس فلم وقيل‏:‏ إنه توفي سنة خمس وخمسين‏.‏وقيل‏:‏ سنة إحدى وخمسين‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لقد مات اليوم علم كثير وقال أبو هريرة‏:‏ مات خير هذه الأمة‏.‏

سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة أبو عوف‏:‏ شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات بالمدينة في هذه السنة وهو ابن سبعين سنة وانقرض عقبه‏.‏

عاصم بن عدي

أبو عمرو‏:‏ خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر على قباء أهل العالية لشيء بلغه عنهم وضرب له بسهمه وأجره وكان كمن شهدها وشهد أحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ومعه مالك بن الدخشم فأحرقا مسجد الضرار‏.‏

وتوفي وهو ابن مائة وخمس عشرة سنة‏.‏

 سنة ست وأربعين

فمن الحوادث فيها أنه

 مشتى المسلمون بأرض الروم

واختلفوا في أمرهم فقيل‏:‏ مالك بن عبد الله وقيل‏:‏ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وقيل‏:‏ مالك بن هبيرة الفزاري‏.‏

وفيها

 انصرف عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من بلاد الروم إلى حمص

وكان قد عظم شأنه بالشام ومال أهلها إليه لموضع غنائه عن المسلمين وآثار أبيه حتى خافه معاوية وخشي على نفسه منه لميل الناس إليه فدس إليه عدي بن أثال شربة مسمومة فقتله بها فمات بحمص وخرج خالد بن عبد الرحمن بن خالد فقتل ابن أثال وفيها‏:‏

 حج بالناس عتبة بن أبي سفيان

وكان العمال والولاة الذين كانوا في السنة التي قبلها‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

سالم بن عمير بن ثابت

شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد البكائين الذين جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يخرج إلى تبوك يستحملونه فقال‏:‏ لا أجد ما أحملكم عليه فولوا وأعينهم تفيض من الدمع سراقة بن كعب بن عمرو‏:‏ شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة‏:‏ أسلم بالمدينة على يدي مصعب بن عمير قبل إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله غير تبوك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة وكان محمد فيمن قتل كعب بن الأشرف‏.‏

وبعثه رِسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القرطاء سرية في ثلاثين راكبًا من الصحابة فسلم وغنم وبعثه إلى ذي القصة سرية في عشرة وتوفي بالمدينة في صفر هذه السنة وهو ابن سبع وسبعين سنة‏.‏

ويقال‏:‏ في سنة ثلاث وأربعين‏.‏

هرم بن حيان العبدي

أخبرنا محمد بن أبي القاسم قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن محمد قال‏:‏ حدثنا محمد بن شبل قال‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال‏:‏ حدثنا خلف بن خليفة عن أصبغ الوراق عن أبي نصرة‏:‏ أن عمر بعث هرم بن حيان على الخيل فغضب على رجل فأمر به فوجئت عنقه ثم أقبل على أصحابه فقال‏:‏ لا جزاكم الله خيرًا ما نصحتموني حين قلت ولا كففتموني عن غضبي والله لا ألي لكم عملا ثم كتب إلى عمر‏:‏ يا أمير المؤمنين لا طاقة لي بالرعية فابعث إلى عملك‏.‏

أخبرنا عبد الله بن علي المقري قال‏:‏ أخبرنا أبو منصور محمد بن أحمد الخياط قال‏:‏ أخبرنا أبو طاهر أحمد بن الحسن الباقلاني قال‏:‏ أخبرنا عبد الملك بن بشران قال‏:‏ حدثنا دعلج قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الصائغ قال‏:‏ حدثنا جعفر الفريابي قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن عثمان بن زياد قال‏:‏ حدَّثنا مخلد بن حسين عن هشام عن الحسن قال‏:‏ خرج هرم بن حيان وعبد الله بن عامر يؤمان الحجاز فجعلت أعناق رواحلهما تخالجان الشجر فقال هرم لابن عامر‏:‏ أتحب أنك شجرة من هذه الشجر فقال ابن عامر‏:‏ لا والله لما أرجو من ربي فقال هرم‏:‏ لكني والله لوددت أني شجرة من هذه الشجر أكلتني هذه الناقة ثم قذفتني بعراء ولم أكابد الحساب يا ابن عامر إِني أخاف الداهية الكبرى إما إلى الجنة وإما إلى النار‏.‏

