فصل: (بَاب بَيَان أَرْكَان الْإِسْلَام وَدَعَائِمه الْعِظَام):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام:

12- قَوْله: (قُتَيْبَة بْن سَعِيد الثَّقَفِيّ) اُخْتُلِفَ فيه، فَقِيلَ. قُتَيْبَة اِسْمه، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ لَقَب وَاسْمه عَلِيٌّ، قَالَهُ أَبُو عَبْد اللَّه بْن مَنْدَهْ. وَقِيلَ: اِسْمه يَحْيَى.
قَالَ اِبْن عَدِيّ: وَأَمَّا قَوْله (الثَّقَفِيّ) فَهُوَ مَوْلَاهُمْ قِيلَ: إِنَّ جَدَّهُ جَمِيلًا كَانَ مَوْلًى لِلْحَجَّاجِ بْن يُوسُف الثَّقَفِيّ.
وَفيه (أَبُو سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ) اِسْم أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعُ بْن مَالِكِ بْن أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيّ، وَنَافِع عَمّ مَالِك بْن أَنَس الْإِمَام، وَهُوَ تَابِعِيّ سَمِعَ أَنَس بْن مَالِك.
قَوْله: (رَجُل مِنْ أَهْل نَجْد ثَائِر الرَّأْس) هُوَ بِرَفْعِ ثَائِر صِفَة لِرَجُلٍ وَقِيلَ يَجُوز نَصْبُهُ عَلَى الْحَال. وَمَعْنَى ثَائِر الرَّأْس قَائِمُ شَعْرِهِ مُنْتَفِشُهُ.
وَقَوْله: (نَسْمَع دَوِيّ صَوْته وَلَا نَفْقَه مَا يَقُول) رُوِيَ نَسْمَع وَنَفْقَه بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَة فيهمَا، وَرُوِيَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت الْمَضْمُومَة فيهمَا. وَالْأَوَّل هُوَ الْأَشْهَرُ الْأَكْثَرُ الْأَعْرَفُ.
وَأَمَّا (دَوِيّ صَوْته) فَهُوَ بُعْدُهُ فِي الْهَوَاء وَمَعْنَاهُ شِدَّةُ صَوْتٍ لَا يُفْهِمُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيد الْيَاء هَذَا هُوَ الْمَشْهُور. وَحَكَى صَاحِب الْمَطَالِع فيه ضَمَّ الدَّالِ أَيْضًا.
قَوْله: «هَلْ عَلَيَّ غَيْرهَا قَالَ: لَا؛ إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ» الْمَشْهُور فيه: «تَطَّوَّع» بِتَشْدِيدِ الطَّاء عَلَى إِدْغَام إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الطَّاء وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى هُوَ مُحْتَمِل لِلتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف عَلَى الْحَذْف.
قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا أَنْ تَطَّوَّع» اِسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَاهُ: لَكِنْ يُسْتَحَبّ لَك أَنْ تَطَّوَّع. وَجَعَلَهُ بَعْض الْعُلَمَاء اِسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى مَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ نَفْلٍ أَوْ صَوْمِ نَفْلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ، وَمَذْهَبنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ الْإِتْمَام وَلَا يَجِب. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: «فَأَدْبَرَ الرَّجُل وَهُوَ يَقُول: وَاَللَّهِ لَا أَزِيد عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» قِيلَ: هَذَا الْفَلَاح رَاجِع إِلَى قَوْله لَا أَنْقُصُ خَاصَّة. وَالْأَظْهَر أَنَّهُ عَائِد إِلَى الْمَجْمُوع بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ كَانَ مُفْلِحًا لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ، وَمَنْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَهُوَ مُفْلِحٌ، وَلَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُ إِذَا أَتَى بِزَائِدٍ لَا يَكُون مُفْلِحًا لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ إِذَا أَفْلَحَ بِالْوَاجِبِ فَلَأَنْ يُفْلِحَ بِالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: لَا أَزِيد عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث جَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ وَلَا الْمَنْهِيَّات الشَّرْعِيَّة وَلَا السُّنَن الْمَنْدُوبَات؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ فِي آخِر هَذَا الْحَدِيث زِيَادَةٌ تُوَضِّحُ الْمَقْصُود قَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُول: وَاَللَّه لَا أَزِيد وَلَا أَنْقُص مِمَّا فَرَضَ اللَّه- تَعَالَى- عَلَيَّ شَيْئًا. فَعَلَى عُمُوم قَوْله بِشَرَائِع الْإِسْلَام، وَقَوْله: مِمَّا فَرَضَ اللَّه عَلَيَّ يَزُول الْإِشْكَال فِي الْفَرَائِض.
وَأَمَّا النَّوَافِل، فَقِيلَ: يُحْتَمَل أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْل شَرْعِهَا، وَقِيلَ يُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ لَا أَزِيد فِي الْفَرْض بِتَغْيِيرِ صِفَته كَأَنَّهُ يَقُول لَا أُصَلِّي الظُّهْر خَمْسًا وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ. وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي النَّافِلَة مَعَ أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِض وَهَذَا مُفْلِحٌ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ كَانَتْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَى تَرْكِ السُّنَن مَذْمُومَة وَتُرَدّ بِهَا الشَّهَادَةُ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَاصٍ بَلْ هُوَ مُفْلِحٌ نَاجٍ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي هَذَا الْحَدِيث ذِكْرُ الْحَجّ، وَلَا جَاءَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيث جِبْرِيل مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة، وَكَذَا غَيْر هَذَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيث لَمْ يُذْكَرْ فِي بَعْضهَا الصَّوْمُ، وَلَمْ يُذْكَر فِي بَعْضهَا الزَّكَاةُ، وَذُكِرَ فِي بَعْضهَا صِلَةُ الرَّحِمِ، وَفِي بَعْضهَا أَدَاءُ الْخُمُسِ، وَلَمْ يَقَع فِي بَعْضهَا ذِكْر الْإِيمَان، فَتَفَاوَتَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيث فِي عَدَد خِصَال الْإِيمَان زِيَادَةً وَنَقْصًا وَإِثْبَاتًا وَحَذْفًا.
وَقَدْ أَجَابَ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره رَحِمَهُمْ اللَّه عَنْهَا بِجَوَابٍ لَخَّصَهُ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَهَذَّبَهُ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ صَادِرٍ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ مِنْ تَفَاوُتِ الرُّوَاةِ فِي الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَ فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا حَفِظَهُ فَأَدَّاهُ وَلَمْ يَتَعَرَّض لِمَا زَادَهُ غَيْره بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ إِنْ كَانَ اِقْتِصَاره عَلَى ذَلِكَ يُشْعِر بِأَنَّهُ الْكُلُّ فَقَدْ بَانَ بِمَا أَتَى بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الثِّقَات أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْكُلِّ، وَأَنَّ اِقْتِصَاره عَلَيْهِ كَانَ لِقُصُورِ حِفْظِهِ عَنْ تَمَامِهِ. أَلَا تَرَى حَدِيث النُّعْمَان بْن قَوْقَل الْآتِي قَرِيبًا اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات فِي خِصَاله بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان مَعَ أَنَّ رَاوِي الْجَمِيع رَاوٍ وَاحِد وَهُوَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي قَضِيَّة وَاحِدَة. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَع مِنْ إِيرَاد الْجَمِيع فِي الصَّحِيح لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَة زِيَادَة الثِّقَة مِنْ أَنَّا نَقْبَلُهَا هَذَا آخِر كَلَام الشَّيْخ وَهُوَ تَقْرِير حَسَن وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» هَذَا مِمَّا جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ الْجَوَاب عَنْهُ مَعَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ» وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» وَجَوَابه أَنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ» لَيْسَ هُوَ حَلِفًا إِنَّمَا هُوَ كَلِمَة جَرَتْ عَادَة الْعَرَب أَنْ تُدْخِلَهَا فِي كَلَامهَا غَيْرَ قَاصِدَةٍ بِهَا حَقِيقَةَ الْحَلِفِ. وَالنَّهْي إِنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ قَصَدَ حَقِيقَة الْحَلِف لِمَا فيه مِنْ إِعْظَام الْمَحْلُوفِ بِهِ وَمُضَاهَاتِهِ بِهِ اللَّهَ سُبْحَانه وَتَعَالَى. فَهَذَا هُوَ الْجَوَاب الْمَرْضِيُّ.
وَقِيلَ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُون هَذَا قَبْل النَّهْي عَنْ الْحَلِف بِغَيْرِ اللَّه- تَعَالَى- وَاَللَّه أَعْلَمُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الصَّلَاة الَّتِي هِيَ رُكْن مِنْ أَرْكَان الْإِسْلَام الَّتِي أُطْلِقَتْ فِي بَاقِي الْأَحَادِيث هِيَ الصَّلَوَات الْخَمْس وَأَنَّهَا فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَةٍ عَلَى كُلّ مُكَلَّفٍ بِهَا، وَقَوْلُنَا بِهَا اِحْتِرَازٌ مِنْ الْحَائِض وَالنُّفَسَاء فَإِنَّهَا مُكَلَّفَة بِأَحْكَامِ الشَّرْع إِلَّا الصَّلَاة وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِمَّا هُوَ مُقَرَّر فِي كُتُب الْفِقْه. وَفيه أَنَّ وُجُوب صَلَاة اللَّيْل مَنْسُوخ فِي حَقِّ الْأُمَّة وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ قَوْل الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه فِي نَسْخِهِ فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَصَحُّ نَسْخُهُ. وَفيه أَنَّ صَلَاة الْوِتْر لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَأَنَّ صَلَاة الْعِيد أَيْضًا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَهَذَا مَذْهَب الْجَمَاهِير، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه وَطَائِفَة إِلَى وُجُوب الْوِتْر، وَذَهَبَ أَبُو سَعِيد الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ إِلَى أَنَّ صَلَاة الْعِيد فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَفيه أَنَّهُ لَا يَجِب صَوْم عَاشُورَاء وَلَا غَيْره سِوَى رَمَضَان. وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ كَانَ صَوْم عَاشُورَاء وَاجِبًا قَبْلَ إِيجَابِ رَمَضَان أَمْ كَانَ الْأَمْر بِهِ نَدْبًا؟ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيّ أَظْهَرُهُمَا: لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا. وَالثَّانِي كَانَ وَاجِبًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّه. وَفيه أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ عَلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا وَفيه غَيْرُ ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.

