فصل: الدليل على أن مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.الدليل على أن مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا:

49- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْم الْإِيمَان مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا» قَالَ صَاحِب التَّحْرِير رَحِمَهُ اللَّه: مَعْنَى رَضِيت بِالشَّيْءِ قَنَعْت بِهِ وَاكْتَفَيْت بِهِ، وَلَمْ أَطْلُب مَعَهُ غَيْره. فَمَعْنَى الْحَدِيث لَمْ يَطْلُب غَيْر اللَّه تَعَالَى، وَلَمْ يَسْعَ فِي غَيْر طَرِيق الْإِسْلَام، وَلَمْ يَسْلُك إِلَّا مَا يُوَافِق شَرِيعَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَته فَقَدْ خَلَصَتْ حَلَاوَة الْإِيمَان إِلَى قَلْبه، وَذَاقَ طَعْمه.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: مَعْنَى الْحَدِيث صَحَّ إِيمَانه وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسه وَخَامَرَ بَاطِنه؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِالْمَذْكُورَاتِ دَلِيل لِثُبُوتِ مَعْرِفَته وَنَفَاذ بَصِيرَته وَمُخَالَطَة بَشَاشَته قَلْبه؛ لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ أَمْرًا سَهُلَ عَلَيْهِ. فَكَذَا الْمُؤْمِن إِذَا دَخَلَ قَلْبه الْإِيمَان سَهُلَ عَلَيْهِ طَاعَات اللَّه تَعَالَى، وَلَذَّتْ لَهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي الْإِسْنَاد الدَّرَاوَرْدِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْمُقَدِّمَة.
وَفيه يَزِيد بْن عَبْد اللَّه بْن الْهَادِ هُوَ يَزِيد بْن عَبْد اللَّه بْن أُسَامَة بْن الْهَادِ. هَكَذَا يَقُولهُ الْمُحَدِّثُونَ الْهَادِ مِنْ غَيْر يَاء وَالْمُخْتَار عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة فيه وَفِي نَظَائِره بِالْيَاءِ كَالْعَاصِي وَابْن أَبِي الْمَوَالِي. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ أَفْرَاد مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه لَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي صَحِيحه.

.بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء:

50- قَوْله: (أَبُو عَامِر الْعَقَدِيُّ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَالْقَاف. وَاسْمه عَبْد الْمَلِك بْن عَمْرو بْن قَيْس.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه وَاضِحًا فِي أَوَّل الْمُقَدِّمَة فِي بَاب النَّهْي عَنْ الرِّوَايَة عَنْ الضُّعَفَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَان بِضْع وَسَبْعُونَ شُعْبَة» هَكَذَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي عَامِر الْعَقَدِيّ عَنْ سُلَيْمَان بْن بِلَال عَنْ عَبْد اللَّه بْن دِينَار عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَة زُهَيْر عَنْ جَرِير عَنْ سُهَيْل عَنْ عَبْد اللَّه بْن دِينَار عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِضْع وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْع وَسِتُّونَ كَذَا وَقَعَ فِي مُسْلِم مِنْ رِوَايَة سُهَيْل بِضْع وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْع وَسِتُّونَ عَلَى الشَّكِّ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّل الْكِتَاب مِنْ رِوَايَة الْعَقَدِيِّ بِضْع وَسِتُّونَ بِلَا شَكٍّ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرهمَا مِنْ رِوَايَة سُهَيْل بِضْع وَسَبْعُونَ بِلَا شَكٍّ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيقٍ آخَر وَقَالَ فيه أَرْبَعَة وَسِتُّونَ بَابًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الرَّاجِحَة مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الصَّوَاب مَا وَقَعَ فِي سَائِر الْأَحَادِيث وَلِسَائِرِ الرُّوَاة بِضْع وَسِتُّونَ وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: هَذَا الشَّكُّ الْوَاقِع فِي رِوَايَة سُهَيْل هُوَ مِنْ سُهَيْل. كَذَا.
قَالَهُ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّه.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُهَيْل بِضْع وَسَبْعُونَ مِنْ غَيْر شَكٍّ.
وَأَمَّا سُلَيْمَان بْن بِلَال فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَلَى الْقَطْع مِنْ غَيْر شَكٍّ وَهِيَ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَة أَخْرَجَاهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ غَيْر أَنَّهَا فِيمَا عِنْدنَا مِنْ كِتَاب مُسْلِم بِضْع وَسَبْعُونَ وَفِيمَا عِنْدنَا مِنْ كِتَاب الْبُخَارِيِّ بِضْع وَسِتُّونَ.
وَقَدْ نَقَلْت كُلّ وَاحِدَة عَنْ كُلّ وَاحِد مِنْ الْكِتَابَيْنِ وَلَا إِشْكَال فِي أَنَّ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا رِوَايَة مَعْرُوفَة فِي طُرُق رِوَايَات هَذَا الْحَدِيث وَاخْتَلَفُوا فِي التَّرْجِيح قَالَ: وَالْأَشْبَه بِالْإِتْقَانِ وَالِاحْتِيَاط تَرْجِيح رِوَايَة الْأَقَلّ.
قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ رِوَايَة الْأَكْثَر، وَإِيَّاهَا اِخْتَارَ أَبُو عَبْد اللَّه الْحَلِيمِيُّ؛ فَإِنَّ الْحُكْم لِمَنْ حَفِظَ الزِّيَادَة جَازِمًا بِهَا.
