فصل: باب آخِرِ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ وَإِخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ:

قَوْله: (بَاب إِثْبَات الشَّفَاعَة وَإِخْرَاج الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّار) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: مَذْهَب أَهْل السُّنَّة جَوَاز الشَّفَاعَة عَقْلًا وَوُجُوبهَا سَمْعًا بِصَرِيحِ قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وَقَوْله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ اِرْتَضَى} وَأَمْثَالهمَا، وَبِخَبَرِ الصَّادِق صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَار الَّتِي بَلَغَتْ بِمَجْمُوعِهَا التَّوَاتُر بِصِحَّةِ الشَّفَاعَة فِي الْآخِرَة لِمُذْنِبِي الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَجْمَعَ السَّلَف وَالْخَلَف وَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ أَهْل السُّنَّة عَلَيْهَا، وَمَنَعَتْ الْخَوَارِج وَبَعْض الْمُعْتَزِلَة مِنْهَا، وَتَعَلَّقُوا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي تَخْلِيد الْمُذْنِبِينَ فِي النَّار، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعهُمْ شَفَاعَة الشَّافِعِينَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيم وَلَا شَفِيع يُطَاع} وَهَذِهِ الْآيَات فِي الْكُفَّار.
وَأَمَّا تَأْوِيلهمْ أَحَادِيث الشَّفَاعَة بِكَوْنِهَا فِي زِيَادَة الدَّرَجَات فَبَاطِل، وَأَلْفَاظ الْأَحَادِيث فِي الْكِتَاب وَغَيْره صَرِيحَة فِي بُطْلَان مَذْهَبهمْ وَإِخْرَاج مَنْ اِسْتَوْجَبَ النَّار، لَكِنَّ الشَّفَاعَة خَمْسَة أَقْسَام:
أَوَّلهَا: مُخْتَصَّة بِنَبِيِّنَا وَهِيَ الْإِرَاحَة مِنْ هَوْل الْمَوْقِف وَتَعْجِيل الْحِسَاب كَمَا سَيَأْتِي بَيَانهَا.
الثَّانِيَة: فِي إِدْخَال قَوْم الْجَنَّة بِغَيْرِ حِسَاب وَهَذِهِ وَرَدَتْ أَيْضًا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه.
الثَّالِثَة: الشَّفَاعَة لِقَوْمٍ اِسْتَوْجَبُوا النَّار فَيَشْفَع فيهمْ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَسَنُنَبِّهُ عَلَى مَوْضِعهَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
الرَّابِعَة: فِيمَنْ دَخَلَ النَّار مِنْ الْمُذْنِبِينَ فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيث بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ النَّار بِشَفَاعَةِ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَلَائِكَة وَإِخْوَانهمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يُخْرِج اللَّه تَعَالَى كُلّ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث: «لَا يَبْقَى فيها إِلَّا الْكَافِرُونَ».
الْخَامِسَة: فِي زِيَادَة الدَّرَجَات فِي الْجَنَّة لِأَهْلِهَا، وَهَذِهِ لَا يُنْكِرهَا الْمُعْتَزِلَة وَلَا يُنْكِرُونَ أَيْضًا شَفَاعَة الْحَشْر الْأَوَّل.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقَدْ عُرِفَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيض سُؤَال السَّلَف الصَّالِح رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ شَفَاعَة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَتهمْ فيها، وَعَلَى هَذَا لَا يُلْتَفَت إِلَى قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّهُ يُكْرَه أَنْ يَسْأَل الْإِنْسَان اللَّه تَعَالَى أَنْ يَرْزُقهُ شَفَاعَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِكَوْنِهَا لَا تَكُون إِلَّا لِلْمُذْنِبِينَ فَإِنَّهَا قَدْ تَكُون كَمَا قَدَّمْنَا لِتَخْفِيفِ الْحِسَاب، وَزِيَادَة الدَّرَجَات ثُمَّ كُلّ عَاقِل مُعْتَرِف بِالتَّقْصِيرِ، مُحْتَاج إِلَى الْعَفْو، غَيْر مُعْتَدّ بِعَمَلِهِ، مُشْفِق مِنْ أَنْ يَكُون مِنْ الْهَالِكِينَ، وَيَلْزَم هَذَا الْقَائِل أَلَّا يَدْعُو بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَة؛ لِأَنَّهَا لِأَصْحَابِ الذُّنُوب، وَهَذَا كُلّه خِلَاف مَا عُرِفَ مِنْ دُعَاء السَّلَف وَالْخَلَف. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه وَاَللَّه أَعْلَم.
270- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُخْرِجُونَ مِنْهَا حُمَمًا قَدْ اِمْتَحَشُوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَر الْحَيَاة أَوْ الْحَيَا فَيَنْبُتُونَ فيه كَمَا تَنْبُت الْحَبَّة» أَمَّا الْحُمَم فَتَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْبَاب السَّابِق وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاء وَفَتْح الْمِيم الْمُخَفَّفَة وَهُوَ الْفَحْم، وَقَدْ تَقَدَّمَ فيه بَيَان الْحَبَّة وَالنَّهَر وَبَيَان اِمْتَحَشُوا وَأَنَّهُ بِفَتْحِ التَّاء عَلَى الْمُخْتَار، وَقِيلَ بِضَمِّهَا وَمَعْنَاهُ: اِحْتَرَقُوا. وَقَوْله: (الْحَيَاة أَوْ الْحَيَا) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا وَفِي الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة مَالِك وَقَدْ صَرَّحَ الْبُخَارِيّ فِي أَوَّل صَحِيحه بِأَنَّ هَذَا الشَّكّ مِنْ مَالِك وَرِوَايَات غَيْره (الْحَيَاة) بِالتَّاءِ مِنْ غَيْر شَكّ، ثُمَّ إِنَّ (الْحَيَا) هُنَا مَقْصُور وَهُوَ الْمَطَر، سُمِّيَ حَيَا لِأَنَّهُ تَحْيَا بِهِ الْأَرْض، وَلِذَلِكَ هَذَا الْمَاء يَحْيَا بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَرِقُونَ وَتَحْدُث فيهمْ النَّضَارَة كَمَا يُحْدِث ذَلِكَ الْمَطَر فِي الْأَرْض. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (كَمَا تَنْبُت الْغُثَاء) هُوَ بِضَمِّ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة الْمُخَفَّفَة وَبِالْمَدِّ وَآخِره هَاء، وَهُوَ: كُلّ مَا جَاءَ بِهِ السَّيْل، وَقِيلَ الْمُرَاد مَا اِحْتَمَلَهُ السَّيْل مِنْ الْبُذُور، وَجَاءَ فِي غَيْر مُسْلِم كَمَا تَنْبُت الْحَبَّة فِي غُثَاء السَّيْل بِحَذْفِ الْهَاء مِنْ آخِره وَهُوَ مَا اِحْتَمَلَهُ السَّيْل مِنْ الزَّبَد وَالْعِيدَانِ وَنَحْوهمَا مِنْ الْأَقْذَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَفِي حَدِيث وُهَيْب كَمَا تَنْبُت الْحَبَّة فِي حَمِئَة أَوْ حَمِيلَة السَّيْل) أَمَّا الْأَوَّل: فَهُو: (حَمِئَة) بِفَتْحِ الْحَاء وَكَسْر الْمِيم وَبَعْدهَا هَمْزَة وَهِيَ الطِّين الْأَسْوَد الَّذِي يَكُون فِي أَطْرَاف النَّهَر.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُو: (حَمِيلَة) وَهِيَ وَاحِدَة الْحَمِيل الْمَذْكُور فِي الرِّوَايَات الْأُخْرَى بِمَعْنَى الْمَحْمُول وَهُوَ الْغُثَاء الَّذِي يَحْتَمِلهُ السَّيْل. وَاَللَّهُ أَعْلَم.
271- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْل النَّار الَّذِينَ هُمْ أَهْلهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فيها، وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ نَاس أَصَابَتْهُمْ النَّار بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَهُمْ إِمَاته حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أَذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِر ضَبَائِر فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَار الْجَنَّة، ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْل الْحِنَة أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْبُتُونَ نَبَات الْحَبَّة تَكُون فِي حَمِيل السَّيْل» هَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَم النُّسَخ (أَهْل النَّار)، وَفِي بَعْضهَا أَمَّا (أَهْل النَّار) بِزِيَادَةِ (أَمَّا) وَهَذَا أَوْضَح وَالْأَوَّل صَحِيح، وَتَكُون الْفَاء فِي (فَإِنَّهُمْ) زَائِدَة وَهُوَ جَائِز. وَقَوْله: (فَأَمَاتَهُمْ) أَيْ: أَمَاتَهُمْ إِمَاتَة، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ وَفِي بَعْض النُّسَخ: (فَأَمَاتَتْهُمْ) بِتَاءَيْنِ أَيْ: أَمَاتَتْهُمْ النَّار.
وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَالظَّاهِر وَاَللَّه أَعْلَم مِنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ الْكُفَّار الَّذِينَ هُمْ أَهْل النَّار وَالْمُسْتَحِقُّونَ لِلْخُلُودِ لَا يَمُوتُونَ فيها وَلَا يَحْيَوْنَ حَيَاة يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيَسْتَرِيحُونَ مَعَهَا كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّف عَنْهُمْ مِنْ عَذَابهَا} وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لَا يَمُوت فيها وَلَا يَحْيَى} وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَذْهَب أَهْل الْحَقّ أَنَّ نَعِيم أَهْل الْجَنَّة دَائِم، وَأَنَّ عَذَاب أَهْل الْخُلُود فِي النَّار دَائِم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنْ نَاس أَصَابَتْهُمْ النَّار» إِلَى آخِره. فَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُذْنِبِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُمِيتهُمْ اللَّه تَعَالَى إِمَاتَة بَعْد أَنْ يُعَذَّبُوا الْمُدَّة الَّتِي أَرَادَهَا اللَّه تَعَالَى، وَهَذِهِ الْإِمَاتَة إِمَاتَة حَقِيقِيَّة يَذْهَب مَعَهَا الْإِحْسَاس وَيَكُون عَذَابهمْ عَلَى قَدْر ذُنُوبهمْ، ثُمَّ يُمِيتهُمْ، ثُمَّ يَكُونُونَ مَحْبُوسِينَ فِي النَّار مِنْ غَيْر إِحْسَاس الْمُدَّة الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار مَوْتَى قَدْ صَارُوا فَحْمًا، فَيُحْمَلُونَ ضَبَائِر كَمَا تُحْمَل الْأَمْتِعَة وَيُلْقَوْنَ عَلَى أَنْهَار الْجَنَّة فَيُصَبّ عَلَيْهِمْ مَاء الْحَيَاة وَيَنْبُتُونَ نَبَات الْحَبَّة فِي حَمِيل السَّيْل فِي سُرْعَة نَبَاتهَا وَضَعْفهَا، فَتَخْرُج لِضَعْفِهَا صَفْرَاء مُلْتَوِيَة ثُمَّ تَشْتَدّ قُوَّتهمْ بَعْد ذَلِكَ وَيَصِيرُونَ إِلَى مَنَازِلهمْ وَتَكْمُل أَحْوَالهمْ، فَهَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْ لَفْظ الْحَدِيث وَمَعْنَاهُ. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه فيه وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهَا إِمَاتَة حَقِيقِيَّة، وَالثَّانِي: لَيْسَ بِمَوْتٍ حَقِيقِيّ، وَلَكِنْ تَغَيَّبَ عَنْهُمْ إِحْسَاسهمْ بِالْآلَامِ، قَالَ: وَيَجُوز أَنْ تَكُون آلَامهمْ أَخَفّ فَهَذَا كَلَام الْقَاضِي وَالْمُخْتَار مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَبَائِر ضَبَائِر» فَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات وَالْأُصُول: «ضَبَائِر ضَبَائِر» مُكَرَّر مَرَّتَيْنِ وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْحَال وَهُوَ بِفَتْحِ الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَهُوَ جَمْع (ضُبَارَة) بِفَتْحِ الضَّاد وَكَسْرهَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاض وَصَاحِب الْمَطَالِع وَغَيْرهمَا، أَشْهَرهمَا الْكَسْر، وَلَمْ يَذْكُر الْهَرَوِيُّ وَغَيْره إِلَّا الْكَسْر، وَيُقَال فيها أَيْضًا: إِضْبَارَة بِكَسْرِ الْهَمْزَة قَالَ أَهْل اللُّغَة: الضَّبَائِر: جَمَاعَات فِي تَفْرِقَة. وَرَوَى: «ضُبَارَات ضُبَارَات».
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَبُثُّوا» فَهُوَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة الْمَضْمُومَة بَعْدهَا ثَاء مُثَلَّثَة وَمَعْنَاهُ: فُرِّقُوا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله (عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا نَضْرَة عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ) أَمَّا (أَبُو سَعِيد) فَاسْمه سَعْد بْن مَالِك بْن سِنَان، وَأَمَّا (أَبُو نَضْرَة) فَاسْمه: الْمُنْذِر بْن مَالِك بْن قِطْعَة بِكَسْرِ الْقَاف.