قال الحسن‏:‏ وكان هرم أفقه الرجلين وأعلمهما بالله‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي القاسم قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني قال‏:‏ حدثنا أبو إسحاق بن حمزة قال‏:‏ حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني قال‏:‏ حدثنا سعيد بن سليمان عن عبد الواحد بن سليمان قال‏:‏ حدثنا هشام بن حسان عن الحسن قال‏:‏ مات هرم في يوم صائف شديد الحر فلما نفضوا أيديهم من قبره جاءت سحابة تسير حتى قامت على قبره فلم تكن أطول منه ولا أقصر حتى روته ثم انصرفت‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وأربعين

فمن الحوادث فيها مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم

ومشتى أبي عبد الرحمن القيني بأنطاكية‏.‏

وفيها عزل عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن مصر واختلفوا فيمن حج بالناس في هذه السنة‏.‏

فقال الواقدي عتبة بن أبي سفيان‏.‏

وقال غيره‏:‏ عنبسة بن أبي سفيان‏.‏

وكانت العمال والولاة هم الذين كانوا في السنة التي قبلها غير مصر فإنها لمعاوية بن حديج‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

قيس بن عاصم بن سنان

ابن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد أبو علي المنقري ويقال‏:‏ أبو قبيصة‏:‏ كان قد حرم الخمر في الجاهلية وذلك أنه شرب فسكر فعبث بذي محرم منه فهربَ فلما أصبح قيل له في ذلك فقال‏:‏ رأيت الخمر مصلحة وفيها مقابح تفضح الرجل الكريما فلا والله أشربها حياتي ولا أشفي بها أبدًا سقيما ثم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذا سيد أهل الوبر‏)‏ وقال له‏:‏ ‏(‏اغتسل بماء وسدر‏)‏‏.‏

وكان جوادًا وهو الذي قيل فيه لما مات‏:‏ نزل البصرة وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال‏:‏ أخبرنا جعفر بن أحمد القاري قال‏:‏ أخبرنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل قال‏:‏ أخبرنا أبي قال‏:‏ حدثنا أحمد بن مروان قال‏:‏ حدثنا أحمد بن عباد التميمي قال‏:‏ حدثنا أبو عثمان المازني قال‏:‏ سمعت الأصمعي يقول‏:‏ سمعت عمرو بن العلاء وأبا سفيان بن العلاء يقولان‏:‏ قيل للأحنف بن قيس‏:‏ ممن تعلمت الحلم قال‏:‏ من قيس بن عاصم المنقري لقد اختلفنا إليه في الحكم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه بينما نحن عند قيس بن عاصم وهو قاعد في قبائه محتب بكسائه أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف فقالوا‏:‏ هذا ابنك قتله ابن أخيك فوالله ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه ثم التفت إلى ابن له في المسجد فقال‏:‏ أطلق عن ابن عمك ووار أخاك واحمل إلى أمه مائة من الإبل فإنها غريبة وأنشأ يقول‏:‏ إني امرؤ لا شائن حسبي دنس يغيره ولا أفن من منقر في بيت مكرمة والغصن ينبت حوله الغصن خطباء حين يقول قائلهم بيض الوجوه أعفة لسن لا يفطنون لعيب جارهمُ وهمُ بحسن جواره فطن وروى حكيم بن قيس أن أباه لما احتضر أومأ إلى بنيه وهم اثنان وثلاثون ذكرًا فجمعهم وقال‏:‏ يا بني سودوا عليكم أكبركم فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم وإذا سودوا أصغرهم أزري بهم عند أكفائهم وعليكم بالمال واصطناعه فإنه مأبهة للكريم ويستغنى به عن اللئيم وإياكم ومساءلة الناس فإنها من أخس مكسبة الرجل ولا تنوحوا عليّ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه ولا تدفنوني حيث تشعر بي بكر بن وائل فإني كنت أعاديهم في الجاهلية فرثاه الشاعر يقول‏:‏ عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ماشاء أن يترحما تحية من ألبستَه منك نعمة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما فما كان قيس هلْكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين

فمن الحوادث فيها مشتى أبي عبد الرحمن القيسي بأنطاكية وغزوة مالك بن هبيرة اليشكري البحر وفيها‏:‏ وجه زياد غالب بن فضالة الليثي على خراسان وكانت له صحبة‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس مروان بن الحكم وكان يتوقع العزل لموجدة كانت من معاوية عليه وارتجاعه فدك منه وكان وهبها له‏.‏

وكان عمال الأمصار في هذه السنة الذين كانوا في السنة التي قبلها‏.‏

ولم نعلم من مات من الأكابر في هذه السنة قبلها إلا أن في تاريخ موت المغيرة اختلافًا قد ذكرناه‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وأربعين

فمن الحوادث فيها مشتى مالك بن هبيرة الفزاري بأرض الروم وغزوة يزيد بن شجرة الرهاوي في البحر‏.‏