.السؤال عن أركان الإسلام:

13- قَوْله: «نُهِينَا أَنْ نَسْأَل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْء فَكَانَ يُعْجِبنَا أَنْ يَجِيء الرَّجُل مِنْ أَهْل الْبَادِيَة الْعَاقِل فَيَسْأَلهُ وَنَحْنُ نَسْمَع فَجَاءَ رَجُل مِنْ أَهْل الْبَادِيَة فَقَالَ: يَا مُحَمَّد أَتَانَا رَسُولُك فَزَعَمَ لَنَا أَنَّك تَزْعُمُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرْسَلَك قَالَ: صَدَقَ» إِلَى آخِر الْحَدِيث.
قَوْله: (نُهِينَا أَنْ نَسْأَل) يَعْنِي سُؤَالَ مَا لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانه قَرِيبًا فِي الْحَدِيث الْآخَر: سَلُونِي أَيْ عَمَّا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.
وَقَوْله: (الرَّجُل مِنْ أَهْل الْبَادِيَة) يَعْنِي مَنْ لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ النَّهْي عَنْ السُّؤَال.
وَقَوْله (الْعَاقِل) كَوْنه أَعْرَفَ بِكَيْفِيَّةِ السُّؤَال وَآدَابه وَالْمُهِمّ مِنْهُ، وَحُسْنِ الْمُرَاجَعَة؛ فَإِنَّ هَذِهِ أَسْبَابُ عِظَمِ الِانْتِفَاع بِالْجَوَابِ، وَلِأَنَّ أَهْل الْبَادِيَة هُمْ الْأَعْرَاب، وَيَغْلِبُ فيهمْ الْجَهْلُ وَالْجَفَاءُ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث: «مَنْ بَدَا جَفَا» وَالْبَادِيَة وَالْبَدْو بِمَعْنًى وَهُوَ مَا عَدَا الْحَاضِرَة وَالْعُمْرَان، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا بَدْوِيٌّ، وَالْبِدَاوَة الْإِقَامَة بِالْبَادِيَةِ وَهِيَ بِكَسْرِ الْبَاء عِنْد جُمْهُور أَهْل اللُّغَة وَقَالَ أَبُو زَيْد: هِيَ بِفَتْحِ الْبَاء قَالَ ثَعْلَب: لَا أَعْرِف الْبَدَاوَة بِالْفَتْحِ إِلَّا عَنْ أَبِي زَيْد.
قَوْله: (فَقَالَ يَا مُحَمَّد) قَالَ الْعُلَمَاء لَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْل النَّهْي عَنْ مُخَاطَبَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِهِ قَبْل نُزُول قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضكُمْ بَعْضًا} عَلَى أَحَد التَّفْسِيرَيْنِ أَيْ: لَا تَقُولُوا يَا مُحَمَّد، بَلْ يَا رَسُول اللَّه، يَا نَبِيّ اللَّه وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون بَعْد نُزُول الْآيَة وَلَمْ تَبْلُغْ الْآيَةُ هَذَا الْقَائِلَ.
وَقَوْله: (زَعَمَ رَسُولك أَنَّك تَزْعُم أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرْسَلَك قَالَ صَدَقَ) فَقَوْله: زَعَمَ وَتَزْعُم مَعَ تَصْدِيق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ زَعَمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْكَذِبِ وَالْقَوْلِ الْمَشْكُوكِ فيه، بَلْ يَكُون أَيْضًا فِي الْقَوْل الْمُحَقَّق، وَالصِّدْق الَّذِي لَا شَكَّ فيه.
وَقَدْ جَاءَ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْأَحَادِيث وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: زَعَمَ جِبْرِيل كَذَا وَقَدْ أَكْثَرَ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ إِمَام الْعَرَبِيَّة فِي كِتَابه الَّذِي هُوَ إِمَام كُتُب الْعَرَبِيَّة مِنْ قَوْله: زَعَمَ الْخَلِيل، زَعَمَ أَبُو الْخَطَّاب، يُرِيد بِذَلِكَ الْقَوْلَ الْمُحَقَّقَ.
وَقَدْ نَقَلَ ذَلِكَ جَمَاعَات مِنْ أَهْل اللُّغَة وَغَيْرهمْ، وَنَقَلَهُ أَبُو عُمَر الزَّاهِد فِي شَرْح الْفَصِيح عَنْ شَيْخه أَبِي الْعَبَّاس ثَعْلَب عَنْ الْعُلَمَاء بِاللُّغَةِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّ هَذَا الرَّجُل الَّذِي جَاءَ مِنْ أَهْل الْبَادِيَة اِسْمه ضِمَام بْن ثَعْلَبَة بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَة كَذَا جَاءَ مُسَمًّى فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ. وَغَيْره.
قَوْله: «قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاء؟ قَالَ: اللَّه، قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْض؟ قَالَ: اللَّه، قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فيها مَا جَعَلَ؟ قَالَ: اللَّه. قَالَ: فَبِاَلَّذِي خَلَقَ السَّمَاء وَخَلَقَ الْأَرْض وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَال، آللَّهُ أَرْسَلَك؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولك أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمنَا وَلَيْلَتنَا، قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَبِاَلَّذِي أَرْسَلَك آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ». هَذِهِ جُمْلَةٌ تَدُلّ عَلَى أَنْوَاع مِنْ الْعِلْم.
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: هَذَا مِنْ حُسْن سُؤَال هَذَا الرَّجُل وَمَلَاحَةِ سِيَاقَته وَتَرْبِيَته؛ فَإِنَّهُ سَأَلَ أَوَّلًا عَنْ صَانِع الْمَخْلُوقَات مَنْ هُوَ ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِهِ أَنْ يَصْدُقَهُ فِي كَوْنه رَسُولًا لِلصَّانِعِ، ثُمَّ لَمَّا وَقَفَ عَلَى رِسَالَته وَعِلْمِهَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِحَقِّ مُرْسِلِهِ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ يَفْتَقِر إِلَى عَقْلٍ رَصِينٍ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ جَرَتْ لِلتَّأْكِيدِ وَتَقْرِيرِ الْأَمْرِ لَا لِافْتِقَارِهِ إِلَيْهَا، كَمَا أَقْسَمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَشْيَاء كَثِيرَة، هَذَا كَلَام صَاحِب التَّحْرِير قَالَ الْقَاضِي عِيَاض. وَالظَّاهِر أَنَّ هَذَا الرَّجُل لَمْ يَأْتِ إِلَّا بَعْد إِسْلَامه وَإِنَّمَا جَاءَ مُسْتَثْبِتًا وَمُشَافِهًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّه أَعْلَمُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث جُمَلٌ مِنْ الْعِلْم غَيْر مَا تَقَدَّمَ.
مِنْهَا: أَنَّ الصَّلَوَات الْخَمْس مُتَكَرِّرَة فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَة وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي يَوْمنَا وَلَيْلَتنَا.
وَأَنَّ صَوْم شَهْر رَمَضَان يَجِب فِي كُلّ سَنَة، قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه: وَفيه دَلَالَة لِصِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَئِمَّة الْعُلَمَاء مِنْ أَنَّ الْعَوَامّ الْمُقَلِّدِينَ مُؤْمِنُونَ، وَأَنَّهُ يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِمُجَرَّدِ اِعْتِقَاد الْحَقّ جَزْمًا مِنْ غَيْر شَكٍّ وَتَزَلْزُلٍ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَة، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَّرَ ضِمَامًا عَلَى مَا اِعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي تَعَرُّفِ رِسَالَتِهِ وَصِدْقِهِ وَمُجَرَّد إِخْبَاره إِيَّاهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا قَالَ يَجِب عَلَيْك مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِي مُعْجِزَاتِي وَالِاسْتِدْلَال بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّة. هَذَا كَلَام الشَّيْخ وَفِي هَذَا الْحَدِيث الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِد وَفيه غَيْر ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.

.بَاب بَيَان أَنَّ الْإِيمَان الَّذِي يُدْخَلُ بِهِ الْجَنَّة وَأَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّة:

قَوْله: (بَاب بَيَان أَنَّ الْإِيمَان الَّذِي يُدْخَلُ بِهِ الْجَنَّة وَأَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّة) فيه حَدِيث أَبِي أَيُّوب وَأَبِي هُرَيْرَة وَجَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. أَمَّا حَدِيثَا أَبِي أَيُّوب وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَاهُمَا أَيْضًا الْبُخَارِيّ.
وَأَمَّا حَدِيث جَابِر فَانْفَرَدَ بِهِ مُسْلِم.
أَمَّا أَلْفَاظ الْبَاب: فَأَبُو أَيُّوب اِسْمه خَالِد بْن زَيْد الْأَنْصَارِيّ وَأَبُو هُرَيْرَة عَبْد الرَّحْمَن بْن صَخْر عَلَى الْأَصَحّ مِنْ نَحْو ثَلَاثِينَ قَوْلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه بِزِيَادَاتٍ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَاب.
15- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص عَنْ أَبِي إِسْحَاق) قَدْ تَقَدَّمَ بَيَان اِسْمَيْهِمَا فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب. فَأَبُو الْأَحْوَص سَلَّام- بِالتَّشْدِيدِ- اِبْن سُلَيْمٍ.
وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بْن عَبْد اللَّه السُّبَيْعِيّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّة» كَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول الْمُحَقَّقَة وَكَذَا ضَبَطْنَاهُ أُمِرَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَكَسْرِ الْمِيم، و(بِهِ) بِبَاءٍ مُوَحَّدَة مَكْسُورَة، مَبْنِيّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَضَبَطَهُ الْحَافِظ أَبُو عَامِر الْعَبْدَرِيّ، (أَمَرْته) بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ فَوْق الَّتِي هِيَ ضَمِير الْمُتَكَلِّم. وَكِلَاهُمَا صَحِيح. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا ذِكْرُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِلَةَ الرَّحِمِ فِي هَذَا الْحَدِيث، وَذِكْر الْأَوْعِيَة فِي حَدِيث وَفْد عَبْد الْقَيْس، وَغَيْر ذَلِكَ فِي غَيْرهمَا فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره- رَحِمَهُمْ اللَّه: ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَخُصّ السَّائِل وَيَعْنِيه، وَاَللَّه أَعْلَمُ.
16- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُر إِلَى رَجُل مِنْ أَهْل الْجَنَّة فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» فَالظَّاهِر مِنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ يُوفِي بِمَا اِلْتَزَمَ، وَأَنَّهُ يَدُوم عَلَى ذَلِكَ وَيَدْخُل الْجَنَّةَ.
17- قَوْل مُسْلِم فِي حَدِيث جَابِر: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة وَأَبُو كُرَيْب قَالَا ثنا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي سُفْيَان عَنْ جَابِر) فَهَذَا إِسْنَاد كُلّهمْ كُوفِيُّونَ إِلَّا جَابِرًا وَأَبَا سُفْيَان فَإِنَّ جَابِرًا مَدَنِيّ وَأَبَا سُفْيَان وَاسِطِيّ، وَيُقَال: مَكِّيّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اِسْم أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم. وَإِبْرَاهِيم هُوَ أَبُو شَيْبَة.
وَأَمَّا (أَبُو كُرَيْب) فَاسْمه مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ بِإِسْكَانِ الْمِيم وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة، و(أَبُو مُعَاوِيَة) مُحَمَّد بْن حَازِم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. و(الْأَعْمَش) سُلَيْمَان بْن مِهْرَان أَبُو مُحَمَّد. و(أَبُو سُفْيَان) طَلْحَة بْن نَافِع الْقُرَشِيّ مَوْلَاهُمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي سِين سُفْيَان ثَلَاثَ لُغَاتٍ الضَّمّ وَالْكَسْر وَالْفَتْح. وَقَوْل الْأَعْمَش عَنْ أَبِي سُفْيَان مَعَ أَنَّ الْأَعْمَش مُدَلِّسٌ وَالْمُدَلِّس إِذَا قَالَ (عَنْ) لَا يُحْتَجّ بِهِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ سَمَاعُهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول وَفِي شَرْح الْمُقَدِّمَة أَنَّ مَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْمُدَلِّسِينَ (بِعَنْ) فَمَحْمُول عَلَى ثُبُوت سَمَاعهمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: «أَتَى النُّعْمَانُ بْن قَوْقَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه أَرَأَيْت إِذَا صَلَّيْت الْمَكْتُوبَة، وَحَرَّمْت الْحَرَام، وَأَحْلَلْت الْحَلَال، أَأَدْخُلُ الْجَنَّة؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ» أَمَّا (قَوْقَل) فَبِقَافَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنهمَا وَاو سَاكِنَة وَآخِرَهُ لَام.
وَأَمَّا قَوْله: (وَحَرَّمْت الْحَرَام)، فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: الظَّاهِر أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَعْتَقِدَهُ حَرَامًا، وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ بِخِلَافِ تَحْلِيل الْحَلَال فَإِنَّهُ يَكْفِي فيه مُجَرَّدُ اِعْتِقَادِهِ حَلَالًا.
قَوْله: (عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح) تَقَدَّمَ فِي أَوَائِل مُقَدِّمَة الْكِتَاب أَنَّ اِسْمَ أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانُ.
18- قَوْله: (قَوْل الْحَسَن بْن أَعْيَن حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ وَهُوَ اِبْن عُبَيْد اللَّه عَنْ أَبِي الزُّبَيْر) أَمَّا (أَعْيَن) فَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَآخِره نُون وَهُوَ الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْن أَعْيَن الْقُرَشِيّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عَلِيّ الْحَرَّانِيّ. وَالْأَعْيَن مَنْ فِي عَيْنَيْهِ سَعَةٌ.
وَأَمَّا (مَعْقِلٌ) فَبِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَكَسْرِ الْقَاف.
وَأَمَّا (أَبُو الزُّبَيْر) فَهُوَ مُحَمَّد بْن مُسْلِم بْن تَدْرُس بِمُثَنَّاةٍ فَوْق مَفْتُوحَة ثُمَّ دَال مُهْمَلَة سَاكِنَة ثُمَّ رَاءٍ مَضْمُومَة ثُمَّ سِين مُهْمَلَة وَقَوْله: (وَهُوَ اِبْن عُبَيْد اللَّه) قَدْ تَقَدَّمَ مَرَّاتٍ بَيَانُ فَائِدَتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقَع فِي الرِّوَايَة لَفْظَةُ اِبْن عُبَيْد اللَّه فَأَرَادَ إِيضَاحه بِحَيْثُ لَا يَزِيد فِي الرِّوَايَة.

.(بَاب بَيَان أَرْكَان الْإِسْلَام وَدَعَائِمه الْعِظَام):

قَالَ مُسْلِمٌ- رَحِمَهُ اللَّه: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر الْهَمْدَانِيُّ ثنا أَبُو خَالِد يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْن حَيَّانَ الْأَحْمَرَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ عَنْ سَعْد بْن عُبَيْدَة عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْسَة: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ، وَإِقَام الصَّلَاة، وَإِيتَاء الزَّكَاة، وَصِيَام رَمَضَان، وَالْحَجّ». فَقَالَ رَجُل: الْحَجِّ وَصِيَامِ رَمَضَانَ. فَقَالَ: لَا صِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ. هَكَذَا سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَام الصَّلَاة، وَإِيتَاء الزَّكَاة، وَحَجّ الْبَيْت، وَصَوْم رَمَضَان».
وَفِي الرِّوَايَة الثَّالِثَة: «بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْس: شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله، وَإِقَام الصَّلَاة، وَإِيتَاء الزَّكَاة، وَحَجّ الْبَيْت، وَصَوْم رَمَضَان».
وَفِي الرِّوَايَة الرَّابِعَة: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَلَا تَغْزُو؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «إِنَّ الْإِسْلَام بُنِيَ عَلَى خَمْسَة: شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَإِقَام الصَّلَاة، وَإِيتَاء الزَّكَاة، وَصِيَام رَمَضَان، وَحَجّ الْبَيْت». أَمَّا الْإِسْنَاد الْأَوَّل الْمَذْكُور هُنَا فَكُلّه كُوفِيُّونَ إِلَّا عَبْد اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَإِنَّهُ مَكِّيّ مَدَنِيّ.
وَأَمَّا (الْهَمْدَانِيُّ) فَبِإِسْكَانِ الْمِيم وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة وَضُبِطَ هَذَا لِلِاحْتِيَاطِ وَإِكْمَال الْإِيضَاح وَإِلَّا فَهُوَ مَشْهُور مَعْرُوف، وَأَيْضًا فَقَدْ قَدَّمْت فِي آخِر الْفُصُول أَنَّ جَمِيع مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فَهُوَ هَمْدَانِيّ بِالْإِسْكَانِ وَالْمُهْمَلَة.
وَأَمَّا (حَيَّان) فَبِالْمُثَنَّاةِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الْفُصُول بَيَان ضَبْط هَذِهِ الصُّورَة.
وَأَمَّا (أَبُو مَالِك الْأَشْجَعِيّ) فَهُوَ سَعْد بْن طَارِق الْمُسَمَّى فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ.
وَأَمَّا ضَبْط أَلْفَاظ الْمَتْن فَوَقَعَ فِي الْأُصُول (بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْسَة) فِي الطَّرِيق الْأَوَّل وَالرَّابِع بِالْهَاءِ فيها، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِث (خَمْس) بِلَا هَاءٍ، وَفِي بَعْض الْأُصُول الْمُعْتَمَدَة فِي الرَّابِع بِلَا هَاء. وَكِلَاهُمَا صَحِيح وَالْمُرَاد بِرِوَايَةِ الْهَاءِ خَمْسَةُ أَرْكَانٍ أَوْ أَشْيَاءَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَبِرِوَايَةِ حَذْف الْهَاء خَمْسُ خِصَالٍ أَوْ دَعَائِمَ أَوْ قَوَاعِدَ أَوْ نَحْو ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا تَقْدِيم الْحَجّ وَتَأْخِيره فَفِي الرِّوَايَة الْأُولَى وَالرَّابِعَة تَقْدِيم الصِّيَام، وَفِي الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة تَقْدِيم الْحَجّ. ثُمَّ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي إِنْكَار اِبْن عُمَر عَلَى الرَّجُل الَّذِي قَدَّمَ الْحَجّ مَعَ أَنَّ اِبْن عُمَر رَوَاهُ كَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ فِي الطَّرِيقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَالْأَظْهَر وَاَللَّه أَعْلَمُ أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّ اِبْن عُمَر سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِتَقْدِيمِ الْحَجّ، وَمَرَّةً بِتَقْدِيمِ الصَّوْم، فَرَوَاهُ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ فَلَمَّا رَدّ عَلَيْهِ الرَّجُل وَقَدَّمَ الْحَجّ قَالَ اِبْن عُمَر: لَا تَرُدَّ عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَك بِهِ وَلَا تَعْتَرِضْ بِمَا لَا تَعْرِفُهُ، وَلَا تَقْدَح فِيمَا لَا تَتَحَقَّقهُ بَلْ هُوَ بِتَقْدِيمِ الصَّوْم هَكَذَا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي هَذَا نَفْيٌ لِسَمَاعِهِ عَلَى الْوَجْه الْآخَر. وَيُحْتَمَل أَنَّ اِبْن عُمَر كَانَ سَمِعَهُ مَرَّتَيْنِ بِالْوَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ لَمَّا رَدَّ عَلَيْهِ الرَّجُلُ نَسِيَ الْوَجْهَ الَّذِي رَدَّهُ فَأَنْكَرَهُ. فَهَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ هُمَا الْمُخْتَارَانِ فِي هَذَا.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: مُحَافَظَة اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَلَى مَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهْيُهُ عَنْ عَكْسِهِ تَصْلُحُ حُجَّةً لِكَوْنِ الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاء الشَّافِعِيِّينَ، وَشُذُوذ مِنْ النَّحْوِيِّينَ. وَمَنْ قَالَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَهُوَ الْمُخْتَار وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ، فَلَهُ أَنْ يَقُول: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ بَلْ لِأَنَّ فَرْضَ صَوْمِ رَمَضَانَ نَزَلَ فِي السَّنَة الثَّانِيَة مِنْ الْهِجْرَة، وَنَزَلَتْ فَرِيضَة الْحَجّ سَنَة سِتّ، وَقِيلَ سَنَة تِسْع بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوْق. وَمِنْ حَقِّ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَدَّمَ فِي الذِّكْرِ عَلَى الثَّانِي. فَمُحَافَظَة اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لِهَذَا وَأَمَّا رِوَايَة تَقْدِيم الْحَجّ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ مِمَّنْ كَانَ يَرَى الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى وَيَرَى أَنَّ تَأْخِير الْأَوَّل أَوْ الْأَهَمّ فِي الذِّكْر شَائِع فِي اللِّسَان فَتَصَرَّفَ فيه بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير لِذَلِكَ مَعَ كَوْنه لَمْ يَسْمَع نَهْيَ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ. فَافْهَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُشْكِل الَّذِي لَمْ أَرَهُمْ بَيَّنُوهُ. هَذَا آخِر كَلَام الشَّيْخ أَبِي عَمْرو بْن الصَّلَاح وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ قَدْ ثَبَتَتَا فِي الصَّحِيح وَهُمَا صَحِيحَتَانِ فِي الْمَعْنَى لَا تَنَافِي بَيْنهمَا كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فَلَا يَجُوز إِبْطَال إِحْدَاهُمَا.