وَأَمَّا (أَبُو مَسْلَمَةَ) فَبِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان السِّين وَاسْمه: سَعِيد بْن يَزِيد الْأَزْدِيُّ الْبَصْرِيّ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب آخِرِ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا:

272- قَوْله: (حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة وَإِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِيُّ كِلَيْهِمَا) هَكَذَا وَقَعَ فِي مُعْظَم الْأُصُول كِلَيْهِمَا بِالْيَاءِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضهَا كِلَاهُمَا بِالْأَلْفِ مُصَلَّحًا وَقَدْ قَدَّمْت فِي الْفُصُول الَّتِي فِي أَوَّل الْكِتَاب بَيَان جَوَازه بِالْيَاءِ.
قَوْله:(عَنْ عَبِيدَةَ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَهُوَ عَبِيدَةَ السَّلَمَانِيّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَجُل يَخْرُج مِنْ النَّار حَبْوًا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «زَحْفًا»، قَالَ أَهْل اللُّغَة الْحَبْو: الْمَشْي عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: عَلَى يَدَيْهِ وَمَقْعَدَته.
وَأَمَّا الزَّحْف: فَقَالَ اِبْن دُرَيْدٍ وَغَيْره: هُوَ الْمَشْي عَلَى الِاسْت مَعَ إِفْرَاشه بِصَدْرِهِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ الْحَبْو الزَّحْف مُتَمَاثِلَانِ أَوْ مُتَقَارِبَانِ وَلَوْ ثَبَتَ اِخْتِلَافهمَا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالٍ يَزْحَف، وَفِي حَالٍ يَحْبُو. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لَهُ اِذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّة فَإِنَّ لَك مِثْل الدُّنْيَا وَعَشَرَة أَمْثَالهَا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «لَك الَّذِي تَمَنَّيْت وَعَشَرَة أَضْعَاف الدُّنْيَا» هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد، وَإِحْدَاهُمَا تَفْسِير الْأُخْرَى، فَالْمُرَاد بِالْأَضْعَافِ الْأَمْثَال فَإِنَّ الْمُخْتَار عِنْد أَهْل اللُّغَة أَنَّ الضِّعْف الْمِثْل.
قَوْله: «أَتَسْخَرُ بِي أَوْ تَضْحَك بِي وَأَنْتَ الْمَلِك؟» هَذَا شَكّ مِنْ الرَّاوِي هَلْ قَالَ: أَتَسْخَرُ بِي، أَوْ قَالَ: أَتَضْحَكُ بِي، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِع فِي نَفْس الْأَمْر أَتَضْحَكُ بِي؟ فَمَعْنَاهُ: أَتَسْخَرُ بِي؛ لِأَنَّ السَّاخِر فِي الْعَادَة يَضْحَك مِمَّنْ يَسْخَر بِهِ، فَوَضَعَ الضَّحِك مَوْضِع السُّخْرِيَة مَجَازًا وَأَمَّا مَعْنَى (أَتَسْخَرُ بِي)؟ هُنَا فَفيه أَقْوَال:
أَحَدهَا: قَالَهُ الْمَازِرِيُّ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْمُقَابَلَة الْمَوْجُودَة فِي مَعْنَى الْحَدِيث دُون لَفْظه؛ لِأَنَّهُ عَاهَدَ اللَّه مِرَارًا أَلَّا يَسْأَلهُ غَيْر مَا سَأَلَ ثُمَّ غَدَرَ فَحَلَّ غَدْره مَحَلّ الِاسْتِهْزَاء وَالسُّخْرِيَة، فَقَدَّرَ الرَّجُل أَنَّ قَوْل اللَّه تَعَالَى لَهُ: اُدْخُلْ الْجَنَّة، وَتَرَدُّده إِلَيْهَا وَتَخْيِيل كَوْنهَا مَمْلُوءَة ضَرْب مِنْ الْإِطْمَاع لَهُ وَالسُّخْرِيَة بِهِ جَزَاء لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ غَدْره وَعُقُوبَة لَهُ، فَسُمِّيَ الْجَزَاء عَلَى السُّخْرِيَة سُخْرِيَة، فَقَالَ أَتَسْخَرُ بِي أَيْ: تُعَاقِبنِي بِالْإِطْمَاعِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو بَكْر الصُّوفِيّ إِنَّ مَعْنَاهُ: نَفْي السُّخْرِيَة الَّتِي لَا تَجُوز عَلَى اللَّه تَعَالَى كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْلَم أَنَّك لَا تَهْزَأ بِي لِأَنَّك رَبّ الْعَالَمِينَ، وَمَا أَعْطَيْتنِي مِنْ جَزِيل الْعَطَاء وَأَضْعَاف مِثْل الدُّنْيَا حَقّ، وَلَكِنَّ الْعَجَب أَنَّك أَعْطَيْتنِي هَذَا وَأَنَا غَيْر أَهْل لَهُ، قَالَ: وَالْهَمْزَة فِي أَتَسْخَرُ بِي هَمْزَة نَفْي، قَالَ: وَهَذَا كَلَام مُنْبَسِط مُتَدَلِّل.
وَالْقَوْل الثَّالِث: قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاض: أَنْ يَكُون هَذَا الْكَلَام صَدَرَ مِنْ هَذَا الرَّجُل وَهُوَ غَيْر ضَابِط لِمَا قَالَهُ لِمَا نَالَهُ مِنْ السُّرُور بِبُلُوغِ مَا لَمْ يَخْطِر بِبَالِهِ، فَلَمْ يَضْبِط لِسَانه دَهَشًا وَفَرَحًا فَقَالَهُ وَهُوَ لَا يَعْتَقِد حَقِيقَة مَعْنَاهُ، وَجَرَى عَلَى عَادَته فِي الدُّنْيَا فِي مُخَاطَبَة الْمَخْلُوق، وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجُل الْآخَر: أَنَّهُ لَمْ يَضْبِط نَفْسه مِنْ الْفَرَح فَقَالَ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبّك. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الرِّوَايَات (أَتَسْخَرُ بِي) وَهُوَ صَحِيح يُقَال: سَخِرْت مِنْهُ وَسَخِرْت بِهِ، وَالْأَوَّل هُوَ الْأَفْصَح الْأَشْهَر، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآن. وَالثَّانِي فَصِيح أَيْضًا وَقَدْ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إِنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِالْيَاءِ لِإِرَادَةِ مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَهْزَأُ بِي. وَاَللَّه أَعْلَم.
273- قَوْله: «رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذه» هُوَ بِالْجِيمِ وَالذَّال الْمُعْجَمَة.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل اللُّغَة وَغَرِيب الْحَدِيث وَغَيْرهمْ الْمُرَاد بِالنَّوَاجِذِ هُنَا الْأَنْيَاب، وَقِيلَ: الْمُرَاد هُنَا الضَّوَاحِك، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِهَا الْأَضْرَاس، وَهَذَا هُوَ الْأَشْهَر فِي إِطْلَاق النَّوَاجِذ فِي اللُّغَة، وَلَكِنَّ الصَّوَاب عِنْد الْجَمَاهِير مَا قَدَّمْنَاهُ، وَفِي هَذَا: جَوَاز الضَّحِك، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ فِي بَعْض الْمَوَاطِن، وَلَا بِمُسْقِطٍ لِلْمُرُوءَةِ إِذَا لَمْ يُجَاوِز بِهِ الْحَدّ الْمُعْتَاد مِنْ أَمْثَاله فِي مِثْل تِلْكَ الْحَال. وَاَللَّه أَعْلَم.
274- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُخْرَى فِي الْكِتَاب: «فَيَقُول اللَّه تَعَالَى: أَيُرْضِيك أَنْ أُعْطِيك الدُّنْيَا وَمِثْلهَا مَعَهَا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَتَرْضَى أَنْ يَكُون لَك مِثْل مَلِك مَلَكَ مِنْ مُلُوك الدُّنْيَا؟ فَيَقُول: رَضِيت رَبّ، فَيَقُول لَك ذَلِكَ وَمِثْله وَمِثْله وَمِثْله وَمِثْله وَمِثْله، فَقَالَ فِي الْخَامِسَة: رَضِيت رَبّ، فَيَقُول: هَذَا لَك وَعَشَرَة أَمْثَاله» فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ لَا تُخَالِفَانِ الْأُولَيَيْنِ، فَإِنَّ الْمُرَاد بِالْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ أَنْ يُقَال لَهُ أَوَّلًا: لَك الدُّنْيَا وَمِثْلهَا ثُمَّ يُزَاد إِلَى تَمَام عَشَرَة أَمَثَّاهَا كَمَا بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة، وَأَمَّا الْأَخِيرَة فَالْمُرَاد بِهَا أَنَّ أَحَد مُلُوك الدُّنْيَا لَا يَنْتَهِي مُلْكه إِلَى جَمِيع الْأَرْض بَلْ يَمْلِك بَعْضًا مِنْهَا ثُمَّ مَنْ يُكْثِر الْبَعْض الَّذِي يَمْلِكهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِلّ بَعْضه فَيُعْطِي هَذَا الرَّجُل مِثْل أَحَد مُلُوك الدُّنْيَا خَمْس مَرَّات، وَذَلِكَ كُلّه قَدْر الدُّنْيَا كُلّهَا، ثُمَّ يُقَال لَهُ: لَك عَشَرَة أَمْثَال هَذَا فَيَعُود مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَة إِلَى مُوَافَقَة الرِّوَايَات الْمُتَقَدِّمَة وَلِلَّهِ الْحَمْد. وَهُوَ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آخِر مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة رَجُل فَهُوَ يَمْشِي مَرَّة وَيَكْبُو مَرَّة وَتَسْفَعهُ النَّار مَرَّة» أَمَّا (يَكْبُو) فَمَعْنَاهُ: يَسْقُط عَلَى وَجْهه.
وَأَمَّا (تَسْفَعهُ) فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاء وَإِسْكَان السِّين الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْفَاء وَمَعْنَاهُ: تَضْرِب وَجْهه وَتُسَوِّدهُ وَتُؤَثِّر فيه أَثَرًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ»، كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ.
وَأَمَّا الثَّالِثَة: فَوَقَعَ فِي أَكْثَر الْأُصُول: «مَا لَا صَبْر لَهُ عَلَيْهَا»، وَفِي بَعْضهَا (عَلَيْهِ)، وَكِلَاهُمَا صَحِيح وَمَعْنَى: «عَلَيْهَا»: أَيْ: نِعْمَة لَا صَبْر لَهُ عَلَيْهَا أَيْ: عَنْهَا.
قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: «يَا اِبْن آدَم مَا يَصْرِينِي مِنْك» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَإِسْكَان الصَّاد الْمُهْمَلَة وَمَعْنَاهُ يَقْطَع مَسْأَلَتك مِنِّي.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الصَّرْي) بِفَتْحِ الصَّاد وَإِسْكَان الرَّاء هُوَ الْقَطْع وَرُوِيَ فِي غَيْر مُسْلِم (مَا يَصْرِيك مِنِّي)، قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: هُوَ الصَّوَاب، وَأَنْكَرَ الرِّوَايَة الَّتِي فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره (مَا يَصْرِينِي مِنْك)، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا قَالَ بَلْ كِلَاهُمَا صَحِيح؛ فَإِنَّ السَّائِل مَتَى اِنْقَطَعَ مِنْ الْمَسْئُول اِنْقَطَعَ الْمَسْئُول مِنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَيّ شَيْء يُرْضِيك وَيَقْطَع السُّؤَال بَيْنِي وَبَيْنك. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (قَالُوا: مِمَّ تَضْحَك يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: مِنْ ضَحِكِ رَبّ الْعَالَمِينَ) قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الضَّحِك مِنْ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ الرِّضَى وَالرَّحْمَة وَإِرَادَة الْخَيْر لِمَنْ يَشَاء رَحْمَته مِنْ عِبَاده. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً فيها:

275- قَوْله: (عَنْ النُّعْمَان بْن أَبِي عَيَّاش) هُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ أَبُو عَيَّاش الزُّرَّقِيُّ الْأَنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ الْمَعْرُوف، فِي اِسْمه خِلَاف مَشْهُور قِيلَ: زَيْد بْن الصَّامِت، وَقِيلَ: زَيْد بْن النُّعْمَان، وَقِيلَ: عُبَيْد، وَقِيلَ: عَبْد الرَّحْمَن.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَدْخُل عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنْ الْحُور الْعِين فَتَقُولَانِ: الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاك لَنَا وَأَحْيَانَا لَك» هَكَذَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَات وَالْأُصُول (زَوْجَتَاهُ) بِالتَّاءِ تَثْنِيَة زَوْجَة بِالْهَاءِ، وَهِيَ لُغَة صَحِيحَة مَعْرُوفَة، وَفيها أَبْيَات كَثِيرَة مِنْ شِعْر الْعَرَب، وَذَكَرَهَا اِبْن السِّكِّيت وَجَمَاعَات مِنْ أَهْل اللُّغَة.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَتَقُولَانِ) هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ فَوْق وَإِنَّمَا ضَبَطْت هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا لِكَوْنِهِ مِمَّا يَغْلَط فيه بَعْض مَنْ لَا يُمَيِّز فَيَقُولهُ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْت، وَذَلِكَ لَحْن لَا شَكّ فيه قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونهمْ اِمْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ اللَّه يُمْسِك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنْ تَزُولَا} وَقَالَ تَعَالَى: {فيهمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}.
