فصل: ثم دخلت سنة ستين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ثم دخلت سنة ستين

فمن الحوادث فيها‏:‏ غزوة مالك بن عبيد الله سُورِية ودخول جنادة بن أبي أمية رودس وهدمه مدينتها في قول الواقدي‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏

 أخذ معاوية على الوفد الذين وفدوا إليه مع عبيد الله بن زياد البيعة لابنه يزيد

وعهد إلى ابنه يزيد حين مرض فيها فقال له‏:‏ يا بني إني قد كفيتك الرحلة والترحال ووطأت لك الأشياء وفللت لك الأعداء وأخضعت لك أعناق العرب وإني لأتخوف عليك أن ينازعك في هذا الأمر الذي أسندت لك إِلا أربعة نفر من قريش‏:‏ الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏

فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقَذَته العبادة وإذا لم يبق أحد غيره بايعك‏.‏

وأما الحسين فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فإن له رَحِمًا ماسة وحقًا عظيمًا وأما ابن أبي بكر فليست له همة إلا في النساء واللهو فإن رأى أصحابه صنعوا شيئًا صنع مثلهم وأما‏.‏

الذي يجثم جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإذا أمكنته فرصة وثب فابن الزبير فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إربًا إربًا ولما اشتد مرض معاوية كان يزيد غائبًا فدعا بالضحاك بن قيس الفهوي - وكان صاحب شرطته - ومسلم بن عقبة المري فأوصى إليهما فقال‏:‏ بلغا يزيد وصيتي‏:‏ انظر أهل الحجاز فإنهم أهلك فأكرم من قدم عليك منهم وتعاهد من غاب وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل كل يوم عاملًا فافعل فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك فإن رابك شيء من عدوك فانتصر بهم فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم‏.‏

وفي هذه السنة توفي معاوية وبويع لابنه يزيد‏.‏

 باب ذكر بيعة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان

ويكنى أبا خالد ولد سنة ست وعشرين هو وعبد الملك وأمه مَيْسون بنت بَحْدل وكان له أولاد جماعة فمنهم‏:‏ معاوية ابنه وولي الخلافة بعده أيامًا‏.‏

ومنهم‏:‏ عاتكة تزوجها عبد الملك بن مروان فولدت له أربعة أولاد وهذه عاتكة كان لها اثنا عشر محرمًا كلهم خلفاء‏:‏ أبوها يزيد وجدها معاوية وأخوها معاوية بن يزيد وزوجها عبد الملك وحموها مروان بن الحكم وابنها يزيد بن عبد الملك وابن أبيها الوليد بن يزيد وبنو زوجها‏:‏ الوليد وسليمان وهشام وابنا ابن زوجها‏:‏ يزيد وإبراهيم ابنا الوليد بن عبد الملك‏.‏

ولم يتفق مثل هذا لامرأة سواها‏.‏

وقد أسند يزيد بن معاوية الحديث فروى عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وإسنادنا إليه متصل غير أن الإمام أحمد سئل‏:‏ أيروى عن يزيد الحديث فقال‏:‏ لا ولا كرامة فلذلك امتنعنا أن نسند عنه‏.‏

وقد ذكرنا أن معاوية لما مات كان ابنه يزيد غائبًا فلما سمع بموت أبيه معاوية قدم وقد دفن فبويع له وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر فأقر عبيد الله بن زياد على البصرة والنعمان بن بشير على الكوفة وكان أمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ولم يكن ليزيد همّ حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على أبيه الإجابة إلى بيعة يزيد فكتب إلى الوليد بن عتبة‏:‏ أما بعد فخذ حسينًا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذًا شديدًا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام‏.‏

فبعث إلى مروان فدعاه واستشاره وقال‏:‏ كيف ترى أن أصنع قال‏:‏ إني أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة فإن فعلوا قبلت وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية فإنهم إن علموا بموته وثب كل واحد منهم في جانب فأظهر الخلاف والمنابذة إلا أن ابن عمر لا أراه يرى القتال ولا يحب الولاية إلا أن تُدْفَع إليه عفوًا‏.‏