وفيها‏:‏ غزا يزيد بن معاوية أرض الروم حتى بلغ القسطنطينية ومعه ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري‏.‏

وفيها‏:‏ عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في ربيع الأول وأمر عليها سعد بن أبي وقاص وكان على قضاء المدينة لمروان حين عزل عبد الله بن الحارث بن نوفل فلما ولى سعد عزله واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن‏.‏

وفيها‏:‏ وقع الطاعون بالكوفة فهرب المغيرة بن شعبة فلما ارتفع الطاعون قيل لو رجعت فقدمها فطعن فمات‏.‏

وقد قيل‏:‏ مات المغيرة سنة خمسين‏.‏

وفي هذه السنة أعني سنة تسع وأربعين

ضم معاوية الكوفة إلى زياد فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة واستخلف على البصرة سمرة بن جندب وشخص إلى الكوفة فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة وستة أشهر بالبصرة‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس سعيد بن العاص وكان العمال فيها هم العمال في التي قبلها إلا أن في تاريخ موت المغيرة اختلافًا قد ذكرناه‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهما

ولد سنة ثلاث من الهجرة وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس والحسين يشبه ما كان أسفل من ذلك وكان له من الولد خمسة عشر ذكرًا وثمان بنات‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال‏:‏ أخبرنا ابن معروف قال‏:‏ حدثنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا علي بن محمد عن خلاد بن عبيدة عن علي بن زيد قال‏:‏ حج الحسن خمس عشرة حجة ماشيًا وإن النجائب لتقاد معه‏.‏

وخرج من ماله لله مرتين وقاسم الله ماله ثلاث مرات حتى أنه كان ليعطي نعلًا ويأخذ نعلًا‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن سلمان قال‏:‏ أخبرنا أبو نعيم الأصبهاني قال‏:‏ حدثنا محمد بن علي قال‏:‏ حدثنا أبو عروبة الحراني قال‏:‏ حدثنا سليمان بن محمد بن خالد قال‏:‏ حدًثنا ابن علية عن ابن عون عن محمد بن إسحاق قال‏:‏ دخلت أنا ورجل على الحسن نعوده فقال‏:‏ قد ألقيت طائفة من كبدي وإني قد سقيت السم مرارًا فلم أسق مثل هذه المرة ثم دخلت عليه من الغد وهو يجود بنفسه والحسين عند رأسه فقال‏:‏ يا أخي من تتهم قال‏:‏ لم لتقتله قال‏:‏ نعم قال‏:‏ إن يكن الذي أظن فالله أشد بأسًا وأشد تنكيلًا وإن لم يكن فلا أحب أن يقتل بي بريء ثم قضى رضي الله عنه‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الملك بن خيرون قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال‏:‏ حدثنا محمد بن خلف قال‏:‏ حدَّثني أبو عبد اللُه اليماني قال‏:‏ حدثنا محمد بن سلام الجمحي عن ابن جعدة قال‏:‏ كانت جعدة بنت الأشعث بن قيس تحت الحسن بن علي فدس إليها يزيد أن سمي حسنًا حتى أتزوجك ففعلت فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء بما وعدها فقال‏:‏ إنا والله لم نرضك للحسن أفنرضاك لأنفسنا‏.‏

مرض الحسن أربعين يومًا وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وهو ابن سبع وأربعين سنة وصلى عليه سعيد بن العاص بالمدينة ودفن بالبقيع وقيل‏:‏ إنه توفي في سنة خمسين وقيل‏:‏ إحدى وخمسين‏.‏

 ثم دخلت سنة خمسين

فمن الحوادث فيها غزاة بسر بن أبي أرطأة وسفيان بن عوف الأزدي أرض الروم‏.‏

وفيها خطب زياد بالكوفة بعد أن ضمت إليه مع البصرة‏.‏

فقال‏:‏ إن الأمر أتاني وأنا بالبصرة فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة البصرة ثم ذكرت أنكم أهل حق فأتيتكم في أهل بيتي فحُصِب وهو على المبنر فدعا قومًا من خاصته فأمرهم أن يأخذوا بأبواب المسجد فمن حلف أنه ما حَصبه خلاه ومن لم يحلف حبسه حتى صاروا إِلى ثلاثين‏.‏

وقيل‏:‏ ثمانين فقطع أيديهم على المكان‏.‏

واتخذ مقصورة‏.‏

وفي هذه السنة

 أمر معاوية بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل إلى الشام

فَحُول فكسفت الشمس حتى رُئيت النجوم بادية فأعظم الناس ذلك فقال‏:‏ لم أرد حمله إنما خفت أن يكون قد أرِض فنظرت إليه ثم كساه‏.‏ رواه الواقدي‏.‏