وَأَمَّا قَوْلهمَا: (الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاك لَنَا وَأَحْيَانَا لَك) فَمَعْنَاهُ: الَّذِي خَلَقَك لَنَا وَخَلَقَنَا لَك وَجَمَعَ بَيْنَنَا فِي هَذِهِ الدَّار الدَّائِمَة السُّرُور وَاَللَّه أَعْلَم.
276- قَوْله: (حَدَّثَنَا سَعِيد بْن عَمْرو الْأَشْعَثِيّ) هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة بَعْد الْعَيْن الْمُهْمَلَة مَنْسُوب إِلَى جَدّه الْأَشْعَث وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه.
قَوْله: (عَنْ اِبْن أَبْجَر) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَفَتْح الْجِيم، وَاسْمه: عَبْد الْمَلِك بْن سَعِيد بْن حَيَّان بْن أَبْجَر، وَهُوَ تَابِعِيّ سَمِعَ أَبَا الطُّفَيْل عَامِر بْن وَاثِلَة، وَقَدْ سَمَّاهُ مُسْلِم فِي الطَّرِيق الثَّانِي فَقَالَ: عَبْد الْمَلِك بْن سَعِيد.
قَوْله: (عَنْ مُطَرِّف وَابْن أَبْجَر عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ: سَمِعْت الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة رِوَايَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (سَمِعْت عَلَى الْمِنْبَر يَرْفَعهُ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (عَنْ سُفْيَان عَنْ مُطَرِّف وَابْن أَبْجَر عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ الْمُغِيرَة قَالَ سُفْيَان: رَفَعَهُ أَحَدهمَا أَرَاهُ اِبْن أَبْجَر قَالَ: سَأَلَ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى مَا أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة مَنْزِلَة) اِعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفُصُول الَّتِي فِي أَوَّل الْكِتَاب أَنَّ قَوْلهمْ: رِوَايَة أَوْ يَرْفَعهُ أَوْ يُنْمِيهِ أَوْ يَبْلُغ بِهِ، كُلّهَا أَلْفَاظ مَوْضُوعَة عِنْد أَهْل الْعِلْم لِإِضَافَةِ الْحَدِيث إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا خِلَاف فِي ذَلِكَ بَيْن أَهْل الْعِلْم. فَقَوْله: (رِوَايَة) مَعْنَاهُ: قَالَ: قَالَ رَسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَيَّنَهُ هُنَا فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة.
وَأَمَّا قَوْله: (رِوَايَة إِنْ شَاءَ اللَّه) فَلَا يَضُرّهُ هَذَا الشَّكّ وَالِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ جَزَمَ بِهِ فِي الرِّوَايَات الْبَاقِيَة.
أَمَّا قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة: (رَفَعَهُ أَحَدهمَا) فَمَعْنَاهُ: أَنَّ أَحَدهمَا رَفَعَهُ وَأَضَافَهُ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَر وَقَفَهُ عَلَى الْمُغِيرَة فَقَالَ: عَنْ الْمُغِيرَة قَالَ: سَأَلَ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالضَّمِير فِي (أَحَدهمَا) يَعُود عَلَى مُطَرِّف وَابْن أَبْجَر شَيْخَيْ سُفْيَان فَقَالَ أَحَدهمَا: عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ الْمُغِيرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَأَلَ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْآخَر: عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ الْمُغِيرَة قَالَ: سَأَلَ مُوسَى، ثُمَّ إِنَّهُ يَحْصُل مِنْ هَذَا أَنَّ الْحَدِيث رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول الْمُتَقَدِّمَة فِي أَوَّل الْكِتَاب أَنَّ الْمَذْهَب الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الْأُصُول وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: أَنَّ الْحَدِيث إِذَا رُوِيَ مُتَّصِلًا وَرُوِيَ مُرْسَلًا وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَرُوِيَ مَوْقُوفًا فَالْحُكْم لِلْمَوْصُولِ وَالْمَرْفُوع؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة ثِقَة وَهِيَ مَقْبُولَة عِنْد الْجَمَاهِير مِنْ أَصْحَاب فَنُون الْعُلُوم، فَلَا يَقْدَح اِخْتِلَافهمْ هَا هُنَا فِي رَفْع الْحَدِيث وَوَقْفه لاسيما وَقَدْ رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ مَرْفُوعًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْل مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة؟» كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (مَا أَدْنَى) وَهُوَ صَحِيح، وَمَعْنَاهُ: مَا صِفَة أَوْ مَا عَلَامَة أَدْنَى أَهْل الْجَنَّة؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُغِيرَة يُقَال بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْرهَا لُغَتَانِ وَالضَّمّ أَشْهَر. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «كَيْف وَقَدْ نَزَلَ النَّاس مَنَازِلهمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتهمْ؟» هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْخَاء، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ مَا أَخَذُوهُ مِنْ كَرَامَة مَوْلَاهُمْ وَحَصَّلُوهُ، أَوْ يَكُون مَعْنَاهُ: قَصَدُوا مَنَازِلهمْ قَالَ ذَكَرَهُ ثَعْلَب بِكَسْرِ الْهَمْزَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَة؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْت غَرَسْت كَرَامَتهمْ بِيَدِي، وَخَتَمْت عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْن وَلَمْ تَسْمَع أُذُن وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْب بَشَر، قَالَ وَمِصْدَاقه فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى» أَمَّا (أَرَدْت) فَبِضَمِّ التَّاء وَمَعْنَاهُ: اِخْتَرْت وَاصْطَفَيْت.
وَأَمَّا (غَرَسْت كَرَامَتهمْ بِيَدِي)... إِلَى آخِره فَمَعْنَاهُ: اِصْطَفَيْتهمْ وَتَوَلَّيْتهمْ، فَلَا يَتَطَرَّق إِلَى كَرَامَتهمْ تَغْيِير، وَفِي آخِر الْكَلَام حَذْف اُخْتُصِرَ لِلْعِلْمِ بِهِ تَقْدِيره: وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْب بَشَر مَا أَكْرَمْتهمْ بِهِ وَأَعْدَدْته لَهُمْ، وَقَوْله: (وَمِصْدَاقه) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَمَعْنَاهُ: دَلِيله وَمَا يُصَدِّقهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّه تَعَالَى عَنْ أَخَسّ أَهْل الْجَنَّة» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَبَعْدهَا السِّين الْمُشَدَّدَة، وَهَكَذَا رَوَاهُ جَمِيع الرُّوَاة وَمَعْنَاهُ أَدْنَاهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
277- قَوْله: (عَنْ الْمَعْرُور بْن سُوَيْدٍ) هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَالرَّاء الْمُكَرَّرَة.
278- قَوْله: (عَنْ أَبِي الزُّبَيْر أَنَّهُ سَمِعَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا يَسْأَل عَنْ الْوُرُود فَقَالَ: نَجِيء نَحْنُ يَوْم الْقِيَامَة عَنْ كَذَا وَكَذَا اُنْظُرْ أَيْ ذَلِكَ فَوْق النَّاس قَالَ: فَتُدْعَى الْأُمَم بِأَوْثَانِهَا إِلَى آخِره) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظ فِي جَمِيع الْأُصُول مِنْ صَحِيح مُسْلِم، وَاتَّفَقَ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَصْحِيف وَتَغْيِير وَاخْتِلَاط فِي اللَّفْظ.
قَالَ الْحَافِظ عَبْد الْحَقّ فِي كِتَابه الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ: هَذَا الَّذِي وَقَعَ فِي كِتَاب مُسْلِم تَخْلِيط مِنْ أَحَد النَّاسِخِينَ أَوْ كَيْف كَانَ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذِهِ صُورَة الْحَدِيث فِي جَمِيع النُّسَخ، وَفيه تَغْيِير كَثِير وَتَصْحِيف قَالَ: وَصَوَابه: (نَجِيء يَوْم الْقِيَامَة عَلَى كَوْم) هَكَذَا رَوَاهُ بَعْض أَهْل الْحَدِيث وَفِي كِتَاب اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيق كَعْب بْن مَالِك (يُحْشَر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة عَلَى تَلّ وَأُمَّتِي عَلَى تَلّ) وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِير مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر فَيَرْقَى هُوَ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّته عَلَى كَوْم فَوْق النَّاس، وَذَكَرَ مِنْ حَدِيث كَعْب بْن مَالِك (يُحْشَر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فَأَكُون أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلّ) قَالَ الْقَاضِي: فَهَذَا كُلّه يُبَيِّن مَا تَغَيَّرَ مِنْ الْحَدِيث وَأَنَّهُ كَانَ أَظْلَمَ هَذَا الْحَرْف عَلَى الرَّاوِي أَوْ أُمْحِيَ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِكَذَا وَكَذَا وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَيْ: فَوْق النَّاس، وَكَتَبَ عَلَيْهِ اُنْظُرْ تَنْبِيهًا فَجَمَعَ النَّقَلَة الْكُلّ وَنَسَّقُوهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ مَتْن الْحَدِيث كَمَا تَرَاهُ، هَذَا كَلَام الْقَاضِي وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَة مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيث جَاءَ كُلّه مِنْ كَلَام جَابِر مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَرْط مُسْلِم إِذْ لَيْسَ فيه ذِكْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم وَأَدْخَلَهُ فِي الْمُسْنَد؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ مُسْنَدًا مِنْ غَيْر هَذَا الطَّرِيق، فَذَكَرَ اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ اِبْن جُرَيْحٍ يَرْفَعهُ بَعْد قَوْله: يَضْحَك. قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «فَيُنْطَلَق بِهِمْ»، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا مُسْلِم بَعْد هَذَا فِي حَدِيث اِبْن أَبِي شَيْبَة وَغَيْره فِي الشَّفَاعَة وَإِخْرَاج مَنْ يَخْرُج مِنْ النَّار، وَذَكَرَ إِسْنَاده وَسَمَاعه مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَى بَعْض مَا فِي هَذَا الْحَدِيث. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: (فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَك فَيَنْطَلِق بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ) فَتَقَدَّمَ بَيَانهمَا فِي أَوَائِل الْكِتَاب وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ قَرِيبًا مَعْنَى الضَّحِك.
وَأَمَّا التَّجَلِّي فَهُوَ الظُّهُور وَإِزَالَة الْمَانِع مِنْ الرُّؤْيَة، وَمَعْنَى (يَتَجَلَّى يَضْحَك) أَيْ: يَظْهَر وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمْ.
قَوْله: (ثُمَّ يُطْفَأ نُور الْمُنَافِقِينَ) رُوِيَ بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّهَا وَهُمَا صَحِيحَانِ مَعْنَاهُمَا ظَاهِر، قَوْله: (ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ) هَكَذَا هُوَ فِي كَثِير مِنْ الْأُصُول وَفِي أَكْثَرهَا (المُؤْمِنِينَ) بِالْيَاءِ.
قَوْله: «أَوَّل زُمْرَة» أَيْ: جَمَاعَة.
قَوْله: (حَتَّى يَنْبُتُوا نَبَات الشَّيْء فِي السَّيْل، وَيَذْهَب حُرَاقه، ثُمَّ يَسْأَل حَتَّى تُجْعَل لَهُ الدُّنْيَا وَعَشَرَة أَمْثَالهَا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول بِبِلَادِنَا (نَبَات الشَّيْء)، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ، وَعَنْ بَعْض رُوَاة مُسْلِم (نَبَات الدِّمْن) يَعْنِي بِكَسْرِ الدَّال وَإِسْكَان الْمِيم وَهَذِهِ الرِّوَايَة هِيَ الْمَوْجُودَة فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ لِعَبْدِ الْحَقّ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، لَكِنَّ الْأَوَّل هُوَ الْمَشْهُور الظَّاهِر وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَات السَّابِقَة (نَبَات الْحَبَّة فِي حَمِيل السَّيْل)، وَأَمَّا نَبَات الدِّمْن فَمَعْنَاهَا أَيْضًا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الدِّمْن الْبَعْر، وَالتَّقْدِير: نَبَات ذِي الدِّمْن فِي السَّيْل، أَيْ كَمَا يَنْبُت الشَّيْء الْحَاصِل فِي الْبَعْر وَالْغُثَاء الْمَوْجُود فِي أَطْرَاف النَّهَر، وَالْمُرَاد التَّشْبِيه بِهِ فِي السُّرْعَة وَالنَّضَارَة، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِب الْمَطَالِع إِلَى تَصْحِيح هَذِهِ الرِّوَايَة، وَلَكِنْ لَمْ يُنَقِّح الْكَلَام فِي تَحْقِيقهَا؛ بَلْ قَالَ: عِنْدِي أَنَّهَا رِوَايَة صَحِيحَة، وَمَعْنَاهُ سُرْعَة نَبَات الدِّمْن مَعَ ضَعْف مَا يَنْبُت فيه وَحُسْن مَنْظَره. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: (وَيَذْهَب حُرَاقه) فَهُوَ بِضَمِّ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف الرَّاء، وَالضَّمِير فِي (حُرَاقه) يَعُود عَلَى الْمُخْرَج مِنْ النَّار وَعَلَيْهِ يَعُود الضَّمِير فِي قَوْله ثُمَّ يَسْأَل، وَمَعْنَى (حُرَاقه) أَثَر النَّار. وَاَللَّه أَعْلَم.
