فصل: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام:

27- حَدِيث بَعْث مُعَاذ إِلَى الْيَمَن، وَهُوَ مُتَّفَق عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
قَوْله: (عَنْ أَبِي مَعْبَد عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ مُعَاذ قَالَ أَبُو بَكْر: وَرُبَّمَا قَالَ وَكِيع عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ مُعَاذًا قَالَ) هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه نِهَايَة التَّحْقِيق وَالِاحْتِيَاط وَالتَّدْقِيق فَإِنَّ الرِّوَايَة الْأُولَى قَالَ فيها عَنْ مُعَاذ، وَالثَّانِيَة أَنَّ مُعَاذًا وَبَيَّنَ (أَنَّ) و(عَنْ) فَرْقٌ، فَإِنَّ الْجَمَاهِير قَالُوا: أَنَّ كَعَنْ، فَيُحْمَل عَلَى الِاتِّصَال.
وَقَالَ جَمَاعَة: لَا تُلْتَحَق (أَنَّ) (بِعَنْ)، بَلْ تُحْمَل (أَنَّ) عَلَى الِانْقِطَاع، وَيَكُون مُرْسَلًا، وَلَكِنَّهُ هُنَا يَكُون مُرْسَل صَحَابِيّ لَهُ حُكْم الْمُتَّصِل عَلَى الْمَشْهُور مِنْ مَذَاهِب الْعُلَمَاء. وَفيه قَوْل الْأُسْتَاذ أَبِي إِسْحَاق الْإِسْفَرَايِينِيّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي الْفُصُول أَنَّهُ لَا يُحْتَجّ بِهِ، فَاحْتَاطَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه وَبَيَّنَ اللَّفْظَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا (أَبُو مَعْبَد) فَاسْمه نَافِذ بِالنُّونِ وَالْفَاء وَالذَّال الْمُعْجَمَة وَهُوَ مَوْلَى اِبْن عَبَّاس.
قَالَ عَمْرو بْن دِينَار كَانَ مِنْ أَصْدَق مَوَالِي اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّك تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْل الْكِتَاب فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَأَنِّي رَسُول اللَّه. فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى اِفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْس صَلَوَات فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَة. فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّه اِفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَة تُؤْخَذ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدّ فِي فُقَرَائِهِمْ. فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِم أَمْوَالهمْ، وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنهَا وَبَيْن اللَّه حِجَاب» أَمَّا الْكَرَائِم فَجَمْع كَرِيمَة.
قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع هِيَ جَامِعَة الْكَمَال الْمُمْكِن فِي حَقّهَا مِنْ غَزَارَة لَبَن وَجَمَال صُورَة أَوْ كَثْرَة لَحْم أَوْ صُوف. وَهَكَذَا الرِّوَايَة (فَإِيَّاكَ وَكَرَائِم) بِالْوَاوِ فِي قَوْله وَكَرَائِم.
قَالَ اِبْن قُتَيْبَة. وَلَا يَجُوز إِيَّاكَ كَرَائِم أَمْوَالهمْ بِحَذْفِهَا. وَمَعْنَى: «لَيْسَ بَيْنهَا وَبَيْن اللَّه حِجَاب» أَيْ أَنَّهَا مَسْمُوعَة لَا تُرَدّ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث قَبُول خَبَر الْوَاحِد وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ، وَفيه أَنَّ الْوِتْر لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّ بَعْث مُعَاذ إِلَى الْيَمَن كَانَ قَبْل وَفَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلٍ بَعْد الْأَمْر بِالْوَتْرِ وَالْعَمَل بِهِ. وَفيه أَنَّ السُّنَّة أَنَّ الْكُفَّار يُدْعَوْنَ إِلَى التَّوْحِيد قَبْل الْقِتَال. وَفيه أَنَّهُ لَا يُحْكَم بِإِسْلَامِهِ إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانه فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان. وَفيه أَنَّ الصَّلَوَات الْخَمْس تَجِب فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَة. وَفيه بَيَان عِظَم تَحْرِيم الظُّلْم، وَأَنَّ الْإِمَام يَنْبَغِي أَنْ يَعِظ وُلَاته، وَيَأْمُرهُمْ بِتَقْوَى اللَّه تَعَالَى، وَيُبَالِغ فِي نَهْيهمْ عَنْ الظُّلْم، وَيُعَرِّفهُمْ قُبْحَ عَاقِبَته. وَفيه أَنَّهُ يَحْرُم عَلَى السَّاعِي أَخْذ كَرَائِم الْمَال فِي أَدَاء الزَّكَاة بَلْ يَأْخُذ الْوَسَط، وَيَحْرُم عَلَى رَبّ الْمَال إِخْرَاج شَرّ الْمَال. وَفيه أَنَّ الزَّكَاة لَا تُدْفَع إِلَى كَافِر، وَلَا تُدْفَع أَيْضًا إِلَى غَنِيٍّ مِنْ نَصِيب الْفُقَرَاء، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ وَسَائِر أَصْحَابنَا عَلَى أَنَّ الزَّكَاة لَا يَجُوز نَقْلهَا عَنْ بَلَد الْمَال لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُرَدّ فِي فُقَرَائِهِمْ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال لَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّ الضَّمِير فِي فُقَرَائِهِمْ مُحْتَمَل لِفُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ، وَلِفُقَرَاء أَهْل تِلْكَ الْبَلْدَة وَالنَّاحِيَة وَهَذَا الِاحْتِمَال أَظْهَر وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضهمْ عَلَى أَنَّ الْكُفَّار لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ بِفُرُوعٍ الشَّرِيعَة مِنْ الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَتَحْرِيم الزِّنَا وَنَحْوهَا؛ لِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُطِيعُوا لَا يَجِب عَلَيْهِمْ.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال ضَعِيف فَإِنَّ الْمُرَاد أَعْلِمْهُمْ أَنَّهُمْ مُطَالَبُونَ بِالصَّلَوَاتِ وَغَيْرهَا فِي الدُّنْيَا، وَالْمُطَالَبَة فِي الدُّنْيَا لَا تَكُون إِلَّا بَعْد الْإِسْلَام، وَلَيْسَ يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا يُزَاد فِي عَذَابهمْ بِسَبَبِهَا فِي الْآخِرَة وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام وَبَدَأَ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمّ. أَلَا تَرَاهُ بَدَأَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ قَبْل الزَّكَاة، وَلَمْ يَقُلْ أَحَد: إِنَّهُ يَصِير مُكَلَّفًا بِالصَّلَاةِ دُون الزَّكَاة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّ الْمُخْتَار أَنَّ الْكُفَّار مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَة الْمَأْمُور بِهِ وَالْمَنْهِيّ عَنْهُ، هَذَا قَوْل الْمُحَقِّقِينَ وَالْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا، وَقِيلَ: مُخَاطَبُونَ بِالْمَنْهِيِّ دُون الْمَأْمُور. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا الَّذِي وَقَعَ فِي حَدِيث مُعَاذ مِنْ ذِكْرِ بَعْض دَعَائِم الْإِسْلَام دُون بَعْض هُوَ مِنْ تَقْصِير الرَّاوِي كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ نَظَائِره. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة (حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي عُمَر) هُوَ مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن أَبِي عُمَر الْعَدَنِيّ أَبُو عَبْد اللَّه سَكَنَ مَكَّة. وَفيها (عَبْد بْن حُمَيْدٍ) هُوَ الْإِمَام الْمَعْرُوف صَاحِب الْمُسْنَد، يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّد قِيلَ: اِسْمه عَبْد الْحَمِيد. وَفيها أَبُو عَاصِم هُوَ النَّبِيل الضَّحَّاك بْن مَخْلَد.