قَالَ الشَّيْخ: ثُمَّ إِنَّ الْكَلَام فِي تَعْيِين هَذِهِ الشُّعَب يَطُول وَقَدْ صُنِّفَتْ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَات. وَمِنْ أَغْزَرهَا فَوَائِد كِتَاب الْمِنْهَاج لِأَبِي عَبْد اللَّه الْحَلِيمِيِّ إِمَام الشَّافِعِيِّينَ بِبُخَارَى. وَكَانَ مِنْ رُفَعَاءِ أَئِمَّة الْمُسْلِمِينَ. وَحَذَا حَذْوه الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي كِتَابه الْجَلِيل الْحَفِيل كِتَاب شُعَب الْإِيمَان. هَذَا كَلَام الشَّيْخ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: الْبِضْع وَالْبِضْعَة بِكَسْرِ الْبَاء فيهمَا وَفَتْحهَا هَذَا فِي الْعَدَد فَأَمَّا بَضْعَة اللَّحْم فَبِالْفَتْحِ لَا غَيْر. وَالْبِضْع فِي الْعَدَد مَا بَيْن الثَّلَاث وَالْعَشْر.
وَقِيلَ: مِنْ ثَلَاث إِلَى تِسْع.
وَقَالَ الْخَلِيل: الْبِضْع سَبْع.
وَقِيلَ: مَا بَيْن اِثْنَيْنِ إِلَى عَشْرَة، وَمَا بَيْن اِثْنَيْ عَشْر إِلَى عِشْرِينَ. وَلَا يُقَال فِي اِثْنَيْ عَشْر. قُلْت: وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الْأَشْهُر الْأَظْهَر.
وَأَمَّا الشُّعْبَة فَهِيَ الْقِطْعَة مِنْ الشَّيْء فَمَعْنَى الْحَدِيث: بِضْع وَسَبْعُونَ خَصْلَة.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَصْل الْإِيمَان فِي اللُّغَة التَّصْدِيق، وَفِي الشَّرْع تَصْدِيق الْقَلْب وَاللِّسَان. وَظَوَاهِر الشَّرْع تُطْلِقهُ عَلَى الْأَعْمَال كَمَا وَقَعَ هُنَا (أَفْضَلهَا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه)، وَآخِرهَا (إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ الطَّرِيق)، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَان بِالْأَعْمَالِ، وَتَمَامه بِالطَّاعَاتِ، وَأَنَّ اِلْتِزَام الطَّاعَات وَضَمِّ هَذِهِ الشُّعَب مِنْ جُمْلَة التَّصْدِيق، وَدَلَائِل عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا خُلُق أَهْل التَّصْدِيق فَلَيْسَتْ خَارِجَة عَنْ اِسْم الْإِيمَان الشَّرْعِيِّ وَلَا اللُّغَوِيِّ.
وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ أَفْضَلهَا التَّوْحِيد الْمُتَعَيِّن عَلَى كُلّ أَحَد، وَاَلَّذِي لَا يَصِحّ شَيْء مِنْ الشُّعَب إِلَّا بَعْد صِحَّتِهِ. وَأَدْنَاهَا مَا يُتَوَقَّع ضَرَره بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ طَرِيقهمْ. وَبَقِيَ بَيْن هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ أَعْدَاد لَوْ تَكَلَّفَ الْمُجْتَهِد تَحْصِيلهَا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَشِدَّة التَّتَبُّع لَأَمْكَنَهُ.
وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْض مَنْ تَقَدَّمَ.
وَفِي الْحُكْم بِأَنَّ ذَلِكَ مُرَاد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُعُوبَة، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَلْزَم مَعْرِفَة أَعْيَانهَا، وَلَا يَقْدَح جَهْل ذَلِكَ فِي الْإِيمَان إِذْ أُصُول الْإِيمَان وَفُرُوعه مَعْلُومَة مُحَقَّقَة، وَالْإِيمَان بِأَنَّهَا هَذَا الْعَدَد وَاجِب فِي الْجُمْلَة. هَذَا كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه.
وَقَالَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو حَاتِم بْن حِبَّانَ بِكَسْرِ الْحَاء: تَتَبَّعْت مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث مُدَّة، وَعَدَدْت الطَّاعَات فَإِذَا هِيَ تَزِيد عَلَى هَذَا الْعَدَد شَيْئًا كَثِيرًا، فَرَجَعَتْ إِلَى السُّنَن فَعَدَدْت كُلّ طَاعَة عَدَّهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِيمَان فَإِذَا هِيَ تَنْقُص عَنْ الْبِضْع وَالسَّبْعِينَ، فَرَجَعَتْ إِلَى كِتَاب اللَّه تَعَالَى فَقَرَأَتْهُ بِالتَّدَبُّرِ وَعَدَدْت كُلّ طَاعَة عَدَّهَا اللَّه تَعَالَى مِنْ الْإِيمَان فَإِذَا هِيَ تَنْقُص عَنْ الْبِضْع وَالسَّبْعِينَ، فَضَمَمْت الْكِتَاب إِلَى السُّنَن، وَأَسْقَطَتْ الْمُعَاد فَإِذَا كُلّ شَيْء عَدَّهُ اللَّه تَعَالَى وَنَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِيمَان تِسْع وَسَبْعُونَ شُعْبَة لَا يَزِيد عَلَيْهَا وَلَا تَنْقُص، فَعَلِمَتْ أَنَّ مُرَاد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا الْعَدَد فِي الْكِتَاب وَالسُّنَن. وَذَكَرَ أَبُو حَاتِم رَحِمَهُ اللَّه جَمِيع ذَلِكَ فِي كِتَاب وَصْف الْإِيمَان وَشُعَبه وَذَكَرَ أَنَّ رِوَايَة مَنْ رَوَى بِضْع وَسِتُّونَ شُعْبَة أَيْضًا صَحِيحَة؛ فَإِنَّ الْعَرَب قَدْ تَذْكُر لِلشَّيْءِ عَدَدًا وَلَا تُرِيد نَفْي مَا سِوَاهُ. وَلَهُ نَظَائِر أَوْرَدَهَا فِي كِتَابه مِنْهَا فِي أَحَادِيث الْإِيمَان وَالْإِسْلَام. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
قَوْله: «وَالْحَيَاء شُعْبَة مِنْ الْإِيمَان» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «الْحَيَاء مِنْ الْإِيمَان» وَفِي الْأُخْرَى: «الْحَيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرِ» وَفِي الْأُخْرَى: «الْحَيَاء خَيْر كُلّه أَوْ قَالَ كُلّه خَيْر» الْحَيَاء مَمْدُود وَهُوَ الِاسْتِحْيَاء.
