فصل: قتل علي رضي الله عنه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 سنة سبع وثلاثين

فمن الحوادث فيها

 وقعة صفين

وذلك أن عليًا رضي الله عنه ومعاوية توادعا على ترك الحرب في شهر المحرم طمعًا في الصلح واختلفت بينهما الرسل فلم تنفع‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ومحمد بن ناصر قالا‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا محمد بن أحمد المقدمي قال‏:‏ أخبرنا إبراهيم بن عبد الرحيم قال‏:‏ أخبرنا أبو معمر قال‏:‏ حدَّثنا أبو أسامة عن يزيد بن مردانية قال‏:‏ حدَّثني آخي سعيد بن مردانية قال‏:‏ أخبرنا عمرو بن حريث قال‏:‏ قال عدي بن حاتم الطائي‏:‏ كنا بصفين في يوم حار مع علي رضي الله عنه فقصدته وهو في سبعمائة من ربيعة فقلت له‏:‏ ألا تروح إلى القوم فأما لنا وأما علينا فسكت فلم يجبني فقلت‏:‏ ما لي أراك مخيمًا ألا تروح إلى القوم فأما لنا وأما علينا فقال‏:‏ ادن منا يا ابن حاتم فتخطيت الناس إليه حتى وضعت يدي على ركبته فقال لي‏:‏ يا عدي إن معاوية مع قوم يطيعونه وأنا مع قوم يعصوني فأما الذين معي فأشد مكايدة من الذين مع معاوية فعذرته ورحمته رحمة شديدة ما رحمت أحدًا مثلها قط‏.‏

قال علماء السير‏:‏ فتناهدوا عند انسلاخ المحرم وبات علي رضي الله عنه عنه يعبي الكتائب ويقول‏:‏ لا تقاتلوهم إلا أن يبدأوكم فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرًا ولا تجهزوا على جريح ولا تأخذوا شيئًا من أموالهم‏.‏

وبعث على خيل أهل الكوفة الأشتر وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف وعلى رجالة أهل الكوفة عمار بن ياسر وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد وهاشم بن عتبة مع ابنه‏.‏

وبعث معاوية على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري وعلى مقدمته أبو الأعور السلمي وكان على خيول الشام كلها عمرو بن العاص ومسلمة بن عقبة على رجالة أهل دمشق والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم‏.‏

وبايع رجال من أهل الشام على الموت فعقلوا أنفسهم بالعمائم وكانوا خمسة صفوف‏.‏

ثم اقتتلوا فكانوا يتبارزون التقوا جميعًا في بعض الأيام لا ينصرف بعضهم عن بعض إلا إلى الصلاة وكثرت القتلى بينهم ثم تحاجزوا عند الليل ثم أصبحوا على القتال وكان عليّ رضي الله عنه يتقدم حتى أن النبل لتمر بين عاتقه ومنكبه وكان معاوية يقول‏:‏ أردت أن أنهزم فذكرت‏:‏

أبتْ لي عِفّتي وحَياء نَفْسي ** وإقدامي على البَطَل المُشيح

وإعطائي على المَكْروهِ مالي ** وأخذي الحَمْدَ بالثمَنِ الربيح

وقَوْلي كُلًما جَشَأت وجاشَتْ ** مكانَكِ تُحْمدي أو تستريحي

فيمنعني هذا القول من الفرار‏.‏

وكان عمار يقول‏:‏ والله لو ضربونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على الحق وهم على الباطل‏.‏

وكان يصيح بعمرو بن العاص‏:‏ يا عمرو بعت دينك بمصر تبًا لك تبًا طالما بغيت في الإسلامٍ عوجًا‏.‏

ثم قال لأصحابه‏:‏ لقد قاتلت صاحب هذه الراية - يعني عمرو بن العاص - ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الرابعة‏.‏

وكان عليَ رضي الله عنه يحمل ويضرب حتى ينثني سيفه فقتل عمار فقال عبد الله بن عمرو لأبيه‏:‏ يا أبه قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويحك تقتلك الفئة الباغية‏)‏ فقال عمرو‏:‏ أتسمع ما يقول عبد الله فقال معاوية‏:‏ إنك شيخ أخرق ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك أو نحن قتلنا عمارًا إنما قتل عمارًا من جاء به‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر أخبرنا الجوهري أخبرنا ابن حيوية أخبرنا ابن معروف أخبرنا الحسين بن الفهم أخبرنا محمد بن سعد أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن الحارث قال‏:‏ إني لأسير مع معاوية في منصرفه عن صفين بينه وبين عمرو بن العاص فقال عبد الله بن عمرو‏:‏ يا أبه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار‏:‏ ‏(‏ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية‏)‏ فقال عمرو لمعاوية‏:‏ ألا تسمع مايقول هذا‏.‏ قال‏:‏ فقال معاوية‏:‏ ما تزال تأتينا بهنة تدحض بها في بولك أنحن قتلناه إنما قتله الذين جاءوا به‏.‏

قال علماء السير‏:‏ ولما قتل عمار حمل عليّ رضي الله عنه وأصحابه فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية وعلي رضي الله عنه يقول‏:‏ أضْرِبُهُمْ ولا أرى معاويَهْ الجاحِظَ العَيْنِ العظيمَ الحَاوِيَهْ ثم نادى علي‏:‏ يا معاوية علام يقتل الناس بيننا هلم أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور فقال له عمرو‏:‏ أنصفك الرجل فقال معاوية‏:‏ إنك تعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله قال له عمرو‏:‏ ما يجمل بك إلا مبارزته فقال معاوية‏:‏ طمعت فيها بعدي‏.‏

ثم اقتتل الناس ليلة إلى الصباح وهي ليلة الهرير حتى تقصفت الرماح ونفذ النبل وصار الناس إلى السيوف وأقبل علي رضي الله عنه يسير في الناس ويحرض والأشتر في ميمنته وابن عباس في الميسرة وعلي في القلب والناس يقتتلون من كل جانب‏.‏

أنبأنا عبد الوهاب الحافظ أخبرنا عاصم بن الحسين أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا عثمان بن أحمد أخبرنا أبو الحسن بن البراء قال‏:‏ لما ولي علي رضي الله عنه أقام بالمدينة أربعة أشهر ثم خرج إلى البصرة وكانت وقعة الجمل في سنة ست وثلاثين ثم رجع علي إلى الكوفة ثم سار إلى صفين وكانت الحرب سنتين وقتل بصفين سبعون ألفًا‏:‏ خمسة وأربعون ألفًا من أهل الشام وخمسة وعشرون ألفًا من أهل العراق منهم خمسة وعشرون بدريًا‏.‏

وكان المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام وكان فيه تسعون وقعة وفي سنة ثمان وثلاثين التقى الحكمان‏.‏

أخبرنا الحافظ بن عبد الوهاب وابن ناصر قالا‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار أخبرنا ابن حيويه خبرنا أبو بكر بن الأنباري أخبرنا محمد بن أحمد المقدمي أخبرنا أحمد بن سعد الزهري أخبرنا إسحاق بن أبي إسرائيل أخبرنا حماد بن زيد عن هشام عن محمد بن سيرين قال‏:‏ قتل يوم صفين سبعون ألفًا ما عرفت عدتهم إلا بالقصب كان يوضع على كل قتيل قصبة‏.‏

فلما رأى عمرو بن العاص أن أمر العراق قد اشتد وخاف الهلاك قال لمعاوية‏:‏ هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعًا ولا يزيدهم إلا فرقة قال‏:‏ نعم قال‏:‏ نرفع المصاحف ثم نقول‏:‏ ما فيها حكم بيننا وبينكم فإن أبى بعضهم أن يقبل وقال بعضهم‏:‏ بل نقبل فتكون فرقة تقع بينهم وإن قالوا‏:‏ نقبل رفعنا هذا القتال إلى أجل‏.‏

فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا‏:‏ هذا كتاب الله بيننا وبينكم من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق‏.‏

فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت قالوا‏:‏ نجيب إلى كتاب الله ونثيب إليه فقال علي رضي الله عنه‏:‏ ما رفعوها إلا خديعة فقالوا له‏:‏ ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله فقال‏:‏ إني إنما أقاتلهم بحكم الكتاب فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك‏:‏ يا علي أجب إِلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا ندفعك برمتك إلى القوم أو نفعل ما فعلنا بابن عفان إنه أبى علينا أن نعمل بما في كتاب الله فقتلناه والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك‏.‏

قال‏:‏ أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم قالوا‏:‏ فابعث إلى الأشتر فليأتك‏.‏

فأرسل إليه فقال للرسول‏:‏ إني قد رجوت أن يفتح الله لي فلا تعجلني‏.‏

فارتفع الرهج من قبل الأشتر فقال القوم‏:‏ ما نراك أمرته إلا بالقتال فقال‏:‏ هل رأيتموني ساررته قالوا‏:‏ فابعث إليه فليأتك وإلا اعتزلناك فبعث إليه‏:‏ أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت‏.‏

فلما بلغه ذلك قال‏:‏ ألرفع المصاحف قال‏:‏ نعم قال‏:‏ أما والله لقد ظننت حين رفعت أنها ستوقع اختلافًا وفرقة فقال له الرسول‏:‏ أتحب أن تظفرها هنا وتسلم أمير المؤمنين إلى عدوه فأقبل حتى انتهى إليهم فقال‏:‏ يا أهل العراق يا أهل الذل والوهن أحين قهرتم القوم رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها أمهلوني فإني قد رأيت النصر فقالوا‏:‏ إذًا ندخل معك في خطيئتك فقال‏:‏ خدعتم والله فانخدعتم فسبوه وسبهم‏.‏

وقال الناس‏:‏ قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكمًا‏.‏

فقال الأشعث‏:‏ يا معاوية لأي شيء رفعتم هذه المصاحف قال‏:‏ لنرجع إلى أمر الله به تبعثون رجلًا ترضون به ونبعث منا رجلًا ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتبع ما اتفقا عليه‏.‏

فجاء الأشعث إلى علي فأخبره فقال الناس‏:‏ قد رضينا فقال أهل الشام‏:‏ فإنا قد اخترنا عمرو بن العاص فقال الأشعث وأولئك الذين صاروا خوارج بعد‏:‏ فإنا رضينا بأبي موسى الأشعري فقال علي‏:‏ إنكم عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن إني لا أرى أن أولي أبا موسى فقال أولئك‏:‏ إنا لا نرضى إلا به قال‏:‏ فهذا ابن عباس قالوا‏:‏ لا نريد إلا رجلًا هو منك ومن معاوية سواء ليس إلى واحد منكما بأدنى منه إِلى الآخر قال‏:‏ فإني أجعل الأشتر قالوا‏:‏ وهل سعر الأرض غير الأشتر قال‏:‏ فاصنعوا ما شئتم فقال الأحنف لعلي رضي الله عنه‏:‏ إنك قد رميت بحجر الأرض فإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إِلا رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم فإن أبيت أن تجعلني حكمًا فاجعلني ثانيًا أو ثالثًا فإنه لن يعقد عقدة إِلا حللتها ولن يحل عقدة أعقدها إِلا عقدت لك أخرى أحكم منها‏.‏

فأبى الناس إلا أبا موسى‏.‏

فكتبوا‏:‏ ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين‏.‏

فقال عمرو‏:‏ اكتب اسمه و اسم أبيه وهو أميركم أما أميرنا فلا فقال الأحنف بن قيس‏:‏ لا تمح اسم ‏"‏ إمارة المؤمنين ‏"‏ فإني أخاف إن محوتها لا ترجع إليك أبدًا فأبى ذلك علي فقال له الأشعث‏:‏ امحُ هذا الاسم برحه الله فَمُحِيَ فقال علي‏:‏ الله أكبر سنة بسنة والله إني لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إذ قالوا‏:‏ لست رسول الله ولا نشهد لك به ولكن اكتب اسمك واسم أبيك‏.‏

فكتب‏:‏ هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين إنا ننزل عند حكم الله وكتابه نحيي ما أحيا ونميت ما أمات فما وجد الحكمان في كتاب الله عز وجل - وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص - وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة‏.‏

وأخذ الحكمان من عليّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه أنا على ما في هذه الصحيفة وأجلا القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراض منهما‏.‏

وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشر خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان فإن لم يجتمعا بذلك اجتمعا من العام المقبل‏.‏

وخرج الأشعث بذلك الكتاب يقرؤه على الناس ويعرضه عليهم فمر به على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية فقرأه عليهم فقال عروة‏:‏ تحكمون في أمر الله الرجال لا حكم إلا لله ثم سل سيفه فضرب به عجز دابته فغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن ثم سكتوا‏.‏

وأذن علي بالرحيل فمضى علي على طريق البر على شاطىء الفرات حتى انتهى إلى هِيتَ وعلى صَنْد ودَاء‏.‏

وقال سيف الضبي‏:‏ أقاموا بصفين سبعة أو تسعة أشهر‏.‏

وكان بينهم القتال نحو سبعين زحفًا وقتل في ثلاثة أيام نحو سبعين ألفًا من الفريقين‏.‏

قال الزهري‏:‏ بلغني أنه كان يدفن في القبر خمسون‏.‏

قال ربيعة بن لقيط‏:‏ مطرت السماء عليهما دمًا كانوا يأخذونه بالآنية‏.‏

 ذكر خروج الخوارج على أمير المؤمنين رضي اللّه عنه

لما رجع علي رضي الله عنه من صفين فدخل الكوفة لم تدخل معه الخوارج وكانوا من وقت تحكيمه يردون عليه ولا يرضون بفعله فلما رجع باينوه فأتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفًا وقالوا‏:‏ لا حكم إلا لله - وكان ذلك أول ظهورهم - ونادى مناديهم‏:‏ إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري والأمر شورى‏.‏

فبعث علي رضي الله عنه عبد الله بن العباس إلى الخوارج فقال‏:‏ ما نقمتم من الحكمين‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال‏:‏ أخبرنا محمد بن هبة الله الطبري قال‏:‏ أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال‏:‏ أخبرنا يعقوب بن سفيان قال‏:‏ حدثنا موسى بن مسعود قال‏:‏ أخبرنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك لما اعتزلت الخوارج وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتيته يومًا قبل الظهر فقلت له‏:‏ يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة لعلي أدخل على هؤلاء القومٍ فأكلمهم فقال‏:‏ إني أخاف عليك فقلت‏:‏ كلا وكنت حسن الخلق لا أوذي أحدا فأذن لي فدخلت عليهم فلم أر قومًا أشد منهم اجتهادًا جباههم قرحة من السجود وأيديهم كأنها نقر الإبل وعليهم قمص مُرَحًضَةٌ مشمرين مشهمة وجوههم من السهر فسلمت عليهم فقالوا‏:‏ مرحبًا بابن عباس ما جاء بك‏.‏

فقال‏:‏ أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار ومن عند صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم فقالت طائفة منهم‏:‏ لا تخاصموا قريشًا فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ بل هم قوم خصمون ‏"‏ فقال اثنان أو ثلاثة‏:‏ لنكلمنه فقلت‏:‏ هاتوا ما نقمتم على صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ ثلالًا أما إحداهن‏:‏ فإنه حكم الرجال في أمر الله وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الحكم إلا للّه‏}‏ فما شأن الرجال والحكم فقلت‏:‏ هذه واحدة قالوا‏:‏ وإنه قاتل ولم يُسْب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما حل لنا قتالهم وسبيهم‏.‏

قالوا‏:‏ ومحى نفسه من أَمير المؤمنين فإذا لم يكن أمير المؤمنين فإنه أمير الكافرين‏.‏

فقلت لهم‏:‏ أما قولكم‏:‏ حكم الرجال في أمر الله أنا أقرأ عليكم في كتاب الله ما ينقض قولكم إن الله صير من حكمه إلى الرجال في ربع درهم ثمن أرنب وتلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ الآية‏.‏

وفي المرأة وزوجها‏:‏ ‏{‏وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماَّ من أهله وحكمًا من أهلها‏}‏‏.‏

فنشدتكم الله هل تعلمون حكم الرجال في إصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في أرنب وبضع امرأة فأيهما ترون أفضل قالوا‏:‏ بل هذه قلت‏:‏ خرجت من هذه قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ وأما قولكم‏:‏ قاتل ولم يُسْبِ ولم يغنم فتسبون أمكم عائشة فوالله إن قلتم ليست بأمنا لقد خرجتم من الإسلام وإن قلتم لنسبينها ونستحل منها ما نستحل من غيرها خرجتم من الإسلام أخرجت من هذه‏.‏

قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ وأما قولكم‏:‏ محى نفسه من أمير المؤمنين فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية كاتب أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو فقال‏:‏ يا علي اكتب‏:‏ هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقالوا‏:‏ ما نعلم أنك رسول الله ولو نعلم ما قاتلناك فقال‏:‏ امح يا عليّ واكتب‏:‏ هذا ما كاتب عليه محمد بن عبد الله فوالله لرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من علي وقد محى نفسه فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فتقاتلوا‏.‏

قال علماء السير‏:‏ وجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى القوم وابن عباس يكلمهم فقال لهم‏:‏ من زعيمكم قالوا‏:‏ ابن الكواء قال‏:‏ فما أخرجكم علينا قالوا‏:‏ حكومتك يوم صفين قال‏:‏ أنشدكم بالله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن إني عرفتهم أطفالًا ورجالًا فكانوا شر أطفال وشر رجال امضوا على حقكم فإنما رفعهم المصاحف خديعة فرددتم علي رأيي وقلتم‏:‏ لا بل نقبل منهم فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في القرآن وإن أبيا فنحن من حكمهما براء‏.‏

قالوا له‏:‏ فخبرنا أتراه عدلًا تحكيم الرجال في الدماء فقال‏:‏ إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال ادخلوا مصركم فدخلوا من عند آخرهم‏.‏

وقال الخوارج منهم‏:‏ كان الأمر كما وصفت ولكن كان ذلك كفرًا منا فقد تبنا إلى الله منه فتب كما تبنا نبايعك وإلا فنحن مخالفون‏.‏

فانصرف علي بأصحابه فقال قوم‏:‏ إِنه أقر لهم بالخطأ فصعد المنبر فذكر أمرهم فعابه فوثبوا من نواحي المسجد يقولون‏:‏ لا حكم إلا لله فقال عليّ‏:‏ كلمة حق أريد بها باطل‏.‏

وفي هذه السنة

 بعث عليّ رضي الله عنه أربعمائة رجل

عليهم شريح بن هانىء الحارثي وفيهم أبو موسى الأشعري وبعث معهم عبد الله بن عباس يصلي ويلي أمورهم ولم يحضر علي وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام ثم جاء معاوية واجتمعوا بأذرج وشهد معهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والمغيرة بن شعبة في جماعة كثيرة‏.‏

وخرج عمرو بن سعد بن أبي وقاص فأتى أباه وهو بالبادية فقال‏:‏ يا أبت قد بلغك ما كان بين الناس بصفين وقد حكموا وقد شهدهم نفر من قريش فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أهل الشورى أحق بالخلافة فقال‏:‏ لا أفعل إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إِنه تكون فتنة خير الناس فيها الخفي التقي ‏"‏‏.‏

والتقى الحكمان فقال عمرو بن العاص‏:‏ يا أبا موسى أرأيت أول ما يقضى به الحق أن يقضى لأهل الوفاء بوفائهم وعلى أهل الغدر بغدرهم قال‏:‏ وما ذاك لست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وافوا وقدموا للموعد قال‏:‏ بلى قال عمرو‏:‏ اكتبها فاكتبها أبو موسى قال‏:‏ ألست تعلم أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلومًا قال‏:‏ أشهد قال‏:‏ أفلست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه قال‏:‏ بلى قال‏:‏ فإن الله عز وجل قال‏:‏ ‏{‏ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا‏}‏ فما يمنعك من معاوية ولي عثمان وبيته في قريش كما قد علمت فإن قال الناس ليس له سابقة فلك حجة وهي أن تقول‏:‏ إني وجدته ولي عثمان المظلوم والطالب بدمه وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني لم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين والأنصار ولو خرج لي من سلطانه ما كنت لأرتشي في حكم الله ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب‏.‏

فأبى عمرو وقال‏:‏ أخبرني عن رأيك قال‏:‏ رأي أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا فقال له عمرو‏:‏ فإن الرأي ما رأيت فأقبلا إلى الناس فقال عمرو‏:‏ يا أبا موسى أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع فتكلم أبو موسى فقال‏:‏ رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة فقال عمرو‏:‏ صدق وبر يا أبا موسى تقدم فتكلم‏.‏

فتقدم أبو موسى ليتكلم فدعاه ابن عباس فقال له‏:‏ ويحك والله إني لأظنه قد خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك قبلك فإني لا آمن أن يخالفك فقال‏:‏ إنا قد اتفقنا‏.‏

فتقدم أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إِنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد اجتمع عليه رأي ورأي عمرو وهو أن نخلع عليًا ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم ما أحبوا عليهم وإني قد خلعت عليًا وأقبل عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه فقال له أبو موسى‏:‏ مالك لا وفقك الله غدرت وفجرت إنما مثلك كمثل الكلب إن تَحمِل عليه يلهث أو تتركه يلهث‏.‏

قال عمرو‏:‏ إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا‏.‏

وحمل شريح بن هانىء على عمرو فقنعه بالسوط وحمل على شريح ابن لعمرو فضربه بالسوط وقام الناس فحجزوا بينهم‏.‏

فالتمس أهل الشام أبا موسى فركب راحلته ولحق بمكة‏.‏

وكان يقول‏:‏ اطمأننت إلى عمرو وظننت أنه لن يؤثر شيئًا على نصح الأمة ولقد حذرنيه ابن عباس‏.‏

وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية وسلموا عليه بالخلافة وقام معاوية عشية في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد من كان متكلمًا في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه قال ابن عمر‏:‏ فأطلعت حويتي فأردت أن أقول‏:‏ يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام ثم خشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجماعة ويسفك فيها دم وأحمل فيها على غير رأي وذكرت ما وعد الله في الجنان فأمسكت‏.‏

قال عمرو بن العاص‏:‏ بلغني أن عتبة بن أبي سفيان قال لعبد الله بن عباس‏:‏ ما منع عليًا أن يبعثك مكان أبي موسى فقال عبد الله‏:‏ منعه والله من ذلك حاجز القدر وقصر المدة ومحنة الابتلاء أما والله لو بعثني لاعترضت في مدارج نفس عمرو ناقضًا ما أبرم ومبرمًا لما نقض أسف إذا طار وأطير إذا أسف ولكن مضى قدر وبقي أسف والآخرة خير لأمير المؤمنين‏.‏

وقال خريم بن فاتك الأسدي هذه الأبيات‏:‏ لو كان للقوم رأي يرشدون به أهل العراق رموكم بابن عباس لله در أبيه أيما رجل ما مثله لفصال الأمر للناس لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن لم يمر ما ضرب أخماس لأسداس أخبرنا أبو القاسم الحريري قال‏:‏ أخبرنا أبو طالب العشاري قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن الدارقطني قال‏:‏ حدَّثنا أبو الحسين إبراهيم بن بيان الرزاد قال‏:‏ حدثنا أبو سعيد الخرقي قال‏:‏ حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ سألت أبي قلت‏:‏ ما تقول في علي ومعاوية فأطرق ثم قال‏:‏ يا بني إيش أقول فيهما أعلم أن عليُّا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبًا فلم يجدوا فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فوضعوا له فضائل كيدًا منهم له‏.‏

أو كما قال‏.‏

وفي هذه السنة

 انتهى إلى قوم قد كفروا وامتنعوا

فرجع فبعث مكانه خليد بن قرة اليربوعي فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه وصالحه أهل مرو فأصاب جاريتين من أبناء الملوك فنزلتا بأمان فبعث بهما إلى علي رضي الله عنه فأعطاهما بعض الدهاقين‏.‏

وفي هذه السنة

 اجتمعت الخوارج على حرب عليَ رضي الله عنه

وتأهبوا لذلك وشرح القصة‏:‏ انه لما أراد علي رضي الله عنه أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج‏:‏ زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعيدي فدخلا عليه فقالا‏:‏ لا حكم إلا لله فقال علي‏:‏ لا حكم إلا لله فقال له حرقوص‏:‏ تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا قال لهم‏:‏ قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابًا وشرطنا شروطًا وأعطينا عليها عهودًا ومواثيقًا وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفُوا بعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتم وَلاَ تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوكِيدهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إن الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ فقال حرقوص‏:‏ ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه فقال له علي‏:‏ ما هو ذنب ولكن عجز من الرأي وضعف من العمل وقد نهيتكم عنه فقال له زرعة‏:‏ أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله قاتلتك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه فقال علي‏:‏ بؤسًا فخرج علي يومًا فخطب فقالوا من جوانب المسجد‏:‏ لا حكم إلا الله وصاح منهم رجل بعليّ رضي الله عنه فقال‏:‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين‏}‏ فقال علي‏:‏ ‏{‏فاصبر إن وعد اللّه حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون‏}‏‏.‏

فاجتمعت الخوارج فيِ منزل عبد الله بن وهب الراسبي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينيبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا التي الرضا بها والركون بها والإيثار إياها عناء وتبار آثر عنده من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق فاخرجوا بنا إلى إخواننا من بين أهل هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد وإلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة والأحكام الجائرة‏.‏

فقال حرقوص بن زهير‏:‏ إن المتاع بهذه الدنيا قليل وإن الفراق لها وشيك فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏.‏

فقال حمزة بن سنان الأسدي‏:‏ يا قوم إِن الرأي ما رأيتم وإن الحق ما ذكرتم فولوا أمركم هذا رجلًا منكم فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها‏.‏

فبعثوا إلى زيد بن حصن الكناني وكان من رؤوسهم فعرضوها عليه فأبى وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقال‏:‏ هاتوها أنا والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقًا من الموت وذلك بعدما عرضوها على حرقوص فأبى وعرضوها على حمزة فأبى وعرضوها على شريح بن أوفى العبسي فأبى ولم يقبلها غير ابن وهب الراسبي وقال ما قال‏.‏

ثم أنهم اجتمعوا في منزل زيد بن حصن فقال‏:‏ إن الله قد أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قال‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فاولئك هم الكافرون‏}‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‏}‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏}‏ فاشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب وجاروا في القول والفعل وإن جهادهم حق على المؤمنين وأقسم بالذي تعنو له الوجوه وتخشع له الأبصار إني لو لم أجد على تغيير الجور وقتال القاسطين أحدًا مساعدًا لمضيت فردًا حتى ألقى ربي ليرى أني قد عبرت إرادة رضوانه‏.‏

فقال عبد الله بن وهب‏:‏ اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها‏.‏

فقال شريح‏:‏ اخرجوا إلى المدائن فلننزلها ولنأخذ بأبوابها ونخرج منها سكانها ونبعث إلى إخواننا في أهل البصرة فيقدمون علينا فقال زيد‏:‏ إنكم إن خرجتم يرى لكم جماعة تبعتم ولكن اخرجوا وُحْدانًا فأما المدائن فإن بها قومًا يمنعونها منكم ولكن اكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة فأعلموهم بمخرجكم وسيروا حتى تنزلوا جسر النهروان قالوا‏:‏ هذا الرأي‏.‏

وأجمعوا على ذلك وكتبوا إلى أهل البصرة وخرجوا ليلة السبت وُحْدانًا يتسللون فبلغ خبرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكتب إليهم وهو بالنهر‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصن وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس‏.‏

أما بعد فإن هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمين قد خالفا كتاب الله واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا للقرآن حكمًا فبرىء الله منهما ورسوله والمؤمنون فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا فإنا سائرون إلى عدونا ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه والسلام‏.‏

فكتبوا إليه‏:‏ أما بعد فإنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نابذناك على سواء إن الله لا يحب الخائنين‏.‏

فلما قرأ كتابهم أيس منهم‏.‏

ولقي الخوارج في طريقهم عبد الله بن خباب فقالوا‏:‏ هل سمعت من أبيك حديثًا يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثناه قال‏:‏ نعم سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي قال‏:‏ فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول‏.‏

قالوا‏:‏ أنت سمعت هذا من أبيك يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ نعم فقدموه على شفير النهر فضربوا عنقه فسال دمه كأنه شراك نعل ونقروا أم ولده عما في بطنها وكانت حبلى ونزلوا تحت نخل مواقر فسقطت رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فيه فقال أحدهم‏:‏ بغير حلها وبغير ثمن فلفظها من فيه‏.‏

واخترط أحدهم سيفه فأخذ يهزه فمر خنزير لأهل الذمة فضربه فقالوا له‏:‏ هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه من خنزيره‏.‏

وكان علي رضي الله عنه قد تجهز للخروج إلى قتال الشام وندب الناس فاجتمع معه ثمانية وستون ألفًا فلما سمع الناس خبر هؤلاء قالوا‏:‏ لو سار بنا إلى هؤلاء فبدأنا بهم ثم وجهنا إلى المُحِلين فبلغه قولهم فقال‏:‏ إن غير هؤلاء أهم إلينا فسيروا إِلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين فقالوا‏:‏ سر بنا حيث أحببت‏.‏

فلما بلغه قتلهم عبد الله بن خباب بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتب بخبرهم فلما دنا منهم يسألهم قتلوه‏.‏

فأتى الخبر عليًا فقام الناس إليه فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا سربنا إلى القوم فإذا‏:‏ فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا فنادى بالرحيل وخرج ثم بعث إِليهم‏:‏ ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم ثم نكف عنكم واخرجوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم فبعثوا إليه كلنا قتلهم وكلنا نستحل لدمائهم ودمائكم‏.‏

وفي رواية أخرى أن عليًا أتاهم فوقف عليهم فقال‏:‏ أيتها العصابة التي أخرجتها اللجاجة وصدها عن الحق الهوى إني نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر تلفيكم الأمة غدًا بغير بينة من ربكم وإن الحكمين اختلفا وخالفا كتاب الله والسنة فنبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول فما الذي بكم ومن أين أتيتم فقالوا‏:‏ إنا لما حكمنا أثمنا وكلنا بذلك كافرين وقد تبنا قال‏:‏ إِذا تبت كما تبنا فنحن منك وإلا فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء فقال علي رضي الله عنه‏:‏ أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر أبعد إِيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين‏.‏

فتنادوا‏:‏ لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيأوا للقاء الرب الرواح الرواح إلى الجنة‏.‏

فخرج علي فعبأ الناس فجعل على ميمنته حجر بن عدي وعلى ميسرته شبث بن ربعي - أو معقل بن قيس الرياحي - وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري وعلى أهل وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن وعلى ميسرتهم شريح بن أوفى العبسي وعلى خيلهم حمزة بن سنان وعلى رجالتهم حرقوص بن زهير‏.‏

ودفع علي إلى أبي أيوب الأنصاري راية أمان فناداهم أبو أيوب‏:‏ من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إِخواننا في سفك دمائكم فقال فروة بن نوفل‏:‏ والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليًا لا أرى إلا أن أنصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو أتباعه‏.‏

فانصرف في خمسمائة فارس‏.‏

وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة وخرج إلى عليَ منهم نحو من مائة وكانوا أربعة آلاف فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب ألفين وثمانمائة فزحفوا إلى علي فقال علي لأصحابه‏:‏ كفوا عنهم حتى يبدأوكم فتنادوا‏:‏ الرواح الرواح فشدوا على الناس فلم تثبت خيل عليَ لشدتهم فاستقبلت الرامية وجوههم بالنبل وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة فأناموهم ولم يقتل من أصحاب علي رضي الله عنه إلا سبعة أولهم يزيد بن نويرة‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أحمد بن الحسين بن محمد بن عبد الله بن خلف العكبري أخبرنا جدي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حاتم المدني أول قتيل قتل عن أصحاب علي يوم النهروان رجل من الأنصار يقال له‏:‏ يزيد بن نويرة شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مرتين شهد له يوم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من جاز التل فله الجنة ‏"‏‏.‏

فقال يزيد بن نويرة‏:‏ يا رسول الله إنما بيني وبين الجنة هذا التل ثم أخذ سيفه فضارب حتى جاز التل فقال ابن عم له‏:‏ يا رسول الله أتجعل لي ما جعلت مثل ما جعلت لابن عمي يزيد قال‏:‏ ‏"‏ نعم ‏"‏ فقاتل حتى جاز التل ثم أقبلا يختلفان في قتيل قتلاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما‏:‏ ‏"‏ كلاكما قد وجبت له الجنة ولك يا يزيد على صاحبك درجة ‏"‏ قال‏:‏ فشهد يزيد مع علي فكان أول قتيل من أصحاب علي يوم النهروان‏.‏