قَوْله: (عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا) هَذَا اللَّفْظ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَدِيث مِنْ مُسْنَد اِبْن عَبَّاس، وَكَذَلِكَ الرِّوَايَة الَّتِي بَعْدَهُ.
وَأَمَّا الْأُولَى فَمِنْ مُسْنَد مُعَاذ. وَوَجْه الْجَمْع بَيْنهمَا أَنْ يَكُون اِبْن عَبَّاس سَمِعَ الْحَدِيث مِنْ مُعَاذ فَرَوَاهُ تَارَة عَنْهُ مُتَّصِلًا وَتَارَة أَرْسَلَهُ فَلَمْ يَذْكُر مُعَاذًا. وَكِلَاهُمَا صَحِيح كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ مُرْسَل الصَّحَابِيّ إِذَا لَمْ يُعْرَف الْمَحْذُوف يَكُون حُجَّة فَكَيْفَ وَقَدْ عَرَفْنَاهُ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ مُعَاذ وَيُحْتَمَل أَنَّ اِبْن عَبَّاس سَمِعَهُ مِنْ مُعَاذ وَحَضَرَ الْقَضِيَّة فَتَارَة رَوَاهَا بِلَا وَاسِطَة لِحُضُورِهِ إِيَّاهَا، وَتَارَة رَوَاهَا عَنْ مُعَاذ إِمَّا لِنِسْيَانِهِ الْحُضُور، وَإِمَّا لِمَعْنًى آخَر. وَاللَّهُ أَعْلَم.
28- قَوْله: (حَدَّثَنَا أُمَيَّة بْن بِسْطَام الْعَيْشِيّ) أَمَّا (بِسْطَام) فَبِكَسْرِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَحَكَى صَاحِب الْمَطَالِع أَيْضًا فَتْحَهَا. وَاخْتُلِفَ فِي صَرْفه فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَصْرِفهُ.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه: بِسْطَام عَجَمِيّ لَا يَنْصَرِف، قَالَ اِبْن دُرَيْد لَيْسَ مِنْ كَلَام الْعَرَب.
قَالَ: وَوَجَدْته فِي كِتَاب اِبْن الْجَوَالِيقِيّ فِي الْمُعْرِب مَصْرُوفًا وَهُوَ بَعِيد. هَذَا كَلَام الشَّيْخ أَبِي عَمْرو.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ فِي الصِّحَاح بِسْطَام لَيْسَ مِنْ أَسْمَاء الْعَرَب وَإِنَّمَا سُمِّيَ قَيْس بْن مَسْعُود اِبْنه بِسْطَامًا بِاسْمِ مَلِك مِنْ مُلُوك فَارِس، كَمَا سَمُّوا قَابُوس فَعَرَّبُوهُ بِكَسْرِ الْبَاء. وَاللَّهُ أَعْلَم وَأَمَّا (الْعَيْشِيّ) فَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى بَنِي عَايِش بْن مَالِك بْن تَيْم اللَّه بْن ثَعْلَبَة وَكَانَ أَصْله الْعَايِشِيّ وَلَكِنَّهُمْ خَفَّفُوهُ.
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه، وَالْخَطِيب أَبُو بَكْر الْبَغْدَادِيّ: الْعَيْشِيّون بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة بَصْرِيُّونَ وَالْعَبْسِيُّونَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَالسِّين الْمُهْمَلَة كُوفِيُّونَ، وَالْعَنْسِيّون بِالنُّونِ وَالسِّين الْمُهْمَلَة شَامِيُّونَ وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ هُوَ الْغَالِب. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَكُنْ أَوَّل مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَة اللَّه: فَإِذَا عَرَفُوا اللَّه فَأَخْبِرْهُمْ إِلَى آخِره» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِعَارِفِينَ اللَّه تَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَب حُذَّاق الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ غَيْر عَارِفِينَ اللَّه تَعَالَى؛ وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَيُظْهِرُونَ مَعْرِفَته لِدَلَالَةِ السَّمْع عِنْدهمْ عَلَى هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْعَقْل لَا يَمْنَع أَنْ يَعْرِف اللَّه تَعَالَى مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: مَا عَرَفَ اللَّه تَعَالَى مَنْ شَبَّهَهُ وَجَسَّمَهُ مِنْ الْيَهُود، أَوْ أَجَازَ عَلَيْهِ الْبُدَاء، أَوْ أَضَافَ إِلَيْهِ الْوَلَد مِنْهُمْ، أَوْ أَضَافَ إِلَيْهِ الصَّاحِبَة وَالْوَلَد، وَأَجَازَ الْحُلُول عَلَيْهِ، وَالِانْتِقَال وَالِامْتِزَاج مِنْ النَّصَارَى، أَوْ وَصَفَهُ بِمَا لَا يَلِيق بِهِ، أَوْ أَضَافَ إِلَيْهِ الشَّرِيك وَالْمُعَانِد فِي خَلْقه مِنْ الْمَجُوس وَالثَّنَوِيّة فَمَعْبُودهمْ الَّذِي عَبَدُوهُ لَيْسَ هُوَ اللَّه وَإِنْ سَمُّوهُ بِهِ إِذْ لَيْسَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْإِلَه الْوَاجِبَة لَهُ. فَإِذَنْ مَا عَرَفُوا اللَّه سُبْحَانه. فَتَحَقَّقَ هَذِهِ النُّكْتَة وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا وَقَدْ رَأَيْت مَعْنَاهَا لِمُتَقَدِّمِي أَشْيَاخنَا وَبِهَا قَطَعَ الْكَلَام أَبُو عِمْرَان الْفَارِسِيّ بَيْن عَامَّة أَهْل الْقَيْرَوَان عِنْد تَنَازُعهمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة: «فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّه فَرْض عَلَيْهِمْ زَكَاة تُؤْخَذ مِنْ أَمْوَالهمْ» قَدْ يُسْتَدَلّ بِلَفْظَةِ (مِنْ أَمْوَالهمْ) عَلَى أَنَّهُ إِذَا اِمْتَنَعَ مِنْ الزَّكَاة أُخِذَتْ مِنْ مَاله بِغَيْرِ اِخْتِيَاره وَهَذَا الْحُكْم لَا خِلَاف فيه، وَلَكِنْ هَلْ تَبْرَأ ذِمَّته وَيَجْزِيه ذَلِكَ فِي الْبَاطِن؟ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا. وَاَللَّه أَعْلَم.

.الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله:

29- أَسْمَاء الرُّوَاة فِي الْحَدِيث: عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيّ هُوَ بِضَمِّ الْعَيْن وَتَقَدَّمَ فِي الْفُصُول بَيَانه.
وَفيه يُونُس وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه وَأَنَّ فيه سِتَّة أَوْجُه ضَمّ النُّون وَكَسْرهَا وَفَتْحهَا، مَعَ الْهَمْز وَتَرْكه.