281- قَوْله: (حَدَّثَنِي يَزِيد الْفَقِير) هُوَ يَزِيد بْن صُهَيْبٍ الْكُوفِيّ ثُمَّ الْمَكِّيّ أَبُو عُثْمَان قِيلَ لَهُ: (الْفَقِير)؛ لِأَنَّهُ أُصِيبَ فِي فَقَار ظَهْره فَكَانَ يَأْلَم مِنْهُ حَتَّى يَنْحَنِيَ لَهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار يَحْتَرِقُونَ فيها إِلَّا دَارَات وُجُوههمْ حَتَّى يَدْخُلُونَ الْجَنَّة» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (حَتَّى يَدْخُلُونَ) بِالنُّونِ وَهُوَ صَحِيح، وَهِيَ لُغَة سَبَقَ بَيَانهَا، وَأَمَّا (دَارَات الْوُجُوه) فَهِيَ: جَمْع دَارَة وَهِيَ مَا يُحِيط بِالْوَجْهِ مِنْ جَوَانِبه، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ النَّار لَا تَأْكُل دَارَة الْوَجْه؛ لِكَوْنِهَا مَحَلّ السُّجُود، وَوَقَعَ هُنَا (إِلَّا دَارَات الْوُجُوه)، وَسَبَقَ فِي الْحَدِيث الْآخَر (إِلَّا مَوَاضِع السُّجُود) وَسَبَقَ هُنَاكَ الْجَمْع بَيْنهمَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
282- قَوْله: (كُنْت قَدْ شَغَفَنِي رَأْي مَنْ رَأْيِ الْخَوَارِج) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول، وَالرِّوَايَات (شَغَفَنِي) بَالِغِينَ الْمُعْجَمَة، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: أَنَّهُ رُوِيَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ. وَمَعْنَاهُ: لَصِقَ بِشِغَافِ قَلْبِي وَهُوَ غِلَافه، وَأَمَّا رَأْي الْخَوَارِج فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مَرَّات: أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ أَصْحَاب الْكَبَائِر يَخْلُدُونَ فِي النَّار وَلَا يَخْرُج مِنْهَا مَنْ دَخَلَهَا.
قَوْله: (فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَة ذَوِي عَدَد نُرِيد أَنْ نَحُجّ ثُمَّ نَخْرُج عَلَى النَّاس) مَعْنَاهُ: خَرَجْنَا مِنْ بِلَادنَا وَنَحْنُ جَمَاعَة كَثِيرَة لِنَحُجَّ ثُمَّ نَخْرُج عَلَى النَّاس مُظْهِرِينَ مَذْهَب الْخَوَارِج وَنَدْعُو إِلَيْهِ وَنَحُثُّ عَلَيْهِ.
قَوْله: (غَيْر أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّار) (زَعَمَ) هُنَا بِمَعْنَى: قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الْكِتَاب إِيضَاحهَا وَنَقَلَ كَلَام الْأَئِمَّة فيها. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَان السَّمَاسِم) هُوَ بِالسِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ: الْأُولَى مَفْتُوحَة، وَالثَّانِيَة مَكْسُورَة، وَهُوَ جَمْع سِمْسِم، وَهُوَ هَذَا السِّمْسِم الْمَعْرُوف الَّذِي يُسْتَخْرَج مِنْهُ الشَّيْرَج، قَالَ الْإِمَام أَبُو السَّعَادَات الْمُبَارَك بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْكَرِيم الْجَزَرِيّ الْمَعْرُوف بِابْنِ الْأَثِير رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: مَعْنَاهُ- وَاَللَّه أَعْلَم- أَنَّ السَّمَاسِم جَمْع سِمْسِم، وَعِيدَانه تَرَاهَا إِذَا قُلِعَتْ وَتُرِكَتْ فِي الشَّمْس لِيُؤْخَذ حَبّهَا دِقَاقًا سُودًا كَأَنَّهَا مُحْتَرِقَة، فَشَبَّه بِهَا هَؤُلَاءِ.
قَالَ: وَطَالَمَا طَلَبْت هَذِهِ اللَّفْظَة وَسَأَلْت عَنْهَا فَلَمْ أَجِد فيها شَافِيًا، قَالَ: وَمَا أَشْبَهَ أَنْ تَكُون اللَّفْظَة مُحَرَّفَة وَرُبَّمَا كَانَتْ عِيدَانِ (السَّاسَم) وَهُوَ خَشَب أَسْوَد كَالْأَبَنُوسِ، هَذَا كَلَام أَبِي السَّعَادَات (وَالسَّاسَم) الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ بِحَذْفِ الْمِيم وَفَتْح السِّين الثَّانِيَة كَذَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره.
وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاض فَقَالَ: لَا يُعْرَف مَعْنَى السَّمَاسِم هُنَا قَالَ: وَلَعَلَّ صَوَابه (عِيدَانِ السَّاسَم) وَهُوَ أَشْبَهَ، وَهُوَ عُود أَسْوَد وَقِيلَ: هُوَ الْأَبَنُوس.
وَأَمَّا صَاحِب الْمَطَالِع فَقَالَ: قَالَ بَعْضهمْ: (السَّمَاسِم) كُلّ نَبْتٍ ضَعِيف كَالسِّمْسِمِ وَالْكُزْبَرَة، وَقَالَ آخَرُونَ: لَعَلَّهُ (السأسم) مَهْمُوز وَهُوَ الْأَبَنُوس، شَبَّههمْ بِهِ فِي سَوَاده فَهَذَا مُخْتَصَر مَا قَالُوهُ فيه، وَالْمُخْتَار أَنَّهُ السِّمْسِم كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَهُ أَبُو السَّعَادَات. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي كَثِير مِنْ الْأُصُول (كَأَنَّهَا) عِيدَانِ السَّمَاسِم بِأَلِفٍ بَعْد الْهَاء، وَالصَّحِيح الْمَوْجُود فِي مُعْظَم الْأُصُول وَالْكُتُب (كَأَنَّهُمْ) بِمِيمِ بَعْد الْهَاء، وَلِلْأَوَّلِ أَيْضًا وَجْه: وَهُوَ أَنْ يَكُون الضَّمِير فِي (كَأَنَّهَا) عَائِد عَلَى الصُّوَر أَيْ: كَأَنَّ صُوَرهمْ عِيدَانِ السَّمَاسِم. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ الْقَرَاطِيس) الْقَرَاطِيس: جَمْع قِرْطَاس بِكَسْرِ الْقَاف وَضَمَّهَا لُغَتَانِ، وَهُوَ: الصَّحِيفَة الَّتِي يُكْتَب فيها، شَبَّههمْ بِالْقَرَاطِيسِ لِشِدَّةِ بَيَاضهمْ بَعْد اِغْتِسَالهمْ وَزَوَال مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّوَاد. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَقُلْنَا وَيْحكُمْ؟. أَتَرَوْنَ الشَّيْخ يَكْذِب عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَعْنِي بِالشَّيْخِ جَابِر بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَهُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار وَجَحْد أَيْ: لَا يُظَنّ بِهِ الْكَذِب بِلَا شَكّ.
قَوْله: (فَرَجَعْنَا فَلَا وَاَللَّه مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْر رَجُل وَاحِد) مَعْنَاهُ: رَجَعْنَا مِنْ حَجّنَا وَلَمْ نَتَعَرَّض لِرَأْيِ الْخَوَارِج، بَلْ كَفَفْنَا عَنْهُ وَتُبْنَا مِنْهُ إِلَّا رَجُلًا مِنَّا فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقنَا فِي الِانْكِفَاف عَنْهُ، قَوْله: (أَوْ كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْم) الْمُرَاد بِأَبِي نُعَيْم: الْفَضْل بْن دُكَيْنٍ بِضَمِّ الدَّال الْمُهْمَلَة الْمَذْكُور فِي أَوَّل الْإِسْنَاد، وَهُوَ شَيْخ شَيْخ مُسْلِم، وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ أَدَب مَعْرُوف مِنْ آدَاب الرُّوَاة، وَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلرَّاوِي إِذَا رَوَى بِالْمَعْنَى أَنْ يَقُول عَقِبَ رِوَايَته: أَوْ كَمَا قَالَ، اِحْتِيَاطًا وَخَوْفًا مِنْ تَغْيِير حَصَلَ.
283- قَوْله: (حَدَّثَنَا هَدَّاب بْن خَالِد الْأَزْدِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ أَبِي عِمْرَان وَثَابِت عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه بَصْرِيُّونَ. أَمَّا (هَدَّاب): فَهُوَ بِفَتْحِ الْهَاء وَتَشْدِيد الدَّال الْمُهْمَلَة وَآخِره بَاءَ مُوَحَّدَة، وَيُقَال فيه أَيْضًا: (هُدْبَة) بِضَمِّ الْهَاء وَإِسْكَان الدَّال فَأَحَدهمَا اِسْم وَالْآخَر لَقَب، وَاخْتُلِفَ فيهمَا وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانه.
وَأَمَّا (أَبُو عِمْرَان) فَهُوَ الْجُونِيِّ وَاسْمه: عَبْد الْمَلِك بْن حَبِيب.
وَأَمَّا ثَابِت فَهُوَ الْبُنَانِيّ.
284- قَوْله فِي الْإِسْنَاد: (الْجَحْدَرِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْجِيم وَبَعْدهَا حَاء مُهْمَلَة سَاكِنَة ثُمَّ دَال مُهْمَلَة مَفْتُوحَة، مَنْسُوب إِلَى جَدّ لَهُ اِسْمه: جَحْدَر، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي أَوَّل الْكِتَاب.