وروي‏:‏ أن عبد الملك بن مروان هم بالمنبر فقال له قبيصة‏:‏ أذكرك الله أن نفعل فإن معاوية حركه فكسفت الشمس وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من حلف على منبري إثمًا فليتبوأ مقعده من النار ‏"‏ فتخرجه من المدينة وهو مقطع الحقوق بينهم بالمدينة فأقصر‏.‏

فلما كان الوليد وحج هم بذلك‏.‏

فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز فقال‏:‏ كلم صاحبك يتق الله ولا يتعرض لسخطه فكلمه فأقصر‏.‏

فلما حج سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بن عبد العزيز بما كان من عبد الملك والوليد فقال‏:‏ ما كنت أحب أن يذكر هذا عن عبد الملك ولا عن الوليد ما لنا ولهذا أخذنا الدنيا فهي في أيدينا ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام فنحمله هذا لا يصح وفي هذه السنة‏.‏

عُزِلَ معاوية بن حُدَيْج عن مصر وولي مسلمة بن مخلد مصر وإفريقية والمغرب كله وكان معاوية بن أبي سفيان قد بعث قبل أن يولي مسلمة مصر وإفريقية عقبة بن عامر الفهري إِلى إفريقية فافتتحها واختط بها قيروانها وكان موضعه غيضة لا تُرام من السباعٍ والحيات وغير ذلك من الدواب فدعا الله فلم يبق منها شيء إلا خرج منها هاربا حتى إن السباع كانت تحمل أولادها‏.‏

قال علي بن أبي رباح‏:‏ نادى عقبة‏:‏ إنا نازلون فارحلوا - أو قال‏:‏ فاظعنوا - فخرجن من جحرهن هوارب‏.‏

وفي هذه السنة‏.‏

 غزا الحكم بن عمرو الغفاري أهل جبل الأشل

فغنم فكتب إليه زياد‏:‏ إِن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفي له الصفراء والبيضاء‏.‏

فلما وصل الكتاب إليه قال للناس‏:‏ أغدوا على غنائمكم وعزل الخمس وقسم بينهم الغنائم‏.‏

فكتب إليه زياد‏:‏ والله إن بقيت لك لأقطعن منك طابقًا‏.‏ فقال‏:‏ اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك‏.‏فمات بمرو‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله الأنماطي قال‏:‏ أخبرنا أبو حامد بن الحسين قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن الحارث بن محمد بن عبد الكريم المروزي قال‏:‏ حدثني جدي محمد بن عبد الكريم قال‏:‏ حدثنا الهيثم بن عدي قال‏:‏ أخبرنا هشام بن حسان الفردوسي قال‏:‏ حدثنا محمد بن سيرين قال‏:‏ كنا عند عمران بن حصين في حلقته في المسجد إذ مر بنا الحكم بن عمرو الغفاري وقد عقد له زياد بن أبي سفيان على خراسان فقيل لعمران‏:‏ هذا الحكم استعمل على خراسان فقال‏:‏ علي به‏.‏

فلما جاء قال‏:‏ يا حكم أتذكر حديثًا سمعته أنا وأنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ سمعناه يقول‏:‏ ‏"‏ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ نعم قال‏:‏ إذا شئت فقم قال‏:‏ فأتى خراسان فأصاب بها غنائم كثيرة فكتب إليه زياد‏:‏ أما بعد فإن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفي له البيضاء والصفراء ولا أعلمن ما قسمت بين الناس ذهبًا ولا فضة‏.‏

فلما جاءه الكتاب قال للناس‏:‏ اغذوا على غنائمكم فخذوها ثم كتب إلى زياد‏:‏ جاءني كتاب الأمير يذكر أن أمير المؤمنين كتب إليه أن يصطفي بالصفراء فلا يعلمن ما قسمت بين الناس ذهبًا ولا فضة وإني وجدت كتاب الله قد سبق كتاب أمير المؤمنين ووالله الذي لا إله إلا هو لو أن السماوات والأرض كانتا رتقًا على عبد اتقى الله لجعل له من ذلك مخرجًا والسلام‏.‏

وفي هذه السنة استعدت بنو نهشل وفقيم على الفرزدق زياد بن أبي سفيان لموضع هجائه إياهم فطلبه فهرب منه إلى سعيد بن العاص وهو والي المدينة من قبل معاوية مستجيرًا به فأجاره‏.‏

وفي هذه السنة حج بالناس معاوية وقيل‏:‏ يزيد‏.‏

وكان الوالي على المدينة سعيد بن العاص وعلى الكوفة والبصرة والمشرق وسجستان وفارس والهند زياد‏.‏