وَأَمَّا فِقْهه وَمَعَانِيه:
قَوْله: «لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَعْده، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَب» قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي شَرْح هَذَا الْكَلَام كَلَامًا حَسَنًا لابد مِنْ ذِكْرِهِ لِمَا فيه مِنْ الْفَوَائِد.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّه: مِمَّا يَجِب تَقْدِيمه فِي هَذَا أَنْ يُعْلَم أَنَّ أَهْل الرِّدَّة كَانُوا صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ اِرْتَدُّوا عَنْ الدِّين وَنَابَذُوا الْمِلَّة وَعَادُوا إِلَى الْكُفْر وَهُمْ الَّذِينَ عَنَاهُمْ أَبُو هُرَيْرَة بِقَوْلِهِ: وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَب. وَهَذِهِ الْفِرْقَة طَائِفَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَصْحَاب مُسَيْلِمَة مِنْ بَنِي حَنِيفَة وَغَيْرهمْ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ عَلَى دَعْوَاهُ فِي النُّبُوَّة، وَأَصْحَاب الْأَسْوَد الْعَنْسِيّ وَمَنْ كَانَ مِنْ مُسْتَجِيبِيهِ مِنْ أَهْل الْيَمَن وَغَيْرهمْ. وَهَذِهِ الْفِرْقَة بِأَسْرِهَا مُنْكِرَة لِنُبُوَّةِ نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّعِيَة النُّبُوَّة لِغَيْرِهِ. فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَتَّى قَتَلَ اللَّه مُسَيْلِمَة بِالْيَمَامَةِ، وَالْعَنْسِيّ بِصَنْعَاء وَانْفَضَّتْ جُمُوعهمْ وَهَلَكَ أَكْثَرهمْ. وَالطَّائِفَة الْأُخْرَى اِرْتَدُّوا عَنْ الدِّين وَأَنْكَرُوا الشَّرَائِع وَتَرَكُوا الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغَيْرهَا مِنْ أُمُور الدِّين وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة فَلَمْ يَكُنْ يَسْجُد لِلَّهِ تَعَالَى فِي بَسِيط الْأَرْض إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِد مَكَّة وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَمَسْجِد عَبْد الْقَيْس فِي الْبَحْرَيْنِ فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا جُوَاثَا فَفِي ذَلِكَ يَقُول الْأَعْوَر الشَّنِّيّ يَفْتَخِر بِذَلِكَ: وَالْمَسْجِد الثَّالِث الشَّرْقِيّ كَانَ لَنَا وَالْمِنْبَرَانِ وَفَصْل الْقَوْل فِي الْخُطَب أَيَّام لَا مِنْبَر لِلنَّاسِ نَعْرِفهُ إِلَّا بِطِيبَة وَالْمَحْجُوب ذِي الْحُجُب وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَمَسِّكُونَ بِدِينِهِمْ مِنْ الْأَزْدِ مَحْصُورِينَ بِجُوَاثَا إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّه سُبْحَانه عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْيَمَامَة فَقَالَ بَعْضهمْ وَهُوَ رَجُل مِنْ بَنِي أَبِي بَكْر بْن كِلَاب يَسْتَنْجِد أَبَا بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. أَلَا أَبْلِغْ أَبَا بَكْر رَسُولًا وَفِتْيَان الْمَدِينَة أَجْمَعِينَا فَهَلْ لَكُمْ إِلَى قَوْم كِرَام قُعُود فِي جُوَاثَا مُحْصِرِينَا كَأَنَّ دِمَاءَهُمْ فِي كُلّ فَجّ دِمَاء الْبُدْن تَغْشَى النَّاظِرِينَ تَوَكَّلْنَا عَلَى الرَّحْمَن إِنَّا وَجَدْنَا النَّصْر لَلْمُتَوَكِّلِينَا وَالصِّنْف الْآخَر هُمْ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْن الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَأَقَرُّوا بِالصَّلَاةِ، وَأَنْكَرُوا فَرْضَ الزَّكَاة وَوُجُوب أَدَائِهَا إِلَى الْإِمَام. وَهَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِيقَة أَهْل بَغْي وَإِنَّمَا لَمْ يَدْعُوَا بِهَذَا الِاسْم فِي ذَلِكَ الزَّمَان خُصُوصًا لِدُخُولِهِمْ فِي غِمَار أَهْل الرِّدَّة فَأُضِيفَ الِاسْم فِي الْجُمْلَة إِلَى الرِّدَّة إِذْ كَانَتْ أَعْظَم الْأَمْرَيْنِ وَأَهَمَّهُمَا.
وَأُرِّخَ قِتَال أَهْل الْبَغْي فِي زَمَن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِذْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِي زَمَانه لَمْ يَخْتَلِطُوا بِأَهْلِ الشِّرْك وَقَدْ كَانَ فِي ضِمْن هَؤُلَاءِ الْمَانِعِينَ لِلزَّكَاةِ مَنْ كَانَ يَسْمَح بِالزَّكَاةِ وَلَا يَمْنَعهَا إِلَّا أَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ صَدُّوهُمْ عَنْ ذَلِكَ الرَّأْي وَقَبَضُوا عَلَى أَيْدِيهمْ فِي ذَلِكَ كَبَنِي يَرْبُوع، فَإِنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا صَدَقَاتهمْ وَأَرَادُوا أَنْ يَبْعَثُوا بِهَا إِلَى أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَمَنَعَهُمْ مَالِك بْن نُوَيْرَة مِنْ ذَلِكَ وَفَرَّقَهَا فيهمْ وَفِي أَمْر هَؤُلَاءِ عَرَضَ الْخِلَاف وَوَقَعَتْ الشُّبْهَة لِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَرَاجَعَ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَنَاظَرَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه. فَمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَقَدْ عَصَمَ نَفْسه وَمَاله». وَكَانَ هَذَا مِنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ الْكَلَام قَبْل أَنْ يَنْظُر فِي آخِره وَيَتَأَمَّل شَرَائِطه. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّ الزَّكَاة حَقّ الْمَال، يُرِيد أَنَّ الْقَضِيَّة قَدْ تَضَمَّنَتْ عِصْمَة دَم وَمَال مُعَلَّقَة بِإِيفَاءِ شَرَائِطهَا. وَالْحُكْم الْمُعَلَّق بِشَرْطَيْنِ لَا يَحْصُل بِأَحَدِهِمَا وَالْآخَر مَعْدُوم. ثُمَّ قَايَسَهُ بِالصَّلَاةِ وَرَدّ الزَّكَاة إِلَيْهَا وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْله دَلِيل عَلَى أَنَّ قِتَال الْمُمْتَنِع مِنْ الصَّلَاة كَانَ إِجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَة وَكَذَلِكَ رَدّ الْمُخْتَلَف فيه إِلَى الْمُتَّفَق عَلَيْهِ فَاجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّة الِاحْتِجَاج مِنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْعُمُومِ وَمِنْ أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْقِيَاسِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعُمُوم يُخَصّ بِالْقِيَاسِ، وَأَنَّ جَمِيع مَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَاب الْوَارِد فِي الْحُكْم الْوَاحِد مِنْ شَرْط وَاسْتِثْنَاء مُرَاعًى فيه وَمُعْتَبَر صِحَّته بِهِ. فَلَمَّا اِسْتَقَرَّ عِنْد عُمَر صِحَّة رَأْي أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَبَانَ لَهُ صَوَابه تَابَعَهُ عَلَى قِتَال الْقَوْم وَهُوَ مَعْنَى قَوْله (فَلَمَّا رَأَيْت اللَّه قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْر لِلْقِتَالِ عَرَفْت أَنَّهُ الْحَقّ) يُشِير إِلَى اِنْشِرَاح صَدْره بِالْحُجَّةِ الَّتِي أَدْلَى بِهَا، وَالْبُرْهَان الَّذِي أَقَامَهُ نَصًّا وَدَلَالَة.