قَالَ الْإِمَام الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: قَالَ أَهْل اللُّغَة الِاسْتِحْيَاء مِنْ الْحَيَاة، وَاسْتَحْيَا الرَّجُل: مِنْ قُوَّة الْحَيَاة فيه لِشِدَّةِ عِلْمه بِمَوَاقِع الْعَيْب.
قَالَ: فَالْحَيَاء مِنْ قُوَّة الْحِسّ وَلُطْفه وَقُوَّة الْحَيَاة. وَرَوَيْنَا فِي رِسَالَة الْإِمَام الْأُسْتَاذ أَبِي الْقَاسِم الْقُشَيْرِيِّ عَنْ السَّيِّد الْجَلِيل أَبِي الْقَاسِم الْجُنَيْدِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: الْحَيَاء رُؤْيَة الْآلَاء أَيْ النِّعَم، وَرُؤْيَة التَّقْصِير، فَيَتَوَلَّد بَيْنهمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاء.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره مِنْ الشُّرَّاح: إِنَّمَا جُعِلَ الْحَيَاء مِنْ الْإِيمَان وَإِنْ كَانَ غَرِيزَة لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون تَخَلُّقًا وَاكْتِسَابًا كَسَائِرِ أَعْمَال الْبِرِّ، وَقَدْ يَكُون غَرِيزَة وَلَكِنَّ اِسْتِعْمَاله عَلَى قَانُونَ الشَّرْع يَحْتَاج إِلَى اِكْتِسَابٍ وَنِيَّة وَعِلْمِ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَان بِهَذَا، وَلِكَوْنِهِ بَاعِثًا عَلَى أَفْعَال الْبِرّ، وَمَانِعًا مِنْ الْمَعَاصِي.
وَأَمَّا كَوْن الْحَيَاء خَيْرًا كُلّه، وَلَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرِ فَقَدْ يَشْكُل عَلَى بَعْض النَّاس مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَاحِب الْحَيَاء قَدْ يَسْتَحْيِي أَنْ يُوَاجِه بِالْحَقِّ مَنْ يُجِلُّهُ، فَيَتْرُك أَمْره بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيه عَنْ الْمُنْكَر.
وَقَدْ يَحْمِلهُ الْحَيَاء عَلَى الْإِخْلَال بِبَعْضِ الْحُقُوق وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوف فِي الْعَادَة. وَجَوَاب هَذَا مَا أَجَابَ بِهِ جَمَاعَة مِنْ الْأَئِمَّة مِنْهُمْ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ هَذَا الْمَانِع الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ بِحَيَاءٍ حَقِيقَة بَلْ هُوَ عَجْز وَخَوَر وَمَهَانَة وَإِنَّمَا تَسْمِيَته حَيَاء مِنْ إِطْلَاق بَعْض أَهْل الْعُرْف أَطْلَقُوهُ مَجَازًا لِمُشَابَهَتِهِ الْحَيَاء الْحَقِيقِيَّ وَإِنَّمَا حَقِيقَة الْحَيَاء خُلُق يَبْعَث عَلَى تَرْك الْقَبِيح، وَيَمْنَع مِنْ التَّقْصِير فِي حَقّ ذِي الْحَقّ، وَنَحْو هَذَا، وَيَدُلّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْجُنَيْدِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَاَللَّه أَعْلَم.
51- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ الطَّرِيق» أَيْ تَنْحِيَته وَإِبْعَاده. وَالْمُرَاد بِالْأَذَى كُلّ مَا يُؤْذِي مِنْ حَجَر أَوْ مَدَر أَوْ شَوْك أَوْ غَيْره.
52- قَوْله: «يَعِظ أَخَاهُ فِي الْحَيَاء» أَيْ يَنْهَاهُ عَنْهُ، وَيُقَبِّح لَهُ فِعْله، وَيَزْجُرهُ عَنْ كَثْرَته. فَنَهَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاء مِنْ الْإِيمَان. أَيْ دَعْهُ عَلَى فِعْل الْحَيَاء وَكُفَّ عَنْ نَهْيه. وَوَقَعَتْ لَفْظَة (دَعْهُ) فِي الْبُخَارِيِّ وَلَمْ تَقَع فِي مُسْلِم.
53- قَوْل مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى وَمُحَمَّد بْن بَشَّار قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا السَّوَّار يُحَدِّث أَنَّهُ سَمِعَ عِمْرَانَ بْن الْحُصَيْن) وَقَالَ مُسْلِم فِي الطَّرِيق الثَّانِي (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن حَبِيب الْحَارِثِيِّ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ إِسْحَاق وَهُوَ اِبْن سُوَيْد أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَدَّثَ قَالَ: كُنَّا عِنْد عِمْرَانَ بْن الْحُصَيْن فِي رَهْط فَحَدَّثَنَا إِلَى آخِره)، هَذَانِ الْإِسْنَادَانِ كُلّهمْ بَصْرِيُّونَ وَهَذَا مِنْ النَّفَائِس اِجْتِمَاع الْإِسْنَادَيْنِ فِي الْكِتَاب مُتَلَاصِقَيْنِ جَمِيعهمْ بَصْرِيُّونَ. وَشُعْبَة وَإِنْ كَانَ وَاسِطِيًّا فَهُوَ بَصْرِيٌّ أَيْضًا، فَكَانَ وَاسِطِيًّا بَصْرِيًّا فَإِنَّهُ اِنْتَقِلْ مِنْ وَاسِط إِلَى الْبَصْرَة وَاسْتَوْطَنَهَا.