الثَّانِي أَنَّ فَتْح بَاب اِحْتِمَال التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير فِي مِثْل هَذَا قَدْح فِي الرُّوَاة وَالرِّوَايَات فَإِنَّهُ لَوْ فُتِحَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لَنَا وَثِيق بِشَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَات إِلَّا الْقَلِيل، وَلَا يَخْفَى بُطْلَانُ هَذَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَتَعَلُّقِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي عَوَانَة الْإِسْفَرَايِينِيّ فِي كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ شَرْطِهِ عَكْسُ مَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْل الرَّجُل لِابْن عُمَر قَدَّمَ الْحَجَّ فَوَقَعَ فيه أَنَّ اِبْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ لِلرَّجُلِ: اِجْعَلْ صِيَام رَمَضَان آخِرهنَّ كَمَا سَمِعْت مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه: لَا يُقَاوِمُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قُلْت: وَهَذَا مُحْتَمَلٌ أَيْضًا صِحَّتُهُ وَيَكُون قَدْ جَرَتْ الْقَضِيَّة مَرَّتَيْنِ لِرَجُلَيْنِ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا اِقْتِصَاره فِي الرِّوَايَة الرَّابِعَة عَلَى إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ، فَهُوَ إِمَّا تَقْصِير مِنْ الرَّاوِي فِي حَذْف الشَّهَادَة الْأُخْرَى الَّتِي أَثْبَتَهَا غَيْره مِنْ الْحُفَّاظ، إِمَّا أَنْ يَكُون وَقَعَتْ الرِّوَايَة مِنْ أَصْلهَا هَكَذَا، وَيَكُون مِنْ الْحَذْف لِلِاكْتِفَاءِ بِأَحَدِ الْقَرِينَتَيْنِ وَدَلَالَته عَلَى الْآخَر الْمَحْذُوف. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ هُوَ بِضَمِّ الْيَاء الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت وَفَتْحِ الْحَاء مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَمَّا اِسْم الرَّجُل الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا تَقْدِيمَ الْحَجِّ فَهُوَ يَزِيدُ بْن بِشْرٍ السَّكْسَكِيّ ذَكَرَهُ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي كِتَابه الْأَسْمَاء الْمُبْهَمَة.
وَأَمَّا قَوْله: (أَلَا تَغْزُو)؟ فَهُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ فَوْق لِلْخِطَابِ. وَيَجُوز أَنْ يُكْتَبَ تَغْزُوا بِالْأَلِفِ، وَبِحَذْفِهَا. فَالْأَوَّل قَوْلُ الْكُتَّابِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالثَّانِي قَوْل بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ الْأَصَحّ. حَكَاهُمَا اِبْن قُتَيْبَة فِي أَدَب الْكَاتِب.
وَأَمَّا جَوَاب اِبْن عُمَر لَهُ بِحَدِيثِ: بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْس، فَالظَّاهِرَة أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ الْغَزْو بِلَازِمٍ عَلَى الْأَعْيَان؛ فَإِنَّ الْإِسْلَام بُنِيَ عَلَى خَمْس لَيْسَ الْغَزْوُ مِنْهَا. وَاَللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيث أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي مَعْرِفَة الدِّين وَعَلَيْهِ اِعْتِمَاده وَقَدْ جَمَعَ أَرْكَانَهُ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
19- سبق شرحه بالباب.
20- سبق شرحه بالباب.
21- سبق شرحه بالباب.
22- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب الْأمْر بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):

فيه حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَحَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
فَأَمَّا حَدِيث اِبْن عَبَّاس فَفِي الْبُخَارِيّ أَيْضًا.
وَأَمَّا حَدِيث أَبِي سَعِيد فَفِي مُسْلِم خَاصَّة.
23- قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: (حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ أَبِي جَمْرَة قَالَ: سَمِعْت اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا) وَقَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة (أَخْبَرَنَا عَبَّاد بْن عَبَّاد عَنْ أَبِي جَمْرَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا) قَدْ يَتَوَهَّم مَنْ لَا يُعَانِي هَذَا الْفَنّ أَنَّ هَذَا تَطْوِيل لَا حَاجَة إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ خِلَاف عَادَته وَعَادَة الْحُفَّاظ؛ فَإِنَّ عَادَتَهُمْ فِي مِثْل هَذَا أَنْ يَقُولُوا عَنْ حَمَّاد وَعَبَّاد عَنْ أَبِي جَمْرَة عَنْ اِبْن عَبَّاس. وَهَذَا التَّوَهُّم يَدُلّ عَلَى شِدَّة غَبَاوَة صَاحِبه. وَعَدَمِ مُؤَانَسَته بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْفَنّ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ فِيمَا اِسْتَوَى فيه لَفْظ الرُّوَاة، وَهُنَا اِخْتَلَفَ لَفْظهمْ؛ فَفِي رِوَايَة حَمَّاد عَنْ أَبِي جَمْرَة: سَمِعْت اِبْن عَبَّاس. وَفِي رِوَايَة عَبَّاد عَنْ أَبِي جَمْرَة: عَنْ اِبْن عَبَّاس. وَهَذَا التَّنْبِيه الَّذِي ذَكَرْته يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّن لِمِثْلِهِ، وَقَدْ نَبَّهْت عَلَى مِثْله بِأَبْسَطَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَة فِي الْحَدِيث الْأَوَّل مِنْ كِتَاب الْإِيمَان، وَنَبَّهْت عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الْفُصُول، وَسَأُنَبِّهُ عَلَى مَوَاضِعَ مِنْهُ أَيْضًا مُفَرَّقَة فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَالْمَقْصُود أَنْ تَعْرِف هَذِهِ الدَّقِيقَة وَيَتَيَقَّظ الطَّالِب لِمَا جَاءَ مِنْهَا فَيَعْرِفهُ وَإِنْ لَمْ أَنُصَّ عَلَيْهِ اِتِّكَالًا عَلَى فَهْمه بِمَا تَكَرَّرَ التَّنْبِيه بِهِ، وَلِيُسْتَدَلَّ أَيْضًا بِذَلِكَ عَلَى عِظَمِ إِتْقَان مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه وَجَلَالَته وَوَرَعه وَدِقَّة نَظَره وَحِذْقه. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا (أَبُو جَمْرَة) وَهُوَ بِالْجِيمِ وَالرَّاء وَاسْمه نَصْر ابْن عِمْرَان بْن عِصَام وَقِيلَ: اِبْن عَاصِم الضُّبَعِيُّ بِضَمِّ الضَّاد الْمُعْجَمَة الْبَصْرِيّ.
قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمُوَطَّأ أَبُو جَمْرَة، وَلَا جَمْرَة بِالْجِيمِ إِلَّا هُوَ. قُلْت: وَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمَد الْحَافِظ الْكَبِير شَيْخ الْحَاكِم أَبِي عَبْد اللَّه فِي كِتَابه الْأَسْمَاء وَالْكُنَى أَبَا جَمْرَة نَصْر بْن عِمْرَان هَذَا فِي الْأَفْرَاد فَلَيْسَ عِنْده فِي الْمُحَدِّثِينَ مَنْ يُكْنَى أَبَا جَمْرَة بِالْجِيمِ سِوَاهُ وَيَرْوِي عَنْ اِبْن عَبَّاس حَدِيثًا وَاحِدًا ذَكَرَ فيه مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان وَإِرْسَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ اِبْن عَبَّاس وَتَأَخُّره وَاعْتِذَاره. رَوَاهُ مُسْلِم فِي الصَّحِيح. وَحَكَى الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح فِي كِتَابه عُلُوم الْحَدِيث وَالْقِطْعَة الَّتِي شَرَحَهَا فِي أَوَّل مُسْلِم عَنْ بَعْض الْحُفَّاظ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ شُعْبَة بْن الْحَجَّاج رَوَى عَنْ سَبْعَة رِجَال يَرْوُونَ كُلُّهُمْ عَنْ اِبْن عَبَّاس كُلُّهُمْ يُقَال لَهُ أَبُو حَمْزَة بِالْحَاءِ وَالزَّاي إِلَّا أَبَا جَمْرَة نَصْر بْن عِمْرَان فَبِالْجِيمِ وَالرَّاء قَالَ: وَالْفَرْق بَيْنهمْ يُدْرَك بِأَنَّ شُعْبَة إِذَا أَطْلَقَ وَقَالَ: عَنْ أَبِي جَمْرَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فَهُوَ بِالْجِيمِ. وَهُوَ نَصْر بْن عِمْرَان. وَإِذَا رَوَى عَنْ غَيْره مِمَّنْ هُوَ بِالْحَاءِ وَالزَّاي فَهُوَ يَذْكُر اِسْمه أَوْ نَسَبه. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (قَدِمَ وَفْد عَبْد الْقَيْس عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: الْوَفْد الْجَمَاعَة الْمُخْتَارَة مِنْ الْقَوْم لِيَتَقَدَّمُوهُمْ فِي لُقِيّ الْعُظَمَاء وَالْمَصِير إِلَيْهِمْ فِي الْمُهِمَّات وَاحِدهمْ وَافِدٌ.