قَوْله: (مُحَمَّد بْن عُبَيْد الْغُبَرِيّ) هُوَ بِضَمِّ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفَتْح الْبَاء الْمُوَحَّدَة مَنْسُوب إِلَى (غُبَر) جَدّ الْقَبِيلَة تَقَدَّمَ أَيْضًا بَيَانه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَجْمَع اللَّه النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فيهتَمُّونَ لِذَلِكَ» وَفِي رِوَايَة (فَيُلْهَمُونَ) مَعْنَى اللَّفْظَتَيْنِ مُتَقَارِب، فَمَعْنَى الْأُولَى: أَنَّهُمْ يَعْتَنُونَ بِسُؤَالِ الشَّفَاعَة وَزَوَال الْكَرْب الَّذِي هُمْ فيه، وَمَعْنَى الثَّانِيَة: أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُلْهِمهُمْ سُؤَال ذَلِكَ، وَالْإِلْهَام، أَنْ يُلْقِي اللَّه تَعَالَى فِي النَّفْس أَمْرًا يُحْمَل عَلَى فِعْل الشَّيْء أَوْ تَرْكه. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاس (أَنَّهُمْ يَأْتُونَ آدَم وَنُوحًا وَبَاقِي الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ فَيَطْلُبُونَ شَفَاعَتهمْ فَيَقُولُونَ: لَسْنَا هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُونَ خَطَايَاهُمْ إِلَى آخِره) اِعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل الْفِقْه وَالْأُصُول وَغَيْرهمْ اِخْتَلَفُوا فِي جَوَاز الْمَعَاصِي عَلَى الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ، وَقَدْ لَخَصَّ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى مَقَاصِد الْمَسْأَلَة فَقَالَ: لَا خِلَاف أَنَّ الْكُفْر عَلَيْهِمْ بَعْد النُّبُوَّة لَيْسَ بِجَائِزٍ بَلْ هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْهُ، وَاخْتَلَفُوا فيه قَبْل النُّبُوَّة، وَالصَّحِيح أَنَّهُ لَا يَجُوز، وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَلَا خِلَاف أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ كُلّ كَبِيرَة، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْعَقْل أَوْ الشَّرْع؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق وَمَنْ مَعَهُ: ذَلِكَ مُمْتَنِع مِنْ مُقْتَضَى دَلِيل الْمُعْجِزَة، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر وَمَنْ وَافَقَهُ: ذَلِكَ مِنْ طَرِيق الْإِجْمَاع، وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَة إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَرِيق الْعَقْل، كَذَلِكَ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلّ مَا كَانَ طَرِيقه الْإِبْلَاغ فِي الْقَوْل فَهُمْ مَعْصُومُونَ فيه عَلَى كُلّ حَال، وَأَمَّا مَا كَانَ طَرِيقه الْإِبْلَاغ فِي الْفِعْل فَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى الْعِصْمَة فيه رَأْسًا وَأَنَّ السَّهْو وَالنِّسْيَان لَا يَجُوز عَلَيْهِمْ فيه، وَتَأَوَّلُوا أَحَادِيث السَّهْو فِي الصَّلَاة وَغَيْرهَا بِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوَاضِعه، وَهَذَا مَذْهَب الْأُسْتَاذ أَبِي الْمُظَفَّر الْإِسْفَرَايِينِي مِنْ أَئِمَّتنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْره مِنْ الْمَشَايِخ الْمُتَصَوِّفَة، وَذَهَبَ مُعْظَم الْمُحَقِّقِينَ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء إِلَى جَوَاز ذَلِكَ وَوُقُوعه مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْحَقّ ثُمَّ لابد مِنْ تَنْبِيههمْ عَلَيْهِ وَذِكْرهمْ إِيَّاهُ إِمَّا فِي الْحِين عَلَى قَوْل جُمْهُور الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِمَّا قَبْل وَفَاتهمْ- عَلَى قَوْل بَعْضهمْ- لِيَسُنُّوا حُكْم ذَلِكَ وَيُبَيِّنُوهُ قَبْل اِنْخِرَام مُدَّتهمْ، وَلِيَصِحَّ تَبْلِيغهمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ لَا خِلَاف أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الصَّغَائِر الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا وَتَحُطّ مَنْزِلَته وَتُسْقِط مُرُوءَته، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوع غَيْرهَا مِنْ الصَّغَائِر مِنْهُمْ، فَذَهَبَ مُعْظَم الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف إِلَى جَوَاز وُقُوعهَا مِنْهُمْ وَحُجَّتهمْ ظَوَاهِر الْقُرْآن وَالْأَخْبَار وَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّحْقِيق وَالنَّظَر مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتنَا إِلَى عِصْمَتهمْ مِنْ الصَّغَائِر كَعِصْمَتِهِمْ مِنْ الْكَبَائِر، وَأَنَّ مَنْصِب النُّبُوَّة يَجِلّ عَنْ مُوَاقَعَتهَا وَعَنْ مُخَالَفَة اللَّه تَعَالَى عَمْدًا، وَتَكَلَّمُوا عَلَى الْآيَات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ وَتَأَوَّلُوهَا، وَأَنَّ مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ عَلَى تَأْوِيل أَوْ سَهْو أَوْ مِنْ إِذْن مِنْ اللَّه تَعَالَى فِي أَشْيَاء أَشْفَقُوا مِنْ الْمُؤَاخَذَة بِهَا وَأَشْيَاء مِنْهُمْ قَبْل النُّبُوَّة، وَهَذَا الْمَذْهَب هُوَ الْحَقّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمنَا الِاقْتِدَاء بِأَفْعَالِهِمْ وَإِقْرَارهمْ وَكَثِير مِنْ أَقْوَالهمْ، وَلَا خِلَاف فِي الِاقْتِدَاء بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء: هَلْ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوب أَوْ عَلَى النَّدْب أَوْ الْإِبَاحَة أَوْ التَّفْرِيق فِيمَا كَانَ مِنْ بَاب الْقُرَب أَوْ غَيْرهَا؟.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْل فِي هَذَا الْبَاب فِي كِتَابنَا الشِّفَاء وَبَلَغْنَا فيه الْمَبْلَغ الَّذِي لَا يُوجَد فِي غَيْرَة، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى الظَّوَاهِر فِي ذَلِكَ بِمَا فيه كِفَايَة، وَلَا يَهُولُك أَنْ نَسَبَ قَوْم هَذَا الْمَذْهَب إِلَى الْخَوَارِج وَالْمُعْتَزِلَة وَطَوَائِف مِنْ الْمُبْتَدِعَة إِذْ مَنْزَعهمْ فيه مَنْزَع آخَر مِنْ التَّكْفِير بِالصَّغَائِرِ، وَنَحْنُ نَتَبَرَّأ إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذَا الْمَذْهَب. وَانْظُرْ هَذِهِ الْخَطَايَا الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَكْل آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مِنْ الشَّجَرَة نَاسِيًا، وَمِنْ دَعْوَة نُوح عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى قَوْم كُفَّار، وَقَتْل مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَافِر لَمْ يُؤْمَر بِقَتْلِهِ، وَمُدَافَعَة إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُفَّار بِقَوْلٍ عَرَّضَ بِهِ هُوَ فيه مِنْ وَجْه صَادِق، وَهَذِهِ كُلّهَا فِي حَقّ غَيْرهمْ لَيْسَتْ بِذُنُوبٍ، لَكِنَّهُمْ أَشْفَقُوا مِنْهَا إِذْ لَمْ تَكُنْ عَنْ أَمْر اللَّه تَعَالَى، وَعَتَبَ عَلَى بَعْضهمْ فيها لِقَدْرِ مَنْزِلَتهمْ مِنْ مَعْرِفَة اللَّه تَعَالَى. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فِي آدَم خَلَقَك اللَّه بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحه) هُوَ مِنْ بَاب إِضَافَة التَّشْرِيف.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَسْت هُنَاكُمْ» مَعْنَاهُ لَسْت أَهْلًا لِذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنْ اِئْتُوا نُوحًا أَوَّل رَسُول بَعَثَهُ اللَّه تَعَالَى» قَالَ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه الْمَازِرِيُّ: قَدْ ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ إِدْرِيس جَدّ نُوح عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَإِنْ قَامَ دَلِيل أَنَّ إِدْرِيس أُرْسِلَ أَيْضًا لَمْ يَصِحّ قَوْل النَّسَّابِينَ أَنَّهُ قَبْل نُوح لِإِخْبَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آدَم أَنَّ نُوحًا أَوَّل رَسُول بُعِثَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيل جَازَ مَا قَالُوهُ، وَصَحَّ أَنْ يُحْمَل أَنَّ إِدْرِيس كَانَ نَبِيًّا غَيْر مُرْسَل.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَدْ قِيلَ إِنَّ إِدْرِيس هُوَ إِلْيَاس وَأَنَّهُ كَانَ نَبِيّنَا فِي بَنِي إِسْرَائِيل كَمَا جَاءَ فِي بَعْض الْأَخْبَار مَعَ يُوشَع بْن نُون، فَإِنْ كَانَ هَكَذَا سَقَطَ الِاعْتِرَاض.
قَالَ الْقَاضِي: وَبِمِثْلِ هَذَا يَسْقُط الِاعْتِرَاض بِآدَمَ وشيث وَرِسَالَتهمَا إِلَى مَنْ مَعَهُمَا وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ فَإِنَّ آدَم إِنَّمَا أُرْسِلَ لِبَنِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا بَلْ أُمِرَ بِتَعْلِيمِهِمْ الْإِيمَان وَطَاعَة اللَّه تَعَالَى، وَكَذَلِكَ خَلَفَهُ شيث بَعْده فيهمْ بِخِلَافِ رِسَالَة نُوح إِلَى كُفَّار أَهْل الْأَرْض.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رَأَيْت أَبَا الْحَسَن بْن بَطَّال ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آدَم لَيْسَ بِرَسُولٍ، لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاض، وَحَدِيث أَبِي ذَرّ الطَّوِيل يَنُصُّ عَلَى أَنَّ آدَم وَإِدْرِيس رَسُولَانِ. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (اِئْتُوا إِبْرَاهِيم الَّذِي اِتَّخَذَهُ اللَّه خَلِيلًا) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: أَصْل الْخُلَّة الِاخْتِصَاص وَالِاسْتِصْفَاء، وَقِيلَ: أَصْلهَا الِانْقِطَاع إِلَى مَنْ خَالَلْت، مَأْخُوذ مِنْ الْخُلَّة وَهِيَ الْحَاجَة، فَسُمِّيَ إِبْرَاهِيم بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَصَرَ حَاجَته عَلَى رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى.
وَقِيلَ: (الْخُلَّة) صَفَاء الْمَوَدَّة الَّتِي تُوجِب تَخَلُّل الْأَسْرَار. وَقِيلَ مَعْنَاهَا: الْمَحَبَّة وَالْإِلْطَاف. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ: الْخَلِيل: مَعْنَاهُ الْمُحِبّ الْكَامِل الْمَحَبَّة، وَالْمَحْبُوب: الْمُوَفِّي بِحَقِيقَةِ الْمَحَبَّة اللَّذَانِ لَيْسَ فِي حُبّهمَا نَقْص وَلَا خَلَل، قَالَ الْوَاحِدِيّ: هَذَا الْقَوْل هُوَ الِاخْتِيَار؛ لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَلِيل إِبْرَاهِيم وَإِبْرَاهِيم خَلِيل اللَّه، وَلَا يَجُوز أَنْ يُقَال اللَّه تَعَالَى خَلِيل إِبْرَاهِيم مِنْ الْخُلَّة الَّتِي هِيَ الْحَاجَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ كُلّ وَاحِد مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ يَقُول: لَسْت هُنَاكُمْ، أَوْ لَسْت لَهَا» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذَا يَقُولُونَهُ تَوَاضُعًا وَإِكْبَارًا لِمَا يَسْأَلُونَهُ.
قَالَ: وَقَدْ تَكُون إِشَارَة مِنْ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَة وَهَذَا الْمَقَام لَيْسَ لَهُ بَلْ لِغَيْرِهِ، وَكُلّ وَاحِد مِنْهُمْ يَدُلّ عَلَى الْآخَر حَتَّى اِنْتَهَى الْأَمْر إِلَى صَاحِبه، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ صَاحِبهَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَيَّنًا وَتَكُون إِحَالَة كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عَلَى الْآخَر عَلَى تَدْرِيج الشَّفَاعَة فِي ذَلِكَ إِلَى نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَفيه تَقْدِيم ذَوِي الْأَسْنَان وَالْآبَاء عَلَى الْأَبْنَاء فِي الْأُمُور الَّتِي لَهَا بَال، قَالَ: وَأَمَّا مُبَادَرَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ إِجَابَته لِدَعْوَتِهِمْ فَلِتَحَقُّقِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَامَة وَالْمَقَام لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة. هَذَا كَلَام الْقَاضِي.
وَالْحِكْمَة فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَلْهَمَهُمْ سُؤَال آدَم وَمَنْ بَعْده صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ فِي الِابْتِدَاء، وَلَمْ يُلْهَمُوا سُؤَال نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ- وَاَللَّه أَعْلَم- إِظْهَار فَضِيلَة نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ لَوْ سَأَلُوهُ اِبْتِدَاء لَكَانَ يَحْتَمِل أَنَّ غَيْره يَقْدِر عَلَى هَذَا وَيُحَصِّلهُ، وَأَمَّا إِذَا سَأَلُوا غَيْره مِنْ رُسُل اللَّه تَعَالَى وَأَصْفِيَائِهِ فَامْتَنَعُوا ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَجَابَ وَحَصَلَ غَرَضهمْ؛ فَهُوَ النِّهَايَة فِي اِرْتِفَاع الْمَنْزِلَة وَكَمَال الْقُرْب وَعَظِيم الْإِدْلَال وَالْأُنْس.
وَفيه تَفْضِيله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيع الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الرُّسُل وَالْآدَمِيِّينَ وَالْمَلَائِكَة؛ فَإِنَّ هَذَا الْأَمْر الْعَظِيم وَهِيَ الشَّفَاعَة الْعُظْمَى لَا يَقْدِر عَلَى الْإِقْدَام عَلَيْهِ غَيْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّه تَكْلِيمًا» هَذَا بِإِجْمَاعِ أَهْل السُّنَّة عَلَى ظَاهِره وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى حَقِيقَة كَلَامًا سَمِعَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَة، وَلِهَذَا أُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ، وَالْكَلَام صِفَة ثَابِتَة لِلَّهِ تَعَالَى لَا يُشْبِه كَلَام غَيْره.
قَوْله فِي عِيسَى: (رُوح اللَّه وَكَلِمَته) تَقَدَّمَ الْكَلَام فِي مَعْنَاهُ فِي أَوَائِل كِتَاب الْإِيمَان.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِئْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا قَدْ غَفَرَ اللَّه لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه وَمَا تَأَخَّرَ» هَذَا مِمَّا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ.
قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: الْمُتَقَدِّم مَا كَانَ قَبْل النُّبُوَّة وَالْمُتَأَخِّر عَصَمْتُك بَعْدهَا، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِهِ ذُنُوب أُمَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْت: فَعَلَى هَذَا يَكُون الْمُرَاد الْغُفْرَان لِبَعْضِهِمْ أَوْ سَلَامَتهمْ مِنْ الْخُلُود فِي النَّار.
وَقِيلَ: الْمُرَاد مَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَهْو. وَتَأْوِيل حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَقِيلَ: مَا تَقَدَّمَ لِأَبِيك آدَم وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوب أُمَّتك.
وَقِيلَ: الْمُرَاد أَنَّهُ مَغْفُور لَك غَيْر مُؤَاخَذ بِذَنْبٍ لَوْ كَانَ.