وَأَمَّا (أَبُو السَّوَّار) فَهُوَ بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الْوَاو وَآخِره رَاءٌ وَاسْمه حَسَّان بْن حُرَيْثٍ الْعَدَوِيُّ.
وَأَمَّا (أَبُو قَتَادَةَ) هَذَا فَاسْمه تَمِيم بْن نُذَيْر بِضَمِّ النُّون وَفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة الْعَدَوِيُّ، وَيُقَال تَمِيم بْن الزُّبَيْر، وَيُقَال اِبْن يَزِيد بِالزَّايِ، ذَكَرَهُ الْحَاكِم أَبُو أَحْمَد.
54- وَأَمَّا الرَّهْط فَهُوَ مَا دُون الْعَشَرَة مِنْ الرِّجَال خَاصَّة لَا يَكُون فيهمْ اِمْرَأَة وَلَيْسَ لَهُ وَاحِد مِنْ اللَّفْظ وَالْجَمْع أَرْهُط وَأَرْهَاط وَأَرَاهِط وَأَرَاهِيط.
قَوْله: (فَقَالَ بُشَيْر بْن كَعْب إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْض الْكُتُب أَوْ الْحِكْمَة أَنَّ مِنْهُ سَكِينَة وَوَقَارًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ ضَعْف. فَغَضَب عِمْرَانُ حَتَّى اِحْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَالَ أَنَا أُحَدِّثُك عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُعَارِض فيه إِلَى قَوْله فَمَا زِلْنَا نَقُول: إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْد، إِنَّهُ لَا بَأْس بِهِ) أَمَّا (بُشَيْر) فَبِضَمِّ الْبَاء وَفَتْح الشِّين وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه وَبَيَان أَمْثَاله فِي آخَر الْفُصُول، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُوَ أَيْضًا فِي أَوَّل الْمُقَدِّمَة.
وَأَمَّا نُجَيْدُ فَبِضَمِّ النُّون وَفَتْح الْجِيم وَآخِره دَال مُهْمَلَة. وَأَبُو نُجَيْد هُوَ عِمْرَانُ بْن الْحُصَيْن كُنِّي بِابْنِهِ نُجَيْد.
وَأَمَّا الضَّعْف فَبِفَتْحِ الضَّاد وَضَمَّهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
وَقَوْله (حَتَّى اِحْمَرَّتَا عَيْنَاهُ) كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول وَهُوَ صَحِيح جَارٍ عَلَى لُغَة أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث وَمِثْله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} عَلَى أَحَد الْمَذَاهِب فيها وَمِثْله: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَة» وَأَشْبَاهه كَثِيرَة مَعْرُوفَة. وَرَوَيْنَاهُ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ (وَاحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ) مِنْ غَيْر أَلِفٍ وَهَذَا ظَاهِر.
وَأَمَّا إِنْكَار عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَلِكَوْنِهِ قَالَ: (مِنْهُ ضَعْف) بَعْد سَمَاعه قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَيْر كُلّه. وَمَعْنَى تُعَارِض تَأْتِي بِكَلَامٍ فِي مُقَابَلَته وَتَعْتَرِض بِمَا يُخَالِفهُ.
وَقَوْلهمْ: (إِنَّهُ مِنَّا لَا بَأْس بِهِ) مَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُتَّهَم بِنِفَاقٍ أَوْ زَنْدَقَة أَوْ بِدْعَة أَوْ غَيْرهَا مِمَّا يُخَالِف بِهِ أَهْل الِاسْتِقَامَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْل مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: (أَنْبَأَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم أَنْبَأَنَا النَّضْر حَدَّثَنَا أَبُو نَعَامَة الْعَدَوِيُّ قَالَ: سَمِعْت حُجَيْرَ بْن الرَّبِيع الْعَدَوِيَّ يَقُول: عَنْ عِمْرَانَ بْن الْحُصَيْن) هَذَا الْإِسْنَاد أَيْضًا كُلّه بَصْرِيُّونَ إِلَّا إِسْحَاق فَإِنَّهُ مَرْوَزِيُّ.
فَأَمَّا (النَّضْر) فَهُوَ اِبْن شُمَيْلٍ الْإِمَام الْجَلِيل.
وَأَمَّا (أَبُو نَعَامَة) فَبِفَتْحِ النُّون وَاسْمه عَمْرو بْن عِيسَى بْن سُوَيْد وَهُوَ مِنْ الثِّقَات الَّذِينَ اِخْتَلَطُوا قَبْل مَوْتهمْ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول وَبَعْدهَا أَنَّ مَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْمُخْتَلِطِينَ فَهُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ أَخَذَ عَنْهُمْ قَبْل الِاخْتِلَاط.
وَأَمَّا (حُجَيْرٌ) فَبِضَمِّ الْحَاء وَبَعْدهَا جِيم مَفْتُوحَة وَآخِره رَاءٌ. وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ وَلَهُ الْحَمْد وَالْمِنَّة.

.باب جَامِعِ أَوْصَافِ الإِسْلاَمِ:

55- قَوْله: «قُلْت يَا رَسُول اللَّه قُلْ لِي فِي الْإِسْلَام قَوْلًا لَا أَسْأَل عَنْهُ غَيْرك قَالَ: قُلْ آمَنْت بِاَللَّهِ ثُمَّ اِسْتَقِمْ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا مِنْ جَوَامِع كَلِمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُطَابِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا} أَيْ وَحَّدُوا اللَّه، وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ اِسْتَقَامُوا فَلَمْ يَحِيدُوا عَنْ التَّوْحِيد، وَالْتَزَمُوا طَاعَته سُبْحَانه وَتَعَالَى إِلَى أَنْ تُوُفُّوا عَلَى ذَلِكَ. وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيث إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. هَذَا آخَر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيع الْقُرْآن آيَة أَشَدّ وَلَا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَة وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ حِين قَالُوا: قَدْ أَسْرَعَ إِلَيْك الشَّيْب فَقَالَ: «شَيَّبَتْنِي هُود وَأَخَوَاتهَا» قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَته: الِاسْتِقَامَة دَرَجَة بِهَا كَمَالُ الْأُمُور وَتَمَامهَا، وَبِوُجُودِهَا حُصُول الْخَيْرَات وَنِظَامهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِيمًا فِي حَالَته ضَاعَ سَعْيه وَخَابَ جَهْده.