قال علماء السير‏:‏ وخرج عليّ في طلب ذي الثدية فوجده في حفرة على شاطىء النهر قتيلًا فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة له حلمة عليها شعيرات سود فقال علي‏:‏ الله أكبر والله ما كَذبْتُ ولا كُذِبت أما أما والله لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قاتلهم مستنصرًا في قتالهم‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن إبراهيم البزاز قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن محمد بن عثمان النسوي قال‏:‏ حدثنا يعقوب بن سفيان قال‏:‏ حدثنا أصبغ بن الفرح قال‏:‏ حدثنا ابن وهب قال‏:‏ أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن بشر بن سعيد عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أن الحرورية لما خرجت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقالوا‏:‏ لا حكم إلا الله قال علي رضي الله عنه‏:‏ كلمة حق أريد بها باطل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا ناسًا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق الله إليه فيهم أسود إحدى يديه كأنها طُبي شاة أو حلمة ثدي فلما قتلهم قال‏:‏ انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئًا فقال‏:‏ ارجعوا والله ما كذبت - مرتين أو ثلاثًا - فوجدوه في حفرة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه‏.‏

قال عبيد الله‏:‏ وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي رضي الله عنه فيهم‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا أبو القاسم الأزهري قال‏:‏ أخبرنا علي بن عبد الرحمن البكائي قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال‏:‏ أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحمامي قال‏:‏ أخبرنا خالد بن عبيد الله عن عطاء بن السائب عن ميسرة قال‏:‏ قال أبو جحيفة‏:‏ قال علي رضي الله عنه حين فرغنا من الحرورية‏:‏ إن فيهم رجلًا مخدجًا ليس في عضده عظم ثم عظمه أو عضده حلمة كحلمة الثدي عليها شعيرات طوال عقف فالتمسوه فلم يجدوه وأنا فيمن يلتمس‏.‏

قال‏:‏ فما رأيت عليًا جزعًا قط أشد من جزعه يومئذ فقالوا‏:‏ ما نجده يا أمير المؤمنين قال‏:‏ ويلكم ما اسم هذا المكان قالوا‏:‏ النهروان قال‏:‏ كذبتم إنه لفيهم فثورنا القتلى فلم نجده فعدنا إليه فقلنا‏:‏ يا أمير المؤمنين ما نجده قال‏:‏ ويلكم ما اسم هذا المكان قالوا‏:‏ النهروان‏.‏

قال‏:‏ صدق الله ورسوله وكذبتم إِنه لفيهم فالتمسوه فالتمسناه في ساقية فوجدناه فجئنا به فنظرت إلى عضده ليس فيها عظم وعليها‏.‏

حلمة كحلمة ثدي المرأة عليها شعرات طوال عقف‏.‏

قال علماء السير‏:‏ ثم قام علي رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ إن الله عز وجل قد أحسن بكم وأعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إِلى عدوكم فقالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين نفدَتْ نيالُنا وكلت سيوفنا فارجع إلى مصرنا واستعد بأحسن عدتنا‏.‏

فأقبل حتى نزل النخَيلة فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم ويوطنوا على الجهاد أنفسهم وأن يقلوا زيارة أبنائهم ونسائهم حتى يسيروا إِلى عدوهم فأقاموا أيامًا ثم تسللوا فدخلوا إلا قليلًا منهم فلما رأى ذلك دخل الكوفة وانكسر رأيه في المسير‏.‏

وقد ذهب قوم إلى أن هذه الوقعة بالخوارج كانت في سنة ثمان وثلاثين‏.‏

 حج بالناس عبيد الله بن عباس

وكان عامل علي على اليمن ومخاليفها وكان عامله على مكة والطائف قُثَم بن العباس وعلى المدينة سهل بن حنيف وقيل‏:‏ كان عليها تمام العباس‏.‏

وكان على البصرة عبد الله بن العباس وعلى قضائها أبو الأسود الدؤلي وعلى مصر محمد بن أبي بكر‏.‏

ولما شخص علي إلى صفين استخلف على الكوفة مسعود الأنصاري وعلى خراسان خليد بن قرة اليربوعي‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

الربيع بنت معوذ بن عفراء

أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثت عنه، وكانت تغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخدم القوم وترد القتلى والجرحى إلى المدينة‏.‏

خباب بن الأرت بن جندلة

كان قد أصابه سِباء فبيع بمكة واشترته أم أنمار وهي أم سباع الخزاعية ويقال‏:‏ بل أم سباع بن عبد العزى واحدة وكانت ختانة بمكة وهي التي عنى حمزة بن عبد المطلب حين قال لسباع بن عبد العزى وأمه أم أنمار‏:‏ هلم يا ابن مقطعة البظور فانضم خباب بن الأرت إلى آل سباع وادعى حلف بني زهرة بهذا السبب‏.‏

وكان يكنى أبا عبد الله وأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها وكان من المستضعفين الدين يعذبون بمكة ليرجع عن دينه‏.‏

وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر أخبرنا الجوهري أخبرنا ابن حيوية أخبرنا أبو الحسن بن معروف أخبرنا الحسين بن الفهم حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال‏:‏ حدثنا حيان بن علي عن مجالد عن الشعبي قال‏:‏ دخل خباب بن الأرت على عمر فأجلسه على متكئه وقال‏:‏ ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد قال له خباب‏:‏ من هو يا أمير المؤمنين قال‏:‏ بلال قال‏:‏ فقال خباب‏:‏ يا أمير المؤمنين ما هو بأحق مني إن بلالًا كان له من المشركين من يمنعه الله به ولم يكن لي أحد يمنعني فلقد رأيتني يومًا أخذوني وأوقدوا لي نارًا ثم سلقوني فيها ثم وضع رجل رجله على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري قال‏:‏ ثم كشف عن ظهره فإذا هو قد برص‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي قال‏:‏ حدثنا مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال‏:‏ عاد خبابًا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أبشر يا أبا عبد الله إخوانك تقدم عليهم غدًا فبكى وقال‏:‏ عليها من حالي أما إنه ليس بي جزع ولكن ذكرتموني أقوامًا وسميتموهم لي إِخوانًا لان أولئك مضوا وأجورهم كما هي وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم‏.‏

توفي خباب بالكوفة في هذه السنة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة وهو أول من دفن بظهر الكوفة

خزيمة بن ثابت بن الفاكه

ابن ثعلبة بن عامر أبو عمارة وهو ذو الشهادتين‏:‏ أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثني معمر عن الزهري عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عمه - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من رجل من الأعراب فاستتبعه رسول صلى الله عليه وسلم ليعطيه ثمنه فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يلقون الأعرابي يساومونه الفرس ولا يشعرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه رسول الله صلى الله عليه وسلم به‏.‏

فلما زاده نادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع قول الأعرابي حتى أتاه الأعرابي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألست قد ابتعته منك ‏"‏ فقال الأعرابي‏:‏ لا والله ما بعتكه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بلى قد ابتعته منك ‏"‏ فطفق الناس يلوذون برسول الله وبالأعرابي وهما يتراجعان وطفق الأعرابي يقول‏:‏ هلم شهيد ًا يشهد لك فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي‏:‏ ويلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقل إلا حقًا حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع مراجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي فطفق الأعرابي يقول‏:‏ هلم شهيدًا يشهد أني قد بايعتك فقال خزيمة‏:‏ أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال‏:‏ بم تشهد قال‏:‏ بتصديقك يا رسول الله فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين‏.‏

قال محمد بن عمر‏:‏ لم يسم لنا أخو خزيمة الذي روى هذا الحديث وكان له أخوان يقال لأحدهما وَحْوَح ولا عقب له وعبد الله وله عقب‏.‏

وفي طريق آخر أنه قال‏:‏ أنا أصدقك بخبر السماء ولا أصدقك بما تقول‏.‏

قال محمد بن عمر‏:‏ وكانت له راية بني خطمة في يوم الفتح وشهد صفين مع علي بن أبي طالب‏.‏

سفينة

مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه مهران ويكنى أبا عبد الرحمن‏:‏ اشترته أم سلمة فاعتقته واشترطت عليه يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش‏.‏

أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ حدثنا ابن معروف قال‏:‏ حدثنا ابن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا الفضل بن دكين قال‏:‏ حدثنا خرج بن نباته قال‏:‏ حدثنا سعيد بن جهمان قال‏:‏ سألت سفينة عن اسمه فقال‏:‏ سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة قلت‏:‏ وبما سماك سفينة قال‏:‏ خرج معه أصحابه فثقل عليهم متاعهم فقال لي‏:‏ ابسط لي كساك فبسطه فحولوا فيه متاعهم ثم حملوه علي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ احمل فما أنت إلا سفينة ‏"‏‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا عبد الله بن موسى عن أسامة بن زيد عن محمد بن المنكدر عن سفينة‏:‏ أنه ركب في البحر فانكسرت بهم قال فتعلقت بشيء منها حتى خرجت إلى جزيرة فإذا فيها الأسد فقلت‏:‏ أبا الحارث إنما سفينة مولى رسول صلى الله عليه وسلم فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبيه يدلني على الطريق فلما خرجت إلى الطريق همهم فظننت أنه يودعني‏.‏

اشتراه عبد الله بن عامر فأهداه إلى عثمان بن عفان فرده عليه وقال‏:‏ لا حاجة لنا فيه وله أشعار كثيرة وأخبار أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار أخبرنا الجوهري أخبرنا ابن حيوية حدثنا محمد بن خلف قال‏:‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ كان سُحيم حبشيًا وقد أدرك الجاهلية‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز عن أبي محمد الجوهري أخبرنا أبو عمر بن حيوية أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إسحاق المكي حدثنا الزبير بن بكار قال‏:‏ حدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن خاله يوسف بن الماجشون قال‏:‏ اشترى عبد الله بن أبي ربيعة سحيمًا عبد بني الحسحاس وكتب إلى عثمان بن عفان‏:‏ إني قد ابتعت لك غلامًا حبشيًا شاعرًا فكتب إليه عثمان‏:‏ لا حاجة لي به فإنما قصارى العبد الشاعر إن شبع تشبب بنسائهم وإن جاع يهجوهم فرده عبد الله فاشتراه رجل من بني الحسحاس‏.‏

وكان حبشيًا أعجمي اللسان ينشد الشعر‏.‏

قال الزبير‏:‏ وحدَّثني عمر بن أبي بكر عن أبي صالح الفقعسي قال‏:‏ كان سحيم عبدًا لبني الحسحاس حبشيًا شاعرًا وكان يهوى ابنة مولاه عميرة بنت أبي معبد ويكني عن حبها إلى أن عميرة ودع إن تجهزت غاديا يردد النصف ولا يزيد عليه ثم قال‏:‏ ابعد يا سحيم فهيج منه ما كان باطنًا فقال‏:‏ عميرة ودع إن تجهزت غاديًا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا ثم بنى عليها وأتمها قصيدة وفحش فيها فقال‏:‏ وبتنا وسادانا إلى عَلَجانَة وحِقف تهاداهُ الرياح تهاديا توسدني كفًا وتثني بمعصم علي وتحوي رجلها من ورائيا وهبت شمالًا آخر الليل قرة ولا ثوب إلا درعها وردائيا فما زال ثوبي طيبًَا من نسيمها إلى الحول حتى أنهج الثوب باليا قال‏:‏ فذهب به أبو معبد إلى المدينة ليبيعه بها فقال بعد أن أخرجه بها‏:‏ وما كنت أخشى معبدًا أن يبيعني بشيء ولو أمست أنامله صفرا أخوكمٍ ومولى مالكم وربيبكم ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا أشوقا ولما يمض لي غير ليلة فكيف إذا سار المطي بنا عشرا قال‏:‏ فرق له ورده وآل أمر سحيم أنه أحب امرأة من أهل بيت مولاه فأخذوه وأحرقوه‏.‏

عبد اللّه بن الأرقم

ابن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة‏:‏ أسلم يوم الفتح وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر رضي الله عنه‏.‏

وكُتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب فقال‏:‏ من يجيب فقال ابن الأرقم‏:‏ أنا فأجاب عنه ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه وأنفذه‏.‏

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعجبه ذلك ويقول‏:‏ أصاب ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل ذلك في قلبه فلما ولي عمر استعمله على بيت المال وقال عمر‏:‏ ما رأيت أحدًا أخشى لله منه‏.‏

أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا بن حيوية قال‏:‏ حدثنا ابن معروف قال‏:‏ حدثنا ابن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثني عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت المنصور أبيها قال‏:‏ ولى عمر بن الخطاب بيت مال المسلمين عبد الله بن الأرقم الزهري وكان عمر رضي الله عنه يستسلف من بيت المال فإذا أخرج العطاء جاء عبد الله فتقاضاها فيقضيه فلما ولي عثمان أقره على بيت المال وكان يستسلف منه ثم يقضيه كعمر ثم اجتمع عند عثمان مال كثير وحضر خروج العطاء فقال له عبد الله‏:‏ أد المال الذي استسلفت فقال له عثمان‏:‏ ما أنت وذاك وإنما أنت خازن فخرج عبد الله حتى وقف على المنبر فصاح بالناس فاجتمعوا فأخبرهم بما قال عثمان وقال‏:‏ هذه مفاتيح بيت مالكم‏.‏

قال مؤلف الكتاب‏:‏ ولما رد المفاتيح استخزن عثمان زيد بن ثابت‏.‏

عبد اللّه بن خباب بن الأرت

ابن جندلة بن سعد بن خزيمة‏:‏ ولد في زمان رسول الله وكان موصوفًا بالخير والصلاح وورد المدائن وقتله الخوارج وهو بالنهروان‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرني الحسن بن محمد الخلال حدًثنا عبد العزيز بن أبي صابر الدلال حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا أبو خيثمة علي بن عمرو بن خالد الحراني حدَّثني أبي حدثنا الحكم بن عبدة الشيباني البصري عن أيوب عن حميد بن هلال عن أبي الأحوص قال‏:‏ كنا مع عليّ يوم النهروان فجاءت الحرورية فكانت من وراء النهر فقال و الله رجل من وراء النهر فأعادوا عليه هذه المقالة ثلاثًا كل ذلك يقول لهم علي مثل قوله الأول قال فقالت الحرورية بعضهم لبعض‏:‏ يرى علي أنا نخافه فأجازوا فقال علي لأصحابه‏:‏ لا تحركوهم حتى يحدثوا حدثًا فذهبوا إلى منزل عبد الله بن خباب وكان منزله على شط النهر فأخرجوه من منزله فقالوا‏:‏ حدثنا بحديث حدثكه أبوك سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حدثنا أبي أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الساعي‏)‏ فقدموه إلى الماء فذبحوه كما تذبح الشاة فسال دمه في الماء مثل الشراك ما أمذ قر‏.‏

قال الحكم‏:‏ فسألت أبا أيوب‏:‏ ما أمذ قر قال‏:‏ ما اختلط‏.‏

قال‏:‏ وأخرجوا أم ولده فشقوا عما في بطنها فأخبر علي بما صنعوا فقال‏:‏ الله أكبر نادوهم اخرجوا لنا قاتل عبد الله بن خباب قالوا‏:‏ كلنا قتله فناداهم ثلاثًا كل ذلك يقولون هذا القول‏.‏

فقال علي لأصحابه‏:‏ دونكم القوم قال‏:‏ فما لبثوا أن قتلوهم فقال علي‏:‏ اطلبوا في القوم رجلًا يده كثدي المرأة فطلبوه ثم رجعوا إليه فقالوا‏:‏ ما وجدنا فقال‏:‏ والله ما كذبت وما كذبت وإنه لفي القوم‏.‏

ثلاث مرات يجيئونه فيقول لهم هذا القول‏.‏

ثم قام هو بنفسه فجعل لايمر بقتلى جميعًا إلا بحثهم فلا يجده فيهم حتى انتهى إلى حفرة من الأرض فيها قتلى كثير فأمر بهم فبحثوا فوجد فيهم فقال لأصحابه‏:‏ لولا أن تنتظروا لأخبرتكم بما أعد الله تعالى لمن قتل هؤلاء‏.‏