قَالَ: وَوَفْد عَبْد الْقَيْس هَؤُلَاءِ تَقَدَّمُوا قَبَائِل عَبْد الْقَيْس لِلْمُهَاجَرَةِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا: الْأَشَجّ الْعَصْرِيّ رَئِيسهمْ، وَمَزِيدَة بْن مَالِك الْمُحَارِبِيّ، وَعُبَيْدَة بْن هَمَّام الْمُحَارِبِيّ، وَصَحَّار بْن الْعَبَّاس الْمُرِّيّ، وَعَمْرو بْن مَرْجُوم الْعَصْرِيّ، وَالْحَارِث بْن شُعَيْب الْعَصْرِيّ، وَالْحَارِث بْن جُنْدُب مِنْ بَنِي عَايِش. وَلَمْ نَعْثُر بَعْد طُول التَّتَبُّع عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَسْمَاء هَؤُلَاءِ.
قَالَ: وَكَانَ سَبَب وُفُودهمْ أَنَّ مُنْقِذ بْن حَيَّان أَحَد بَنِي غَنَم بْن وَدِيعَة كَانَ مَتْجَره إِلَى يَثْرِب فِي الْجَاهِلِيَّة، فَشَخَصَ إِلَى يَثْرِب بِمَلَاحِفَ وَتَمْرٍ مِنْ هَجَرَ بَعْد هِجْرَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَبَيْنَا مُنْقِذ بْن حَيَّان قَاعِد إِذْ مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَضَ مُنْقِذ إِلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمُنْقِذ بْن حَيَّان كَيْف جَمِيعُ هَيْئَتِك وَقَوْمِك؟» ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ أَشْرَافِهِمْ رَجُلٍ رَجُلٍ يُسَمِّيهِمْ لِأَسْمَائِهِمْ. فَأَسْلَمَ مُنْقِذٌ وَتَعَلَّمَ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك. ثُمَّ رَحَلَ قِبَلَ هَجَرَ. فَكَتَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ إِلَى جَمَاعَةِ عَبْدِ الْقَيْس كِتَابًا فَذَهَبَ بِهِ وَكَتَمَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ اِطَّلَعَتْ عَلَيْهِ اِمْرَأَتُهُ وَهِيَ بِنْت الْمُنْذِر بْن عَائِذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة اِبْن حَارِث وَالْمُنْذِر هُوَ الْأَشَجّ سَمَّاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِأَثَرٍ كَانَ فِي وَجْهه، وَكَانَ مُنْقِذ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يُصَلِّي وَيَقْرَأ، فَنَكِرَتْ اِمْرَأَته ذَلِكَ فَذَكَرَتْهُ لِأَبِيهَا الْمُنْذِر فَقَالَتْ: أَنْكَرْت بَعْلِي مُنْذُ قَدِمَ مِنْ يَثْرِب: إِنَّهُ يَغْسِل أَطْرَافه، وَيَسْتَقْبِل الْجِهَة تَعْنِي الْقِبْلَة، فَيَحْنِي ظَهْره مَرَّة وَيَضَع جَبِينه مَرَّة، ذَلِكَ دَيْدَنُهُ مُنْذُ قَدِمَ، فَتَلَاقَيَا فَتَجَارَيَا ذَلِكَ فَوَقَعَ الْإِسْلَام فِي قَلْبه. ثُمَّ ثَارَ الْأَشَجّ إِلَى قَوْمه عَصَر وَمُحَارِب بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، فَوَقَعَ الْإِسْلَام فِي قُلُوبهمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى السَّيْر إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَارَ الْوَفْد، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ الْمَدِينَة قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجُلَسَائِهِ: «أَتَاكُمْ وَفْد عَبْد الْقَيْس خَيْر أَهْل الْمَشْرِق وَفيهمْ الْأَشَجّ الْعَصْرِيّ غَيْر نَاكِثِينَ وَلَا مُبَدَّلِينَ وَلَا مُرْتَابِينَ إِذْ لَمْ يُسْلِمْ قَوْمٌ حَتَّى وُتِرُوا».
قَالَ: وَقَوْلهمْ: (إِنَّا هَذَا الْحَيّ مِنْ رَبِيعَة) لِأَنَّهُ عَبْد الْقَيْس بْن أَفْصَى يَعْنِي بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَبِالْفَاءِ وَالصَّاد الْمُهْمَلَة الْمَفْتُوحَة اِبْن دَعْمِيّ بْن جَدِيلَة بْن أَسَد بِهِ رَبِيعَة بْن نِزَار وَكَانُوا يَنْزِلُونَ الْبَحْرَيْنِ الْخَطّ وَأَعْنَابهَا وَسُرَّة الْقَطِيف وَالظَّهْرَان إِلَى الرَّمْل إِلَى الْأَجْرَع مَا بَيْن هَجَرَ إِلَى قَصْر وَبَيْنُونَة ثُمَّ الْجَوْف وَالْعُيُون وَالْأَحْسَاء إِلَى حَدّ أَطْرَاف وَسَائِر بِلَادهَا. هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِب التَّحْرِير. قَوْلهمْ: (إِنَّا هَذَا الْحَيّ) فَالْحَيّ مَنْصُوب عَلَى التَّخْصِيص.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح الَّذِي نَخْتَارهُ نَصْب (الْحَيّ) عَلَى التَّخْصِيص وَيَكُون الْخَبَر فِي قَوْلهمْ مِنْ رَبِيعَة وَمَعْنَاهُ إِنَّا هَذَا الْحَيّ حَيّ مِنْ رَبِيعَة.
وَقَدْ جَاءَ بَعْد هَذَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِنَّا حَيّ مِنْ رَبِيعَة».
وَأَمَّا مَعْنَى الْحَيّ فَقَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: الْحَيّ اِسْم لِمَنْزِلِ الْقَبِيلَة، ثُمَّ سُمِّيَتْ الْقَبِيلَة بِهِ لِأَنَّ بَعْضهمْ يَحْيَا بِبَعْضٍ.
قَوْلهمْ: (وَقَدْ حَالَتْ بَيْننَا وَبَيْنك كُفَّارُ مُضَر) سَبَبه أَنَّ كُفَّار مُضَر كَانُوا بَيْنهمْ وَبَيْن الْمَدِينَة، فَلَا يُمْكِنهُمْ الْوُصُول إِلَى الْمَدِينَة إِلَّا عَلَيْهِمْ.
قَوْلهمْ: (وَلَا نَخْلُص إِلَيْك إِلَّا فِي شَهْر الْحَرَام) مَعْنَى نَخْلُصُ: نَصِل، وَمَعْنَى كَلَامهمْ: أَنَّا لَا نَقْدِر عَلَى الْوُصُول إِلَيْك خَوْفًا مِنْ أَعْدَائِنَا الْكُفَّار إِلَّا فِي الشَّهْر الْحَرَام، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَعَرَّضُونَ لَنَا، كَمَا كَانَتْ عَادَة الْعَرَب مِنْ تَعْظِيم الْأَشْهُر الْحَرَام، وَامْتِنَاعهمْ مِنْ الْقِتَال فيها. وَقَوْلهمْ: (شَهْر الْحَرَام) كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول كُلّهَا بِإِضَافَةِ شَهْر إِلَى الْحَرَام، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَشْهُر الْحُرُم. وَالْقَوْل فيه كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِره مِنْ قَوْلهمْ: مَسْجِد الْجَامِع، وَصَلَاة الْأُولَى. وَمِنْهُ قَوْل اللَّه تَعَالَى: {بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ} {وَلَدَارُ الْآخِرَة} فَعَلَى مَذْهَب النَّحْوِيِّينَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ مِنْ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صِفَته، وَهُوَ جَائِز عِنْدهمْ. وَعَلَى مَذْهَب الْبَصْرِيِّينَ لَا تَجُوز هَذِهِ الْإِضَافَة وَلَكِنَّ هَذَا كُلّه عِنْدهمْ عَلَى حَذْف فِي الْكَلَام لِلْعِلْمِ بِهِ فَتَقْدِيره: شَهْر الْوَقْت الْحَرَام، وَأَشْهُر الْأَوْقَات الْحُرُم، وَمَسْجِد الْمَكَان الْجَامِع، وَدَار الْحَيَاة الْآخِرَة، وَجَانِب الْمَكَان الْغَرْبِيّ، وَنَحْو ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلهمْ: (شَهْر الْحَرَام) الْمُرَاد بِهِ جِنْس الْأَشْهُر الْحُرُم وَهِيَ أَرْبَعَة أَشْهُرٍ حُرُمٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى بَعْد هَذِهِ (إِلَّا فِي أَشْهُر الْحُرُم). وَالْأَشْهُر الْحُرُم هِيَ ذُو الْقَعْدَة، وَذُو الْحِجَّة، وَالْمُحَرَّم، وَرَجَب. هَذِهِ الْأَرْبَعَة هِيَ الْأَشْهُر الْحُرُم بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء مِنْ أَصْحَاب الْفُنُون. وَلَكِنْ اِخْتَلَفُوا فِي الْأَدَب الْمُسْتَحْسَن فِي كَيْفِيَّة عَدِّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا الْإِمَام أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس فِي كِتَابه صِنَاعَة الْكِتَاب قَالَ: ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ يُقَال: الْمُحَرَّم وَرَجَب وَذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحِجَّة.