وَقِيلَ: هُوَ تَنْزِيه لَهُ مِنْ الذُّنُوب صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِن عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَن لِي» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: مَعْنَاهُ- وَاَللَّه أَعْلَم- فَيُؤْذَن لِي فِي الشَّفَاعَة الْمَوْعُود بِهَا وَالْمَقَام الْمَحْمُود الَّذِي اِدَّخَرَهُ اللَّه تَعَالَى لَهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَبْعَثهُ فيه، قَالَ الْقَاضِي: وَجَاءَ فِي حَدِيث أَنَس وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة اِبْتِدَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ سُجُوده وَحَمْده وَالْإِذْن لَهُ فِي الشَّفَاعَة بِقَوْلِهِ: «أُمَّتِي أُمَّتِي» وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث حُذَيْفَة بَعْد هَذَا فِي الْحَدِيث نَفْسه قَالَ: «فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُوم وَيُؤْذَن لَهُ وَتُرْسَل الْأَمَانَة وَالرَّحِم فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيْ الصِّرَاط يَمِينًا وَشِمَالًا فَيَمُرّ أَوَّلهمْ كَالْبَرْقِ» وَسَاقَ الْحَدِيث، وَبِهَذَا يَتَّصِل الْحَدِيث لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَة الَّتِي لَجَأَ النَّاس إِلَيْهِ فيها وَهِيَ الْإِرَاحَة مِنْ الْمَوْقِف، وَالْفَصْل بَيْن الْعِبَاد، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ حَلَّتْ الشَّفَاعَة فِي أُمَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْمُذْنِبِينَ، وَحَلَّتْ الشَّفَاعَة لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَة وَغَيْرهمْ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيث الْأُخَر، وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيث الْمُتَقَدِّمَة فِي الرُّؤْيَة وَحُشِرَ النَّاس أَتْبَاع كُلّ أَمَة مَا كَانَتْ تَعْبُد، ثُمَّ تَمْيِيز الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ حُلُول الشَّفَاعَة وَوَضْع الصِّرَاط فَيَحْتَمِل أَنَّ الْأَمْر بِاتِّبَاعِ الْأُمَم مَا كَانَتْ تَعْبُد هُوَ أَوَّل الْفَصْل وَالْإِرَاحَة مِنْ هَوْل الْمَوْقِف، وَهُوَ أَوَّل الْمَقَام الْمَحْمُود، وَأَنَّ الشَّفَاعَة الَّتِي ذَكَرَ حُلُولهَا هِيَ الشَّفَاعَة فِي الْمُذْنِبِينَ عَلَى الصِّرَاط، وَهُوَ ظَاهِر الْأَحَادِيث وَأَنَّهَا لِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِغَيْرِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَحَادِيث، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدهَا الشَّفَاعَة فِيمَنْ دَخَلَ النَّار، وَبِهَذَا تَجْتَمِع مُتُون الْحَدِيث وَتَتَرَتَّب مَعَانِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَقِيَ فِي النَّار إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآن» أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود. وَبَيَّنَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّ قَوْله: (أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود) هُوَ تَفْسِير قَتَادَةَ الرَّاوِي، وَهَذَا التَّفْسِير صَحِيح، وَمَعْنَاهُ مَنْ أَخْبَرَ الْقُرْآن أَنَّهُ مُخَلَّد فِي النَّار وَهُمْ الْكُفَّار كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ} وَفِي هَذَا دَلَالَة لِمَذْهَبِ أَهْل الْحَقّ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَف أَنَّهُ لَا يَخْلُد فِي النَّار أَحَد مَاتَ عَلَى التَّوْحِيد. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ آتِيه فَأَقُول يَا رَبّ» مَعْنَى: «آتِيه» أَيْ أَعُودُ إِلَى الْمَقَام الَّذِي قُمْت فيه أَوَّلًا وَسَأَلْت، وَهُوَ مَقَام الشَّفَاعَة.
قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى وَمُحَمَّد بْن بَشَّار قَالَا حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي عَدِيّ عَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس) قَالَ مُسْلِم: (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُثَنَّى حَدَّثَنَا مُعَاذ بْن هِشَام قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس) قَالَ مُسْلِم (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مِنْهَال الضَّرِير حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة وَهِشَام صَاحِب الدَّسْتُوَائِيّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس) قَالَ مُسْلِم: (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّان الْمِسْمَعِيّ وَمُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذ وَهُوَ اِبْن هِشَام قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَس بْن مَالِك) قَالَ مُسْلِم (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع الْعَتَكِيُّ حَدَّثَنَا بْن زَيْد حَدَّثَنَا مَعْبَد بْن هِلَال الْعَنَزِيّ) يَعْنِي عَنْ أَنَس، هَذِهِ الْأَسَانِيد رِجَالهَا كُلّهمْ بَصْرِيُّونَ، وَهَذَا الِاتِّفَاق فِي غَايَة مِنْ الْحُسْن وَنِهَايَة مِنْ النُّدُور أَعْنِي اِتِّفَاق خَمْسَة أَسَانِيد فِي صَحِيح مُسْلِم مُتَوَالِيَة جَمِيعهمْ بَصْرِيُّونَ. وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا لَهُ.
فَأَمَّا (اِبْن أَبَى عَدِيّ) فَاسْمه مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن أَبِي عَدِيّ.
وَأَمَّا (سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة) فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ هَكَذَا يُرْوَى فِي كُتُب الْحَدِيث وَغَيْرهَا، وَأَنَّ اِبْن قُتَيْبَة قَالَ فِي كِتَابه أَدَب الْكَاتِب: الصَّوَاب (اِبْن أَبِي الْعَرُوبَة) بِالْأَلْفِ وَاللَّام، وَاسْم أَبِي عروبة (مِهْرَان)، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّ سَعِيد بْن أَبِي عروبة مِمَّنْ اِخْتَلَطَ فِي آخِر عُمْره، وَأَنَّ الْمُخْتَلِط لَا يُحْتَجّ بِمَا رَوَاهُ فِي حَال الِاخْتِلَاط، وَشَكَكْنَا هَلْ رَوَاهُ فِي الِاخْتِلَاط أَمْ فِي الصِّحَّة؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْمُخْتَلِطِينَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ عُرِفَ أَنَّهُ رَوَاهُ قَبْل الِاخْتِلَاط، وَاَللَّه أَعْلَم.
285- أَمَّا (هِشَام صَاحِب الدَّسْتَوَائِيّ) فَهُوَ بِفَتْحِ الدَّال وَإِسْكَان السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَبَعْدهمَا مُثَنَّاة مِنْ فَوْق مَفْتُوحَة وَبَعْد الْأَلِف يَاء مِنْ غَيْر نُون هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَهَكَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي كُتُب الْحَدِيث.
قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيد فيه نُونًا بَيْن الْأَلِف وَالْيَاء، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى (دَسْتُوَاء) وَهِيَ كُورَة مِنْ كُوَر الْأَهْوَاز كَانَ يَبِيع الثِّيَاب الَّتِي تُجْلَب مِنْهَا فَنُسِبَ إِلَيْهَا، فَيُقَال: هِشَام الدَّسْتُوَائِيّ. وَهِشَام صَاحِب الدَّسْتَوَائِيّ أَيْ: صَاحِب الْبَزّ الدَّسْتَوَائِيّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي أَوَّل كِتَاب الصَّلَاة بِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَوْهَمَتْ لَبْسًا فَقَالَ فِي بَاب صِفَة الْأَذَان: حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّان وَإِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم قَالَ إِسْحَاق: أَخْبَرَنَا مُعَاذ بْن هِشَام صَاحِب الدَّسْتَوَائِيّ فَتَوَهَّمَ صَاحِب الْمَطَالِع أَنَّ قَوْل: صَاحِب الدَّسْتَوَائِيّ مَرْفُوع وَأَنَّهُ صِفَة لِمُعَاذٍ فَقَالَ: يُقَال: صَاحِب الدَّسْتَوَائِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ اِبْنه وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِب الْمَطَالِع لَيْسَ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا (صَاحِب) هُنَا مَجْرُور صِفَة لِهِشَامٍ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِع الَّذِي نَحْنُ الْآن فيه. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (أَبُو غَسَّان الْمِسْمَعِيّ) فَتَقَدَّمَ بَيَانه مَرَّات، وَأَنَّهُ يَجُوز صَرْفه وَتَرْكه وَأَنَّ (الْمِسْمَعِيّ) بِكَسْرِ الْمِيم الْأُولَى وَفَتْح الثَّانِيَة مَنْسُوب إِلَى (مِسْمَع) جَدّ الْقَبِيلَة.
وَأَمَّا قَوْله: (حَدَّثَنَا مُعَاذ وَهُوَ اِبْن هِشَام) فَتَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْفُصُول وَفِي مَوَاضِع كَثِيرَة، وَأَنَّ فَائِدَته أَنَّهُ لَمْ يَقَع قَوْله اِبْن هِشَام فِي الرِّوَايَة فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنهُ وَلَمْ يَسْتَجِزْ أَنْ يَقُول مُعَاذ بْن هِشَام لِكَوْنِهِ لَمْ يَقَع فِي الرِّوَايَة، فَقَالَ: وَهُوَ اِبْن هِشَام، وَهَذَا وَأَشْبَاهه مِمَّا كَرَّرَ ذِكْره أَقْصِد بِهِ الْمُبَالَغَة فِي الْإِيضَاح وَالتَّسْهِيل، فَإِنَّهُ إِذَا طَالَ الْعَهْد بِهِ قَدْ يَنْسَى، وَقَدْ يَقِف عَلَى هَذَا الْمَوْضِع مَنْ لَا خِبْرَة لَهُ بِالْمَوْضِعِ الْمُتَقَدِّم. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَانَ فِي قَلْبه مِنْ الْخَيْر مَا يَزْنِ ذَرَّة» الْمُرَاد بِالذَّرَّةِ وَاحِدَة الذَّرّ وَهُوَ الْحَيَوَان الْمَعْرُوف الصَّغِير مِنْ النَّمْل، وَهِيَ بِفَتْحِ الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الرَّاء وَمَعْنَى (يَزْنِ) أَيْ: يَعْدِل.
وَأَمَّا قَوْله: (إِنَّ شُعْبَة جَعَلَ مَكَان الذَّرَّة ذَرَّة) فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ رَوَاهُ بِضَمِّ الذَّال وَتَخْفِيف الرَّاء، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَصْحِيف مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله فِي الْكِتَاب قَالَ يَزِيد: صَحَّفَ فيها أَبُو بِسْطَام يَعْنِي شُعْبَة.
286- أَمَّا قَوْله: (أَبُو الرَّبِيع الْعَتَكِيُّ) فَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَالتَّاء، وَهُوَ أَبُو الرَّبِيع الزَّهْرَانِيّ الَّذِي يُكَرِّرهُ مُسْلِم فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، وَاسْمه سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: نَسَبَهُ مُسْلِم مَرَّة زَهْرَانِيًّا وَمَرَّة عَتَكِيًّا وَمَرَّة جَمَعَ لَهُ النَّسَبَيْنِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ بِوَجْهٍ، وَكِلَاهُمَا يَرْجِع إِلَى الْأَزْدِ إِلَّا أَنْ يَكُون لِلْجَمْعِ سَبَب مِنْ جَوَاز أَوْ حَلِف. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (مَعْبَد الْعَنَزِيّ) فَهُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَبِفَتْحِ النُّون وَبِالزَّايِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَأَجْلَسَ ثَابِتًا مَعَهُ عَلَى سَرِيره) فيه: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ وَكَبِير الْمَجْلِس أَنْ يُكْرِمَ فُضَلَاء الدَّاخِلِينَ عَلَيْهِ وَيُمَيِّزهُمْ بِمَزِيدِ إِكْرَام فِي الْمَجْلِس وَغَيْره.
قَوْله: (إِخْوَانك مِنْ أَهْل الْبَصْرَة) قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَائِل الْكِتَاب أَنَّ فِي الْبَصْرَة ثَلَاث لُغَات فَتْح الْبَاء وَضَمّهَا وَكَسْرهَا وَالْفَتْح هُوَ الْمَشْهُور.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَحْمَدهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِر عَلَيْهِ الْآنَ» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (لَا أَقْدِر عَلَيْهِ)، وَهُوَ صَحِيح وَيَعُود الضَّمِير فِي (عَلَيْهِ) إِلَى الْحَمْد.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُقَال: اِنْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبه مِثْقَال حَبَّة مِنْ بُرَّة أَوْ شَعِيرَة مِنْ إِيمَان فَأَخْرِجُوهُ مِنْهَا فَأَنْطَلِق فَأَفْعَل» ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْده: «فَيُقَال: اِنْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبه مِثْقَال حَبَّة مِنْ خَرْدَل مِنْ إِيمَان فَأَخْرِجْهُ» ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُقَال لِي اِنْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبه أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَال حَبَّة مِنْ خَرْدَل مِنْ إِيمَان فَأَخْرِجْهُ» أَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِث فَاتَّفَقَتْ الْأُصُول عَلَى أَنَّهُ (فَأَخْرِجْهُ) بِضَمِيرِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْده.