قَالَ: وَقِيلَ: الِاسْتِقَامَة لَا يُطِيقهَا إِلَّا الْأَكَابِر لِأَنَّهَا الْخُرُوج عَنْ الْمَعْهُودَات وَمُفَارَقَة الرُّسُوم وَالْعَادَات، وَالْقِيَام بَيْن يَدِي اللَّه تَعَالَى عَلَى حَقِيقَة الصِّدْق. وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا».
وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ الْخَصْلَة الَّتِي بِهَا كَمُلَتْ الْمَحَاسِن، وَبِفَقْدِهَا قَبُحَتْ الْمَحَاسِن. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَلَمْ يَرْوِ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه فِي صَحِيحه لِسُفْيَان بْن عَبْد اللَّه الثَّقَفِيِّ رَاوِي هَذَا الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيث، وَزَادَ فيه: «قُلْت: يَا رَسُول اللَّه مَا أَخْوَف مَا أَخَاف عَلَيّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسه ثُمَّ قَالَ: هَذَا» وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب بَيَانِ تَفَاضُلِ الإِسْلاَمِ وَأَيِّ أُمُورِهِ أَفْضَلُ:

56- فيه: عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْإِسْلَام خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِم الطَّعَام وَتَقْرَأ السَّلَام عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِف» وَفِي رِوَايَة: «أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانه وَيَده»، وَفِي رِوَايَة جَابِر: «الْمُسْلِم مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانه وَيَده» قَالَ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه: قَوْله: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْر؟ مَعْنَاهُ أَيُّ خِصَاله وَأُمُوره وَأَحْوَاله. قَالُوا: وَإِنَّمَا وَقَعَ اِخْتِلَاف الْجَوَاب فِي خَيْر الْمُسْلِمِينَ لِاخْتِلَافِ حَال السَّائِل وَالْحَاضِرِينَ؛ فَكَانَ فِي أَحَد الْمَوْضِعَيْنِ الْحَاجَة إِلَى إِفْشَاء السَّلَام وَإِطْعَام الطَّعَام أَكْثَر وَأَهَمُّ لِمَا حَصَلَ مِنْ إِهْمَالهمَا وَالتَّسَاهُل فِي أُمُورهمَا، وَنَحْو ذَلِكَ. وَفِي الْمَوْضِع الْآخَر إِلَى الْكَفّ عَنْ إِيذَاء الْمُسْلِمِينَ.
وَمَعْنَى: «تَقْرَأ السَّلَام عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِف» أَيْ تُسَلِّم عَلَى كُلّ مَنْ لَقِيته، عَرَفْته أَمْ لَمْ تَعْرِفهُ. وَلَا تَخُصّ بِهِ مَنْ تَعْرِفهُ كَمَا يَفْعَلهُ كَثِيرُونَ مِنْ النَّاس. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْعُمُوم مَخْصُوص بِالْمُسْلِمِينَ فَلَا يُسَلَّم اِبْتِدَاء عَلَى كَافِر. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث جُمَل مِنْ الْعِلْم. فَفيها الْحَثّ عَلَى إِطْعَام الطَّعَام وَالْجُود وَالِاعْتِنَاء بِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَفّ عَمَّا يُؤْذِيهِمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ سَبَب وَالْإِمْسَاك عَنْ اِحْتِقَارهمْ. وَفيها الْحَثّ عَلَى تَأَلُّف قُلُوب الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاع كَلِمَتهمْ وَتَوَادّهمْ وَاسْتِجْلَاب مَا يُحَصِّلُ ذَلِكَ.
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه: وَالْأُلْفَة إِحْدَى فَرَائِض الدِّينِ وَأَرْكَان الشَّرِيعَة وَنِظَام شَمْل الْإِسْلَام.
قَالَ: وَفيه بَذْل السَّلَام مَنْ عَرَفْت وَلِمَنْ لَمْ تَعْرِف وَإِخْلَاص الْعَمَل فيه لِلَّهِ تَعَالَى لَا مُصَانَعَة وَلَا مَلَقًا. وَفيه مَعَ ذَلِكَ اِسْتِعْمَال خُلُق التَّوَاضُع وَإِفْشَاء شِعَار هَذِهِ الْأُمَّة. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
وَأَمَّا أَسْمَاء رِجَال الْبَاب فَقَالَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه. فِي الْإِسْنَاد الْأَوَّل: (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن رُمْح بْن الْمُهَاجِر حَدَّثَنَا اللَّيْث عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب عَنْ أَبِي الْخَيْر عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو) يَعْنِي اِبْن الْعَاصِي قَالَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه: (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر أَحْمَد بْن عُمَر الْمِصْرِيُّ أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب عَنْ عَمْرو بْن الْحَارِثِ عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب عَنْ أَبِي الْخَيْر أَنَّهُ سَمِعَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا). وَهَذَانِ الْإِسْنَادَانِ كُلُّهُمْ مِصْرِيُّونَ أَئِمَّة جِلَّةٌ وَهَذَا مِنْ عَزِيز الْأَسَانِيد فِي مُسْلِمٍ بَلْ فِي غَيْره؛ فَإِنَّ اِتِّفَاق جَمِيع الرُّوَاة فِي كَوْنِهِمْ مِصْرِيِّينَ فِي غَايَة الْقِلَّة، وَيَزْدَاد قِلَّةً بِاعْتِبَارِ الْجَلَالَة.