وأرسل عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما فوجدهما في المجلس جالسين فقالا‏:‏ أجيبا الأمير‏.‏

فقالا له‏:‏ انصرف فالآن نأتيه‏:‏ ثم أقبل ابن الزبير على الحسين فقال له‏:‏ ما تظن فيما بعث إلينا‏.‏

فقال الحسين‏:‏ أَظن طاغيتهم قد هلك وقد بعث هذا إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشوا الخبر‏.‏

قال‏:‏ وأنا ما أظن غيره فما تريد أن تصنع قال‏:‏ اجمع فتياني الساعة ثم أسير إليه فإذا بلغت الباب احتبستهم‏.‏

قال‏:‏ فإني أخافه عليك إذا دخلت قال‏:‏ لا آتيه إلا وأنا على الامتناع‏.‏

قال‏:‏ فجمع مواليه وأهل بيته ثم قام يمشي حتى انتهى إلى باب الوليد وقال لأصحابه‏:‏ إني داخل فإن دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج‏.‏

فدخل وعنده مروان فسلم عليه بالإمرة وجلس فأقرأه الوليد الكتاب ونعى إليه معاوية ودعاه إلى البيعة فقال الحسين ‏"‏ إنا للّه وإنا إليه راجعون ‏"‏ رحمِ الله معاوية وعظم لك الأجر أما ما سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرًا ولا أراك تجتزى مني سرًا دون أن تظهرها على رؤوس الناس علانية قال‏:‏ أجلِ قال‏:‏ فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرًا واحدًا فقال له الوليد وكان يحب العافية فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس‏.‏

فقال له مروان‏.‏

والله إن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدًا حتى تكثر القتلى بينك وبينه احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه‏.‏

فوثب الحسين عند ذلك فقال‏:‏ يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أو هو كذبت والله وأثمت‏.‏

ثم خرج فقال مروان‏:‏ واله لا يُمكِنك من مثلها من نفسه فقال الوليد‏:‏ والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت وإني قتلت حسينًا‏.‏

وأما ابن الزبير فقال‏:‏ الآن آتيكم‏.‏

ثم أتى داره فكمن فيها فأكثر الرسل إليه فبعث إليه جعفر بن الزبير فقال له‏:‏ إنك قد أفزعت عبد الله بكثرة رسلك وهو يأتيك غدًا إن شاء الله‏.‏

وخرج ابن الزبير من ليلته فتوجه نحو مكة هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث وتنكب الجادة فبعث وراءه مَنْ يطلبه فلم يقدروا عليه وتشاغلوا عن الحسين عليه السلام في ذلك اليوم فخرج من الليل ببنيه وأخوته وبني أخيه وأهل بيته إلى مكة لليلتين بقيتا من رجب فدخلها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة‏.‏

ثم بعث الوليد إلى عبد الله بن عمر فقال‏:‏ بايع ليزيد فقال‏:‏ إذا بايع الناس بايعت‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ عزل يزيد الوليد بن عتبة عن المدينة عزله في رمضان وأمر عليها عمرو بن سعيد فقدمها ووجه عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير إلى أخيه عبد الله بن الزبير ليقاتله لما كان يعلم ما بينه وبين أخيه عبد الله ووجه معه أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة - وقيل‏:‏ في ألفين - فعسكر في الجرف فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد فقال له‏:‏ لا تقرب مكة واتق الله ولا تحل حرمة البيت وخلوا ابن الزبير فقد كبر وهو رجل لجوج‏.‏

فقال عمرو‏:‏ والله لنقاتلنه في جوف الكعبة وسار أنيس حتى نزل بذي طوى وسار عمرو بن الزبير إلى أخيه الأبطح فأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه أن الخليفة قد حلف لا يقبل منك حتى يؤتي بك في جامعةٍ فبر يمينه وتعال اجعل في عنقك جامعة من فضة‏.‏