عبد الله بن سعد بن أبي سرح

أسلم قديمًا‏.‏

أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا ابن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أسلم عبد الله بن سعد قديمًا وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏سميع عليم‏}‏ فيكتب ‏{‏عليم حكيم‏}‏ فيقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقره فافتتن عبد الله بن سعد وقال‏:‏ ما يدري محمد ما يقول إني لأكتب له ما شئت هذا الذي يوحي إليّ كما يوحى إلى محمد‏.‏ وخرج هاربًا من المدينة إلى مكة مرتدًا فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح فجاء إلى عثمان بن عفان - وكان أخاه من الرضاعة - فقال‏:‏ يا أخي إني والله اخترتك على غيرك فاحبسني هاهنا واذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيً فإن محمدًا إن رآني ضرب الذي فيه عيناي فإن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبًا فقال عثمان‏:‏ بل اذهب معي فقال‏:‏ والله لئن رآني ليضربن عنقي فقد أهدر دمي وأصحابه يطلبونني في كل موضع فقال عثمان‏:‏ انطلق معي فلا يقتلنك إن شاء الله ‏.‏ فلم يرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعثمان آخذًا بيد عبد الله بن أبي سرح واقفين بين يديه فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إن أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وكانت تلطفني وتتركه فهبه لي فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عثمان كلما أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام وإنما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمنه‏.‏

فلما رأى ألا يقوم أحد وعثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه وهو يقول‏:‏ يا رسول الله تبايعه فداك أبي وأمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ نعم ‏"‏ ثم التفت إلى أصحابه فقال‏:‏ ‏"‏ ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله ‏"‏ - أو قال‏:‏ الفاسق - فقال عباد بن بشر‏:‏ ألا أومأت إلي يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه - ويقال‏:‏ قاله أبو اليسر ويقال‏:‏ عمر بن الخطاب ولعلهم قالوا جميعًا - فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إِني لا أقتل بالإشارة ‏"‏‏.‏

وقال قائل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذٍ‏:‏ ‏"‏ إِن النبي لا تكون له خائنة الأعين ‏"‏ فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وجعل عبد الله بعد ذلك كلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه فقال عثمان‏:‏ يا رسول الله نراه يفر منك كلما رآك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ أو لم أبايعه وأؤمنه ‏"‏ قال‏:‏ بلى ولكنه يتذكر عظم جرمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الإسلام يَجُبُّ ما قبله ‏"‏ فرجع عثمان إلى عبد الله بن سعد وشهد عبد الله فتح مصر واختط بها وولاه إياها عثمان وغزا إفريقية وأرض النوبة وذات الصواري من أرض الروم في البحر ثم وفد على عثمان فلما رجع منعه ابن أبي حذيفة من دخول الفسطاط فمضى إِلى عسقلان فأقام بها ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية‏.‏

توفي بها في هذه السنة

عمار بن ياسر

ابن مالك بن كنانة بن قيس يكنى أَبا اليقظان‏:‏ أسلم بمكة قديمًا في دار الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلًا وهو معدود في السابقين الأولين من المهاجرين عذب في الله بمكة وأسلم هو وأبوه وأمه سمية مولاة أبي حذيفة بن المغيرة وكانت قريش تعذبهم في الرمضاء ليرجعوا عن دينهم ومر النبي صلى الله عليه وسلم بهم وهم يعذبون فقال‏:‏ ‏"‏ اصبروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ‏"‏‏.‏

وكان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول وهو أول من بنى مسجدًا في بيته يصلي فيه‏.‏

شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا والمشاهد كلها وكان طويلًا أدمًا مضطربًا أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين لا يغير شيبه‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي الحافظ أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم أخبرنا قبيصة استأذن عمار على النبي صلى الله عليه وسلم فعرف صوته فقال‏:‏ ‏"‏ مرحبًا بالطيب بن المطيب‏"‏ أخبرنا الكروخي أخبرنا أبو عامر الأزدي وأبو بكر العزرجي قالا‏:‏ أخبرنا الجراحي قال‏:‏ حدثنا الغنوني قال‏:‏ حدثنا الترمذي قال‏:‏ حدَّثنا سفيان بن رافع قال‏:‏ حدثنا أبي عن الحسن بن صالح عن أبي ربيعة الأيادي عن الحسن عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة نفر‏:‏ علي وعمار وسلمان ‏"‏‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي طاهر أخبرنا الجوهري أخبرنا ابن حيوية أخبرنا أحمد بن معروف حدثنا الحسين بن الفهم حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثني يعقوب بن عبد الله القمَي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه عن عمار بن ياسر أنه قال وهو يسير إلى صفين على شط الفرات‏:‏ اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردى فأسقط فعلت ولو أعلم أنه أرضى لك عني أن أوقد نارًا عظيمة فأقع فيها فعلت اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن ألقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت فإني لا أقاتل إِلا أريد وجهك وأنا أرجو ألا وقال ابن سعد‏:‏ وأخبرنا أبو داود الطيالسي قال‏:‏ حدثنا شعبة قال‏:‏ أنبأني عمرو بن مرة قال‏:‏ سمعت عبد الله بن سلمة يقول‏:‏ رأيت عمار بن ياسر يوم صفين شيخًا في يده الحربة وإنها لترعد فنظر إلى عمرو بن العاص ومعه الراية فقال‏:‏ إن هذه الراية قد قاتلت بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهذه الرابعة والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعرفت أن مصلحتنا على الحق وأنه على الضلالة‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الباقي أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الحسن بن علي المعمري حدثنا محمد بن سليمان بن أبي رجاء حدثنا أبو معشر حدثنا جعفر بن عمرو الضمري عن أبي سنان الدؤلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ رأيت عمار بن ياسر دعا بشراب فأتي بقدح من لبن فشرب منه ثم قال‏:‏ صدق الله ورسوله اليوم ألقى الأحبة محمدًا وحزبه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن آخر شيء تزوده من الدنيا صحفة لبن ‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا ابن بشران قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن صفوان قال‏:‏ حدثنا ابن أبي الدنيا قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ عمار بن ياسر من عبس من اليمن حليف لبني مخزوم ويكنى أبا اليقظان قتل بصفين مع أمير المؤمنينعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه سنة سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وتسعين سنة ودفن هناك‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وحدثنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثنا الحسن عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة‏:‏ أن عليًا صلى على عمار ولم يغسله‏.‏

قال مؤلف الكتاب‏:‏ وقد قيل إن عمارًا قتل وهو ابن إحدى وتسعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ أربع وتسعين قتله أبو عادية المزني طعنه برمح فسقط فلما وقع أكب عليه رجل آخر فاجتز رأسه وأقبلا يختصمان فيه كلاهما يقول‏:‏ أنا قتلته فقال عمرو بن العاص‏:‏ والله إن يختصمان إلا في النار فسمعها منه معاوية فلما انصرف الرجلان قال معاوية لعمرو‏:‏ ما رأيت مثل ما صنعت قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما‏:‏ إنكما تختصمان في النار فقال عمرو‏:‏ هو والله ذاك والله إنك لتعلمه ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين

فمن الحوادث فيها

 مقتل محمد بن أبي بكر رضي اللّه عنهما

قد تقدم ذكرنا السبب في عزل قيس بن سعد عن مصر وتولية محمد بن أبي بكر‏.‏

قال الزهري‏:‏ لما حدِثَ قيس بن سعد بمجيء محمد بن أبي بكر وأنه قادم عليه أميرًا تلقاه وخلا به وقال له‏:‏ إنك جئت من عند امرئ لا رأي له وليس عزلكمٍ إِياي بمانعي أن أنصح لكم وإني أدلك على الأمر الذي كنت أكايد به معاوية وعمرًا فكايدهم به فإنك إِن تكايدهم بغيره تهلك وحدثه بما كان يصنع واغتشه محمد وخالف ما أمره به فلما استقر محمد نهض بأهل مصر إلى قتال أهل خربتا وهُزِمَ محمد ولما قدم قيس بن سعد المدينة خافه مروان والأسود بن البخترى حتى إذا خاف أن يؤخذ ويقتل ركب راحلته فلحق بعلي رضي الله عنه‏.‏

فكتب معاوية إلى مروان والأسود يتغيظ عليهما ويقول‏:‏ أمددتما عليًا بقيس بن سعد ومكايده فوالله لو أمددتموه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لي من إخراجكما قيسًا إلى علي‏.‏

فلما جاء قتل محمد عرف علي أن قيسًا كان يداري أمورًا كثيرة وأن من أشار إِليه بعزل قيس لم ينصحه فبعث الأشتر‏.‏

وقد ذكرنا أن قومًا يقولون‏:‏ إنما بعث محمدًا بعد الأشتر والله أعلم‏.‏

ولما انصرف الحكمان بايع أهل الشام معاوية بالخلافة ولم يزدد معاوية إلا قوةً واختلف الناس بالعراق على عليّ رضي الله عنه فما كان لمعاوية هم إلا مصر وكان يرجو أنه إذا أظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها وكان عمرو بن العاص صالح معاوية حين بايعه على قتال علي رضي الله عنه على أن له مصر طُعْمة ما بقي‏.‏

فلما أراد معاوية أخذ مصر استشار أصحابه فقال عمرو‏:‏ أرى أن نبعث جيشًا كثيفًا عليهم رجل حازم صارم تأمنه وتثق به فيأتي مصر فإنه سيأتيه من كان على مثل ذلك فتظاهره على عدوك فقال معاوية‏:‏ هل عندك غير هذا قال‏:‏ ما أعلمه قال معاوية‏:‏ بلى فكاتب من بها فأما شيعتنا فنأمرهم بالثبات على أمرهم ونمنيهم قدومنا عليهم وأما عدونا فندعوهم إلى صلحنا ونمنيهم شكرنا ونخوفهم حربنا فإن صلحوا لنا وإلا كان حربهم من وراء ذلك فقال عمرو‏:‏ اعمل بما ترى فوالله ما أرى أمرك وأمرهم يؤول إلا إلى الحرب‏.‏

فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري وإلى معاوية بن حُديج السكوني الكندي أما بعد‏:‏ فإن الله تعالى قد ابتعثكما لأمر أعظم به أجركما ورفع به ذكركما طلبكما بدم الخليفة فابشرا برضوان الله‏.‏

فقدم به رسوله إلى مصر ومحمد بن أبي بكر أميرها فكتبا إليه‏:‏ عجل بخيلك ورَجْلك يفتح الله عليك‏.‏

فبعث عمرو بن العاص في ستة آلاف فخرج فاجتمع إليه العثمانية وكتب إلى محمد بن أبي بكر‏:‏ تنح عني بدمك فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر وكتب إليه معاوية‏:‏ إني لا أعلم أحدًا كان أعظم على عثمان بلاء منك فلا تظنن أني نائم عنك‏.‏

فبعث الكتابين إلي علي وكتب إليه‏:‏ أما بعد فإن ابن العاص قد نزل أراضي مصر واجتمع إليه أهل البلد وقد رأيت من قبلي بعض الفشل فإن كان لك في أرض مصر حاجة فأمدني بالرجال والأموال‏.‏

فكتب إليه علي‏:‏ اصبر لعدوك وإن كانت فئتك أقل الفئتين فإني باعث إليك الناس وانتدب إلى القوم كنانة بن بشر وقام علي رضي الله عنه فحث الناس على مصر فتقاعدوا فعاد يحثهم فخرج نحو من ألفين فقال‏:‏ أف لكم وقام محمد خطيبًا فقال‏:‏ إن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة قد ساروا إليكم بالجنود فمن أراد فليخرج إليهم انتدبوا رحمكم الله مع كنانة بن بشر‏.‏

فانتدب معه نحو من ألفي رجل‏.‏

وخرج محمد في ألفي رجل وأقبل عمرو فطرد أصحابه كنانة فبعث إلى معاوية بن حديج فأحاط أصحابه بكنانة فقاتل حتى قتل وتفرق عن محمد أصحابه فخرج يمشي حتى انتهى إلى خربة فأوى إليها وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق فسألهم‏:‏ هل مر بكم أحد تستنكرونه فقال أحدهم‏:‏ لا والله إلا أني دخلت تلك الخربة فإذا فيها رجل جالس فقال ابن حديج‏:‏ هو هو ورب الكعبة فدخلوا عليه واستخرجوه وقد كاد يموت عطشًا وأقبلوا به نحو الفسطاط فوثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر - وكان في جند عمرو بن العاص - وقال‏:‏ أيقتل أخي صبرًا ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه فبعث إليه‏:‏ إن عمرو بن العاص يأمرك أن تأتيه بمحمد بن أبي بكر فقال‏:‏ أكذاك قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا عن محمد هيهات‏.‏

فقتال محمد‏:‏ اسقوني من الماء فقال معاوية‏:‏ لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدًا إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائمًا أتدري ما أصنع بك أدخلك في جوف حمار ثم أحرقه بالنار‏.‏

فلما بلغ الخبر عائشة جزعت عليه جزعًا شديدًا وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية وعمرو وقبضت عيال محمد إليها وولده وكان القاسم بن محمد في عيالها وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بقتل محمد وكنانة‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ عن أبي القاسم بن أبي عبد الله بن مندة قال‏:‏ أخبرنا أبي قراءة عليه قال‏:‏ أخبرنا أبو سعيد بن يونس الحافظ قال‏:‏ حدثنا أسامة بن أحمد التجريبي قال‏:‏ حدًثني زيد بن أبي زيد بن أبي العمر عن أحمد بن يحيى ابن زيد عن إسحاق بن الفرات عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب قال‏:‏ بعث معاوية بن حديج بمولى له يقال له سليم إِلي المدينة بشيرًا بقتل محمد بن أبي بكر ومعه قميص محمد بن أبي ودخل به دار عثمان فاجتمع إليه آل عثمان من رجال ونساء وأظهروا السرور بمقتله وأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان بكبش يشوى وبعثت بذلك إلى عائشة وقالت‏:‏ هكذا شوي أخوك فلم تأكل عائشة شواء حتى لحقت بالله عز وجل‏.‏

وأما محمد بن أبي حذيفة فقد زعم قوم أنه قتل بعد قتل ابن أبي بكر‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل قتل قبل ذلك في سنة ست وثلاثين وقد سبق ذكر ذلك فيما قدمنا‏.‏

وفي هذه السنة بعد مقتل محمد بن أبي بكر وجه معاوية عبد اللّه بن عمرو بن الحضرمي إلى البصرة فوجه علي رضي اللّه عنه أعين بن ضبيعة المجاشعي لإخراج ابن الحضرمي من البصرة مددًا لزياد شرح القصة‏:‏ لما قتل محمد بن أبي بكر خرج ابن عباس من البصرة إلى علي بالكوفة واستخلف زيادًا وقدم ابن الحضرمي من قبل معاوية فنزل في بني تميم فأرسل زيادًا إلى حُضَين بن المنذر ومالك بن مسمع فقال‏:‏ أنتم يا معاشر بكر بن وائل من أنصار أمير المؤمنين وقد نزل ابن الحضرمي حيث ترون وأتاه من أتاه فامنعوني حتى يأتيني رأي أمير المؤمنين فقال حضَين‏:‏ نعم وقال مالك - وكان رأيه مائلًا إلى بني أمية وكان مروان لجأ إليه يوم الجمل‏:‏ هذا أمرٌ لي فيه شركاء أستشير وأنظر‏.‏

فلما رأى زياد تثَاقُل مالك خاف أن تختلف ربيعة فأرسل إلى نافع بن خالد فسأله أن يمنعه فأشار عليه نافع بصَبرة بن شَيْمان الحُداني فأرسل إليه زياد فقال‏:‏ ألا تجيرني وبيت مال المسلمين قال‏:‏ بلى إن حملته إلي ونزلت داري ففعل وحول معه المنبر وتحول معه خمسون رجلًا فكان زياد يصلي الجمعة في مسجد الحداني‏.‏

وكتب زياد إلى علي رضي الله عنه‏:‏ إن ابن الحضرمي قد أقبل من الشام فنزل في بني تميم ونعى ابن عفان ودعى إلى الحرب وبايعته تميم وجُل أهل البصرة ولم يبق معي من أمتنع به فاستجرت لنفسي ولبيت المال بصبرة بن شيمان فوجه علي أعين بن ضبيعة وكتب إلى زياد‏:‏ إني قد وجهت أعين ليعرض بقومه عن ابن الحضرمي فإن فرق جمعه فهو ما نريد وإن ترقت إليهم الأمور فانهض إِليهم وجاهدهم وإن رأيت ممن قبلك تثاقلًا فدارهم وطاولهم وكأنك بجنود الله قد أظلتك‏.‏

فقدم أعين فأتى زيادًا فنزل عنده ثم أتى قومه فجمع رجالًا ونهض إلى ابن الحضرمي فدعاهم فشتموه وناوشوه وانصرف عنهم فدخل عليه قوم فقتلوه فلما قتل أعين أراد زياد قتالهم فأرسل بنو تميم إلى الأزد‏:‏ إنا لم نعرض لجاركم ولا لأحد من أصحابه فماذا تريدون من جارنا وكرهت الأزد القتال وقالوا‏:‏ إن عرضوا لجارنا منعناه وإن كفوا عنا كففنا عن جارهم فأمسكوا‏.‏