فَأَمَّا (عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا) فَجَلَالَته وَفِقْهه وَكَثْرَة حَدِيثه وَشِدَّة وَرَعه وَزَهَادَته وَإِكْثَارَهُ مِنْ الصَّلَاة وَالصِّيَام وَسَائِر الْعِبَادَات وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاع الْخَيْر فَمَعْرُوفَة مَشْهُورَة لَا يُمْكِن اِسْتِقْصَاؤُهَا. فَرَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَأَمَّا (أَبُو الْخَيْر) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَاسْمه مَرْثَد بِالْمُثَلَّثَةِ اِبْن عَبْد اللَّه الْيَزَنِيُّ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة تَحْت وَالزَّاي مَنْسُوب إِلَى يَزَن بَطْن مِنْ حِمْيَر.
قَالَ أَبُو سَعِيد بْن يُونُس: كَانَ أَبُو الْخَيْر مُفْتِي أَهْل مِصْر فِي زَمَانه، مَاتَ سَنَة سَبْعِينَ مِنْ الْهِجْرَة.
وَأَمَّا (يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب) فَكُنْيَته أَبُو رَجَاء وَهُوَ تَابِعِيٌّ.
قَالَ اِبْن يُونُس: وَكَانَ مُفْتِي أَهْل مِصْر فِي زَمَانه، وَكَانَ حَلِيمًا عَاقِلًا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَر الْعِلْم بِمِصْرَ وَالْكَلَام فِي الْحَلَال وَالْحَرَام، وَقَبْل ذَلِكَ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِالْفِتَنِ وَالْمَلَاحِم وَالتَّرْغِيب فِي الْخَيْر.
وَقَالَ اللَّيْث بْن سَعْد: يَزِيد سَيِّدُنَا وَعَالِمنَا. وَاسْم أَبِي حَبِيب سُوَيْد.
وَأَمَّا اللَّيْث بْن سَعْد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِمَامَته وَجَلَالَته وَصِيَانَته وَبَرَاعَته وَشَهَادَة أَهْل عَصْره بِسَخَائِهِ وَسِيَادَته وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ جَمِيل حَالَاته أَشْهَر مِنْ أَنْ تُذْكَر، وَأَكْثَر مِنْ أَنْ تُحْصَر. وَيَكْفِي فِي جَلَالَته شَهَادَة الْإِمَامَيْنِ الْجَلِيلِينَ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ بَكِيرٍ- رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى- أَنَّ اللَّيْث أَفْقَه مِنْ مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. فَهَذَانِ صَاحِبَا مَالِك رَحِمَهُ اللَّه وَقَدْ شَهِدَا بِمَا شَهِدَا، وَهُمَا بِالْمَنْزِلَةِ الْمَعْرُوفَة مِنْ الْإِتْقَان وَالْوَرَع، وَإِجْلَال مَالِك، وَمَعْرِفَتهمَا بِأَحْوَالِهِ. هَذَا كُلُّهُ مَعَ مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ جَلَالَة مَالِك وَعِظَم فِقْهه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَالَ مُحَمَّد بْن رُمْح: كَانَ دَخْل اللَّيْث ثَمَانِينَ أَلْف دِينَار مَا أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى، عَلَيْهِ زَكَاة قَطُّ.
وَقَالَ قُتَيْبَة: لَمَّا قَدِمَ اللَّيْث أَهْدَى لَهُ مَالِك مِنْ طَرَف الْمَدِينَة، فَبَعَثَ إِلَيْهِ اللَّيْث أَلْفَ دِينَار. وَكَانَ اللَّيْث مُفْتِي أَهْل مِصْر فِي زَمَانه.
وَأَمَّا (مُحَمَّد بْن رُمْح) فَقَالَ: اِبْن يُونُس: هُوَ ثِقَة ثَبْت فِي الْحَدِيث وَكَانَ أَعْلَم النَّاس بِأَخْبَارِ الْبَلَد وَفِقْهه، وَكَانَ إِذَا شَهِدَ فِي كِتَاب دَارٍ عَلِمَ أَهْلُ الْبَلَد أَنَّهَا طَيِّبَة الْأَصْل. وَذَكَره النَّسَائِيُّ فَقَالَ: مَا أَخْطَأَ فِي حَدِيث، وَلَوْ كَتَبَ عَنْ مَالِك لَأَثْبَتّه فِي الطَّبَقَة الْأُولَى مِنْ أَصْحَاب مَالِك. وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرهمَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
57- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانه وَيَده» مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يُؤْذِ مُسْلِمًا بِقَوْلٍ وَلَا فِعْل. وَخَصَّ الْيَد بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مُعْظَم الْأَفْعَال بِهَا.
وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآن الْعَزِيز بِإِضَافَةِ الِاكْتِسَاب وَالْأَفْعَال إِلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانه وَيَده» قَالُوا: مَعْنَاهُ الْمُسْلِم الْكَامِل وَلَيْسَ الْمُرَاد نَفْي أَصْل الْإِسْلَام عَنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَة، بَلْ هَذَا كَمَا يُقَال: الْعِلْم مَا نَفَعَ، أَوْ الْعَالِم زَيْد أَيْ الْكَامِل، أَوْ الْمَحْبُوب. وَكَمَا يُقَال: النَّاس الْعَرَب، وَالْمَال الْإِبِلُ. فَكُلُّهُ عَلَى التَّفْضِيل لَا لِلْحَصْرِ. وَيَدُلّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيث قَوْله أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْر؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانه وَيَده» ثُمَّ إِنَّ كَمَالَ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِم مُتَعَلِّق بِخِصَالٍ أُخَرَ كَثِيرَة، وَإِنَّمَا خَصَّ مَا ذَكَرَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَاجَة الْخَاصَّة. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (عَبْد اللَّه بْن وَهْب) فَعِلْمه وَوَرَعه وَزُهْده وَحِفْظه وَإِتْقَانه وَكَثْرَة حَدِيثه وَاعْتِمَاد أَهْل مِصْرَ عَلَيْهِ وَإِخْبَارهمْ بِأَنَّ حَدِيث أَهْل مِصْر وَمَا وَالَاهَا يَدُور عَلَيْهِ فَكُلّه أَمْر مَعْرُوف مَشْهُور فِي كُتُب أَئِمَّة هَذَا الْفَنِّ.
وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ مَالِك بْن أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُب إِلَى أَحَد وَعَنْوَنَهُ بِالْفِقْهِ إِلَّا إِلَى اِبْن وَهْب رَحِمَهُ اللَّه.
وَأَمَّا (عَمْرو بْن الْحَارِثِ) فَهُوَ مُفْتِي أَهْل مِصْر فِي زَمَنه وَقَارِئِهِمْ.
قَالَ أَبُو زُرْعَة رَحِمَهُ اللَّه: لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِير فِي الْحِفْظ فِي زَمَنه وَقَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ أَحْفَظ النَّاس فِي زَمَانه، وَقَالَ مَالِك بْن أَنَس: عَمْرو بْن الْحَارِثِ دُرَّة الْغَوَّاص.
وَقَالَ: هُوَ مُرْتَفِع الشَّأْن.
وَقَالَ اِبْن وَهْب: سَمِعْت مِنْ ثَلَثِمِائَةٍ وَسَبْعِينَ شَيْخًا فَمَا رَأَيْت أَحْفَظ مِنْ عَمْرو بْن الْحَارِثِ. رَحِمَهُ اللَّه. وَاَللَّه أَعْلَم.
58- قَوْله: (أَبُو عَاصِم عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْر) أَمَّا (أَبُو عَاصِم) وَالضَّحَّاك بْن مُخَلَّد.
وَأَمَّا (بْن جُرَيْجٍ) فَهُوَ عَبْد الْمَلِكِ بْن عَبْد الْعَزِيز بْن جُرَيْجٍ.
وَأَمَّا (أَبُو الزُّبَيْر) فَهُوَ مُحَمَّد بْن مُسْلِم بْن تَدْرُسَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانهمْ.
59- وَقَوْله (أَبُو بُرْدَة عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى) فَأَبُو بُرْدَة الْأَوَّل اِسْمه بُرَيْد بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة: وَقَدْ سَمَّاهُ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى. وَأَبُو بُرْدَة الثَّانِي اُخْتُلِفَ فِي اِسْمِهِ. فَقَالَ الْجُمْهُور: اِسْمه عَامِر.
وَقَالَ يَحْيَى بْن مَعِينٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: عَامِرٌ. كَمَا قَالَ الْجُمْهُور. وَفِي الْأُخْرَى: الْحَارِثُ.
وَأَمَّا (أَبُو مُوسَى) فَهُوَ الْأَشْعَرِيُّ وَاسْمه عَبْد اللَّه بْن قَيْسٍ وَإِنَّمَا نَقْصِد بِذِكْرِ مِثْل هَذَا وَإِنْ كَانَ عِنْد أَهْل هَذَا الْفَنِّ مِنْ الْوَاضِحَات الْمَشْهُورَات الَّتِي لَا حَاجَة إِلَى ذِكْرِهَا لِكَوْنِ هَذَا الْكِتَاب لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْفُضَلَاءِ بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّن فِي هَذَا الْفَنّ. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.باب بَيَانِ خِصَالٍ مَنِ اتَّصَفَ بِهِنَّ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ:

60- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاث مَنْ كُنَّ فيه وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَان مَنْ كَانَ اللَّهَ وَرَسُوله أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْء لَا يُحِبّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَه أَنْ يَعُود فِي الْكُفْر بَعْد أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّه مِنْهُ كَمَا يَكْرَه أَنْ يُقْذَف فِي النَّار» وَفِي رِوَايَة: «مِنْ أَنْ يَرْجِع يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا»، هَذَا حَدِيث عَظِيمٌ أَصْل مِنْ أُصُول الْإِسْلَام.
قَالَ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه: مَعْنَى حَلَاوَة الْإِيمَان اِسْتِلْذَاذ الطَّاعَات وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّات فِي رِضَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيثَار ذَلِكَ عَلَى عَرَضِ الدُّنْيَا، وَمَحَبَّة الْعَبْد رَبّه- سُبْحَانه وَتَعَالَى- بِفِعْلِ طَاعَته، وَتَرْكِ مُخَالَفَته، وَكَذَلِكَ مَحَبَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا الْحَدِيث بِمَعْنَى الْحَدِيث الْمُتَقَدِّم: «ذَاقَ طَعْم الْإِيمَان مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا» وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَحَبَّة لِلَّهِ وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَة وَحُبُّ الْآدَمِيِّ فِي اللَّه وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَاهَة الرُّجُوع إِلَى الْكُفْر إِلَّا لِمَنْ قَوَّى بِالْإِيمَانِ يَقِينَهُ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسه، وَانْشَرَحَ لَهُ صَدْره، وَخَالَطَ لَحْمه وَدَمه. وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَجَدَ حَلَاوَته.
قَالَ: وَالْحُبُّ فِي اللَّه مِنْ ثَمَرَات حُبّ اللَّه.