وَقَدْ زَعَمَ زَاعِمُونَ مِنْ الرَّافِضَة أَنَّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَوَّل مَنْ سَبَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْقَوْم كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فِي مَنْعِ الصَّدَقَة، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْخِطَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة تُطَهِّرهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتك سَكَنٌ لَهُمْ} خِطَاب خَاصّ فِي مُوَاجِهَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون غَيْره وَأَنَّهُ مُقَيَّد بِشَرَائِط لَا تُوجَد فِيمَنْ سِوَاهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ التَّطْهِير وَالتَّزْكِيَة وَالصَّلَاة عَلَى الْمُتَصَدِّق مَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْل هَذِهِ الشُّبْهَة إِذَا وُجِدَ كَانَ مِمَّا يُعْذَر فيه أَمْثَالهمْ، وَيُرْفَع بِهِ السَّيْف عَنْهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ قِتَالهمْ كَانَ عَسْفًا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْم لَا خَلَاق لَهُمْ فِي الدِّين وَإِنَّمَا رَأْس مَالهمْ الْبُهُت وَالتَّكْذِيب وَالْوَقِيعَة فِي السَّلَف وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَهْل الرِّدَّة كَانُوا أَصْنَافًا مِنْهُمْ مَنْ اِرْتَدَّ عَنْ الْمِلَّة وَدَعَا إِلَى نُبُوَّة مُسَيْلَمَة وَغَيْره، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَأَنْكَرَ الشَّرَائِع كُلّهَا. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ الصَّحَابَة كُفَّارًا وَلِذَلِكَ رَأَى أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَبْي ذَرَارِيّهمْ وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَر الصَّحَابَة. وَاسْتَوْلَدَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ جَارِيَة مِنْ سَبْي بَنِي حَنِيفَة فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا الَّذِي يُدْعَى اِبْن الْحَنَفِيَّة. ثُمَّ لَمْ يَنْقَضِ عَصْر الصَّحَابَة حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدّ لَا يُسْبَى. فَأَمَّا مَانِعُوا الزَّكَاة مِنْهُمْ الْمُقِيمُونَ عَلَى أَصْل الدِّين فَإِنَّهُمْ أَهْل بَغْي وَلَمْ يُسَمُّوا عَلَى الِانْفِرَاد مِنْهُمْ كُفَّارًا وَإِنْ كَانَتْ الرِّدَّة قَدْ أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ لِمُشَارَكَتِهِمْ الْمُرْتَدِّينَ فِي مَنْعِ بَعْض مَا مَنَعُوهُ مِنْ حُقُوق الدِّين؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّة اِسْم لُغَوِيّ وَكُلّ مِنْ اِنْصَرَفَ عَنْ أَمْر كَانَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ فَقَدْ اِرْتَدَّ عَنْهُ وَقَدْ وُجِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْم الِانْصِرَاف عَنْ الطَّاعَة، وَمَنْعُ الْحَقّ، وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ اِسْم الثَّنَاء وَالْمَدْح بِالدِّينِ وَعَلَقَ بِهِمْ الِاسْم الْقَبِيح لِمُشَارَكَتِهِمْ الْقَوْم الَّذِينَ كَانَ اِرْتِدَادهمْ حَقًّا.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة} وَمَا اِدَّعَوْهُ مِنْ كَوْن الْخِطَاب خَاصًّا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ خِطَاب كِتَاب اللَّه تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه: خِطَاب عَام كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة} الْآيَة وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام} وَخِطَاب خَاصّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُشْرِكهُ فيه غَيْره وَهُوَ مَا أُبِينَ بِهِ عَنْ غَيْره بِسِمَةِ التَّخْصِيص وَقَطْعِ التَّشْرِيك كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَك} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِصَة لَك مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ} وَخِطَاب مُوَاجَهَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَجَمِيع أُمَّته فِي الْمُرَاد بِهِ سَوَاء كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاة لِدُلُوك الشَّمْس}. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآن فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْت فيهمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاة} وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ خِطَاب الْمُوَاجَهَة. فَكُلّ ذَلِكَ غَيْر مُخْتَصّ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ تُشَارِكهُ فيه الْأُمَّة فَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة} فَعَلَى الْقَائِم بَعْده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِ الْأُمَّة أَنْ يَحْتَذِيَ حَذْوه فِي أَخْذهَا مِنْهُمْ وَإِنَّمَا الْفَائِدَة فِي مُوَاجَهَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ أَنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالْمُبَيِّن عَنْهُ مَعْنَى مَا أَرَادَ فَقَدَّمَ اِسْمه فِي الْخِطَاب لِيَكُونَ سُلُوك الْأَمْر فِي شَرَائِع الدِّين عَلَى حَسَب مَا يَنْهَجهُ وَيُبَيِّنهُ لَهُمْ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فَافْتَتَحَ الْخِطَاب بِالنُّبُوَّةِ بِاسْمِهِ خُصُوصًا ثُمَّ خَاطَبَهُ وَسَائِر أُمَّته بِالْحُكْمِ عُمُومًا وَرُبَّمَا كَانَ الْخِطَاب لَهُ مُوَاجَهَة وَالْمُرَاد غَيْره كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْت فِي شَكّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْك فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَاب مِنْ قَبْلِك} إِلَى قَوْله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ} وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَكّ قَطُّ فِي شَيْء مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ. فَأَمَّا التَّطْهِير وَالتَّزْكِيَة وَالدُّعَاء مِنْ الْإِمَام لِصَاحِبِ الصَّدَقَة فَإِنَّ الْفَاعِل فيها قَدْ يَنَال ذَلِكَ كُلّه بِطَاعَةِ اللَّه وَطَاعَة رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها وَكُلّ ثَوَاب مَوْعُود عَلَى عَمَل فِي زَمَنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ بَاقٍ غَيْر مُنْقَطِع. وَيُسْتَحَبّ لِلْإِمَامِ وَعَامِل الصَّدَقَة أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُصَدِّقِ بِالنَّمَاءِ وَالْبَرَكَة فِي مَاله، وَيُرْجَى أَنْ يَسْتَجِيب اللَّه ذَلِكَ وَلَا يُخَيِّبَ مَسْأَلَته. فَإِنْ قِيلَ كَيْف تَأَوَّلْت أَمْر الطَّائِفَة الَّتِي مَنَعَتْ الزَّكَاة عَلَى الْوَجْه الَّذِي ذَهَبْت إِلَيْهِ وَجَعَلْتهمْ أَهْل بَغْي؟ وَهَلْ إِذَا أَنْكَرَت طَائِفَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَاننَا فَرْض الزَّكَاة وَامْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا يَكُون حُكْمهمْ حُكْم أَهْل الْبَغْي؟ قُلْنَا: لَا فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ فَرْضَ الزَّكَاة فِي هَذِهِ الْأَزْمَان كَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْفَرْق بَيْن هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا عُذِرُوا لِأَسْبَابٍ وَأُمُور لَا يَحْدُث مِثْلهَا فِي هَذَا الزَّمَان، مِنْهَا قُرْبُ الْعَهْد بِزَمَانِ الشَّرِيعَة الَّذِي كَانَ يَقَع فيه تَبْدِيل الْأَحْكَام بِالنَّسْخِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْقَوْم كَانُوا جُهَّالًا بِأُمُورِ الدِّين وَكَانَ عَهْدهمْ بِالْإِسْلَامِ قَرِيبًا فَدَخَلَتْهُمْ الشُّبْهَة فَعُذِرُوا. فَأَمَّا الْيَوْم وَقَدْ شَاعَ دِينُ الْإِسْلَام وَاسْتَفَاضَ فِي الْمُسْلِمِينَ عِلْمُ وُجُوب الزَّكَاة حَتَّى عَرَفَهَا الْخَاصّ وَالْعَامّ، وَاشْتَرَكَ فيه الْعَالِم وَالْجَاهِل، فَلَا يُعْذَر أَحَد بِتَأْوِيلِ يَتَأَوَّلهُ فِي إِنْكَارهَا. وَكَذَلِكَ الْأَمْر فِي كُلّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَيْهِ مِنْ أُمُور الدِّين إِذَا كَانَ عِلْمه مُنْتَشِرًا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْس وَصَوْم شَهْر رَمَضَان وَالِاغْتِسَال مِنْ الْجَنَابَة وَتَحْرِيم الزِّنَا وَالْخَمْر وَنِكَاح ذَوَات الْمَحَارِم وَنَحْوهَا مِنْ الْأَحْكَام إِلَّا أَنْ يَكُون رَجُلًا حَدِيث عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَعْرِف حُدُوده فَإِنَّهُ إِذَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْهَا جَهْلًا بِهِ لَمْ يَكْفُر، وَكَانَ سَبِيله سَبِيل أُولَئِكَ الْقَوْم فِي بَقَاء اِسْم الدِّين عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَا كَانَ الْإِجْمَاع فيه مَعْلُومًا مِنْ طَرِيق عِلْم الْخَاصَّة كَتَحْرِيمِ نِكَاح الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتهَا وَخَالَتهَا، وَأَنَّ الْقَاتِل عَمْدًا لَا يَرِث وَأَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُس، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَام فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَهَا لَا يَكْفُر، بَلْ يُعْذَر فيها لِعَدَمِ اِسْتِفَاضَة عِلْمهَا فِي الْعَامَّة.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَإِنَّمَا عَرَضَتْ الشُّبْهَة لِمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْوَجْه الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ لِكَثْرَةِ مَا دَخَلَهُ مِنْ الْحَذْف فِي رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصْد بِهِ لَمْ يَكُنْ سِيَاق الْحَدِيث عَلَى وَجْهه وَذَكَرَ الْقِصَّة فِي كَيْفِيَّة الرِّدَّة مِنْهُمْ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ حِكَايَة مَا جَرَى بَيْن أَبِي بَكْرٍ وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَمَا تَنَازَعَاهُ فِي اِسْتِبَاحَة قِتَالهمْ وَيُشْبِه أَنْ يَكُون أَبُو هُرَيْرَة إِنَّمَا لَمْ يَعْنِ بِذِكْرِ جَمِيع الْقِصَّة اِعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَة الْمُخَاطَبِينَ بِهَا إِذْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا كَيْفِيَّة الْقِصَّة وَيُبَيِّن لَك أَنَّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مُخْتَصَر أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَأَنَسًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ رَوَيَاهُ بِزِيَادَةٍ لَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو هُرَيْرَة. فَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه، وَيُقِيمُوا الصَّلَاة وَيُؤْتُوا الزَّكَاة فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَام وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه» وَفِي رِوَايَة أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله، وَأَنْ يَسْتَقْبِلُوا قِبْلَتنَا، وَأَنْ يَأْكُلُوا ذَبِيحَتنَا، وَأَنْ يُصَلُّوا صَلَاتنَا. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا. لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ». وَاللَّهُ أَعْلَم. هَذَا آخِر كَلَام الْخَطَّابِيّ رَحِمَهُ اللَّه.
قُلْت: وَقَدْ ثَبَتَ فِي الطَّرِيق الثَّالِث الْمَذْكُور فِي الْكِتَاب مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» وَفِي اِسْتِدْلَال أَبِي بَكْر وَاعْتِرَاض عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَحْفَظَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَوَاهُ اِبْن عُمَر وَأَنَس وَأَبُو هُرَيْرَة وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة سَمِعُوا هَذِهِ الزِّيَادَات الَّتِي فِي رِوَايَاتهمْ فِي مَجْلِس آخَرَ، فَإِنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَوْ سَمِعَ ذَلِكَ لَمَا خَالَفَ، وَلَمَا كَانَ اِحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ؛ فَإِنَّهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَة حُجَّة عَلَيْهِ. وَلَوْ سَمِعَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هَذِهِ الزِّيَادَة لَاحْتَجَّ بِهَا، وَلَمَا اِحْتَجَّ بِالْقِيَاسِ وَالْعُمُوم. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «وَاَللَّه لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعه» هَكَذَا فِي مُسْلِم (عِقَالًا) وَكَذَا فِي بَعْض رِوَايَات الْبُخَارِيّ وَفِي بَعْضهَا (عَنَاقًا) بِفَتْحِ الْعَيْن وَبِالنُّونِ وَهِيَ الْأُنْثَى مِنْ وَلَد الْمَعْز وَكِلَاهُمَا صَحِيح وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ كَرَّرَ الْكَلَام مَرَّتَيْنِ فَقَالَ فِي مَرَّة عِقَالًا وَفِي الْأُخْرَى عَنَاقًا فَرُوِيَ عَنْهُ اللَّفْظَانِ. فَأَمَّا رِوَايَة الْعَنَاق فَهِيَ مَحْمُولَة عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ الْغَنَم صِغَارًا كُلّهَا بِأَنْ مَاتَتْ فِي بَعْض الْحَوْل فَإِذَا حَال حَوْل الْأُمَّهَات زَكَّى السِّخَال بِحَوْلِ الْأُمَّهَات سَوَاء بَقِيَ مِنْ الْأُمَّهَات شَيْء أَمْ لَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْأَنْمَاطِيّ مِنْ أَصْحَابنَا: لَا يُزَكَّى الْأَوْلَاد بِحَوْلِ الْأُمَّهَات إِلَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ الْأُمَّهَات نِصَاب.
وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ الْأُمَّهَات شَيْء. وَيُتَصَوَّر ذَلِكَ فِيمَا إِذَا مَاتَ مُعْظَم الْكِبَار وَحَدَثَتْ صِغَار فَحَال حَوْل الْكِبَار عَلَى بَقِيَّتهَا وَعَلَى الصِّغَار. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا رِوَايَة (عِقَالًا) فَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء قَدِيمًا وَحَدِيثًا فيها؛ فَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْعِقَالِ زَكَاة عَام وَهُوَ مَعْرُوف فِي اللُّغَة بِذَلِكَ. وَهَذَا قَوْل النَّسَائِيِّ وَالنَّضْر بْن شُمَيْلٍ وَأَبِي عُبَيْدَة وَالْمُبَرِّد وَغَيْرهمْ مِنْ أَهْل اللُّغَة، وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ الْفُقَهَاء، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْعِقَال يُطْلَق عَلَى زَكَاة الْعَام بِقَوْلِ عَمْرو بْن الْعَدَّاء. سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُك لَنَا سَبْدًا فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرو عِقَالَيْنِ أَرَادَ مُدَّة عِقَال فَنَصَبَهُ عَلَى الظَّرْف وَعَمْرو هَذَا السَّاعِي هُوَ عَمْرو بْن عُتْبَةَ بْن أَبِي سُفْيَان وَلَّاهُ عَمّه مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا صَدَقَات كَلْب فَقَالَ فيه قَائِلهمْ ذَلِكَ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْعِقَال الَّذِي هُوَ الْحَبْل الَّذِي يُعْقَل بِهِ الْبَعِير لَا يَجِب دَفْعه فِي الزَّكَاة فَلَا يَجُوز الْقِتَال عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحّ حَمْلُ الْحَدِيث عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ كَثِيرُونَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْعِقَالِ الْحَبْل الَّذِي يُعْقَل بِهِ الْبَعِير وَهَذَا الْقَوْل يُحْكَى عَنْ مَالِك وَابْن أَبِي ذِئْب وَغَيْرهمَا. وَهُوَ اِخْتِيَار صَاحِب التَّحْرِير وَجَمَاعَة مِنْ حُذَّاق الْمُتَأَخِّرِينَ.
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: قَوْل مَنْ قَالَ الْمُرَاد صَدَقَة عَام تَعَسُّف وَذَهَاب عَنْ طَرِيقَة الْعَرَب، لِأَنَّ الْكَلَام خَرَجَ مَخْرَج التَّضْيِيق وَالتَّشْدِيد وَالْمُبَالَغَة، فَتَقْتَضِي قِلَّة مَا عَلَّقَ بِهِ الْقِتَال وَحَقَارَته. وَإِذَا حُمِلَ عَلَى صَدَقَة الْعَام لَمْ يَحْصُل هَذَا الْمَعْنَى.