وَأَمَّا الْأَوَّل فَفِي بَعْض الْأُصُول (فَأَخْرِجُوهُ) كَمَا ذَكَرْنَا عَلَى لَفْظ الْجَمْع، وَفِي بَعْضهَا (فَأَخْرِجْهُ) وَفِي أَكْثَرهَا (فَأَخْرِجُوا) بِغَيْرِ هَاء وَكُلّه صَحِيح، فَمَنْ رَوَاهُ (فَأَخْرِجُوهُ) يَكُون خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمَلَائِكَة، وَمَنْ حَذَفَ الْهَاء فَلِأَنَّهَا ضَمِير الْمَفْعُول وَهُوَ فَضْلَة يَكْثُر حَذْفه. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول مُكَرَّر ثَلَاث مَرَّات. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِمَذْهَبِ السَّلَف وَأَهْل السُّنَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أَنَّ الْإِيمَان يَزِيد وَيَنْقُص، وَنَظَائِره فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة كَثِيرَة وَقَدْ قَدَّمْنَا تَقْرِير هَذِهِ الْقَاعِدَة فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان وَأَوْضَحْنَا الْمَذَاهِب فيها وَالْجَمْع بَيْنهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله: (هَذَا حَدِيث أَنَس الَّذِي أَنْبَأَنَا بِهِ فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْده فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرِ الْجَبَّان قُلْنَا: لَوْ مِلْنَا إِلَى الْحَسَن فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ فِي دَار أَبِي خَلِيفَة، قَالَ: فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَقُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيد جِئْنَاك مِنْ عِنْد أَخِيك أَبِي حَمْزَة فَلَمْ نَسْمَع بِمِثْلِ حَدِيث حَدَّثَنَاهُ فِي الشَّفَاعَة قَالَ: هِيهِ، فَحَدَّثْنَاهُ الْحَدِيث، قَالَ: هِيهِ، قُلْنَا: مَا زَادَنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَة وَهُوَ يَوْمئِذٍ جَمِيع، وَلَقَدْ تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا مَا أَدْرِي أَنَسِيَ الشَّيْخ أَوْ كَرِهَ أَنْ يُحَدِّثَكُمْ فَتَتَّكِلُوا، قُلْنَا لَهُ: حَدَّثَنَا فَضَحِكَ وَقَالَ: خُلِقَ الْإِنْسَان مِنْ عَجَل، مَا ذَكَرْت لَكُمْ هَذَا إِلَّا وَأَنَا أُرِيدَ أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ: «ثُمَّ أَرْجِع إِلَى رَبِّي فِي الرَّابِعَة فَأَحْمَدهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِد، ثُمَّ أَخِرّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَال لِي: يَا مُحَمَّد اِرْفَعْ رَأْسك، وَقُلْ يُسْمَع لَك وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّع فَأَقُول: يَا رَبّ اِئْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَك أَوْ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْك وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي وَجِبْرِيَائِي لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه»، قَالَ فَأُشْهِدَ عَلَيَّ الْحَسَن أَنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَس بْن مَالِك أَرَاهُ قَالَ: قَبْل عِشْرِينَ سَنَة وَهُوَ يَوْمئِذٍ جَمِيع) هَذَا الْكَلَام فيه فَوَائِد كَثِيرَة فَلِهَذَا نَقَلْت الْمَتْن بِلَفْظِهِ مُطَوَّلًا لِيَعْرِف مُطَالِعه مَقَاصِده. أَمَّا قَوْله: (بِظَهْرِ الْجَبَّان) فَالْجَبَّان بِفَتْحِ الْجِيم وَتَشْدِيد الْبَاء قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْجَبَّان وَالْجَبَّانَة هُمَا الصَّحْرَاء وَيُسَمَّى بِهِمَا الْمَقَابِر، لِأَنَّهَا تَكُون فِي الصَّحْرَاء، وَهُوَ مِنْ تَسْمِيَة الشَّيْء بِاسْمِ مَوْضِعه، وَقَوْله: (بِظَهْرِ الْجَبَّان) أَيْ: بِظَاهِرِهَا وَأَعْلَاهَا الْمُرْتَفِع مِنْهَا. وَقَوْله: (مِلْنَا إِلَى الْحَسَن) يَعْنِي عَدَلْنَا، وَهُوَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ.
وَقَوْله (وَهُوَ مُسْتَخْفٍ) يَعْنِي مُتَغَيِّبًا خَوْفًا مِنْ الْحَجَّاج بْن يُوسُف. وَقَوْله: (قَالَ: هِيهِ) هُوَ بِكَسْرِ الْهَاء وَإِسْكَان الْيَاء وَكَسْر الْهَاء الثَّانِيَة قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال فِي اِسْتِزَادَة الْحَدِيث: (إِيه) وَيُقَال: (هِيهِ) بِالْهَاءِ بَدَل الْهَمْزَة، قَالَ الْجَوْهَرِيّ: (إِيه) اِسْم سُمِّيَ بِهِ الْفِعْل لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْر، تَقُول لِلرَّجُلِ إِذَا اِسْتَزَدْته مِنْ حَدِيث أَوْ عَمَل: (إِيه) بِكَسْرِ الْهَمْزَة، قَالَ اِبْن السِّكِّيت: فَإِنْ وَصَلْت نَوَّنْت فَقُلْت: إِيه حَدِيثًا، قَالَ اِبْن السَّرِيّ: إِذَا قُلْت: (إِيه) فَإِنَّمَا تَأْمُرهُ بِأَنْ يَزِيدك مِنْ الْحَدِيث الْمَعْهُود بَيْنَكُمَا كَأَنَّك قُلْت: هَاتِ الْحَدِيث، وَإِنْ قُلْت: (إِيه) بِالتَّنْوِينِ كَأَنَّك قُلْت: هَاتِ حَدِيثًا مَا؛ لِأَنَّ التَّنْوِين تَنْكِير، فَأَمَّا إِذَا أَسْكَنْته وَكَفَفْته فَإِنَّك تَقُول: (إِيهًا عَنْهُ).
وَأَمَّا قَوْله: (وَهُوَ يَوْمئِذٍ جَمِيع) فَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيم، وَكَسْر الْمِيم وَمَعْنَاهُ: مُجْتَمِع الْقُوَّة وَالْحِفْظ. وَقَوْله: (فَضَحِكَ) فيه أَنَّهُ لَا بَأْس بِضَحِكِ الْعَالِم بِحَضْرَةِ أَصْحَابه إِذَا كَانَ بَيْنه وَبَيْنهمْ أُنْس، وَلَمْ يَخْرُج بِضَحِكِهِ إِلَى حَدّ يُعَدّ تَرْكًا لِلْمُرُوءَةِ. وَقَوْله: (فَضَحِكَ وَقَالَ: خُلِقَ الْإِنْسَان مِنْ عَجَل) فيه: جَوَاز الِاسْتِشْهَاد بِالْقُرْآنِ فِي مِثْل هَذَا الْمَوْطِن، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح مِثْله مِنْ فِعْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا طَرَقَ فَاطِمَة وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ثُمَّ اِنْصَرَفَ وَهُوَ يَقُول: {وَكَانَ الْإِنْسَان أَكْثَر شَيْء جَدَلًا} وَنَظَائِر هَذَا كَثِيرَة. وَقَوْله: (مَا ذَكَرْت لَكُمْ هَذَا إِلَّا وَأَنَا أُرِيدَ أَنْ أُحَدِّثكُمُوهُ ثُمَّ أَرْجِع إِلَى رَبِّي). هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات وَهُوَ الظَّاهِر، وَتَمَّ الْكَلَام عَلَى قَوْله: (أُحَدِّثكُمُوهُ)، ثُمَّ اِبْتَدَأَ تَمَام الْحَدِيث فَقَالَ: (ثُمَّ أَرْجِع)، وَمَعْنَاهُ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أَرْجِع إِلَى رَبِّي».
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِئْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَك وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي وَجِبْرِيَائِي لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه» مَعْنَاهُ لَأَتَفَضَّلَنَّ عَلَيْهِمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ غَيْر شَفَاعَة، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيث السَّابِق (شَفَعَتْ الْمَلَائِكَة وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ).
وَأَمَّا قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: (وَجِبْرِيَائِي) فَهُوَ بِكَسْرِ الْجِيم أَيْ: عَظَمَتِي وَسُلْطَانِي أَوْ قَهْرِي.
وَأَمَّا قَوْله: (فَأُشْهِدَ عَلَيَّ الْحَسَن أَنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ... إِلَى آخِره) فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَة فِي تَحْقِيقه وَتَقْرِيره فِي نَفْس الْمُخَاطَب، وَإِلَّا فَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي أَوَّل الْكَلَام. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (عَنْ أَبِي حَيَّان عَنْ أَبِي زُرْعَة) أَمَّا (حَيَّان) فَبِالْمُثَنَّاةِ وَتَقَدَّمَ بَيَان أَبِي حَيَّان وَأَبِي زُرْعَة فِي أَوَّل كِتَاب الْإِيمَان، وَأَنَّ اِسْم أَبِي زُرْعَة: هَرَم، وَقِيلَ: عَمْرو، وَقِيلَ: عُبَيْد اللَّه، وَقِيلَ: عَبْد الرَّحْمَن. وَاسْم أَبِي حَيَّان يَحْيَى بْن سَعِيد بْن حَيَّان. قَوْله: (فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاع وَكَانَتْ تُعْجِبهُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: مَحَبَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلذِّرَاعِ لِنُضْجِهَا وَسُرْعَة اِسْتِمْرَائِهَا مَعَ زِيَادَة لَذَّتهَا وَحَلَاوَة مَذَاقهَا، وَبُعْدهَا عَنْ مَوَاضِع الْأَذَى. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: مَا كَانَتْ الذِّرَاع أَحَبّ اللَّحْم إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ كَانَ لَا يَجِد اللَّحْم إِلَّا غِبًّا فَكَانَ يَعْجَل إِلَيْهَا لِأَنَّهَا أَعْجَلهَا نُضْجًا. قَوْله: (فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَة) هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: أَكْثَر الرُّوَاة رَوَوْهُ بِالْمُهْمَلَةِ، وَوَقَعَ لِابْنِ مَاهَانَ بِالْمُعْجَمَةِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح بِمَعْنَى أَخَذَ بِأَطْرَافِ أَسْنَانه، قَالَ الْهَرَوِيُّ: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: (النَّهْس) بِالْمُهْمَلَةِ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَان وَبِالْمُعْجَمَةِ الْأَضْرَاس.
287- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّد النَّاس يَوْم الْقِيَامَة» إِنَّمَا قَالَ هَذَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى، وَقَدْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا وَنَصِيحَة لَنَا بِتَعْرِيفِنَا حَقّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قِيلَ السَّيِّد الَّذِي يَفُوق قَوْمه وَيُفْزَع إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِد، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدهمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِنَّمَا خُصَّ يَوْم الْقِيَامَة لِارْتِفَاعِ السُّؤْدُد فيها، وَتَسْلِيم جَمِيعهمْ لَهُ، وَلِكَوْنِ آدَم وَجَمِيع أَوْلَاده تَحْت لِوَائِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لِمَنْ الْمُلْك الْيَوْم لِلَّهِ الْوَاحِد الْقَهَّار} أَيْ: اِنْقَطَعَتْ دَعَاوِي الْمُلْك فِي ذَلِكَ الْيَوْم. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَجْمَع اللَّه يَوْم الْقِيَامَة الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيد وَاحِد فَيُسْمِعهُمْ الدَّاعِي وَيُنْفِذُهُمْ الْبَصَر» أَمَّا (الصَّعِيد) فَهُوَ الْأَرْض الْوَاسِعَة الْمُسْتَوِيَة، وَأَمَّا (يُنْفِذُهُمْ الْبَصَر) فَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ وَصَاحِب الْمَطَالِع وَغَيْرهمَا أَنَّهُ رُوِيَ بِضَمِّ الْيَاء وَبِفَتْحِهَا قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ بِالْفَتْحِ وَبِعَضْمِ بِالضَّمِّ.
قَالَ الْهَرَوِيُّ: قَالَ الْكِسَائِيّ: يُقَال: نَفَذَنِي بَصَره إِذَا بَلَغَنِي وَجَاوَزَنِي.
قَالَ: وَيُقَال: أَنَفَذْت الْقَوْم إِذَا خَرَقْتهمْ وَمَشَيْت فِي وَسَطهمْ فَإِنْ جِزَتهمْ حَتَّى تَخَلَّفْتهمْ قُلْت: نَفَذْتهمْ بِغَيْرِ أَلِف، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَقَالَ الْهَرَوِيُّ: قَالَ أَبُو عُبَيْد مَعْنَاهُ: يُنْفِذُهُمْ بَصَر الرَّحْمَن تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَتَّى يَأْتِي عَلَيْهِمْ كُلّهمْ، وَقَالَ غَيْر أَبِي عُبَيْد: أَرَادَ تَخْرِقهُمْ أَبْصَار النَّاظِرِينَ لِاسْتِوَاءِ الصَّعِيد وَاَللَّه تَعَالَى قَدْ أَحَاطَ بِالنَّاسِ أَوَّلًا وَآخِرًا. هَذَا كَلَام الْهَرَوِيّ، وَقَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُحِيط بِهِمْ النَّاظِر لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ شَيْء؛ لِاسْتِوَاءِ الْأَرْض لَيْسَ فيها مَا يَسْتَتِر بِهِ أَحَد عَنْ النَّاظِرِينَ، قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْل أَبِي عُبَيْد: يَأْتِي عَلَيْهِمْ بَصَر الرَّحْمَن سُبْحَانه وَتَعَالَى؛ لِأَنَّ رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى تُحِيط بِجَمِيعِهِمْ فِي كُلّ حَال فِي الصَّعِيد الْمُسْتَوِي وَغَيْره. هَذَا قَوْل صَاحِب الْمَطَالِع.