قَالَ: وَالْكُتَّاب يَمِيلُونَ إِلَى هَذَا الْقَوْل لِيَأْتُوا بِهِنَّ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ: وَأَهْل الْمَدِينَة يَقُولُونَ ذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم وَرَجَب. وَقَوْم يُنْكِرُونَ هَذَا وَيَقُولُونَ جَاءُوا بِهِنَّ مِنْ سَنَتَيْنِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَهَذَا غَلَط بَيِّن وَجَهْل بِاللُّغَةِ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ الْمُرَاد، وَأَنَّ الْمَقْصُود ذِكْرُهَا، وَأَنَّهَا فِي كُلّ سَنَة؛ فَكَيْف يُتَوَهَّم أَنَّهَا مِنْ سَنَتَيْنِ.
قَالَ: وَالْأَوْلَى وَالِاخْتِيَار مَا قَالَهُ أَهْل الْمَدِينَة لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ تَظَاهَرَتْ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالُوا مِنْ رِوَايَة اِبْن عُمَر وَأَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي بَكْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَالَ: وَهَذَا أَيْضًا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل التَّأْوِيل.
قَالَ النَّحَّاس: وَأُدْخِلَتْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُحَرَّم دُون غَيْره مِنْ الشُّهُور.
قَالَ: وَجَاءَ مِنْ الشُّهُور ثَلَاثَة مُضَافَات شَهْر رَمَضَان وَشَهْرَا رَبِيع. يَعْنِي وَالْبَاقِي غَيْر مُضَافَات. وَسُمِّيَ الشَّهْر شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ وَظُهُوره. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آمُركُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الْإِيمَان بِاَللَّهِ، ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ فَقَالَ: شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه وَإِقَام الصَّلَاة، وَإِيتَاء الزَّكَاة، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُم». وَفِي رِوَايَة: «شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَعَقَدَ وَاحِدَةً» وَفِي الطَّرِيق الْأُخْرَى: «قَالَ: وَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ. قَالَ: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ. قَالَ: وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَان بِاَللَّهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه، وَإِقَام الصَّلَاة، وَإِيتَاء الزَّكَاة، وَصَوْم رَمَضَان، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَم». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى قَالَ: «آمُركُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَع: اُعْبُدُوا اللَّه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاة، وَآتُوا الزَّكَاة، وَصُومُوا رَمَضَان، وَأَعْطُوا الْخُمُس مِنْ الْغَنَائِم». هَذِهِ أَلْفَاظه هُنَا وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ هَذَا الْحَدِيث فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ صَحِيحه وَقَالَ فيه فِي بَعْضهَا: «شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ» وَذَكَرَهُ فِي بَاب إِجَازَة خَبَر الْوَاحِد، وَذَكَرَهُ فِي بَابٍ بَعْدَ بَابِ نِسْبَة الْيَمَن إِلَى إِسْمَاعِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر ذِكْر الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَالَ فيه: «آمُركُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَشَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَإِقَام الصَّلَاة، وَإِيتَاء الزَّكَاة، وَصَوْم رَمَضَان»، بِزِيَادَةِ وَاوٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ فيه فِي أَوَّل كِتَاب الزَّكَاة: «الْإِيمَان بِاَللَّهِ، وَشَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه» بِزِيَادَةِ وَاو أَيْضًا. وَلَمْ يَذْكُر فيها الصِّيَام. وَذَكَرَ فِي بَاب حَدِيث وَفْد عَبْد الْقَيْس: الْإِيمَان بِاَللَّهِ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه. فَهَذِهِ أَلْفَاظ هَذِهِ الْقِطْعَة فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظ مِمَّا يُعَدّ مِنْ الْمُشْكِل وَلَيْسَتْ مُشْكِلَةً عِنْد أَصْحَاب التَّحْقِيق. وَالْإِشْكَال فِي كَوْنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آمُركُمْ بِأَرْبَعٍ». وَالْمَذْكُور فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَات خَمْسٌ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْجَوَاب عَنْ هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ أَظْهَرُهَا: مَا قَالَهُ الْإِمَام اِبْن بَطَّال رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ قَالَ: أَمَرَهُمْ بِالْأَرْبَعِ الَّتِي وَعَدَهُمْ بِهَا، ثُمَّ زَادَهُمْ خَامِسَةً، يَعْنِي أَدَاء الْخَمْس، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِكُفَّارِ مُضَرَ، فَكَانُوا أَهْلَ جِهَادٍ وَغَنَائِمَ. وَذَكَرَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح نَحْو هَذَا فَقَالَ قَوْله: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَعَادَهُ لِذِكْرِ الْأَرْبَع وَوَصَفَهُ لَهَا بِأَنَّهَا إِيمَان ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم فَهَذَا مُوَافِق لِحَدِيثِ بُنِيَ الْإِسْلَام عَلَى خَمْس وَلِتَفْسِيرِ الْإِسْلَام بِخَمْسٍ فِي حَدِيث جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مَا يُسَمَّى إِسْلَامًا يُسَمَّى إِيمَانًا وَأَنَّ الْإِسْلَام وَالْإِيمَان يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ الْحَجُّ فِي هَذَا الْحَدِيث لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ فَرْضُهُ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَم» فَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى قَوْله: «شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه» فَإِنَّهُ يَلْزَم مِنْهُ أَنْ يَكُون الْأَرْبَع خَمْسًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَطْف عَلَى قَوْله: «بِأَرْبَعٍ» فَيَكُون مُضَافًا إِلَى الْأَرْبَع لَا وَاحِدًا مِنْهَا؛ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ مُطْلَق شُعَب الْإِيمَان.
قَالَ: وَأَمَّا عَدَم ذِكْر الصَّوْم فِي الرِّوَايَة الْأُولَى فَهُوَ إِغْفَال مِنْ الرَّاوِي وَلَيْسَ مِنْ الِاخْتِلَاف الصَّادِر مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ مِنْ اِخْتِلَاف الرُّوَاة الصَّادِر مِنْ تَفَاوُتهمْ فِي الضَّبْط وَالْحِفْظ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه. فَافْهَمْ ذَلِكَ وَتَدَبَّرْهُ تَجِدْهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى مِمَّا هَدَانَا اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لِحَلِّهِ مِنْ الْعُقَدِ. هَذَا آخِر كَلَام الشَّيْخ أَبِي عَمْرو. وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ غَيْر مَا قَالَاهُ مِمَّا لَيْسَ بِظَاهِرٍ فَتَرَكْنَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْل الشَّيْخ إِنَّ تَرْكَ الصَّوْم فِي بَعْض الرِّوَايَات إِغْفَال مِنْ الرَّاوِي وَكَذَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره وَهُوَ ظَاهِر لَا شَكَّ فيه قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: وَكَانَتْ وِفَادَة عَبْد الْقَيْس عَامَ الْفَتْح قَبْل خُرُوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّة وَنَزَلَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَهَا عَلَى الْأَشْهَرِ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُس مَا غَنِمْتُمْ» فَفيه إِيجَاب الْخُمُس مِنْ الْغَنَائِم وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِمَام فِي السَّرِيَّة الْغَازِيَة وَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ وَفُرُوعٌ سَنُنَبِّهُ عَلَيْهَا فِي بَابهَا إِنْ وَصَلْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَيُقَال: (خُمُس) بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَانِهَا. وَكَذَلِكَ الثُّلُث وَالرُّبُع وَالسُّدُس وَالسُّبُع وَالثُّمُن وَالتُّسْع وَالْعُشْر بِضَمِّ ثَانِيهَا وَيُسَكَّن وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاء وَالْحَنْتَم وَالنَّقِير وَالْمُقَيَّر» وَفِي رِوَايَة: «الْمُزَفَّت» بَدَل الْمُقَيَّر فَنَضْبِطهُ ثُمَّ نَتَكَلَّم عَلَى مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. فَالدُّبَّاء بِضَمِّ الدَّال وَبِالْمَدِّ وَهُوَ الْقَرْع الْيَابِس أَيْ الْوِعَاء مِنْهُ.
وَأَمَّا (الْحَنْتَم) فَبِحَاءٍ مُهْمَلَة مَفْتُوحَة ثُمَّ نُون سَاكِنَة ثُمَّ تَاء مُثَنَّاة مِنْ فَوْق مَفْتُوحَة ثُمَّ مِيم الْوَاحِدَة حَنْتَمَة.
وَأَمَّا (النَّقِير) فَبِالنُّونِ الْمَفْتُوحَة وَالْقَاف.
وَأَمَّا (الْمُقَيَّر) فَبِفَتْحِ الْقَاف وَالْيَاء.
فَأَمَّا (الدُّبَّاء) فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا (الْحَنْتَم) فَاخْتُلِفَ فيها فَأَصَحُّ الْأَقْوَال وَأَقْوَاهَا: أَنَّهَا جِرَار خُضْرٌ، وَهَذَا التَّفْسِير ثَابِت فِي كِتَاب الْأَشْرِبَة مِنْ صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَهُوَ قَوْل عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ أَوْ كَثِيرُونَ مِنْ أَهْل اللُّغَة وَغَرِيب الْحَدِيث وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْجِرَار كُلّهَا قَالَهُ عَبْد اللَّه بْن عُمَر، وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو سَلَمَة.
وَالثَّالِث: أَنَّهَا جِرَار يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْر مُقَيَّرَات الْأَجْوَاف، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَنَحْوه عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَزَادَ أَنَّهَا حُمْرٌ.
وَالرَّابِع: عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا جِرَارٌ حُمْرٌ أَعْنَاقُهَا فِي جُنُوبِهَا يُجْلَب فيها الْخَمْرُ مِنْ مِصْر.
وَالْخَامِس: عَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى أَيْضًا أَفْوَاهُهَا فِي جُنُوبِهَا يُجْلَب فيها الْخَمْر مِنْ الطَّائِف. وَكَانَ نَاس يَنْتَبِذُونَ فيها يُضَاهُونَ بِهِ الْخَمْرَ.