فأرسل ابن الزبير عبد الله بن صفوان إِلى أنيس في جامعة فقاتلوه فهزم أنيس وتفرق عن عمرو جماعة من أصحابه واستعمل عمرو بن سعيد على شرطته مصعب بن عبد الرحمن بن عوف وأمره بالشدة على الناس فهدم الدور وضرب الرجال وأرسل إلى المنذر بن الزبير فجاءوا به ملببًا فقال المسور بن مخرمة‏:‏ اللهم إنا نعوذ بك من أمر هذا أوله فلما حضر وقت الحج حج عمرو وأظهر السلاح وأظهر ابن الزبير السلاح‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏

 وجَه أهل الكوفة الرسل إلى الحسين وهو بمكة يدعونه إلى القدوم عليهم

فوجّه إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب وكان أهل الكوفة قد بعثوا إلى الحسين عليه السلام يقولون‏:‏ إنا قد حبسنا أنفسنا عليك ولسنا نحضر الجمعة فأقدم علينا‏.‏

فبعث إليهم مسلمًا لينظر ما قالوا فخرج مسلم حتى أتى المدينة فأخذ منها دليلين فمرا به في البرية فأصابهم عطش فمات أحد الدليلين وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه فكتب إليه‏:‏ امض فقدم الكوفة فنزل على رجل من أهَلهَا يقال له ابن عوسجة فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دنوا إليه فبايعوه فبايعه منهم اثنا عشر ألفًا فقام رجل ممن يهوى يزيد إلى النعمان بن بشير فقال له‏:‏ إنك ضعيف قد فسد البلد‏.‏

فقال له النعمان‏:‏ أكون ضعيفًا في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون قويًا في معصية الله‏.‏

فكتب بقوله إلى يزيد فولى الكوفة عبيد الله بن زياد إضافة إِلى البصرة وأمره أن يقتل مسلم بن عقيل فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متلثمًا فلا يمر بمجلس من مجالسهم فيسلم إلا قالوا‏:‏ وعليك السلام يا ابن بنت رسول الله‏.‏

وهم يظنونه الحسين حتى نزل القصر فقال عبيد الله لمولى له‏:‏ هذه ثلاثة آلاف درهم خذها وسل عن الذي بايع أهل الكوفة وأعلمه أنك من حمص وقل له‏:‏ خذ هذا المال تقوى به‏.‏

فمضى فسلمه إليه فتحول مسلم بن عقيل حينئذٍ من الدار التي كان فيها إلى منزل هانىء بن عروة المرادي وكتب مسلم إلى الحسين ببيعة اثني عشر ألفًا من أهل الكوفة ويأمره بالقدوم ثم دخل على عبيد الله بن زياد جماعة من وجوه أهل الكوفة فقال‏:‏ ما بال هانئ بن عروة لم يأتني فأخبروا هانئًا فانطلق إليه فقال‏:‏ يا هانىء أين مسلم قال‏:‏ لا أدري - فقال عبيد الله لمولاه الذي أعطاه الدراهم‏:‏ اخرج‏.‏

فخرج فلما رآه قال‏:‏ أصلح الله الأمير والله ما دعوته إلى منزلي ولكنه جاء فطرح نفسه علي قال‏:‏ أيتني به قال‏:‏ والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه‏.‏

فضربه أعلى حاجبه فشجه ثم حبسه فنادى مسلم أصحابه فاجتمع إليه من أهل الكوفة أربعة آلاف فمضى بهم إلى القصر فأشرف أصحاب عبيد الله على أهاليهم يعدونهم ويقولون‏:‏ غدًا يأتيكم جنود الشام‏.‏

فتسللوا فما اختلط الظلام حتى بقي مسلم وحده فأوى إِلى امرأة فعلم به ابنها وكان عبيد الله قد نادى‏:‏ إنه مَنْ وُجد في داره فقد برئت منه الذمة ومن جاء به فله ديته‏.‏

فأخبر به فبعث عبيد الله إليه صاحب الشرطة عمرو بن حريث ومعه عبد الرحمن بن محمد الأشعث فلم يعلم مسلم حتى أحيط بالدار فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم فأعطاه عبد الرحمن الأمان فأمكنه من يده فحملوه على بغلة وانتزعوا سيفه منه فقال‏:‏ هذا أول الغدر وبكى‏.‏ فقيل له‏:‏ من يطلب مثل هذا الذي تطلب إذا نزل به مثل هذا لم يبك‏.‏