وكتب زياد إلى علي بقتل أعين وأخبره أنه لم يخف معه ممن تقوى به على قتالهم فكتب إليه علي يصوّب رأيه وبعث إليه حارثة بن قدامة في خمسين من بني تميم وشريك بن الأعور في خمسمائة فقدم حارثة البصرة فقال له زياد‏:‏ احذر أن يصيبك ما أصاب صاحبك فسار حارثة إلى قومه فقرأ عليهم كتاب عليّ رضي الله عنه فأجابه أكثرهم فسار إلى ابن الحضرمي فحصره في داره ثم أحرق عليه الدار وعلى من معه وكانوا سبعين رجلًا وقيل‏:‏ أربعين وتفرق الناس ورجع زياد إلى دار الإمارة‏.‏

وكان من الحوادث في هذه السنة

 إظهار الخِرًيت بن راشد في بني ناجية الخلاف على علي رضي الله عنه

وذلك أنه كان مع الخريت من بني ناجية ثلاثمائة وكانوا قدموا على علي من البصرة فأقاموا معه بالكوفة وخرجوا إليه يوم الجمل وشهدوا معه صفين فلما حكم علي جاءه الخريت فقال‏:‏ والله يا علي لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك وإني لمفارق لك‏.‏

فقال علي‏:‏ ثكلتك أمك إذًا تعصي ربك وتنكث عهدك ولا تضر إلا نفسك لم تفعل ذلك قال‏:‏ لأنك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحق‏.‏

ثم أنه فارقه وخرج بأصحابه فقال زياد بن حفصة‏:‏ يا أمير المؤمنين إنا نخاف أن يفسد علينا جماعة كبيرة فأذن لي في اتباعهم أردهم عليك إن شاء الله قال‏:‏ فاخرج في آثارهم راشدًا فخرج في آثارهم وقد جمع الخريت جموعًا فاقتتلوا وانهزم الخريت ثم عاد وجمع واستغوى الناس وحرضهم على قتال علي فلقيه أصحابه فقتلوه‏.‏

وفي هذه السنة

 حج بالناس قُثَم بن العباس

بأمر علي رضي الله عنه وهو عامله على مكة وكان على اليمن عبيد الله بن العباس وعلى البصرة عبد الله بن العباس‏.‏

وأما خراسان فكان عليها خليد بن قرة اليربوعي‏.‏وقيل‏:‏ ابن أبزي‏.‏

وأما مصر فكانت بيد معاوية بن أبي سفيان وعماله عليها من جهته كما ذكرنا في استملاكها  ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

أسماء بنت عميس

أسلمت بمكة قديمًا وبايعت وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فولدت له هناك عبد الله ومحمدًا وعونًا ثم قتل عنها جعفر فتزوجها أبو بكر فولدت له محمد بن أبي بكر ثم توفي عنها وأوصى أن تغسله ثم تزوجت بعده بعلي بن أبي طالب فولدت له يحيى وعونًا‏.‏

شهد بدرًا وأحدًا وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وبايعه على الموت وجعل ينضح عنه بالنبل وشهد الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد يوم صفين مع علي وتوفي بالكوفة في هذه السنة فصلى علي عليه وكبر عليه خمسًا وقيل‏:‏ ستًا وقال‏:‏ إنه بدري‏.‏

صهيب بن سنان بن مالك

أبو يحيى‏:‏ وأصله من النمر بن قاسط وكان أبوه أو عمه عاملًا لكسرى على الأبلة وكانت منازلهم بأرض الموصل فأغارت الروم عليهم فسبت صهيبًا وهو غلام صغير فنشأ بالروم فابتاعته كلب منهم ثم قدمت به مكة فاشتراه عبد الله بن جدعان منهم فأعتقه فأقام معه بمكة إلى أن هلك عبد الله بن جدعان‏.‏

وبعث النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله به من الكرامة ومن به عليه من الإسلام‏.‏

وأما أْهل صهيب وولده فيقولون‏:‏ بل هرب من الروم حين بلغ فقدم مكة فحالف عبد الله بن جدعان فأقام معه إلى أن هلك‏.‏

وكان صهيب رجلًا أحمر شديد الحمرة ليس بالطويل ولا بالقصير بل هو إلى القصر أقرب وكان كثير شعر الرأس وكان يخضب بالحناء ولما أسلم عذب فصبر وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه لأهل الشورى ليصلي بكم صهيب فصلى بهم المكتوبات وقدموه فصلى على عمر رضي الله عنه‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا ابن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ أخبرنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن أبي عبيدة عن أبيه قال‏:‏ قال عمار بن ياسر‏:‏ لقيت صهيبًا بن سنان على باب دار الأرقم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقلت‏:‏ ما تريد فقال‏:‏ ما تريد أنت فقلت‏:‏ أردت أدخل على محمدٍ فأسمع كلامه قال‏:‏ وأنا أريد ذلك قال‏:‏ فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا ثم مكثنا يومنا ذلك حتى أمسينا ثم خرجنا ونحن مستخفون‏.‏

فكان إسلام عمار وصهيب بعد بضع وثلاثين رجلًا‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا سليمان بن حرب وعفان وموسى بن إسماعيل قالوا‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة قال‏:‏ أخبرني علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ أقبل صهيب نحو المدينة مهاجرًا واتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال‏:‏ يا معاشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلًا وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء فافعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي ففعل فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ربح البيع أبا يحيى ربح البيع ‏"‏ قال‏:‏ ونزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النًاس منْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاةِ اللهِ واللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ‏}‏‏.‏

توفي صهيب في هذه السنة وهو ابن سبعين سنة ودفن بالبقيع في المدينة‏.‏

صفوان بن بيضا

أخو سهيل‏:‏ شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي في رمضان هذه السنة وليس له عقب‏.‏

محمد بن أبي بكر

وقد ذكرنا صفة قتله وإن معاوية بن حديج أحرقه بالنار وكان قتله في صفر من هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثلاثين

فمن الحوادث فيها

 تفريق معاوية جنوده في أطراف علي رضي الله عنه

ومن ذلك أنه وجه النعمان بن بشير في ألفي رجل إلى عين التمر وكان بها مالك بن كعب مسلحة لعلي في ألف رجل فأدن لهم علي فأتوا الكوفة وأتاه النعمان ولم يبق معه إلا مائة رجل فكتب مالك إلى علي يخبره بأمر النعمان ومن معه فخطب علي بالناس وأمرهم بالخروج فتثاقلوا فقال‏:‏ يا أهل الكوفة كلما سمعتم بجيش من جيوش الشام أظلكم انجحرى كل امرئ منكم في بيته انجحار الضب في جحره والضبع في وجارها المغرور والله من غررتموه ولمن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب‏:‏ لا أحرار عند النداء ولا إخوان ثقة عند النخاء إنا لله وإنا إليه راجعون ماذا منيت به منكم‏.‏

وواقع مالك النعمان بن بشير في تلك العصابة القليلة فوجه إليه مخنف ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلًا فانتهوا إلى مالك واصحابه وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا فلما رآهم أهل الشام ظنوا أن لهم مددًا وانهزموا وتبعهم مالك فقتل منهم ثلاثة نفر ومضوا على وجوههم‏.‏

ومن ذلك‏:‏ أنه وجه معاوية في هذه السنة سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل وأمره أن يأتي هيت ويمضي حتى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها‏.‏

فسار حتى أتى هيت فلم يجد بها أحدًا ثم أتى الأنبار وبها مَسلَحة لعلي تكون خمسمائة رجل وقد تفرقوا فلم يبق منهم إلا مائة رجل فقاتلهم فصبر لهم أصحاب علي مع قلتهم ثم حملت عليهم الخيل والرجالة فقتلوا صاحب المسلحة وهو أشرس بن حسان البلوي في ثلاثين رجلًا وحملوا ما كان في الأنبار من الأموال ورجعوا إلى معاوية وبلغ الخبر علي فخرج حتى أتى النخَيلة فقال له الناس‏:‏ نحن نكفيك قال‏:‏ ما تكفونني ولا أنفسكم وسرح سعيد بن قيس في أثر القوم فخرج في طلبهم حتى جاز هيت فلم يلحقهم فرجع‏.‏

ومن ذلك‏:‏ أنه وجه معاوية في هذه السنة عبد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تَيْماء وأمره أن يُصَدِّق من مر به من أهل البوادي وأن يقتل من امتنع من عطائه صدقة ماله ثم يأتي المدينة ومكة والحجاز يفعل ذلك‏.‏

واجتمع إليه خلق كثير من قومه فلما بلغ ذلك عليًًّا رضي الله عنه وجه المسيب بن نحية الفَزَاري في ألفي رجل فسار حتى لحق ابن مسعدة بتيماء فاقتتلوا حتى زالت الشمس قتالًا شديدًا فدخل ابن مسعدة وعامة من معه إلى الحصن وهرب الباقون نحو الشام وانتهبت الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة وحصره ومن كان معه المسيب ثلاثة أيام ثم ألقى الحطب على الباب وألهب فيه النار فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا على المسيب فقالوا‏:‏ يا مسيب قومك فرق لهم فأمر بالنار فأطفئت وخرج ابن مسعدة ليلًا بأصحابه فلحقوا بالشام‏.‏

ومن ذلك‏:‏ أنه وجه معاوية في هذه السنة الضحاك بن قيس وأمره بالمرور بأسفل واقصة وأن يغير على كل من مر به ممن في طاعة علي رضي الله عنه من الأعراب ووجه معه ثلاثة آلاف رجل فسار وأغار على مسالح علي رضي الله عنه وأتى على عمرو بن عميس بن مسعود وكان في خيل علي وهو يريد الحج فأغار على من كان معه وحبسه عن المسير فلما بلغ ذلك عليًا سرّح حُجْر بن عدي الكندي في أربعة آلاف فلحق الضحاك بتدْمُر فقتل منهم تسعة عشر رجلًا وقتل من أصحابه رجلان وحال بينهم الليل فهرب الضحاك وأصحابه ورجع حُجْر ومن معه‏.‏

وفي هذه السنة

 وجه ابن عباس زيادًا عن أمر علي رضي اللّه عنه إلى فارس

وذلك أنه لما قتل ابن الحضرمي اختلف الناس على علي رضي الله عنه وطمع أهل فارس وأهل كرمان فغلب أهل كل ناحية على ما يليهم وأخرجوا عمالهم فاستشار علي رضي الله عنه في رجل يوليه فارس حين امتنعوا من أداء الخراج فقال له جارية بن قدامة‏:‏ ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صليب الرأي عالم بالسياسة كافٍ لِمَا وليَ قال‏:‏ من هو قال‏:‏ زياد قال‏:‏ هو لها فولاه فارس وكرمان ووجهه في أربعة آلاف فدوَّخ تلك البلاد حتى استقاموا وأدوا الخراج‏.‏

فقال أهل فارس‏:‏ ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي‏.‏

وذلك أنه لما قدم فارس بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره ومناهم وخوف قومًا وتوعدهم وضرب بعضهم ببعض ودل بعضهم على عورة بعض فهربت طائفة وأقامت طائفة وقتل بعضهم بعضًا وصفت له فارس فلم يلق فيها حربًا وفعل مثل ذلك بكرمان ثم رجع إلى فارس فسار في كورها ومناهم فسكن الناس إلى ذلك واستقامت له البلاد وأتى اصطخر فنزلها وحصن قلعتها وحمل إليها الأموال فكانت تسمى قلعة زياد ثم تحصن فيها بعد ذلك منصور اليشكري فهي اليوم تسمى قلعة منصور‏.‏

وفي هذه السنة

 سار معاوية إلى دجلة

ونظر إليها ثم رجع‏.‏

واختلف العلماء فيمن حج بالناس في هذه السنة فقيل‏:‏ عبيد الله بن عباس وقيل‏:‏ عبد الله بن عباس‏.‏

قال الواقدي‏:‏ بعث عليّ رضي الله عنه على الموسم سنة تسع وثلاثين عبد الله بن عباس وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ليقيم الحج للناس فلما اجتمعا بمكة تنازعا ولم يسلم أحد منهما إلى صاحبه فاصطلحا على شيبة بن عثمان ابن أبي طلحة‏.‏

وكان عمال علي رضي الله عنه في الأمصار في هذه السنة الذين ذكرنا أنهم كانوا عماله في سنة ثمان وثلاثين غير أن ابن عباس كان شخص في هذه السنة عن عمله بالبصرة واستخلف زياد بن سمية على الخراج وأبا الأسود الدؤلي على القضاء في البصرة‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

سعد القرظ مولى عمار بن ياسر

كان يؤذن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه بقباء فلما ولي عمر رضي الله عنه أنزله المدينة وكان يؤذن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوارث أولاده الأذان بعده وكان يحمل العنزة بين يدي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في العيد‏.‏

عقبة بن عمرو بن ثعلبة

أبو مسعود البدري‏:‏ قد ذكر جماعة من العلماء أنه شهد بدرًا والصحيح أنه لم يشهدها وإنما نزل ماء بدر فقيل البدري أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر الخطيب قال‏:‏ أخبرنا أبو سعيد الصيرفي قال‏:‏ سمعت ألا العباس أبا العباس بن محمد الدوري يقول‏:‏ أنبأنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا الخطيب قال‏:‏ أخبرنا علي بن محمد السمسمار قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن عثمان الصفار قال‏:‏ حدثنا عبد الباقي بن نافع‏:‏ أن أبا مسعود البدري توفي سنة تسع وثلاثين‏.‏

 ثم دخلت سنة أربعين

فمن الحوادث فيها

 توجيه معاوية بسر بن أبي أرطأة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز

فساروا من الشام إلى المدينة وعامل علي رضي الله عنه على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري ففر منهم أبو أيوب فأتى عليًا بالكوفة ودخل بسر المدينة فصعد منبرها ولم يقاتله بها أحد ودعاهم إلى البيعة فبايعوه‏.‏

وأرسل إلى بني سلمة فقال‏:‏ والله ما لكم عندي من أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله فانطلق جابر إلى أم سلمة زوج النبي فقال لها‏:‏ إني خشيت أن أقبل وهذه بيعة ضلالة قالت‏:‏ أرى أن تبايعِ فإني قد أمرت ابني عمرو بن أبي سلمة أن يبايع فأتاه جابر فبايعه‏.‏

وهدم بسر دورًا بالمدينة ثم مضى حتى أتى مكة ثم مضى إلى اليمن وعليها عبيد الله بن العباس عامل علي رضي الله عنه ففر إلى الكوفة حتى أتى عليًا رضي الله عنه واستخلف مكانه عبد الله بن عبد المدان الحارثي فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه وقتل جماعة من شيعة علي رضي الله عنه‏.‏

وبلغ خبره إلى علي رضي الله عنه فوجه حارثة بن قدامة في ألفين ووهب بن مسعود في ألفين فسار حارثة حتى أتى نجران فأخذ ناسًا من شيعة عثمان فقتلهم وهرب بسر وأصحابه فاتبعهم حتى بلغ مكة ثم سار إلى المدينة وأبو هريرة يصلي بالناس فهرب منه‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ومحمد بن ناصر قالا‏:‏ أخبرنا الحسين بن عبد الجبار قال‏:‏ حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد النصيبي قال‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن النضر قال‏:‏ حدثنا معاوية بن عمرو قال‏:‏ حدثنا زائدة عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأرقم - أو ابن الأقمر قال‏:‏ خطب بنا علي رضي الله عنه يوم جمعة فقال‏:‏ نبئت أن بسرًا قد طلع اليمن وإني والله أحسب أن سيظهر هؤلاء القوم عليكم وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم لإمامكم وطاعتهم وخيانتكم وأمانتهم وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم قد بعثت فلانًا فخان وغدر وبعثت فلانًا فخان وغدر وحمل المال إلى معاوية حتى لو ائتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته اللهم قد أمتهم أسيموني وكرهتهم وكرهوني اللهم فأرحني منهم وأرحهم مني فما صلى الجمعة الأخرى حتى قتل‏.‏

وفي هذه السنة

 جرت بين علي رضي اللّه عنه ومعاوية مهادنة

بعد مكاتبات كثيرة على وضع الحرب بينهما ويكون لعلي العراق ولمعاوية الشام ولا يدخل أحدهما على صحبه في حملة بجيش ولا غارة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ لما لم يعط أحد الفريقين صاحبه الطاعة كتب معاوية إلى علي رضي الله عنه‏:‏ أما إذا شئت فلك العراق ولي الشام وكف هذا السيف عن هذه الأمة ولا ترق دماء المسلمين‏.‏