قَالَ: وَلَسْت أُشَبِّه هَذَا إِلَّا بِتَعَسُّفِ مَنْ قَالَ فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّه السَّارِق يَسْرِق الْبَيْضَة فَتُقْطَع يَده وَيَسْرِق الْحَبْلَ فَتُقْطَع يَده» إِنَّ الْمُرَاد بِالْبَيْضَةِ بَيْضَة الْحَدِيد الَّتِي يُغَطَّى بِهَا الرَّأْس فِي الْحَرْب وَبِالْحَبْلِ الْوَاحِد مِنْ حِبَال السَّفِينَة وَكُلّ وَاحِد مِنْ هَذَيْنِ يَبْلُغ دَنَانِير كَثِيرَة.
قَالَ بَعْض الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْل لَا يَجُوز عِنْد مَنْ يَعْرِف اللُّغَة وَمَخَارِج كَلَام الْعَرَب لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِع تَكْثِير لِمَا يَسْرِقهُ فَيَصْرِف إِلَيْهِ بَيْضَة تُسَاوِي دَنَانِير وَحَبْل لَا يَقْدِر السَّارِق عَلَى حَمْله. وَلَيْسَ مِنْ عَادَة الْعَرَب وَالْعَجَم أَنْ يَقُولُوا قَبَّحَ اللَّه فُلَانًا عَرَّضَ نَفْسه لِلضَّرْبِ فِي عِقْدِ جَوْهَر، وَتَعَرَّضَ لِعُقُوبَةِ الْغُلُول فِي جِرَاب مِسْكٍ. وَإِنَّمَا الْعَادَة فِي مِثْل هَذَا أَنْ يُقَال: لَعَنَهُ اللَّه تَعَرَّضَ لِقَطْعِ الْيَد فِي حَبْل رَثّ أَوْ فِي كُبَّة شَعْر. وَكُلّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا أَحْقَر كَانَ أَبْلَغَ. فَالصَّحِيح هُنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْعِقَال الَّذِي يُعْقَل بِهِ الْبَعِير، وَلَمْ يُرِدْ عَيْنه وَإِنَّمَا أَرَادَ قَدْرَ قِيمَته.
وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمُبَالَغَة. وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (عَنَاقًا). وَفِي بَعْضهَا (لَوْ مَنَعُونِي جَدْيًا أَذْوَطَ). وَالْأَذْوَط صَغِير الْفَكّ وَالذَّقَن. هَذَا آخِر كَلَام صَاحِب التَّحْرِير. وَهَذَا الَّذِي اِخْتَارَهُ هُوَ الصَّحِيح الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْره. وَعَلَى هَذَا اِخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِمَنَعُونِي عِقَالًا فَقِيلَ: قَدْرُ قِيمَته وَهُوَ ظَاهِر مُتَصَوَّر فِي زَكَاة الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْمُعَشَّرَات وَالْمَعْدِن وَالزَّكَاة وَزَكَاة الْفِطْر وَفِي الْمَوَاشِي أَيْضًا فِي بَعْض أَحْوَالهَا كَمَا إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ سِنّ فَلَمْ يَكُنْ عِنْده وَنَزَلَ إِلَى سِنّ دُونهَا وَاخْتَارَ أَنْ يَرُدّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَمَنَعَ مِنْ الْعِشْرِينَ قِيمَة عِقَال، وَكَمَا إِذَا كَانَتْ غَنَمه سِخَالًا وَفيها سَخْلَة فَمَنَعَهَا وَهِيَ تُسَاوِي عِقَالًا. وَنَظَائِر مَا ذَكَرْته كَثِيرَة مَعْرُوفَة فِي كُتُب الْفِقْه. وَإِنَّمَا ذَكَرْت هَذِهِ الصُّورَة تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرهَا، وَعَلَى أَنَّهُ مُتَصَوَّر وَلَيْسَ بِصَعْبٍ؛ فَإِنِّي رَأَيْت كَثِيرِينَ مِمَّنْ لَمْ يُعَان الْفِقْه يُسْتَصْعَب تَصَوُّرُهُ حَتَّى حَمَلَهُ بَعْضهمْ وَرُبَّمَا وَافَقَهُ بَعْض الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ وَلَيْسَ مُتَصَوَّرًا. وَهَذَا غَلَط قَبِيح وَجَهْل صَرِيح.
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّ مَعْنَاهُ مَنَعُونِي زَكَاة لِعِقَالٍ إِذَا كَانَ مِنْ عُرُوض التِّجَارَة. وَهَذَا تَأْوِيل صَحِيح أَيْضًا وَيَجُوز أَنْ يُرَاد مَنَعُونِي عِقَالًا أَيْ مَنَعُونِي الْحَبْل نَفْسه عَلَى مَذْهَب مَنْ يُجَوِّز الْقِيمَة وَيَتَصَوَّر عَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى أَحَد أَقْوَاله. فَإِنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْوَاجِب فِي عُرُوض التِّجَارَة ثَلَاثَة أَقْوَال أَحَدهَا: يَتَعَيَّن أَنْ يَأْخُذ مِنْهَا عَرَضًا حَبْلًا أَوْ غَيْره كَمَا يَأْخُذ مِنْ الْمَاشِيَة مِنْ جِنْسهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَأْخُذ إِلَّا دَرَاهِم أَوْ دَنَانِير رُبْع عُشْر قِيمَته كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّة.
وَالثَّالِث: يَتَخَيَّر بَيْن الْعَرَضِ وَالنَّقْد. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ الْعِقَال يُؤْخَذ مَعَ الْفَرِيضَة لِأَنَّ عَلَى صَاحِبهَا تَسْلِيمهَا وَإِنَّمَا يَقَع قَبْضهَا التَّامّ بِرِبَاطِهَا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ اِبْن عَائِشَة: كَانَ مِنْ عَادَة الْمُصَدِّق إِذَا أَخَذَ الصَّدَقَة أَنْ يَعْمِد إِلَى قَرَنٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَالرَّاء وَهُوَ حَبْل فَيُقْرَن بِهِ بَيْن بَعِيرَيْنِ أَيْ يَشُدّهُ فِي أَعْنَاقهمَا لِئَلَّا تَشْرُد الْإِبِل.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ عَلَى الصَّدَقَة فَكَانَ يَأْخُذ مَعَ كُلّ فَرِيضَتَيْنِ عِقَالهمَا وَقِرَانهمَا. وَكَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَيْضًا يَأْخُذ مَعَ كُلّ فَرِيضَة عِقَالًا وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّه تَعَالَى قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْر لِلْقِتَالِ فَعَرَفْت أَنَّهُ الْحَقّ) مَعْنَى رَأَيْت: عَلِمْت، وَأَيْقَنْت. وَمَعْنَى شَرَحَ: فَتَحَ، وَوَسَّعَ، وَلَيَّنَ وَمَعْنَاهُ: عَلِمْت بِأَنَّهُ جَازِم بِالْقِتَالِ لِمَا أَلْقَى اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي قَلْبه مِنْ الطُّمَأْنِينَة لِذَلِكَ، وَاسْتِصْوَابه ذَلِكَ. وَمَعْنَى قَوْله: «عَرَفْت أَنَّهُ الْحَقّ» أَيْ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ الدَّلِيل، وَأَقَامَهُ مِنْ الْحُجَّة، فَعَرَفْت بِذَلِكَ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ الْحَقّ لَا أَنَّ عُمَر قَلَّدَ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا؛ فَإِنَّ الْمُجْتَهِد لَا يُقَلِّد الْمُجْتَهِد.
وَقَدْ زَعَمَتْ الرَّافِضَة أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِنَّمَا وَافَقَ أَبَا بَكْر تَقْلِيدًا، وَبَنَوْهُ عَلَى مَذْهَبهمْ الْفَاسِد فِي وُجُوب عِصْمَة الْأَئِمَّة. وَهَذِهِ جَهَالَة ظَاهِرَة مِنْهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
30- فيه سَعِيد بْن الْمُسَيَّب وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُسَيَّب بِفَتْحِ الْيَاء عَلَى الْمَشْهُور وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا. وَفيه أَحْمَد اِبْن عَبْدَة بِإِسْكَانِ الْبَاء.