وَالسَّادِس: عَنْ عَطَاء: جِرَارٌ كَانَتْ تَعْمَل مِنْ طِين وَشَعْر وَدَم.
وَأَمَّا (النَّقِير): فَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيره فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة أَنَّهُ: جِذْع يُنْقَر وَسَطه.
وَأَمَّا (الْمُقَيَّر) فَهُوَ الْمُزَفَّت وَهُوَ الْمَطْلِيّ بِالْقَارِ وَهُوَ الزِّفْت.
وَقِيلَ: الزِّفْت نَوْع مِنْ الْقَار. وَالصَّحِيح الْأَوَّل فَقَدْ صَحَّ عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: الْمُزَفَّت هُوَ الْمُقَيَّر.
وَأَمَّا مَعْنَى النَّهْي عَنْ هَذِهِ الْأَرْبَع فَهُوَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِانْتِبَاذ فيها وَهُوَ أَنْ يُجْعَل فِي الْمَاء حَبَّاتٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لِيَحْلُوَ وَيُشْرَبَ. وَإِنَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ بِالنَّهْيِ لِأَنَّهُ يُسْرِع إِلَيْهِ الْإِسْكَار فيها فَيَصِير حَرَامًا نَجِسًا وَيَبْطُل مَالِيَّته فَنَهَى عَنْهُ لِمَا فيه مِنْ إِتْلَاف الْمَال وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا شَرِبَهُ بَعْد إِسْكَاره مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الِانْتِبَاذ فِي أَسْقِيَة الْأَدَم بَلْ أَذِنَ فيها لِأَنَّهَا لِرِقَّتِهَا لَا يَخْفَى فيها الْمُسْكِر. بَلْ إِذَا صَارَ مُسْكِرًا شَقَّهَا غَالِبًا. ثُمَّ إِنَّ هَذَا النَّهْي كَانَ فِي أَوَّل الْأَمْر ثُمَّ نُسِخَ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذ إِلَّا فِي الْأَسْقِيَة فَانْتَبِذُوا فِي كُلّ وِعَاء وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا». رَوَاهُ مُسْلِم فِي الصَّحِيح. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ مَنْسُوخًا هُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَب جَمَاهِير الْعُلَمَاء.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْقَوْل بِالنَّسْخِ هُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيل.
قَالَ: وَقَالَ قَوْم: التَّحْرِيمُ بَاقٍ، وَكَرِهُوا الِانْتِبَاذ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَة. ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ اِبْن عُمَر وَعَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
24- قَوْله: (قَالَ أَبُو بَكْر: حَدَّثَنَا غُنْدَر عَنْ شُعْبَة وَقَالَ الْآخَرُونَ ثنا مُحَمَّد بْن جَعْفَر قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَة) هَذَا مِنْ اِحْتِيَاط مُسْلِم رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّ غُنْدَرًا هُوَ مُحَمَّد بْن جَعْفَر وَلَكِنْ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَهُ بِلَقَبِهِ وَالْآخَرَانِ بِاسْمِهِ وَنَسَبه وَقَالَ أَبُو بَكْر عَنْهُ عَنْ شُعْبَة.
قَالَ الْآخَرَانِ عَنْهُ حَدَّثَنَا شُعْبَة فَحَصَلَتْ مُخَالَفَة بَيْنهمَا وَبَيْنه مِنْ وَجْهَيْنِ فَلِهَذَا نَبَّهَ عَلَيْهِ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَة أَنَّ دَالَ غُنْدَرٍ مَفْتُوحَةٌ عَلَى الْمَشْهُور، وَأَنَّ الْجَوْهَرِيّ حَكَى ضَمَّهَا أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ بَيَان سَبَبِ تَلْقِيبِهِ بِغُنْدَرٍ.
قَوْله: (كُنْت أُتَرْجِم بَيْن يَدَيْ اِبْن عَبَّاس وَبَيْن النَّاس) كَذَا هُوَ فِي الْأُصُول وَتَقْدِيره: بَيْن يَدَيْ اِبْن عَبَّاس بَيْنه وَبَيْن النَّاس فَحَذَفَ لَفْظَةَ بَيْنَهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهَا، وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمُرَاد بَيْن اِبْن عَبَّاس وَبَيْن النَّاس كَمَا جَاءَ فِي الْبُخَارِيّ وَغَيْره بِحَذْفِ (يَدَيْ) فَتَكُون (يَدَيْ) عِبَارَةً عَنْ الْجُمْلَة كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَوْم يَنْظُر الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أَيْ: قَدَّمَ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَعْنَى التَّرْجَمَة فَهُوَ التَّعْبِير عَنْ لُغَة بِلُغَةٍ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّم بِالْفَارِسِيَّةِ فَكَانَ يُتَرْجِم لِابْن عَبَّاس عَمَّنْ يَتَكَلَّم بِهَا، قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَعِنْدِي أَنَّهُ كَانَ يُبَلِّغ كَلَام اِبْن عَبَّاس إِلَى مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ النَّاس، إِمَّا لِزِحَامٍ مَنَعَ مِنْ سَمَاعه فَأَسْمَعَهُمْ، وَإِمَّا لِاخْتِصَارٍ مَنَعَ مِنْ فَهْمه فَأَفْهَمَهُمْ، أَوْ نَحْو ذَلِكَ.
قَالَ: وَإِطْلَاقه لَفْظَ النَّاسِ يُشْعِرُ بِهَذَا.
قَالَ: وَلَيْسَتْ التَّرْجَمَة مَخْصُوصَة بِتَفْسِيرِ لُغَةٍ بِلُغَةٍ أُخْرَى فَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَى قَوْلهمْ بَاب كَذَا اِسْم التَّرْجَمَة لِكَوْنِهِ يُعَبِّرُ عَمَّا يَذْكُرُهُ بَعْدَهُ هَذَا كَلَامُ الشَّيْخِ. وَالظَّاهِر أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُفْهِمُهُمْ عَنْهُ وَيُفْهِمُهُ عَنْهُمْ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (فَأَتَتْهُ اِمْرَأَةٌ تَسْأَلهُ عَنْ نَبِيذ الْجَرِّ) أَمَّا (الْجَرُّ) فَبِفَتْحِ الْجِيم وَهُوَ اِسْم جَمْعٍ الْوَاحِدَة جَرَّةٌ وَيُجْمَع أَيْضًا عَلَى جِرَار وَهُوَ هَذَا الْفَخَّار الْمَعْرُوف. وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَازِ اِسْتِفْتَاءِ الْمَرْأَةِ الرِّجَالَ الْأَجَانِبَ، وَسَمَاعِهَا صَوْتَهُمْ، وَسَمَاعِهِمْ صَوْتَهَا لِلْحَاجَةِ. وَفِي قَوْله (إِنَّ وَفْد عَبْد الْقَيْس إِلَخْ) دَلِيل عَلَى أَنَّ مَذْهَب اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّهْي عَنْ الِانْتِبَاذ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَة لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ بَلْ حُكْمه بَاقٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَان الْخِلَاف فيه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ» مَنْصُوب عَلَى الْمَصْدَر اِسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ وَأَكْثَرَتْ مِنْهُ تُرِيدُ بِهِ الْبِرّ، وَحُسْن اللِّقَاء. وَمَعْنَاهُ صَادَفْت رَحْبًا وَسَعَةً.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَيْرَ خَزَايَا وَلَا النَّدَامَى» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول: «النَّدَامَى» بِالْأَلِفِ وَاللَّام، وَ«خَزَايَا» بِحَذْفِهِمَا. وَرَوَى فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع بِالْأَلِفِ وَاللَّام فيهمَا، وَرُوِيَ بِإِسْقَاطِهِمَا فيهمَا، وَالرِّوَايَة فيه غَيْر بِنَصْبِ الرَّاء عَلَى الْحَال.
وَأَشَارَ صَاحِب التَّحْرِير إِلَى أَنَّهُ يُرْوَى أَيْضًا بِكَسْرِ الرَّاء عَلَى الصِّفَة لِلْقَوْمِ. وَالْمَعْرُوف الْأَوَّل. وَيَدُلّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْر خَزَايَا وَلَا نَدَامَى»، وَاَللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا (الْخَزَايَا) فَجَمْعُ خَزْيَان كَحَيْرَان وَحَيَارَى وَسَكْرَان وَسَكَارَى وَالْخَزْيَان الْمُسْتَحِي.
وَقِيلَ: الذَّلِيل الْمُهَان.
وَأَمَّا (النَّدَامَى): فَقِيلَ: إِنَّهُ جَمْع نَدْمَان بِمَعْنَى نَادِمٍ، وَهِيَ لُغَة فِي نَادِم، حَكَاهَا الْقَزَّاز صَاحِب جَامِع اللُّغَة، وَالْجَوْهَرِيّ فِي صِحَاحه وَعَلَى هَذَا هُوَ عَلَى بَابِهِ وَقِيلَ هُوَ جَمْع نَادِم اِتِّبَاعًا لِلْخَزَايَا وَكَانَ الْأَصْل نَادِمِينَ فَأُتْبِعَ لِخَزَايَا تَحْسِينًا لِلْكَلَامِ وَهَذَا الْإِتْبَاع كَثِير فِي كَلَام الْعَرَب وَهُوَ مِنْ فَصِيحه، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِرْجِعْنَ مَأْزُورَات غَيْر مَأْجُورَات»، أَتْبَعَ مَأْزُورَات لِمَأْجُورَاتٍ وَلَوْ أَفْرَدَ وَلَمْ يَضُمَّ إِلَيْهِ مَأْجُورَات لَقَالَ مَوْزُورَات. كَذَا قَالَهُ الْفَرَّاء وَجَمَاعَات. قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْل الْعَرَب:
إِنَى لَآتِيه بِالْغَدَايَا وَالْعَشَايَا

جَمَعُوا الْغَدَاة عَلَى غَدَايَا إِتْبَاعًا لِعَشَايَا وَلَوْ أُفْرِدَتْ لَمْ يَجُزْ إِلَّا غَدَوَاتٌ.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَالْمَقْصُود أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ تَأَخُّر عَنْ الْإِسْلَام وَلَا عِنَاد وَلَا أَصَابَكُمْ إِسَار وَلَا سَبَاء وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تَسْتَحْيُونَ بِسَبَبِهِ، أَوْ تَذِلُّونَ أَوْ تُهَانُونَ أَوْ تَنْدَمُونَ. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْله: (فَقَالُوا يَا رَسُول اللَّه إِنَّا نَأْتِيك مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ) الشُّقَّةُ بِضَمِّ الشِّين وَكَسْرهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ أَشْهَرُهُمَا وَأَفْصَحُهُمَا الضَّمُّ وَهِيَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآن الْعَزِيز.