ففعل ذلك علي رضي الله عنه وتراضوا على ذلك‏.‏

وفي هذه السنة

 خرج عبد الله بن العباس من البصرة

ولحق بمكة وذلك أنه جرى بينه وبين أبي الأسود كلام فكتب أبو الأسود إلى علي رضي الله عنه‏:‏ إن ابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك فلم يسعني كتمانك ذلك فكتب إلى ابن عباس في ذلك فكتب ابن عباس‏:‏ إن الذي بلغك باطل فكتب إليه‏:‏ فأعلمني ما أخذت ومن أين أخذت وفيم وضعت‏.‏

فكتب ابن عباس‏:‏ ابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه‏.‏ ورحل بمال‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ كانت أرزاقًا قد اجتمعت‏.‏

وقال أبو عبيدة في رواية أخرى‏:‏ إن ابن عباس لم يبرح من البصرة حتى قتل عليّ رضي الله عنه فشخص إلى الحسن فشهد الصلح بينه وبين معاوية ثم رجع إلى البصرة وثَقَلُه بها فحمله وحمل مالًا من بيت المال قليلًا وقال‏:‏ هي أرزاقي‏.‏

وقد أنكر المدائني هذا وقال‏:‏ إِن عليًا قتل وابن عباس بمكة وإن الذي شهد الصلح بين الحسن ومعاوية عبيد الله بن العباس‏.‏

وفي هذه السنة

 قتل علي رضي الله عنه

وكان عامله في هذه السنة على مكة والطائف قثم بن العباس وعلى المدينة أبو أيوب الأنصاري وقيل سهل بن حنيف حتى كان من أمر بسر بن أرطأة ما تقدم ذكره‏.‏

وكان عامله على البصرة عبد الله بن العباس على خلاف قد سبق ذكره‏.‏

 ذكر خلافة الحسن بن علي رضي اللّه عنهما

وكان يكنى أبا محمد وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد في رمضان سنة ثلاث من الهجرة وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذنه وعق عنه بكبش وسماه حسنًا وكان علي رضي الله عنه قد سماه حربًا‏.‏

وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن ابني هذا سيد ‏"‏ وحج خمس عشرة حجة ماشيًا وخرج لله من ماله مرتين وقاسم الله ماله ثلاث مرات‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ علي بن القاسم الشاهد قال‏:‏ حدثنا علي بن إسحاق المادرائي قال‏:‏ أخبرنا جعفر قال‏:‏ حدثنا قبيصة قال‏:‏ حدثنا سفيان عن عمر بن سعيد بن أبي حسين عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث قال‏:‏ رأيت أبا بكر يحمل الحسن بن علي على عاتقه وهو يقول‏:‏ بأبي شبيه بالنبي ليس شبيهًا بعلي وعلي معه يتبسم‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي أخبرنا أبو عمر بن مهدي حدَّثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي حدثنا محمد بن إِسماعيل الراشدي حدثنا علي بن ثابت العطار حدثنا عبد الله بن ميسرة وأبو مريم لأنصاري عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حاملًا الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو يقول‏:‏ اللهم إني أحبه فأحبه ‏"‏‏.‏

أنبأنا عبد الوهاب الأنماطي قال‏:‏ أخبرنا عاصم بن الحسن قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال‏:‏ حدثنا عثمان بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن بن البراء قال‏:‏ أرخى الحسن بن علي رضي الله عنهما ستره على مائتي حرة‏.‏

ذكر مبايعة الحسن رضي اللّه عنه أول من بايعه قيس بن سعد قال له‏:‏ ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتال المخالفين فقال له الحسن‏:‏ على كتاب الله وسنة رسول الله فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط فبايعه وسكت‏.‏

قال الزهري‏:‏ كان تحت يد قيس بن سعد في زمان علي أربعون ألفًا فلما قتل واستخلف الحسن كان الحسن لا يريد القتال وإنما أراد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية ثم يدخل في الجماعة وعلم أن قيسًا لا يوافقه على رأيه فنزعه وأمر عبيد الله بن عباس فلما علم عبيد الله بالذي يريد الحسن كتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التي أصاب فشرط له معاوية ذلك‏.‏

 ذكر خروج الحسن لحرب معاوية

قال إسماعيل بن راشد‏:‏ لما بايع الناس الحسن خرج بالناس حتى نزل المدائن وبعث قيس بن سعد بن عبادة على مقدمته في اثني عشر ألفًا فأقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل مَسكِن فبينا الحسن في المدائن إذ نادى منادي العسكر‏:‏ ألا إن قيس بن سعد قد قتل فانفروا فنفروا ونهبوا سرادق الحسن حتى نازعوه بساطًا كان تحته وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن وكان عم المختار بن أبي عبيد - واسمه سعد بن مسعود - عاملًا على المدائن فقال له المختار وهو غلام شاب‏:‏ هل لك في الغِنَى والشرف قال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ تُوثِق الحسن وتستأمن به إلى معاوية فقال له سعد‏:‏ عليك لعنة الله‏.‏

فلما رأى الحسن تفرق الناس عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح‏.‏

ثم قام الحسن في أهل العراق فقال‏:‏ يا أهل العراق إن شحي بنفسي عنكم ثلاث‏:‏ قتلكم أبي قال هلال بن خباب‏:‏ لما قتل علي لاضي الله عنه توجه الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى المدائن فلحقهما الناس بساباط فحمل على الحسن رجل فطعنه في خاصرته فسبقهم حتى دخل قصر المدائن فاولم فيه نحوًا من أربعين ليلة ثم وجه ألى معاوية فصالحه‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة المغيرة بن شعبة وأظهر أن معاوية أمره ذلك‏.‏

وفي هذه السنة

 بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء

قال سعيد بن عبد العزيز‏:‏ كانت رضي الله عنه يدعي بالعراق أمير المؤمنين وكان معاوية يدعي بالشام الأمير فلما قتل علي رضي الله عنه دعي معاوية بأمير المؤمنين‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

إبراهيم القبطي مولى رسول الله

يكنى أبا رافع‏:‏ شهد فتح مصر واختط بها وروى عنه من أهلها علي بن رباح وصار أبو رافع بعد ذلك إلى علي بن أبي طالب فولاه بيت مال الكوفة‏.‏

وتوفي بالكوفة في هذه السنة رضي الله عنه‏.‏

الأشعث بن قيس بن معدي كرب

بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة أبو محمد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة ثم رجع إلى اليمن فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد فأخذ وحمل إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه مقيدًا فأسلم ومن عليه وزوجه أخته‏.‏

وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد مع سعد قتال الفرس بالعراق وكان على راية كندة بصفين مع علي رضي الله عنه وحضر قتال الخوارج بالنهروان وورد المدائن ثم عاد إلى الكوفة فأقام بها حتى مات في الوقت الذي صالح فيه الحسن معاوية وتوفي ابن ثلاث وستين سنة‏.‏

بشير بن عبد المنذر

أبو لبابة‏:‏ رده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروحاء حين خرج إلى بدر واستعمله على المدينة وضرب له بسهمه وأجره فكان كمن شهدها وشهد أحدًا واستخلفه على المدينة حين خرج إلى غزاة السويق وكانت معه راية بني عمرو بن عوف في غزاة الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع المشاهد ولما استشاروه ببني قريظة أشار إليهم أنه الذبح ثم ندم فارتبط إلى اسطوانة حتى تاب الله عليه‏.‏

تميم بن أوس

ابن خارجة بن سويد الداري ويكنى أبا رقية‏:‏ وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة الداريين عند منصرفه من تبوك فأقاموا حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ أخبرنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدثني العطاف بن خالد عن خالد بن سعيد قال‏:‏ قال تميم الداري‏:‏ كنت بالشام حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى بعض حاجتي فأدركني الليل فقلت‏:‏ أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة‏.‏

قال‏:‏ فلما أخذت مضجعي إذ مناد ينادي لا أراه‏:‏ عِذ بالله فإن الجن لا تجير أحدًا على الله فقلت‏:‏ ما تقول قال‏:‏ قد خرج رسول الله الأمين وصلينا خلفه بالحجون وأسلمنا واتبعناه ووهن كيد الجن ورميت بالشهب وانطلق إلى محمد فأسلم فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهبًا وأخبرته الخبر فقال‏:‏ قد صدقوك نجده قد خرج من الحرم وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه قال‏:‏ فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول صلى الله عليه وسلم وأسلمت‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ وأخبرنا عبد الوهاب بن عطاء قال‏:‏ أخبرنا خالد الحداء عن أبي قلابة كان تميم الداري يختم القرآن في سبع ليال‏.‏

قال علماء السير‏:‏ استأذن تميم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقص على الناس فأذن له فلما قتل عثمان رضي الله عنه تحول إِلى الشام‏.‏

الحارث بن خزمة بن عدي

ابن أبي بن غنم أبو بشير‏:‏ شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي في هذه السنة وهو ابن سبع وستين سنة‏.‏

خارجة بن حذافة بن غانم

شهد الفتح بمصر واختط بها وكان أمير المدد الذين أمد بهم عمر بن الخطاب‏.‏

وكان على شرطة مصر في إمرة عمرو بن العاص لمعاوية قتله خارجي بمصر وهو يظن أنه عمرو بن العاص‏.‏

خوات بن جبير

أبو عبد الله وقيل أبو صالح الأنصاري المديني‏:‏ صاحب ذات النحْيَيْنِ في الجاهلية التي ضرب بها المثل فقيل‏:‏ ‏"‏ أشْغَلُ مِنْ ذات النحيين ‏"‏‏.‏

أسلم خوات وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فأصابه بالروحاء حجر فكسر فرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وضرب له بأجره وبسهمه فكان كمن شهدها‏.‏

وقد شهد أحدأ والمشاهد بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأما قصة ذات النحيين‏:‏ فأنبأنا أبو الفضل محمد بن ناصر الحافظ قال‏:‏ أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بن عبد الله الحبال قال‏:‏ أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الأشبيلي وأبو الحسن الحصيب بن عبد الله بن محمد القاضي وأبو علي محسن بن جعفر بن أبي الكرام قالوا‏:‏ أخبرنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن أحمد السمرقندي قال‏:‏ أخبرنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن داود المنقري البصري قال‏:‏ حدًثني عيسى بن إبراهيم قال‏:‏ حدثنا عفيف بن سالم الموصلي عن عثمان بن واقد قال‏:‏ قال خوات بن جبير‏:‏ كنت صاحب ذات النحيين في الجاهلية - والنحي الزق الصغير - وإني أتيت سوق عكاظ فإذا أنا بجارية معها نِحْيان من سمن كأنها فلقة قمر فقلت لها‏:‏ من أنت قالت‏:‏ أنا سلمى بنت يعار الخثعمية فقلت‏:‏ لعل سمنك هذا مشوبًا فقالت‏:‏ سبحان الله أو تشيب الحرة فقلت لها‏:‏ انزلي إلى بطن الوادي لأذوق سمنك فنزلت فأخذت إحدى النحْيَيْنِ فذقته ثم قلت لها‏:‏ ما هذا بمشوب ثم دفعته إليها في يدها مفتوحًا ثم أخذت الآخر فذقته ثم دفعته إليها في يدها اليسرى ثم شددت عليها فقضيت منها حاجتي وكرهت أن ترسله وكان قوت أهلها فذهبت مثلًا‏:‏ ‏"‏ أشغل من ذات النّحْيَين ‏"‏ ثم أسلمت وهاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبينما أنا في بعض طريق المدينة إذا أنا ببغي من بغايا الجاهلية قد كانت لي خلًا فحجبني إسلامي عنها ودعتني نفسي إليها فلم أزل ألتفت إليها حتى تلقاني جدار بني جذرة فسالت الدماء وهشم وجهي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة فقال‏:‏ ‏"‏ مهيم ‏"‏ فأخبرته فقال‏:‏ ‏"‏ فلا تعد إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرًا عجل له عقوبته في الدنيا‏.‏

ثم مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ليالٍ وأنا جالس مع نسوان من نسوان أهل المدينة تناشدنني وتضاحكنني وتمازحنني قال‏:‏ فعلمت أنه قد رآني قال‏:‏ فمضى ولم يقل شيئًا فلما أن كان من الغد غدوت عليه فلما رآني قال‏:‏ ‏"‏ يا خوات أما آن لذلك البعير أن يرجع عن شروده ‏"‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ والله يا رسول الله ما شرد منذ أسلمت قال‏:‏ ‏"‏ صدقت إلى ذلك المجلس فإنه مجلس الشيطان ‏"‏‏.‏

قال مؤلف الكتاب رحمه الله‏:‏ قد فسر هذا الحديث أبو عبيدة الهروي وقال‏:‏ عرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصته مع ذات النحْيَيْنِ‏.‏

قال‏:‏ وأراد بقوله‏:‏ ‏"‏ شروده ‏"‏ أنه لما فعل ذلك شرد في الأرض خوفًا وليس هذا بشيء فإنه ما كان ليعيره بشيء كان في الجاهلية وإنما لامه على مجالسته النسوان بعد الإسلام‏.‏

وقد روى ذلك لنا في حديث أبين من هذا‏.‏

أنبأنا إسماعيل بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور قال‏:‏ أخبرنا القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد الأسدي قال‏:‏ حدثنا زكريا بن يحيى بن الحارث البصري قال‏:‏ حدثنا وهب بن جرير عن أبيه قال‏:‏ سمعت زيد بن أسلم يحدث أن خوات بن جبير قال‏:‏ نزلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران فخرجت من خبائي فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبني فرجعت فاستخرجت حلة من عيبتي فلبستها ثم جلست إليهن فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبته فقال لي‏:‏ ‏"‏ يا عبد الله ما يجلسك إليهن ‏"‏ قال‏:‏ فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله جملٌ لي شرود أبتغي له قيدًا قال‏:‏ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعته فألقى إلي رداءه ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ ثم جاء فقال‏:‏ ‏"‏ أبا عبد الله ما فعل شراد جملك ‏"‏ قال‏:‏ فتعجلت إلى المدينة فاجتنبت المسجد ومجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما طال ذلك علي تحينت ساعة خلوه للمسجد فجعلت أصلي فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره فجاء فصلى ركعتين خفيفتين ثم جلس وطولت رجاء أن يذهب ويدعني فقال‏:‏ ‏"‏ طول يا أبا عبد الله ما شئت فلست بنازح حتى تنصرف ‏"‏ فقلت‏:‏ والله لأعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبرئن صدره‏.‏

قال‏:‏ فانصرفت فقلت‏:‏ السلام عليك يا رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏ أبا عبد الله ما فعل شراد الجمل ‏"‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت فقال‏:‏ ‏"‏ رحمك الله ‏"‏ مرتين أو ثلاثًا ثم أمسك عني فلم يعد‏.‏

توفي خوات بن جبير بالمدينة في هذه السنة وهو ابن أربع وسبعين سنة وكان رَبْعة من الرجال‏.‏

علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه

كان السبب في قتله أن عبد الرحمن بن ملجم والبرك بن عبد الله وعمرو بن بكر التميمي اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم ثم ذكروا أمر النهر فترحموا عليهم وقالوا‏:‏ والله ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئا كانوا لا يخافون في الله لومة لائم فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد وأخذنا بثأر إِخواننا‏.‏

فقال ابن ملجم‏:‏ أما أنا فأكفيكم علي بن أبي طالب وكان من أهل مصر‏.‏

وقال البرك بن عبد الله‏:‏ أنا أكفيكم معاوية وقال عمرو‏:‏ أنا أكفيكم عمرو بن العاص‏.‏

فتعاهدوا وتواثقوا لا يَنْكُص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه فأخذوا أسيافهم فسموها واتعدوا لسبع عشرة من رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه‏.‏

وأقبل كل منهم إِلى المصر الذي هو فيه يطلبه‏.‏

فأما ابن ملجم وكان عداده في كنده فخرج فلقي أصحابه بالكوفة وكاتمهم أمره كراهية أن يظهروا شيئًا من أمره ثم أنه رأى ذات يوم أصحابًا له من تيم الرباب - وكان علي رضي الله عنه قتل منهم يوم النهر عدة فذكروا قتلاهم ولقي من يومه ذلك امرأة من تيم الرباب يقال لها‏:‏ ‏"‏ قطام ‏"‏‏.‏