فقال‏:‏ والله ما أبكي على نفسي بل على حسين وآل حسين‏.‏

ثم التفت إلى عبد الرحمن فقال‏:‏ هل يستطيع أن يبعث من عندك رجلًا على فبعث رجلًا فلقي الحسين بزُبالَة فأخبره الخبر فقال‏:‏ كل ما حُمَّ نازل‏.‏

ولما جيء بمسلم إلى عبيد الله بن زياد أخبره عبد الرحمن أنه قد أمنه فقال‏:‏ ما أنت والأمان إنما بعثناك لتجيء به لا لتؤمنه‏.‏

فأمر به فأصعد إلى أعلى القصر فضربت عنقه وألقى جثته إلى الناس وأمر بهانىء فقتل في السوق وسُحب إلى الكناسة فصلب هناك‏.‏

وقال شاعرهم في ذلك‏:‏

فإن كنت لا تدرينَ ما الموتً فانظري ** إلىِ هانىء في السوق وابن عقيل

تري جسدًا قد غير الموت لونه ** ونضْحَ دم قد سال كل مسيل

أصابهما أمر الإمام فأصبحا ** أحاديث من يسعى بكل سبيل

وفي رواية أخرى‏:‏ أن الحسين لما خرج من المدينة قيل له‏:‏ لو تجنبت الطريق ما فعل ابن الزبير لأجل الطلب‏.‏

قال‏:‏ لا والله لا أفارقها حتى يقضي الله ما أحب‏.‏

فاستقبله عبد الله بن مطيع فقال له‏:‏ جعلت فداك أين تريد‏.‏

قال‏:‏ أما الآن فمكة وما بعدها فإني استخير الله فقال‏:‏ خار الله لك وجعلنا فداك فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشؤومة بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه الزم الحرم فإنك سيد العرب فِنزل مكة واختلف أهلها إليه وأهل الآفاق وابن الزبير لازم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها ويطوف ويأتي حسينًا فيمن يأتيه ويشير عليه وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأنه قد علم أن أهل الحجاز لا يبايعونه أبدًا ما دام حسين بالبلد وقام سليمان بن صرد بالكوفة فقال‏:‏ إن كنتم تعلمون أنكم تنصرون حسينًا فاكتبوا إليه وإن خفتم الفشل فلا تغروه‏.‏

قالوا‏:‏ بل نقاتل عدوه‏.‏

فكتبوا إليه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

لحسين بن علي من سليمان بن صرد والمسيب بن نجية ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة‏.‏

سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الحمد لله الذي قصم عدوك وإنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك‏.‏

فقدم الكتاب عليه بمكة لعشر مضين من رمضان ثم جاءه مائة وخمسون كتابًا من الرجل والاثنين والثلاثة ثم جاءه كتاب آخر يقولون‏:‏ حي هلا فإن الناس ينتظرونك فالعجل العجل‏.‏

وتلاقت الرسل كلها عنده‏.‏

فقرأ الكتب وكتب مع هانىء بن هاني السبيعي وسعيد بن عبيد الحنفي وكانا آخر الرسل‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

من حسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين‏.‏

أما بعد فإن هانئًا وسعيدًا قدما علي وكانا آخر من قدم من رسلكم وقد بعثت أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرت أن يكتب إليّ بحالكم فإن كتب إليٌ أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به علي رسلكم قدمت عليكم إن شاء الله تعالى‏.‏

فلما قتل مسلم بن عقيل وهانىء وكان الحسين قد خرج من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة وكان قد أشار عليه جماعة منهم ابن عباس أن لا يخرج وكان من جملة ما قال له‏:‏ أتسير إلى قوم أميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب ولا آمن أن يكذبوك‏.‏

فقال‏:‏ أستخير الله ثم عاد إليه فقال له‏:‏ إِني أتصبر ولا أصبر إني أتخوف عليك أهل العراق فإنهم أهل غدر أقم بهذا البلد فإنك سيد الحجاز فإن كان أهل العراق يريدونك فاكتب إليهمٍ فلينفوا عدوهم وإن أبيت فسر إلى اليمن فإن بها حصونًا وشعابا وهي أرض عريضة‏.‏