قَالَ الْإِمَام أَبُو السَّعَادَات الْجَزَرِيُّ- بَعْد أَنْ ذَكَرَ الْخِلَاف بَيْن أَبِي عُبَيْد وَغَيْره فِي أَنَّ الْمُرَاد بَصَر الرَّحْمَن سُبْحَانه وَتَعَالَى أَوْ بَصَر النَّاظِر مِنْ الْخَلْق-: قَالَ أَبُو حَاتِم: أَصْحَاب الْحَدِيث يَرْوُونَهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَإِنَّمَا هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ يَبْلُغ أَوَّلهمْ وَآخِرهمْ حَتَّى يَرَاهُمْ كُلّهمْ وَيَسْتَوْعِبهُمْ مِنْ نَفَذَ الشَّيْء وَأَنْفَذْتَهُ، قَالَ: وَحَمْل الْحَدِيث عَلَى بَصَر النَّاظِر أَوْلَى مِنْ حَمْله عَلَى بَصَر الرَّحْمَن. هَذَا كَلَام أَبِي السَّعَادَات، فَحَصَلَ خِلَاف فِي فَتْح الْيَاء وَضَمّهَا، وَفِي الذَّال، وَالدَّال وَفِي الضَّمِير فِي يُنْفِذُهُمْ وَالْأَصَحّ فَتْح الْيَاء، وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَأَنَّهُ بَصَر الْمَخْلُوق. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا) هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَعْرُوف وَضَبَطَهُ بَعْض الْأَئِمَّة الْمُتَأَخِّرِينَ وَبِالْفَتْحِ وَالْإِسْكَان، وَهَذَا لَهُ وَجْه وَلَكِنَّ الْمُخْتَار مَا قَدَّمْنَاهُ، وَيَدُلّ عَلَّه قَوْله فِي هَذَا الْحَدِيث قَبْل هَذَا أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، وَلَوْ كَانَ بِإِسْكَانِ الْغَيْن لَقَالَ: بَلَغْتُمْ.
قَوْله: (فَيَقُول آدَم وَغَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْم غَضَبًا لَمْ يَغْضَب قَبْله مِثْله وَلَنْ يَغْضَب بَعْده مِثْله) الْمُرَاد بِغَضَبِ اللَّه تَعَالَى مَا يَظْهَر مِنْ اِنْتِقَامه مِمَّنْ عَصَاهُ وَمَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَلِيم عَذَابه، وَمَا يُشَاهِدهُ أَهْل الْمَجْمَع مِنْ الْأَهْوَال الَّتِي لَمْ تَكُنْ وَلَا يَكُون مِثْلهَا، وَلَا شَكّ فِي أَنَّ هَذَا كُلّه لَمْ يَتَقَدَّم قَبْل ذَلِكَ الْيَوْم مِثْله وَلَا يَكُون بَعْده مِثْله، فَهَذَا مَعْنَى غَضَب اللَّه تَعَالَى كَمَا أَنَّ رِضَاهُ ظُهُور رَحْمَته وَلُطْفه بِمَنْ أَرَادَ بِهِ الْخَيْر وَالْكَرَامَة؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَسْتَحِيل فِي حَقّه التَّغَيُّر فِي الْغَضَب وَالرِّضَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (إِنَّ مَا بَيْن الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيع الْجَنَّة كَمَا بَيْن مَكَّة وَهَجَر أَوْ كَمَا بَيْن مَكَّة وَبُصْرَى) (الْمِصْرَاعَانِ) بِكَسْرِ الْمِيم جَانِبَا الْبَاب، (وَهَجَر) بِفَتْحِ الْهَاء وَالْجِيم وَهِيَ مَدِينَة عَظِيمَة هِيَ قَاعِدَة بِلَاد الْبَحْرَيْنِ، قَالَ الْجَوْهَرِيّ فِي صِحَاحه: (هَجَر) اِسْم بَلَد مُذَكَّر مَصْرُوف قَالَ: وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ (هَاجِرِيّ)، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الزَّجَّاجِيّ فِي الْجُمَل: (هَجَر) يَذَكَّر وَيُؤَنَّث قُلْت: وَهَجَر هَذِهِ غَيْر هَجَر الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث: «إِذَا بَلَغَ الْمَاء قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَر» تِلْكَ قَرْيَة مِنْ قُرَى الْمَدِينَة كَانَتْ الْقِلَال تُصْنَع بِهَا وَهِيَ غَيْر مَصْرُوفَة، وَقَدْ أَوْضَحْتهَا فِي أَوَّل شَرْح الْمُهَذَّب وَأَمَّا (بُصْرَى) فَبِضَمِّ الْبَاء وَهِيَ مَدِينَة مَعْرُوفَة بَيْنهَا وَبَيْن دِمَشْق نَحْو ثَلَاث مَرَاحِل، وَهِيَ مَدِينَة حُورَان بَيْنهَا وَبَيْن مَكَّة شَهْر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَقُولُونَ كَيْفَه قَالُوا: كَيْفَه يَا رَسُول اللَّه» هَذِهِ الْهَاء هِيَ هَاء السَّكْت تَلْحَق فِي الْوَقْف.
وَأَمَّا قَوْل الصَّحَابَة: (كَيْفَه يَا رَسُول اللَّه) فَأَثْبَتُوا الْهَاء فِي حَالَة الدَّرَج فَفيها وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِب التَّحْرِير وَغَيْره، أَحَدهمَا: أَنَّ مِنْ الْعَرَب مَنْ يُجْرِي الدَّرَج مَجْرَى الْوَقْف، وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَة قَصَدُوا اِتِّبَاع لَفْظ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي حَثَّهُمْ عَلَيْهِ فَلَوْ قَالُوا: (كَيْف) لَمَا كَانُوا سَائِلِينَ عَنْ اللَّفْظ الَّذِي حَثَّهُمْ عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَى عِضَادَتَيْ الْبَاب» هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْن قَالَ الْجَوْهَرِيّ: عِضَادَتَا الْبَاب هُمَا خَشَبَتَاهُ مِنْ جَانِبَيْهِ.
288- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَقُوم الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَف لَهُمْ الْجَنَّة» هُوَ بِضَمِّ التَّاء وَإِسْكَان الزَّاي وَمَعْنَاهُ تَقْرُب كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّة لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ: قَرُبَتْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا كُنْت خَلِيلًا مِنْ وَرَاء وَرَاء» قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: هَذِهِ كَلِمَة تُذْكَر عَلَى سَبِيل التَّوَاضُع أَيْ: لَسْت بِتِلْكَ الدَّرَجَة الرَّفِيعَة، قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ لِي مَعْنَى مَلِيح فيه وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَكَارِم الَّتِي أُعْطِيتهَا كَانَتْ بِوَسَاطَةِ سِفَارَة جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ اِئْتُوا مُوسَى؛ فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ سَمَاع الْكَلَام بِغَيْرِ وَاسِطَة، قَالَ: وَإِنَّمَا كَرَّرَ وَرَاء وَرَاء لِكَوْنِ نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَلَ لَهُ السَّمَاع بِغَيْرِ وَاسِطَة، وَحَصَلَ لَهُ الرُّؤْيَة، فَقَالَ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَرَاء مُوسَى الَّذِي هُوَ وَرَاء مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ. هَذَا كَلَام صَاحِب التَّحْرِير وَأَمَّا ضَبْط (وَرَاء وَرَاء) فَالْمَشْهُور فيه الْفَتْح فيهمَا بِلَا تَنْوِين، وَيَجُوز عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة بِنَاؤُهُمَا عَلَى الضَّمّ، وَقَدْ جَرَى فِي هَذَا كَلَام بَيْن الْحَافِظ أَبِي الْخَطَّاب بْن دِحْيَة وَالْإِمَام الْأَدِيب أَبِي الْيُمْن الْكِنْدِيّ فَرَوَاهُمَا اِبْن دِحْيَة بِالْفَتْحِ وَادَّعَى أَنَّهُ الصَّوَاب فَأَنْكَرَهُ الْكِنْدِيّ، وَادَّعَى أَنَّ الضَّمّ هُوَ الصَّوَاب وَكَذَا قَالَ أَبُو الْبَقَاء: الصَّوَاب الضَّمّ لِأَنَّ تَقْدِيره مِنْ وَرَاء ذَلِكَ أَوْ مِنْ وَرَاء شَيْء آخَر، قَالَ: فَإِنْ صَحَّ الْفَتْح قَبْل، وَقَدْ أَفَادَنِي هَذَا الْحَرْف الشَّيْخ الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن أُمَيَّة أَدَامَ اللَّه نِعَمه عَلَيْهِ وَقَالَ: الْفَتْح صَحِيح وَتَكُون الْكَلِمَة مُؤَكَّدَة كَشَذْرٍ مَذَر، وَشَغَر بَغَر، وَسَقَطُوا بَيْن بَيْن، فَرَكَّبَهُمَا وَبَنَاهُمَا عَلَى الْفَتْح، قَالَ: وَإِنْ وَرَدَ مَنْصُوبًا مُنَوَّنًا جَازَ جَوَازًا جَيِّدًا قُلْت: وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيّ فِي صِحَاحه عَنْ الْأَخْفَش أَنَّهُ يُقَال: (لَقِيته مِنْ وَرَاء) مَرْفُوع عَلَى الْغَايَة كَقَوْلِك (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) قَالَ: وَأَنْشَدَ الْأَخْفَش شِعْرًا: إِذَا أَنَا لَمْ أُومَن عَلَيْك وَلَمْ يَكُنْ لِقَاؤُك إِلَّا مِنْ وَرَاء وَرَاء بِضَمِّهِمَا وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتُرْسَل الْأَمَانَة وَالرَّحِم فَتَقُومَانِ جَنْبَتَيْ الصِّرَاط» أَمَّا (تَقُومَانِ) فَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ فَوْق، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَان ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُؤَنَّثَتَيْنِ الْغَائِبَتَيْنِ تَكُونَانِ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْق.
وَأَمَّا (جَنَبَتَا الصِّرَاط) فَبِفَتْحِ الْجِيم وَالنُّون وَمَعْنَاهُمَا جَانِبَاهُ.
وَأَمَّا (إِرْسَال الْأَمَانَة وَالرَّحِم) فَهُوَ لِعِظَمِ أَمْرهمَا وَكِبَر مَوْقِعهمَا فَتُصَوَّرَانِ مُشَخَّصَتَيْنِ عَلَى الصِّفَة الَّتِي يُرِيدهَا اللَّه تَعَالَى، قَالَ صَاحِب التَّحْرِير فِي الْكَلَام اِخْتِصَار، وَالسَّامِع فَهِمَ أَنَّهُمَا تَقُومَانِ لِتُطَالِبَا كُلّ مَنْ يُرِيد الْجَوَاز بِحَقِّهِمَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَمُرّ أَوَّلهمْ كَالْبَرْقِ ثُمَّ ذَكَرَ الرِّيح ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْر وَشَدّ الرِّجَال تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالهمْ» أَمَّا (شَدّ الرِّجَال) فَهُوَ بِالْجِيمِ جَمْع رَجُل هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَعْرُوف الْمَشْهُور، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّهُ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَانَ بِالْحَاءِ.
قَالَ الْقَاضِي وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى وَشَدّهَا عَدْوهَا الْبَالِغ وَجَرْيهَا.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالهمْ» فَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَمُرّ أَوَّلكُمْ كَالْبَرْقِ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيح...» إِلَى آخِره، مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي سُرْعَة الْمُرُور عَلَى حَسَب مَرَاتِبهمْ وَأَعْمَالهمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي حَافَّتَيْ الصِّرَاط» هُوَ بِتَخْفِيفِ الْفَاء وَهُمَا جَانِبَاهُ، وَأَمَّا الْكَلَالِيب فَتَقَدَّمَ بَيَانهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَخْدُوش نَاجٍ وَمَكْدُوس» هُوَ بِالدَّالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي هَذَا الْبَاب، وَوَقَعَ فِي أَكْثَر الْأُصُول هُنَا (مُكَرْدَس) بِالرَّاءِ ثُمَّ الدَّال، وَهُوَ قَرِيب مِنْ مَعْنَى الْمَكْدُوس.
قَوْله: «وَاَلَّذِي نَفْس أَبِي هُرَيْرَة بِيَدِهِ إِنَّ قَعْر جَهَنَّم لَسَبْعُونَ خَرِيفًا» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض الْأُصُول (لَسَبْعُونَ) بِالْوَاوِ، وَهَذَا ظَاهِر وَفيه حَذْف تَقْدِيره: إِنَّ مَسَافَة قَعْر جَهَنَّم سَيْر سَبْعِينَ سَنَة، وَوَقَعَ فِي مُعْظَم الْأُصُول وَالرِّوَايَات (لَسَبْعِينَ) بِالْيَاءِ، وَهُوَ صَحِيح أَيْضًا، أَمَّا عَلَى مَذْهَب مَنْ يَحْذِف الْمُضَاف وَيُبْقِي الْمُضَاف إِلَيْهِ عَلَى جَرّه فَيَكُون التَّقْدِير: سَيْر سَبْعِينَ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّ قَعْر جَهَنَّم مَصْدَرِيّ يُقَال: قَعَرْت الشَّيْء إِذَا بَلَغْت قَعْره، وَيَكُون (سَبْعِينَ) ظَرْف زَمَان، وَفيه خَبَر إِنَّ التَّقْدِير أَنَّ بُلُوغ قَعْر جَهَنَّم لَكَائِن فِي سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَالْخَرِيف، السَّنَة. وَاَللَّه أَعْلَم.