وقد قتل علي أباها وأخاها يوم النهر - وكانت فائقة الجمال - فلما رآها التبست بعقله ونسي حاجته التي جاء لها فخطبها فقالت‏:‏ لا أتزوجك حتى تشتفي لي قال‏:‏ وما تشائين قالت‏:‏ ثلاثة آلاف وعبد وقينة وقتل علي فقال‏:‏ والله ما جاء بي إلى هذا المصر إِلا قتل عليّ ‏"‏ فلك ما سألت ‏"‏ قالت‏:‏ إني أطلب لك من يسند ظهرك ويساعدك على أمرك وبعثت إلى رجل من قومها من تيم الرباب يقال له‏:‏ ‏"‏ وردان ‏"‏ فكلمته فأجابها فأتى ابن ملجم رجلًا من أشجع يقال له‏:‏ شبيب بن بجرة فقال له‏:‏ هل لك في شرف الدنيا والآخرة فقال‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ قتل علي قال‏:‏ ثكلتك أمك لقد جئت شيئًا فريًا إذًا كيف تقدر على علي قال‏:‏ أكمن له في المسجد فإذا خرج إلى صلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه فإن نجونا بأنفسنا وأدركنا ثأرنا وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها قال‏:‏ ويحك لو كان غير علي أهون علي قد عرفت بلاءه في الإسلام وسابقته مع النبي صلى الله عليه وسلم وما أجدني أنشرح صدرًا لقتله‏.‏

قال‏:‏ أتعلم أنه قتل أهل العباد المصلين قال‏:‏ بلى قال‏:‏ فنقتله بمنْ قتل من إخواننا فأجابه فجاؤا قطام وهي في المسجد الأعظم معتكفة فقالوا‏:‏ قد اجتمع رأينا على قتل علي قالت‏:‏ فإذا أردتم ذلك فأتوني فعادوا ليلة الجمعة التي قتل في صبيحتها علي فقال‏:‏ هذه الليلة التي واعدت فيها أن يقتل كل واحد منا صاحبه فأخذوا أسيافهم ووقفوا مقابل السدة التي يخرح منها عليّ رضى الله عنه فلما خرج ضربه شبيب بالسيف فوقع سيفه في الطاق وضربه ابن ملجم بالسيف‏.‏

وهرب وردان حتى دخل منزله فدخل عليه رجل فقال‏:‏ ما هذا السيف فأخبره فقتله وخرج شبيب نحو أبواب كنده في الغلس وصاح الناس فلحقه رجل من حضرموت - يقال له عويم - وفي يد شبيب السيف فأخذه فلما رأى الناس قد أقبلوا وسيف شبيب في يده خشي على نفسه فتركه ونجا بنفسه ونجا شبيب في غمار الناس فشدوا على ابن ملجم فأخذوه‏.‏

وتأخر علي ودفع في ظهر جعدة بن هبيرة بن أبي وهب فصلى بالناس الغداة ثم قال علي رضي الله عنه‏:‏ علي بالرجل فأدخل عليه فقال‏:‏ أي عدو الله ألم أحسن إليك قال‏:‏ بلى قاد‏:‏ فما حملك على هذا قال‏:‏ شحذت سيفي هذا أربعين صباحًا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه فقال‏:‏ لا أراك إلا مقتولًا له ولا أراك إلا من شر خلق الله‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ومحمد بن ناصر قالا‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن محمد النصيبي قال‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن سويد قال‏:‏ حدَّثنا ابن الأنباري قال‏:‏ حدٌثني أبي قال‏:‏ حدَّثنا أحمد بن عبيد عن الهيثم قال‏:‏ حدثني رجل من بجيلة عن مشيخة قومه‏:‏ إن عبد الرحمن بن ملجم رأى امرأة من تيم الرباب يقال لها‏:‏ قطام كانت من أجمل النساء ترى رأي الخوارج قد قتل قومها على هذا الرأي يوم النهروان فلما أبصرها عشقها فخطبها فقالت‏:‏ لا أتزوجك إلا على ثلاثة آلاف وقتل علي بن أبي طالب فتزوجها على ذلك فلما بنى بها قالت‏:‏ يا هذا قد فَرَعت فافرَع فخرج ملتبسًا سلاحه وخرجت فضربت له قبة في المسجد وخرج علي رضي الله عنه يقول‏:‏ الصلاة الصلاة فاتبعه عبد الرحمن فضربه بالسيف على قرن رأسه فقال الشاعر في ذلك‏:‏

ولم أر مهرًا ساقه ذو سماحــة ** كمهر قطام بينًا غير معجم

ثلاثة آلاف وعبــد وقينـــة ** وقتــل علي بالحسام المصَمم

فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ** ولا قتل إلا دون قتل ابن ملجم

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرني علي بن القاسم البصري قال‏:‏ حدثنا علي بن إسحاق المادرائي قال‏:‏ أخبرنا الصنعاني محمد بن إسحاق قال‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن أبان الوراق قال‏:‏ حدثنا ناصح أبو عبد الله المحلمي عن سماك عن جابر بن سمرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب‏:‏ ‏"‏ من أشقى الأولين ‏"‏ قال‏:‏ عاقر الناقة قال‏:‏ ‏"‏ فمن أشقى الآخرين ‏"‏ قال‏:‏ الله ورسوله أعلم قال‏:‏ ‏"‏ قاتلك ‏"‏‏.‏

قال محمد بن الحنفية‏:‏ والله إني لأصلي في تلك الليلة التي ضرب فيها علي في رجال كثيرة ما هم إلا قيامًا وركوعًا وسجودًا وما يسأمون من أول الليل إلى آخره إذ خرج علي لصلاة الغداة فجعل ينادي‏:‏ أيها الناس الصلاة الصلاة إذ نظرت إلى بريق السيف وسمعت‏:‏ الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك فرأيت سيفًا وسمعت عليًا يقول‏:‏ لا يفوتنكم الرجل وشد الناس عليه من كل جانب فلم أبرح حتى أخذ ابن ملجم وأدخل إلى علي رضي الله عنه فدخلت فيمن دخل فسمعت عليًا يقول‏:‏ النفس بالنفس إن هلكت فاقتلوه كما قتلني وإن بقيت رأيت فيه رأيي وكان ابن ملجم مكتوفًا بين يدي علي رضي الله عنه فنادته أم كلثوم بنت علي وهي تبكي‏:‏ أي والله ويلك قتلت أمير المؤمنين قال ما قتلت إلا أباك قالت‏:‏ إني لأرجو ألا يكون عليه بأس قال‏:‏ فما لك تبكين والله سممته شهرًا ولو كانت هذه الضربة بجميع أهل الأرض ما بقي منهم أحد‏.‏

قالوا‏:‏ يا أمير المؤمنين‏:‏ إِن فقدناك أنبايع الحسن فقال‏:‏ ما آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر‏.‏

ثم دعا حسنًا وحسينًا فقال‏:‏ أوصيكم بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا ولا تبكيا على شيء زوى عنكما وذلك في رمضان وغسله الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن جعفر وكفن في ثلاثة أثواب وكبر عليه الحسن تسع تكبيرات‏.‏

أخبرنا الحصين قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا أبو أحمد الزبيري قال‏:‏ حدثنا شريك عن عمران بن ظبيان عن أبي يحيى قال‏:‏ لما ضرب ابن ملجم عليًا رضي الله عنه قال عليّ رضي الله عنه‏:‏ افعلوا له كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل برجل أراد قتله فقال‏:‏ اقتلوه ثم حرقوه‏.‏

وذكر أبو الحسن المدائني أن ابن ملجم لما ضرب عليّ بن أبي طالب قال ابن ملجم‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه‏}‏‏.‏

وآخر ما تكلم به علي رضي الله عنه ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره‏}‏‏.‏

فصل

واختلف العلماء في وقت قتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه

فقال أبو معشر والواقدي‏:‏ قتل يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان‏.‏

فصل

واختلف في سن عليّ رضي الله عنه

فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد أقال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا علي بن محمد المعدل قال‏:‏ أخبرنا ابن صفوان قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال‏:‏ حدَّثنا أبو بكر عبد الله بن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال‏:‏ سألت أبا جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما‏:‏ كم كان سن علي رضي الله عنه يوم قتل قال‏:‏ ثلاثًا وستين سنة قلت‏:‏ أين دفن قال‏:‏ بالكوفة ليلًا وقد غُبِّي عني دفنه‏.‏

وفي رواية عن جعفر بن محمد قال‏:‏ كان سن عليّ رضي الله عنه ثمانيًا وخمسين سنة‏.‏

وذكر محمد بن سعد‏:‏ إنه لما مات علي رضي الله عنه أخرج ابن ملجم من الحبس فقالوا‏:‏ نشفي نفوسنا منه فقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه فلم بجزع ولم يتكلم فكحل عينيه بمسمار محمي فلم يجزع وأخرج لسانه ليقطع فجزع وقال‏:‏ أكره أن أكون في الدنيا فواقًا لا أذكر الله فقطعوا لسانه ثم أحرقوه‏.‏

فأخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أَبو بكر أحمد بن علي الخطيب قال‏:‏ أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر قال‏:‏ أخبرنا الوليد بن بكر قال‏:‏ حدثنا علي بن أحمد بن زكريا قال‏:‏ حدثنا أبو مسلم صالح بن أحمد بن عبد الله العجلي قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ علي بن أبي طالب قتل بالكوفة قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي وقتل عبد الرحمن الحسن بن علي ودفن بها ولا يعلم أين موضع قبره‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنه دفن مما يلي قبلة المسجد‏.‏

وقيل‏:‏ عند قصر الإمارة‏.‏

وقالا أبو نعيم الفضل بن دكن‏:‏ حوله ابنه الحسن إلى المدينة فدفن بالبقيع عند قبر فاطمة عليها السلام‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنهم خرجوا به يريدون المدينة فضل البعير الذي هو عليه فأخذته طيء يظنونه مالًا‏.‏

فلما رأوه دفنوا الصندوق بما فيه‏.‏

كان هذه الروايات رواها أبو بكر الخطيب‏.‏

وقال‏:‏ حكى لنا أبو نعيم الحافظ قال‏:‏ سمعت أبا بكر الطلحي يذكر أن مطينًا كان ينكر أن يكون القبر المزور بظاهر الكوفة قبر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يقول‏:‏ لو علمت والله أعلم أي الأقوال أصح‏.‏

أما البرك بن عبد اللّه

فإنه مضى تلك الليلة فقعد لمعاوية فلما خرج ليصلي الغداة شد عليه بسيفه فوقع السيف في أليته فأخذ فقال له‏:‏ إن عندي خبرًا أسرك به فإن أخبرتك فنافعي ذلك عندك قال‏:‏ نعم قال‏:‏ إن أخًا لي قتل عليًّا في هذه الليلة قال‏:‏ فلعله لم يقدر على ذلك قال‏:‏ بلى إن عليًا يخرج ليس معه أحد يحرسه فأمر به معاوية فقتل‏.‏

وبعث معاوية إلى الطبيب فلما نظر إليه قال‏:‏ اختر إحدى خصلتين‏:‏ إما أن أحمي حديدة وأضعها موضع السيف وإما أن أسقيك شربة تقطع عنك الولد وتبرأ فإن ضربتك مسمومة فقال معاوية‏:‏ أما النار فلا صبر لي عليها وأما انقطاع الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني فسقاه تلك الشربة فبرأ ولم يولد له بعدها‏.‏

وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورة وحرس الليل وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد‏.‏

وأما عمرو بن بكر

فجلس لعمرو تلك الليلة فلم يخرج وكان اشتكى بطنه فأمر خارجة بن حذافة صاحب شرطته فخرج ليصلي فشدد عليه وهو يرى أنه عمرو فضربه فأخذه الناس وانطلقوا به إلى عمرو فقال‏:‏ من هذا فقالوا‏:‏ عمرو قال‏:‏ فمن قتلت قالوا‏:‏ خارجة قال‏:‏ أما والله يا فاسق ما أردت غيرك فقال عمرو‏:‏ أردتني وأراد الله خارجة‏.‏

فقتله عمرو‏.‏

لبيد بن ربيعة

ابن مالك بن جعفر بن كلاب أبو عقيل الشاعر، كان يقال لأبيه ربيعة المقترين لجوده وسخائه قدم في وفد فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم وذلك بعد وفاة أخيه أربد وعامر بن الطفيل ثم هاجر وحسن إسلامه ونزل الكوفة في أيام عمر وكان من الشعراء المجودين في الجاهلية وفي الإسلام‏.‏

وقال له المغيرة‏:‏ أنشدني ما قلت من الشعر في الجاهلية والإسلام فقال‏:‏ قد أبدلني الله بذلك سورة البقرة وآل عمران‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ لم يقل لبيد في الإسلام إلا بيتًا واحدًا وهو هذا‏:‏

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ** حتى لبست من الإسلام سربالا

قال عمرو بن شيبة حدثني عبد الله بن محمد بن حكيم قال‏:‏ كان لبيد من أجواد العرب وكان قد آلى ألا تهب الصبا إِلا أطعم وكان له جفنتان يُغْدَا بهما ويراح في كل يوم على أهل مسجد قومه فهبت الصبا يومًا والوليد بن عقبة على الكوفة فصعد الوليد المنبر فخطب الناس ثم قال‏:‏ إن أخاكم لبيد بن ربيعة نذر في الجاهلية ألا تهب الصبا إِلا أطعم وهذا يوم من أيامه وقد هبت الصبا فأعينوه وأنا أول من فعل ثم نزل عن المنبر فأرسل إليه بمائة بكرة وكتب إليه بأبيات قالها‏:‏ ما أرى المجزار يشحذ شفرتيه إذا هبت رياح أبي عقيل أشم الأنف أصيد عامري طويل الباع كالسيف الصقيل إذا هبت رياح أبي عقيل دعونا عند هبتها الوليد أشم الأنف أروع عبشميًا أعان على مروءته لبيدا بأمثال الهضاب كأن ركبًا عليها من بني حام قعودا أبا وهب جزاك الله خيرًا نحرناها وأطعمنا الثريدا فعد إن الكريم له معادٌ وظني بابن أروى أن تعودا فقال لبيد‏:‏ لقد أحسنت لولا إنك استطعمتيه فقالت‏:‏ إن الملوك لا تستحي من مسألتهم فقال‏:‏ وأنت في هذا يا بنية أشعر‏.‏

ولما بلغ لبيد سبعًا وسبعين سنة قال‏:‏

باتت تشكِّى إلي النفس مجهشة ** وقد حملتك سبعا بعد سبعينا

فإن تراءى ثلاثًا تبلغي أملًا ** وفي البلاد وفاء للثمانينا

فلما بلغ التسعين قال‏:‏

كأني قد جاوزت تسعين بعدما ** خلعت بها عن منكبي ردائيا

فلما بلغ مائة وعشرًا قال‏:‏

أليس في مائه قد عاشها رجل ** وفي تكامل عشر بعدها عمر

ولقد سئمت من الحياة وطولها ** وسؤال هذا الناس كيف لبيد

أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط

أسلمت بمكة وبايعت قبل الهجرة وهي أول من هاجر من النساء بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة هاجرت في هدنة الحديبية‏.‏

أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن بيان قال‏:‏ أخبرنا أبو منصور أحمد بن محمد السواق قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك قال‏:‏ أخبرني إبراهيم الحربي قال‏:‏ حدثنا محمد بن صالح عن محمد بن عمر عن ربيعة بن عثمان وقدامة قالا‏:‏ لا نعلم قرشية خرجت من بين أبويها مسلمة مهاجرة إلا أم كلثوم‏.‏

قالت‏:‏ كنت أخرج إلى بادية لنا فيها أهلي فأقيم بها الثلاث والأربع وهي ناحية التنعيم ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي البادية حتى أجمعت المسير فخرجت يومًا من مكة كأني أريد البادية فلما رجع من تبعني إذا رجل من خزاعة قال‏:‏ أين تريدين قلت‏:‏ وما مسألتك ومن أنت قال رجل من خزاعة إطمأننت إليه لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده - فقلت‏:‏ إني إمرأة من قريش وإني أريد اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علم لي بالطريق فقال‏:‏ أنا صاحبك حتى أوردك المدينة ثم جاءني ببعير فركبته فكان يقود بي البعير ولا والله ما يكلمني بكلمة حتى إذا أناخ البعير تنحى عني فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيد بالشجر وتنحى إلى فيء شجرة حتى إذا كان الرواح خدج البعير فقربه وولى عني فإذا ركبت أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى أنزل فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة فجزاه الله من صاحب خيرًا فدخلت على أم سلمة وأنا متنقبة فما عرفتني حتى كشفت النقاب فالتزمتني وقالت‏:‏ هاجرت إلى الله وإلى رسوله قلت‏:‏ نعم وأنا أخاف أن يردني كما رد أبا جندل وأبا بصير وحال الرجال ليس كحال النساء والقوم مصبحي قد طالت غيبتي عنهم اليوم خمسة أيام منذ فارقتهم وهم يتحينون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبوني فإن لم يجدوني رحلوا‏.‏

فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرته خبر أم كلثوم فرحب بها وسهل فقلت‏:‏ إني فررت إليك بديني فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني ولا صبر لي على العذاب إنما أنا امرأة وضعف النساء على ما تعرف وقد رأيتك رددت رجلين حتى امتنع أحدهما فقال‏:‏ ‏"‏ إن الله عز وجل نقض العهد في النساء ‏"‏ وحكم في ذلك بحكم رضوه كلهم وكان يرد النساء فقدم أخواها الوليد وعمارة من الغد فقالا‏:‏ أوف لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه فقال‏:‏ ‏"‏ قد نقض الله ذلك ‏"‏ فانصرفا‏.‏

قال مؤلف الكتاب‏:‏ ومعنى نقض العهد في النساء نزول الامتحان في حقهن وذلك أنه كان يقول للمرأة‏:‏ والله ما أخرجك إلا حب والله ورسوله والإسلام ولا خرجت لزوج ولا مال فإذا قالت ذلك تركت ولم ترد‏.‏

وكانت أم كلثوم عذراء فتزوجها زيد بن حارثة فلما قتل عنها تزوجها الزبير فولدت له ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له ثم تزوحها عمرو بن العاص فماتت عنده‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وأربعين

فمن الحوادث فيها‏:‏

 تسليم الحسن رضي الله عنه الأمر لمعاوية

وذلك أن الحسن لما تفرق الناس عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح فبعث معاوية إليه عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة فقدما عليه المدائن فأعطياه ما أراد وصالحاه على أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف في أشياء اشترطها وكان معاوية قد أرسل إليه قبل ذلك صحيفة بيضاء وكتب إليه اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فاشترط أضعاف الشروط التي سألها معاوية قبل ذلك وأمسكها عنده وأمسك معاوية صحيفة الحسن التي كتب إليه فيها فلما اِلتقيا سأله الحسن أن يعطيه الشروط التي شرط في الصحيفة فأبى معاوية وقال‏:‏ لك ما كنت تسألني‏.‏

وكان الصلح بينهم بمسكن ثم دخلوا الكوفة فقال عمرو بن العاص لمعاوية‏:‏ مر الحسن أن يقوم فيخطب فكره معاوية ذلك وقال‏:‏ ما تريد بهذا قال‏:‏ أريد أن يبدو عيه في الناس‏.‏

فخرج معاوية فخطب ثم قال‏:‏ قم يا حسن فتكلم فقام فقال‏:‏ أما بعد فإن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا والدنيا دوَل وإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَإنْ أدرِي لعًله فِتْنَة لَكمْ وَمَتَاعُ إلَى حِينٍ‏}‏‏.‏

فقال معاوية‏:‏ اجلس‏.‏

ثم خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر من الكوفة إلى المدينة وسلم الكوفة إلى معاوية لخمس بقين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين‏.‏

وقيل في ربيع الآخر ويقال‏:‏ في غرة جمادى الأولى‏.‏

ولما رحل الحسن تلقاه قوم فقالوا‏:‏ يا مذل العرب‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا إبراهيم بن مخلد بن جعفر قال‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكمي قال‏:‏ حدَّثنا عباس بن محمد قال‏:‏ حدثنا أسود بن عامر قال‏:‏ حدثنا زهير بن معاوية قال‏:‏ حدثنا أبو روق الهمذاني قال‏:‏ كنا على مقدمة الحسن بن علي في اثني عشر ألفًا بمسكن مستميتين من الجد على قتال أهل الشام وعلينا أبو العمرطة فلما جاءنا صلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ فلما قدم الحسن بن عليّ على الكوفة قال له رجل منا يقال له أبو عامر سفيان بن الليل‏:‏ السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال‏:‏ لا تقل ذلك يا أبا عامر لست بمذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك‏.‏

 باب ذكر خلافة معاوية

وهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف‏.‏

وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس‏.‏

أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة واستكتبه النبي صلى الله عليه وسلم وولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكان أخيه يزيد لما مات فلم يزل كذلك خلافة عمر وأقره عثمان وأفرد له جميع الشام وقد ذكرنا ما جرى له مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من القتال ومصالحة الحسن إياه ومبايعته له بالخلافة وذلك في سنة إحدى وأربعين فسمي عام الجماعة فاستعمل على القضاء فضالة بن عبيد فلما مات استقضى أبا إدريس الخولاني وكان على وكان معاوية أول من اتخذ الحرس وأول من حزم الكتب ثم ختمها لأنه كان قد أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم ففض عمرو الكتاب وجعل المائة مائتين فلما رفع حسابه إلى معاوية أنكر ذلك وأمر عمرًا بردها وحبسه فأداها أخوه عبد الله بن الزبير عنه‏.‏

وفي هذه السنة جرى

 الصلح بين قيس بن سعد ومعاوية

وذلك أن قيس بن سعد كان على شرطة جيش علي رضي الله عنه وهم أربعون ألفًا فتعاقدوا هم وهو على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي رضي الله عنه على أموالهم ودمائهم وما أصابوا في الفتنة فأرسل معاوية إلى قيس يذكره الله تعالى ويقول‏:‏ على طاعة من تقاتل وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك فأبى أن يلين له فأرسل إليه معاوية بسجل قد ختم عليه في أسفله وقال‏:‏ اكتب في هذا السجل ما شئت فهو لك فقال عمرو‏:‏ لا تعطه وقاتله فقال‏:‏ على رسلك فإنا لا نخلص إلى قتال هؤلاء حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام فما خير العيش بعد ذلك وإنى لا أقاتله حتى لا أجد بدًا من قتاله فلما بعث إليه معاوية ذلك السجل اشترط لنفسه ولشيعة عليِّ ما أصابوا من الدماء والأموال ولم يسأل معاوية في سجله مالًا وأعطاه معاوية ما سأل فدخل قيس بن سعد ومن معه في طاعة معاوية‏.‏

 غلب حمران بن أبان على البصرة

وذلك أنه لما صالح الحسن معاوية وثب حمران على البصرة فأخذها فبعث إليه معاوية بسر بن أرطأة فصعد حمران إلى المنبر وشتم عليًا رضي الله عنه ثم قال‏:‏ أنشد الله رجلًا عليمًا أني صادق إلا صدقني أو كاذب إلا كذبني فقال أبو بكرة‏:‏ لا نعلمك إلا كاذبًا فأمر به يخنق فقام أبو لؤلؤة الضبي فرمى بنفسه عليه فمنعه فأعطاه أبو بكرة - بعد ذلك مائة جريب فقيل لأبي بكرة‏:‏ ما أردت بهذا فقال‏:‏ يناشدنا بالله ثم لا نصدقه فأقام بسر بالبصرة ستة أشهر وفي هذه السنة ولي معاوية بن عامر البصرة وحرب سجستان وخراسان وسبب ذلك أن معاوية أراد أن يوجه عتبة بن أبي سفيان على البصرة فقال له ابن عامر‏:‏ إن لي بها أموالأ وودائع فإن لم توجهني عليها ذهبت فولاه البصرة فقدمها في آخر سنة إحدى وأربعين وإليه على خراسان وسجستان فولى حبيب بن شهاب شرطته - وقيل‏:‏ قيس بن الهيثم - واستقضى عميرة بن يثربي‏.‏

وفي هذه السنة‏.‏

حج بالناس عتبة بن أبي سفيان في قول أبي معشر‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ بل عنبسة بن أبي سفيان‏.‏

 ولد علي بن عبد الله بن عباس

وقيل‏:‏ بل ولد في سنة أربعين‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب

وأمه العجلة بنت العجلان‏:‏ أخبرنا يحيى بن الحسن أخبرنا ابن المسلمة أخبرنا المخلص أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي حدثنا الزبير بن بكار قال‏:‏ كان ركانة بن عبد يزيد أشد الناس فقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا محمد إن صرعتني آمنت بك فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أشهد أنك ساحر ثم أسلم بعد ونزل المدينة فمات بها في أول خلافة معاوية‏.‏

أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ حدثنا محمد بن ربيعة الكلابي عن أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر محمد بن ركانة عن أبيه‏:‏ أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن ركانة هذا كان لا يصرعه أحد‏.‏ وأسلم يوم الفتح‏.‏

رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان

صفوان بن أمية

ابن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح أبو وهب‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ حدَّثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن موسى بن عقبة عن أبي حبيبة مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ لما كان يوم الفتح هرب صفوان بن أمية بن خلف حتى أتى الشعبية فقال عميربن وهب اللخمي‏:‏ يا رسول الله إن سيد قومي خرج هاربًا ليقذف نفسه في البحر وخاف ألا تؤمنه فأمنه فداك أبي وأمي قال‏:‏ قد أمنته‏.‏

فخرج عمير بن وهب في أثره فأدركه فقال‏:‏ جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس وقد أمنك فقال‏:‏ لا والله حتى تأتيني منه بعلامة أعرفها فرجع عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال‏:‏ ‏"‏ خذ عمامتي ‏"‏ وهو البرد الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معتجرًا به برد حبرة فخرج عمير فأعطاه البرد فعرفه فرجع معه وانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس العصر فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ صفوان بن أمية‏:‏ يا محمد إن عمير بن وهب جاءني ببردك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك فإن رضيت أمرًا وإلا سيرتني شهرين قال‏:‏ ‏"‏ انزل أبا وهب ‏"‏ قال‏:‏ لا والله حتى يتبين لي قال‏:‏ لك تسير أربعة أشهر فنزل صفوان وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن وخرج معه صفوان واستعاره رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحًا فأعاره مائة درع بأداتها وشهد معه حنين والطائف وهوكافر ثم رجع الجعرانة فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفوان جعل صفوان ينظر إلى شعب ملاء نعم وشاء ورعاء فأدام إليه النظر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه فقال‏:‏ أبا وهب يعجبك هذا الشعب قال‏:‏ نعم قال‏:‏ هو لك وما فيه فقال صفوان عند ذلك‏:‏ ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأسلم مكانه وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا مع المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين خمسين بعيرًا‏.‏

قال محمد بن عمر‏:‏ لم يزل صفوان صحيح الإسلام ولم يبلغنا أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ولا بعده ولم يزل مقيمًا بمكة إِلى أن مات بها في أول خلافة معاولة‏.‏

عثمان بن طلحة بن أي طلحة بن عبد العزى‏:‏ أنبأنا محمد بن أبي طاهر قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا ابن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر قال‏:‏ أخبرنا إِبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه قال‏:‏ قال عثمان بن طلحة‏:‏ لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة ودعاني إلى الإسلام فقلت‏:‏ يا محمد العجب لك حيث تطمع أن أتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث وفرقت جماعتهم فانصرف وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس فأقبل يومًا يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فغلظت له ونلت منه وحلم عني ثم قال‏:‏ يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئت ‏"‏ فقلت له‏:‏ لقد هلكت قريش يومئذٍ وذلت قال‏:‏ ‏"‏ بل عزت‏"‏‏.‏

ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعًا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال فأردت الإسلام فإذا قومي يزئروني زئرًا شديدًا فلما هاجر جعلت قريش تشفق من رجوعه عليها فهم على ما هم عليه حتى جاء إلى بدر فخرجت فيمن خرج وشهدت المشاهد كلها معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام القضية غير الله قلبي ودخلني الإسلام وجعلت أفكر فيما نحن عليه وما نعبد من حجر لا يسمع ولا يبصر وأنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظلف أنفسهم عن الدنيا فيقع ذلك مني ولم يعزم إلى أن آتيه حتى انصرف إلى المدينة راجعًا ثم عزم لي على الخروج إليه فأدلجت فألقى خالد بن الوليد فاصطحبنا حتى نزلنا الهدة فما شعرنا إلا بعمرو بن العاص فانقمعنا منه وانقمع منا ثم قال‏:‏ أين يريد الرجلان فأخبرناه فقال‏:‏ وأنا أريد الذي تريدان فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام وأقمت معه حتى دخلت معه في غزوة الفتح ودخل مكة وقال لي‏:‏ ‏"‏ يا عثمان ائت بالمفتاح ‏"‏ فأتيِت به فأخذه مني ثم دفعه إليّ فقال‏:‏ ‏"‏ خذها تالدة خالدة لا ينزعها إلا ظالم ‏"‏‏.‏

قال محمد بن عمر‏:‏ وكان قدوم عثمان المدينة فيِ صفر سنة ثمان ولم يزل مقيمًا بالمدينة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى مكةَ فنزلها حتى مات بها في أول خلافة معاوية‏.‏

عمرو بن الأسود السكوني

كان حسن السمت والهدي أخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن مالك قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد قال‏:‏ حدَّثني أبي قال‏:‏ حدثنا أَبو اليمان قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن حكيم بن عمير وضمرة بن حبيب قالا‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ من سره ألط ينظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود‏.‏

قال المصنف‏:‏ كان عمرو إذا خرج من بيته إلى المسجد قبض يمينه على شماله مخافة الخيلاء وكان يشتري الحلة بمائتي درهم ويصبغها بدينار ويخمرها النهار كله ويقوم فيها الليل كله‏.‏

وقد أسند عن معاذ وعثمان والعرباض وغيرهم عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى‏:‏ أمها أم كرز بنت الحضرمي أسلمت وبايعت وهاجرت فتزوجها عبد الله بن أبي بكر وجعل لها بعض أرضيه على ألا تتزوج بعده فلما توفي بعث إليها عمر وقال‏:‏ إنك قد حرمت على نفسك ما أحل الله لك فردي المال وتزوجي فتزوجها عمر فأرسلت إليها عائشة أن ردي علينا أرضنا أنبأنا الحسن بن محمد البارع قال‏:‏ أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة قال‏:‏ أخبرنا أبو طاهر المخلص قال‏:‏ حدثنا أحمد بن سليمان بن داود الطوسي قال‏:‏ حدًثنا الزبير بن بكار قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن الضحاك الحزامي عن أبيه وأحمد بن عبيد الله عن عبد الله بن عاصم بن المنذر - يزيد أحدهما على صاحبه - قال‏:‏ تزوج عبد الله بن أبي بكر الصديق عاتكة بنتَ زيد بن عمرو بن نفيل وكانت حسناء ذات يقولون طلقها وخضم مكانها مقيمًا عليها الهم أحلام نائم وإن فراقي أهل بيت جمعتهم على كره مني لإحدى العظائم ثم طلقها فمر به أبوه وهو يقول‏:‏ لم أرمثلي طلق العام مثلها ولامثلها في غير جرم يطلق لها خلق جزل ورأي ومنصب وخلق سوي في الحياة مصدق فرق له أبوه وأمره بمراجعتها ثم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة فأصابه سهم فمات منه فقالت زوجته عاتكة تبكيه‏:‏ رزيت بخير الناس بعد نبيهم وبعد أبي بكر وماكان قصرا وآليت لا تنفك عيني حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبرا فلله عينا من رأى مثله فتى أكر وأحمى في الهياح وأصبرا إذا شرعت فيه الأسنة خاضها إِلى الموت حتى يترك الرمح أحمرا ثم تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأولم وكان فيمن دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين دعني أكلم عاتكة فقال‏:‏ كلمها يا أبا الحسن فأخذ علي رضي الله عنه بجانب الخدر ثم قال‏:‏ يا عدية نفسها تقولين‏:‏ فبكت فقال عمر‏:‏ ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن كل النساء تفعلن هذا ثم قتل عنها ثم تزوجها الزبير فكانت تخرج إلى المسجد وكان يكره خروجها ويحرج من منعها فخرجت ليلة إلى المسجد وخرج الزبير فسبقها إلى مكان مظلم فلما مرت به وضع يده على بعض جسدها فرجعت تتشنج ثم لم تخرج بعد ذلك فقال لها الزبير‏:‏ مالك لا تخرجين إِلى المسجد كما كنت تفعلين فقالت‏:‏ فسد الناس فقال‏:‏ أنا فعلت ذلك فقالت‏:‏ أليس يقدر غيرك أن يفعل مثله ولم تخرج حتى قتل عنها الزبير‏.‏