فقال‏:‏ قد أجمعت المسير‏.‏

قال‏:‏ فلا تَسِرْ بنسائك وصبيتك فإني أخاف ما جرى لعثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه ولقد أقررت عيني ابن الزبير بتخليتك إياه بالحجاز والله لو أني أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت‏.‏

ثم خرج فلقي ابن الزبير فقال‏:‏ قرت عينك هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز ثم يا لك من قُبَّرة بمَعْمِر خَلا لكِ الجو فبيضي واصْفِرِي وَنقرِي ما شئت أنْ تُنقري وكتب عبيد الله إلى يزيد‏:‏ أما بعد فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه وكفاه مؤونة عدوه إن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانىء بن عروة فكِدتهما حتى استخرجتهما وضربت أعناقهما وقد بعثت برأسيهما‏.‏

فكتب إليه يزيد‏:‏ إنك على ما أحب عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع وقد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق فضع المناظر والمسالح واحترس واجلس على الظنة وخذ على التهمة غير أن لا تقتل إلا منْ قاتلك واكتب إلي في كل ما يحدث من خير إن شاء الله‏.‏

قال علماء السير‏:‏ لما علم الحسين بما جرى لمسلم بن عقيل هم أن يرجع فقال أخو مسلم‏:‏ والله لا ترجع حتى نصيب بثأرنا‏.‏

فقال الحسين‏:‏ لا خير في الحياة بعدكم‏.‏

فسار فلقيته أوائل خيل عبيد الله فنزل كربلاء فضرب أبنيته وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسًا ومائة راجل‏.‏

وَفي هذه السنة‏:‏

 حج بالناس عمرو بن سعيد

وكان عامل يزيد على مكة والمدينة لما نزع يزيد الوليد بن عتبة عن المدينة وكان ذلك في شهر رمضان‏.‏

فحج عمرو بالناس حينئذٍ وكان على الكوفة والبصرة وأعمالها عبيد الله بن زياد وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد وعلى قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

بلال بن الحارث

أبو عبد الرحمن وهو من بني قرة بن مازن بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مزينة ومعه عمرو بن عوف يستنفرانهم حين أراد أن يغزو مكة وحمل بلال أحد ألوية مزينة الثلاثة التي عقدها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وكان يسكن جبل مزينة ويأتي المدينة كثيرًا‏.‏ وتوفي في هذه السنة وهو ابن ثمانين سنة‏.‏

خراش بن أمية بن ربيعة أبو نضلة

شهد المريسيع والحديبية وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش على جملٍ له يقول‏:‏ إنما جئنا معتمرين ولم نأت لقتال فعرفوا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتال خراش فمنعه مَنْ هناك من قومه فرجع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لقي وقال‏:‏ ابعث أمنع مني فدعا عمر فقال‏:‏ يا رسول الله قد عرفت قريش عداوتي لها وليس بها من بني عدي من يمنعني فإن أحببت دخلت عليهم فلم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال عمر‏:‏ لكني أدلك على رجل أعز مني بمكة وأكثر عشيرة وأمنع‏:‏ عثمان فدعاه فبعثه إليهم‏.‏

وخراش هو الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وحلقه أيضَاَ في عمرة الجعرانة وما زال يغزو مع رسول الله إلى أن قُبض ومات في آخر خلافة معاوية‏.‏

صفوان بن المعطل

ابن رحضة بن المؤمل بن خزاعي أبو عمرو‏:‏ أسلم قبل غزاة المريسيع وشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يومئذٍ على ساقة الناس من ورائهم واتفق أن عقد عائشة ضاع فأقامتَ على التماسِهِ فرحل القوم فجاء صفوان فرآها فأناخ بعيره فركبت فلحق بها الجيش فتكلم أهل الإفك فحلف صفوان لئن أنزل الله عذره ليضربنّ حسان بن ثابت بالسيف‏.‏

فلما نزل العذر ضرب حسان بن ثابت بالسيف على كتفه فأخذه قوم حسان وأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعه إليهم ليقتصوا منه فلما أدبروا بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لهم‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي‏.‏