قَالَ بَعْضهمْ: الْمَحَبَّة مُوَاطَأَة الْقَلْب عَلَى مَا يُرْضِي الرَّبّ سُبْحَانه؛ فَيُحِبّ مَا أَحَبَّ، وَيَكْرَه مَا كَرِهَ. وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَات الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذَا الْبَاب بِمَا لَا يَئُول إِلَى اِخْتِلَاف إِلَّا فِي اللَّفْظ. وَبِالْجُمْلَةِ أَصْل الْمَحَبَّة الْمَيْل إِلَى مَا يُوَافِق الْمُحِبِّ، ثُمَّ الْمَيْل قَدْ يَكُون لِمَا يَسْتَلِذُّهُ الْإِنْسَان، وَيَسْتَحْسِنهُ كَحُسْنِ الصُّورَة وَالصَّوْت وَالطَّعَام وَنَحْوهَا وَقَدْ يَسْتَلِذُّهُ بِعَقْلِهِ لِلْمَعَانِي الْبَاطِنَة كَمَحَبَّةِ الصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاء وَأَهْل الْفَضْل مُطْلَقًا، وَقَدْ يَكُون لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَدَفْعه الْمَضَارَّ وَالْمَكَارِهَ عَنْهُ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مَوْجُودَة فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا جَمَعَ مِنْ جَمَال الظَّاهِر وَالْبَاطِن، وَكَمَال خِلَال الْجَلَال، وَأَنْوَاع الْفَضَائِل، وَإِحْسَانه إِلَى جَمِيع الْمُسْلِمِينَ بِهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم، وَدَوَام النِّعَم، وَالْإِبْعَاد مِنْ الْجَحِيم.
وَقَدْ أَشَارَ بَعْضهمْ إِلَى أَنَّ هَذَا مُتَصَوَّر فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّ الْخَيْر كُلّه مِنْهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى.
قَالَ مَالِك وَغَيْره: الْمَحَبَّة فِي اللَّه مِنْ وَاجِبَات الْإِسْلَام. هَذَا كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعُود أَوْ يَرْجِع» فَمَعْنَاهُ يَصِير.
وَقَدْ جَاءَ الْعَوْد وَالرُّجُوع بِمَعْنَى الصَّيْرُورَة.
وَأَمَّا أَبُو قِلَابَةَ الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد فَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيف اللَّام وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَاسْمه عَبْد اللَّه بْن زَيْد.
61- وَأَمَّا قَوْل مُسْلِم: (حَدَّثَنَا اِبْن مُثَنَّى وَابْن بَشَّار قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر حَدَّثَنَا شُعْبَة قَالَ: سَمِعْت قَتَادَةَ يُحَدِّث عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) فَهَذَا إِسْنَادٌ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ شُعْبَة وَاسِطِيٌّ بَصْرِيٌّ. وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.باب وُجُوبِ مَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنَ الأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ:

62- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِن عَبْد حَتَّى أَكُون أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْله وَمَاله وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «مِنْ وَلَده وَوَالِده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ»، قَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يُرِدْ بِهِ حُبّ الطَّبْع، بَلْ أَرَادَ بِهِ حُبّ الِاخْتِيَار، لِأَنَّ حُبّ الْإِنْسَان نَفْسه طَبْعٌ وَلَا سَبِيل إِلَى قَلْبه.
قَالَ: فَمَعْنَاهُ لَا تَصْدُق فِي حُبِّي حَتَّى تُفْنِي فِي طَاعَتِي نَفْسك، وَتُؤْثِر رِضَايَ عَلَى هَوَاك، وَإِنْ كَانَ فيه هَلَاكك. هَذَا كَلَام الْخَطَّابِيِّ.
وَقَالَ اِبْن بَطَّال، وَالْقَاضِي عِيَاض، وَغَيْرهمَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ: الْمَحَبَّة ثَلَاثَة أَقْسَام مَحَبَّة إِجْلَال وَإِعْظَام كَمَحَبَّةِ الْوَالِد، وَمَحَبَّة شَفَقَة وَرَحْمَة كَمَحَبَّةِ الْوَلَد، وَمَحَبَّة مُشَاكَلَة وَاسْتِحْسَانٍ كَمَحَبَّةِ سَائِر النَّاس فَجَمَعَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْنَاف الْمَحَبَّة فِي مَحَبَّته.
قَالَ اِبْن بَطَّال رَحِمَهُ اللَّه: وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ مَنْ اِسْتَكْمَلَ الْإِيمَان عَلِمَ أَنَّ حَقّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكَدُ عَلَيْهِ مِنْ حَقّ أَبِيهِ وَابْنه وَالنَّاس أَجْمَعِينَ؛ لِأَنَّ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُنْقِذْنَا مِنْ النَّار، وَهُدِينَا مِنْ الضَّلَال.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: وَمِنْ مَحَبَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصْرَة سُنَّته، وَالذَّبِّ عَنْ شَرِيعَته، وَتَمَنِّي حُضُور حَيَاته؛ فَيَبْذُل مَاله وَنَفْسه دُونه.
قَالَ: وَإِذَا تَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ تَبَيَّنَ أَنَّ حَقِيقَة الْإِيمَان لَا يَتِمُّ إِلَّا بِذَلِكَ، وَلَا يَصِحّ الْإِيمَان إِلَّا بِتَحْقِيقِ إِعْلَاء قَدْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْزِلَته عَلَى كُلّ وَالِد، وَوَلَد، وَمُحْسِن، وَمُفَضَّل. وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِد هَذَا، وَاعْتَقَدَ سِوَاهُ، فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ. هَذَا كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا إِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّه: (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا عَبْد الْوَارِث عَنْ عَبْد الْعَزِيز عَنْ أَنَس) وَهَذَا الْإِسْنَاد رُوَاته بَصْرِيُّونَ كُلّهمْ. وَشَيْبَانُ بْن أَبِي شَيْبَة هَذَا هُوَ شَيْبَانُ بْن فَرُّوخ الَّذِي رَوَى عَنْهُ مُسْلِم فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ.
63- قَالَ مُسْلِم: (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُثَنَّى وَابْن بَشَّار قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر حَدَّثَنَا شُعْبَة قَالَ سَمِعْت قَتَادَةَ يُحَدِّث عَنْ أَنَس) وَهَذَا الْإِسْنَاد رُوَاته بَصْرِيُّونَ كُلُّهُمْ.