قَوْله: (أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَاله وَنَفْسه إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابه عَلَى اللَّه) قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: مَعْلُوم أَنَّ الْمُرَاد بِهَذَا أَهْل الْأَوْثَان دُون أَهْل الْكِتَاب لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ثُمَّ يُقَاتِلُونَ، وَلَا يُرْفَع عَنْهُمْ السَّيْف.
قَالَ: وَمَعْنَى وَحِسَابه عَلَى اللَّه أَيْ فِيمَا يَسْتَسِرّون بِهِ وَيُخْفُونَهُ دُون مَا يَخْلُونَ بِهِ فِي الظَّاهِر مِنْ الْأَحْكَام الْوَاجِبَة قَالَ: فَفيه أَنَّ مَنْ أَظْهَر الْإِسْلَام، وَأَسَرَّ الْكُفْر، قُبِلَ إِسْلَامه فِي الظَّاهِر. وَهَذَا قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء. وَذَهَبَ مَالِك إِلَى أَنَّ تَوْبَة الزِّنْدِيق لَا تُقْبَل، وَيُحْكَى ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. هَذَا كَلَام الْخَطَّابِيّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض مَعْنَى هَذَا، وَزَادَ عَلَيْهِ وَأَوْضَحَهُ فَقَالَ: اِخْتِصَاص عِصْمَة الْمَال وَالنَّفْس بِمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه تَعْبِير عَنْ الْإِجَابَة إِلَى الْإِيمَان، وَأَنَّ الْمُرَاد بِهَذَا مُشْرِكُو الْعَرَب وَأَهْل الْأَوْثَان وَمَنْ لَا يُوَحِّد. وَهُمْ كَانُوا أَوَّل مَنْ دُعِيَ إِلَى الْإِسْلَام وَقُوتِلَ عَلَيْهِ. فَأَمَّا غَيْرهمْ مِمَّنْ يُقِرّ بِالتَّوْحِيدِ فَلَا يَكْتَفِي فِي عِصْمَته بِقَوْلِهِ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه إِذْ كَانَ يَقُولهَا فِي كُفْره، وَهِيَ مِنْ اِعْتِقَاده، فَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخَر: «وَأَنِّي رَسُول اللَّه، وَيُقِيم الصَّلَاة، وَيُؤْتِي الزَّكَاة» هَذَا كَلَام الْقَاضِي. قُلْت ولابد مَعَ هَذَا مِنْ الْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَأَبِي هُرَيْرَة هِيَ مَذْكُورَة فِي الْكِتَاب: «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ» وَاللَّهُ أَعْلَم.
قُلْت اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي قَبُول تَوْبَة الزِّنْدِيق هُوَ الَّذِي يُنْكِر الشَّرْع جُمْلَة فَذَكَرُوا فيه خَمْسَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا أَصَحّهَا وَالْأَصْوَب مِنْهَا قَبُولهَا مُطْلَقًا لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمُطْلَقَة.
وَالثَّانِي: لَا تُقْبَل وَيَتَحَتَّم قَتْله، لَكِنَّهُ إِنْ صَدَقَ فِي تَوْبَته نَفَعَهُ ذَلِكَ فِي الدَّار الْآخِرَة وَكَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة.
وَالثَّالِث: إِنْ تَابَ مَرَّة وَاحِدَة قُبِلَتْ تَوْبَته، فَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ تُقْبَل.
وَالرَّابِع: إِنْ أَسْلَمَ اِبْتِدَاء مِنْ غَيْر طَلَب قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَحْت السَّيْف فَلَا.
وَالْخَامِس: إِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَى الضَّلَال لَمْ يُقْبَل مِنْهُ، وَإِلَّا قُبِلَ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «وَاَللَّه لَأُقَاتِلَنّ مَنْ فَرَّقَ بَيْن الصَّلَاة وَالزَّكَاة» ضَبْطنَا بِوَجْهَيْنِ فَرَقَ وَفَرَّقَ بِتَشْدِيدِ الرَّاء وَتَخْفِيفهَا وَمَعْنَاهُ مَنْ أَطَاعَ فِي الصَّلَاة وَجَحَدَ الزَّكَاة أَوْ مَنَعَهَا. وَفيه جَوَاز الْحَلِف وَإِنْ كَانَ فِي غَيْر مَجْلِس الْحَاكِم، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ لِحَاجَةٍ مِنْ تَفْخِيم أَمْر وَنَحْوه.
31- فيه أُمَيَّة بْن بِسِطَامِ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْبَاب قَبْله.
(عَبْد الْعَزِيز الدَّرَاوَرْدِيّ) وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّال الْمُهْمَلَة وَبَعْدهَا رَاء ثُمَّ أَلِف ثُمَّ وَاو مَفْتُوحَة ثُمَّ رَاء أُخْرَى سَاكِنَة ثُمَّ دَال أُخْرَى ثُمَّ يَاء النَّسَب وَاخْتُلِفَ فِي وَجْه نِسْبَته. فَالْأَصَحّ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ نِسْبَة إِلَى دَرَابَجِرْد بِفَتْحِ الدَّال الْأُولَى وَبَعْدهَا رَاء ثُمَّ أَلِف ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة مَفْتُوحَة ثُمَّ جِيم مَكْسُورَة ثُمَّ رَاء سَاكِنَة ثُمَّ دَال. فَهَذَا قَوْل جَمَاعَات مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة وَاللُّغَة مِنْهُمْ الْأَصْمَعِيّ وَأَبُو حَاتِم السِّجِسْتَانِيّ.
وَقَالَهُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ أَبُو عَبْد اللَّه الْبُخَارِيّ الْإِمَام، وَأَبُو حَاتِم بْن حِبَّان الْبُسْتِيّ، وَأَبُو نَصْر الْكَلَابَاذِيّ، وَغَيْرهمْ قَالُوا: وَهُوَ مِنْ شَوَاذّ النَّسَب قَالَ أَبُو حَاتِم وَأَصْله دِرَابِي أَوْ جَرْدِي وَدِرَابِي أَجْوَد، قَالُوا: وَدَرَابَجِرْد مَدِينَة بِفَارِسِ.
قَالَ الْبُخَارِيّ وَالْكَلَاباذِيّ: كَانَ جَدّ عَبْد الْعَزِيز هَذَا مِنْهَا.
وَقَالَ الْبُسْتِيّ: كَانَ أَبُوهُ مِنْهَا.
وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة وَجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْحَدِيث: هُوَ مَنْسُوب إِلَى دَرَاوَرْد. ثُمَّ قِيلَ: دَرَاوَرْد هِيَ دَرَابَجِرْد.
وَقِيلَ: بَلْ هِيَ قَرْيَة بِخُرَاسَان.