فترك حسان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه السلام‏:‏ دعوا حسان فإنه يحب الله ورسوله وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم شهد صفوان الخندق والمشاهد بعدها وكان مع كرز بن جابر في طلب العرنيين الذين أغاروا على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏وتوفي بشمشاط في هذه السنة‏.‏

عبد اللّه بن ثوب

أبو مسلم الخولاني‏:‏ أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن أحمد قال‏:‏ حدثنا أبو نعيم الأصبهاني قال‏:‏ حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد قال‏:‏ حدثنا عبد الملك بن محمد بن علي قال‏:‏ حدثنا صالح بن علي النوفلي قال‏:‏ حدثنا عبد الوهاب بن نجمة قال‏:‏ حدثنا إسماعيل بن عباس عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال‏:‏ بينا الأسود بن قيس العنسي باليمن فأرسل إلى أبي مسلم فقال له‏:‏ أتشهد أن محمدًا رسول الله قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فتشهد أني رسول الله قال‏:‏ ما أسمع قال‏:‏ فأمر بنار عظيمة فأججت فطرح فيها أبو مسلم فلم تضره فقال له أهل مملكته‏:‏ إن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك‏.‏

فأمره بالرحيل فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر فقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي فبصر به عمر بن الخطاب فقال‏:‏ من أين الرجل قال‏:‏ من اليمن‏.‏

قال‏:‏ فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار فلم تضره فقال‏:‏ ذاك عبد الله بن ثوب‏.‏

قال‏:‏ نشدتك بالله أنك هو‏.‏

قال‏:‏ اللهم نعم‏.‏

قال‏:‏ فقبل ما بين عينيه ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر وقال‏:‏ الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مَنْ فُعل به كما فُعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال‏:‏ حدثنا أحمد بن أحمد الحداد قال‏:‏ أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد قال‏:‏ حدثنا أبو زرعة قال‏:‏ حدثنا سعيد بن أسد قال‏:‏ حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال‏:‏ كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى أهله كبّر على باب منزله فتكبر امرأته فإذا كان في صحن داره كبر فتجيبه امرأته‏.‏

فانصرف ذات ليلة فكبر عند باب داره فلم يجبه أحد فلما كان في الصحن كبر فلم يجبه أحد فلما كان في باب بيته كبّر فلم يجبه أحد وكان إذا دخل بيته أخفت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعامه - قال‏:‏ فدخل فإذا البيت فيه سراج وإذا امرأته جالسة منكسة تنكث بعودٍ معها فقال لها‏:‏ مالك قالت‏:‏ أنت لك منزلة من معاوية وليس لنا خادم فلو سألته فأخدمنا وأعطاك‏.‏

فقال‏:‏ اللهم من أفسد علي امرأتي فأعم بصره‏.‏

قال‏:‏ وكانت قد جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت‏:‏ زوجك له منزلة من معاوية فلو قلت له كتب إلى معاوية بخدمة ويعطيه عشتم‏.‏

قال‏:‏ فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها أنكرت بصرها فقالت‏:‏ ما لسراجكم طفىء قالوا‏:‏ لا فعرفت ذنبها فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي وتسأله أن يدعو لها الله عز وجل أن يرد عليها بصرها‏.‏

فرحمها أبو مسلم فدعا الله عز وجل فرد عليها بصرها‏.‏

وفي رواية‏:‏ فرجعت‏.‏

معاوية بن أبي سفيان‏:‏ أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا أبو عبيدة عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير قال‏:‏ لما ثقل معاوية وتحدث الناس أنه الموت قال لأهله‏:‏ احشوا عيني أثمدًا وأوسعوا رأسي دهنًا‏.‏

ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن ثم مهد له فجلس فقال‏:‏ اسندوني‏.‏

ثم قال‏:‏ أئذنوا للناس فليسلموا لم قيامًا ولا يجلس أحد‏.‏

فجعل الرجل يدخل فيسلم قائمًا فيراه مكتحلًا مدهنًا فيقول‏:‏ يقول الناس هو لما بِه وهو أصح الناس‏.‏

ولما خرجوا من عنده قال‏:‏

وتَجَلدي للشامِتينَ ألايهِمُ ** أني لِرَيْبِ الدهر لا أتَضَعْضَعُ

وإذا المَنيةُ أنْشَبَتْ أظْفَارَهَا ** ألْفَيْتَ كل تَمِيمةٍ لا تَنفع

قال‏:‏ وكان به الثفاثة مات من يومه ذلك‏.‏

قال علماء السير‏:‏ أوصى معاوية فقال‏:‏ شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا قلم أظفاره وأخذ من شعره فجمعت ذلك فهو عندي وأعطاني قميصه فاجعلوه على جسمي واسحقوا قلامة الأظفار فاجعلوها في عيّني واحشوا بالشعر فمي وأنفي فغشي فأخرجت أكفانه فوضعت على المنبر وقام الضحاك بن قيس الفهري خطيبًا فقال‏:‏ إن معاوية قد قضى نحبه وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلوه وعمله إن شاء ربه رحمه وإن شاء عذبه‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا أبو الفضل قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن جعفر قال‏:‏ حدثنا يعقوب بن سفيان قال‏:‏ حدثني يحيى بن عبد الله عن بكير عن الليث قال‏:‏ توفي معاوية في رجب لأربع ليال خلت من سنة ستين وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر‏.‏وقيل‏:‏ تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر‏.‏قال الواقدي‏:‏ وسبعة وعشرين يومًا‏.‏

واختلفوا في مدة عمره فقال الزهري‏:‏ خمسة وسبعون وقيل‏:‏ ثمان وسبعون وقال المدائني‏:‏ ثلاث وسبعون وقيل‏:‏ ثمانون وقيل‏:‏ خمس وثمانون‏.‏

النعمان بن بشير

ابن سعد بن ثعلبة بن جلاس‏:‏ أمه عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة وهو أول من ولدَ من الأنصار بالمدينة بعد الهجرة وحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة فتلمظ بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ انظروا إلى الأنصار وحبها للتمر ‏"‏‏.‏

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والنعمان بن بشير ابن ثماني سنين وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ممن نصر عثمان وقدم بقميصه الذي قتل فيه على معاوية وبعثه معاوية على الكوفة أميرًا فأقام بها واليًا عليها سبعة أشهر ثم آل الأمر إلى أن دعا لابن الزبير فقتله أهل حمص في هذه السنة‏.‏

أنبأنا محمد بن أبي طاهر البزار قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد الأبنوسي قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن الدارقطني قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن إسماعيل القاضي قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن الحسين بن الربيع قال‏:‏ حدثني الهيثم بن عدي قال‏:‏ لما عُزل النعمان بن بشير عن الكوفة ولاه معاوية حمص فوفد عليه أعشى همدان فقال له‏:‏ ما أقدمك أبا المصبح قال‏:‏ جئت لتصلني وتحفظ قرابتي وتقضي ديني‏.‏ فأطرق النعمان ثم رفع رأسه ثم قال‏:‏ والله ما عندي شيء‏.‏

ثم قال‏:‏ هيه كأنه ذكر شيئًا فقام فصعد المنبر ثم قال‏:‏ يا أهل حمص - وهم في الديوان عشرون ألفًا - هذا ابن عم لكم من أهل القرآن والشرف قدم عليكم يسترفدكم فما ترون فيه‏.‏

فقالوا‏:‏ أصلح الله الأمير احكم له‏.‏ فأبى عليهم‏.‏قالوا‏:‏ فإنا قد حكمنا له على أنفسنا من كل رجل في العطاء بدينار من دينارين تعجلها له من بيت المال أربعون ألف دينار‏.‏

فقبضها وأنشأ يقول‏:‏ فلم أر للحاجات عند انكماشها كنعمان نعمان الندى ابن بشير إذا قال أوفى بالمقال ولم يكن كمدل إلى الأقوام حبل غرور متى أنجد النعمان لا أك شاكرًا ولا خير من لا يقتدي بشكور‏.‏