وَقَالَ السَّمْعَانِيّ فِي كِتَاب الْأَنْسَاب قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ أَنْدَرَابَه يَعْنِي بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَبَعْدهَا نُون سَاكِنَة ثُمَّ دَال مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ رَاء ثُمَّ أَلِف ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة ثُمَّ هَاء وَهِيَ مَدِينَة مِنْ عَمَل بَلْخ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ السَّمْعَانِيّ لَائِق بِقَوْلِ مَنْ يَقُول فيه الْأَنْدَرَاوَرْدِيّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ» فيه بَيَان مَا اِخْتَصَرَ فِي الرِّوَايَات الْأُخَر مِنْ الِاقْتِصَار عَلَى قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان هَذَا. وَفيه دَلَالَة ظَاهِرَة لِمَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ وَالْجَمَاهِير مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف أَنَّ الْإِنْسَان إِذَا اِعْتَقَدَ دِين الْإِسْلَام اِعْتِقَادًا جَازِمًا لَا تَرَدُّد فيه كَفَاهُ ذَلِكَ وَهُوَ مُؤْمِن مِنْ الْمُوَحِّدِينَ وَلَا يَجِب عَلَيْهِ تَعَلُّم أَدِلَّة الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَعْرِفَة اللَّه تَعَالَى بِهَا، خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي كَوْنه مِنْ أَهْل الْقِبْلَة، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَكُون لَهُ حُكْم الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِهِ. وَهَذَا الْمَذْهَب هُوَ قَوْل كَثِير مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَبَعْض أَصْحَابنَا الْمُتَكَلِّمِينَ. وَهُوَ خَطَأ ظَاهِر فَإِنَّ الْمُرَاد التَّصْدِيق الْجَازِم، وَقَدْ حَصَلَ، وَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِكْتَفَى بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَشْتَرِط الْمَعْرِفَة بِالدَّلِيلِ؛ فَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِهَذَا أَحَادِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ يَحْصُل بِمَجْمُوعِهَا التَّوَاتُر بِأَصْلِهَا وَالْعِلْم الْقَطْعِيّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقَاعِدة فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان وَاللَّهُ أَعْلَم.
32- فيه حَفْص بْن غِيَاث عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي سُفْيَان عَنْ جَابِر وَعَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة. فَقَوْله عَنْ أَبِي صَالِح يَعْنِي رَوَاهُ الْأَعْمَش أَيْضًا عَنْ أَبِي صَالِح.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اِسْم أَبِي هُرَيْرَة عَبْد الرَّحْمَن بْن صَخْر عَلَى الْأَصَحّ مِنْ نَحْو ثَلَاثِينَ قَوْلًا، وَأَنَّ اِسْم أَبِي صَالِح ذَكْوَانُ السَّمَّان، وَأَنَّ اِسْم أَبِي سُفْيَان طَلْحَة اِبْن نَافِع، وَأَنَّ اِسْم الْأَعْمَش سُلَيْمَان بْن مِهْرَانَ.
وَأَمَّا (غِيَاث) فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَآخِره مُثَلَّثَة.
وَفيه (أَبُو الزُّبَيْر) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَاب الْإِيمَان أَنَّ اِسْمه مُحَمَّد بْن مُسْلِم بْن تَدْرُس بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة فَوْق.
قَوْله: (ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر لَسْت عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر}) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا أَنْتَ وَاعِظ. وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ إِذْ ذَاكَ إِلَّا بِالتَّذْكِيرِ، ثُمَّ أُمِرَ بَعْد بِالْقِتَالِ. وَالْمُسَيْطِر: الْمُسَلَّط وَقِيلَ: الْجَبَّار. قِيلَ: الرَّبّ. وَاَللَّه أَعْلَم. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث بِطُرُقِهِ مُشْتَمِل عَلَى أَنْوَاع مِنْ الْعُلُوم وَجُمَل مِنْ الْقَوَاعِد وَأَنَا أُشِير إِلَى أَطْرَاف مِنْهَا مُخْتَصَرَة؛ فَفيه أَدَلّ دَلِيل عَلَى شَجَاعَة أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَتَقَدُّمه فِي الشَّجَاعَة وَالْعِلْم عَلَى غَيْره. فَإِنَّهُ ثَبَتَ لِلْقِتَالِ فِي هَذَا الْمَوْطِن الْعَظِيم الَّذِي هُوَ أَكْبَرَ نِعْمَة أَنْعَمَ اللَّه تَعَالَى بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَنْبَطَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ الْعِلْم بِدَقِيقِ نَظَرِهِ وَرَصَانَة فِكْرِهِ مَا لَمْ يُشَارِكهُ فِي الِابْتِدَاء بِهِ غَيْره. فَلِهَذَا وَغَيْره مِمَّا أَكْرَمَهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ أَجْمَع أَهْل الْحَقّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَل أُمَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي مَعْرِفَة رُجْحَانه أَشْيَاء كَثِيرَة مَشْهُورَة فِي الْأُصُول وَغَيْرهَا.
وَمِنْ أَحْسَنهَا كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ لِلْإِمَامِ أَبِي الْمُظَفَّر مَنْصُور بْن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ الشَّافِعِيّ. وَفيه جَوَاز مُرَاجَعَة الْأَئِمَّة وَالْأَكَابِر وَمُنَاظَرَتهمْ لِإِظْهَارِ الْحَقّ. وَفيه أَنَّ الْإِيمَان شَرْطه الْإِقْرَار بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ اِعْتِقَادهمَا وَاعْتِقَاد جَمِيع مَا أَتَى بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ» وَفيه وُجُوب الْجِهَاد. وَفيه صِيَانَة مَال مَنْ أَتَى بِكَلِمَةِ التَّوْحِيد وَنَفْسه وَلَوْ كَانَ عِنْد السَّيْف. وَفيه أَنَّ الْأَحْكَام تَجْرِي عَلَى الظَّاهِر، وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِر. وَفيه جَوَاز الْقِيَاس وَالْعَمَل بِهِ. وَفيه وُجُوب قِتَال مَانِعِي الزَّكَاة أَوْ الصَّلَاة أَوْ غَيْرهمَا مِنْ وَاجِبَات الْإِسْلَام قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا لِقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا أَوْ عَنَاقًا». وَفيه جَوَاز التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ لِقَوْلِهِ: «فَإِنَّ الزَّكَاة حَقّ الْمَال». وَفيه وُجُوب قِتَال أَهْل الْبَغْي. وَفيه وُجُوب الزَّكَاة فِي السِّخَال تَبَعًا لِأُمَّهَاتِهَا وَفيه اِجْتِهَاد الْأَئِمَّة فِي النَّوَازِل. وَرَدّهَا إِلَى الْأُصُول، وَمُنَاظَرَة أَهْل الْعِلْم فيها، وَرُجُوع مَنْ ظَهَرَ لَهُ الْحَقّ إِلَى قَوْل صَاحِبه. وَفيه تَرْكُ تَخْطِئَة الْمُجْتَهِدِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْفُرُوع بَعْضهمْ بَعْضًا. وَفيه أَنَّ الْإِجْمَاع لَا يَنْعَقِد إِذَا خَالَفَ مِنْ أَهْل الْحَلّ وَالْعَقْد وَاحِد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَخَالَفَ فيه بَعْض أَصْحَاب الْأُصُول. وَفيه قَبُول تَوْبَة الزِّنْدِيق، وَقَدْ قَدَّمْت الْخِلَاف فيه وَاضِحًا. وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ، وَلَهُ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْفَضْل وَالْمِنَّة، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَة.
33- (أَبُو غَسَّان الْمِسْمَعِيّ مَالِك بْن عَبْد الْوَاحِد) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم الْأُولَى وَفَتْح الثَّانِيَة وَإِسْكَان الْمُهْمَلَة بَيْنهمَا مَنْسُوب إِلَى مِسْمَع بْن رَبِيعَة وَتَقَدَّمَ بَيَان صَرْف غَسَّان وَعَدَمه، وَأَنَّهُ يَجُوز الْوَجْهَانِ فيه.
وَفيه (وَاقِد بْن مُحَمَّد) وَهُوَ بِقَافِ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَافِد بِالْفَاءِ بَلْ كُلّه بِالْقَافِ.
34- قَوْله: (وَأَبُو مَالِك عَنْ أَبِيهِ) فَأَبُو مَالِك اِسْمه سَعْد بْن طَارِق. وَطَارِق صَحَابِيّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرهمَا فِي بَاب أَرْكَان الْإِسْلَام. وَتَقَدَّمَ فيه أَيْضًا أَنَّ أَبَا خَالِد اِسْمه سُلَيْمَان بْن حَيَّانِ بِالْمُثَنَّاةِ.