قَالَ الْإِمَام أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ وَقَرَأَ عُبَيْد بْن عُمَيْر بِكَسْرِ الشِّين وَهِيَ لُغَة قَيْس. وَالشُّقَّة السَّفَر الْبَعِيد. كَذَا قَالَهُ اِبْن سِكِّيت، وَابْن قُتَيْبَة، وَقُطْرُب، وَغَيْرهمْ. قِيلَ: سُمِّيَتْ شُقَّةً لِأَنَّهَا تَشُقّ عَلَى الْإِنْسَان.
وَقِيلَ: هِيَ الْمَسَافَة.
وَقِيلَ: الْغَايَة الَّتِي يَخْرُج الْإِنْسَان إِلَيْهَا. فَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل يَكُون قَوْلهمْ بَعِيدَة مُبَالَغَة فِي بُعْدهَا. وَاَللَّه أَعْلَمُ.
قَوْلهمْ: (فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ) هُوَ بِتَنْوِينِ (أَمْرٍ).
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: هُوَ الْبَيِّن الْوَاضِح الَّذِي يَنْفَصِل بِهِ الْمُرَاد وَلَا يُشْكِلُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَخْبِرُوا بِهِ مَنْ وَرَاءَكُمْ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَته مَنْ وَرَاءَكُمْ» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول الْأُوَل بِكَسْرِ الْمِيم وَالثَّانِي بِفَتْحِهَا وَهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.
قَوْله: (وَحَدَّثَنَا نَصْر بْن عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْجِيم وَالضَّادِ الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْهَاء بَيْنهمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي شَرْح الْمُقَدِّمَة.
قَوْله: (قَالَا جَمِيعًا) فَلَفْظَة جَمِيعًا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَال. وَمَعْنَاهُ اِتَّفَقَا وَاجْتَمَعَا عَلَى التَّحْدِيث بِمَا يَذْكُرهُ إِمَّا مُجْتَمِعَيْنِ فِي وَقْت وَاحِد وَإِمَّا فِي وَقْتَيْنِ، وَمَنْ اِعْتَقَدَ أَنَّهُ لابد أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي وَقْت وَاحِد فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا.
قَوْله: (وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَشَجِّ أَشَجّ عَبْد الْقَيْس: «إِنَّ فِيك لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْم وَالْأَنَاةُ») أَمَّا الْأَشَجّ فَاسْمه الْمُنْذِر بْن عَائِذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة الْعَصْرِيّ بِفَتْحِ الْعَيْن وَالصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور الَّذِي قَالَهُ اِبْن عَبْد الْبَرِّ، وَالْأَكْثَرُونَ أَوْ الْكَثِيرُونَ.
وَقَالَ اِبْن الْكَلْبِيّ: اِسْمه الْمُنْذِر ابْن الْحَارِث بْن زِيَاد بْن عَصْر بْن عَوْف، وَقِيلَ: اِسْمه الْمُنْذِر بْن عَامِر.
وَقِيلَ: الْمُنْذِر بْن عُبَيْد.
وَقِيلَ: اِسْمه عَائِذ ابْن الْمُنْذِر.
وَقِيلَ: عَبْد اللَّه بْن عَوْف.
وَأَمَّا الْحِلْم فَهُوَ الْعَقْل، وَأَمَّا الْأَنَاة فَهِيَ التَّثْبِيت وَتَرْك الْعَجَلَة وَهِيَ مَقْصُورَة. وَسَبَب قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ مَا جَاءَ فِي حَدِيث الْوَفْد أَنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا الْمَدِينَة بَادَرُوا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَامَ الْأَشَجّ عِنْد رِحَالهمْ فَجَمَعَهَا وَعَقَلَ نَاقَته وَلَبِسَ أَحْسَن ثِيَابه ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَرَّبَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبه، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُبَايِعُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَقَوْمِكُمْ»، فَقَالَ الْقَوْم: نَعَمْ. فَقَالَ الْأَشَجُّ يَا رَسُول اللَّه إِنَّك لَمْ تُزَاوِلْ الرَّجُلَ عَنْ شَيْءٍ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ. نُبَايِعك عَلَى أَنْفُسِنَا، وَنُرْسِل مَنْ يَدْعُوهُمْ. فَمَنْ اِتَّبَعَنَا كَانَ مِنَّا وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ.
قَالَ: «صَدَقْت، إِنَّ فِيك خَصْلَتَيْنِ». الْحَدِيث.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: فَالْأَنَاة تَرَبُّصُهُ حَتَّى نَظَرَ فِي مَصَالِحه وَلَمْ يَعْجَلْ، وَالْحِلْم هَذَا الْقَوْل الَّذِي قَالَهُ الدَّالّ عَلَى صِحَّة عَقْله، وَجَوْدَة نَظَرِهِ لِلْعَوَاقِبِ، قُلْت: وَلَا يُخَالِف هَذَا مَا جَاءَ فِي مُسْنَد أَبِي يَعْلَى وَغَيْره أَنَّهُ لَمَّا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَشَجِّ: «إِنَّ فِيك خَصْلَتَيْنِ» الْحَدِيث. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَا فِيَّ أَمْ حَدَثَا؟ قَالَ: «بَلْ قَدِيم». قَالَ: قُلْت: الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا.
26- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ) أَمَّا (أَبُو عَاصِم) فَالضَّحَّاك بْن مَخْلَد النَّبِيل وَأَمَّا (اِبْن جُرَيْجٍ) فَهُوَ عَبْد الْمَلِك بْن عَبْد الْعَزِيز بْن جُرَيْجٍ.
قَوْله: (حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن رَافِع حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا اِبْن جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو قَزَعَة أَنَّ أَبَا نَضْرَةَ أَخْبَرَهُ وَحَسَنًا أَخْبَرَهُمَا أَنَّ أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ) هَذَا الْإِسْنَاد مَعْدُود فِي الْمُشْكِلَات، وَقَدْ اِضْطَرَبَتْ قِيهِ أَقْوَال الْأَئِمَّة وَأَخْطَأَ فيه جَمَاعَات مِنْ كِبَار الْحُفَّاظ. وَالصَّوَاب فيه مَا حَقَّقَهُ وَحَرَّرَهُ وَبَسَطَهُ وَأَوْضَحَهُ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي الْجُزْء الَّذِي جَمَعَهُ فيه وَمَا أَحْسَنَهُ وَأَجْوَده، وَقَدْ لَخَّصَهُ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه فَقَالَ: هَذَا الْإِسْنَاد أَحَد الْمُعْضِلَات، وَلِإِعْضَالِهِ وَقَعَ فيه تَعْبِيرَات مِنْ جَمَاعَة وَاهِمَة؛ فَمِنْ ذَلِكَ رِوَايَة أَبِي نُعَيْم الْأَصْبَهَانِيّ فِي مُسْتَخْرَجه عَلَى كِتَاب مُسْلِم بِإِسْنَادِهِ أَخْبَرَنِي أَبُو قَزَعَة أَنَّ أَبَا نَضْرَة وَحَسَنًا أَخْبَرَهُمَا أَنَّ أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ وَهَذَا يَلْزَم مِنْهُ أَنْ يَكُون أَبُو قَزَعَة هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ أَبَا نَضْرَة وَحَسَنًا عَنْ أَبِي سَعِيد، وَيَكُون أَبُو قَزَعَة هُوَ الَّذِي سَمِعَ مِنْ أَبِي سَعِيد وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِلَا شَكّ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا عَلِيّ الْغَسَّانِيّ صَاحِب تَقْيِيد الْمُهْمَل رَدَّ رِوَايَة مُسْلِم هَذِهِ وَقَلَّدَهُ فِي ذَلِكَ صَاحِب الْمُعَلِّم وَمِنْ شَأْنه تَقْلِيده فِيمَا يَذْكُرهُ مِنْ عِلْم الْأَسَانِيد، وَصَوَّبَهُمَا فِي ذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاض، فَقَالَ أَبُو عَلِيّ: الصَّوَاب فِي الْإِسْنَاد عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو قَزَعَة أَنَّ أَبَا نَضْرَة وَحَسَنًا أَخْبَرَاهُ أَنَّ أَبَا سَعِيد أَخْبَرَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ أَخْبَرَهُ وَلَمْ يَقُلْ أَخْبَرَهُمَا لِأَنَّهُ رَدَّ الضَّمِير إِلَى أَبِي نَضْرَة وَحْدَهُ وَأَسْقَطَ الْحَسَن لِمَوْضِعِ الْإِرْسَال فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَع مِنْ أَبِي سَعِيد وَلَمْ يَلْقَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم خَرَّجَهُ أَبُو عَلِيّ بْن السَّكَن فِي مُصَنَّفه بِإِسْنَادِهِ قَالَ: وَأَظُنّ أَنَّ هَذَا مِنْ إِصْلَاح اِبْن السَّكَن. وَذَكَرَ الْغَسَّانِيّ أَيْضًا أَنَّهُ رَوَاهُ كَذَلِكَ أَبُو بَكْر الْبَزَّار فِي مُسْنَده الْكَبِير بِإِسْنَادِهِ وَحُكِيَ عَنْهُ وَعَنْ عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد الْحَافِظ أَنَّهُمَا ذَكَرَا أَنَّ حَسَنًا هَذَا هُوَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَلَيْسَ الْأَمْر فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ بَلْ مَا أَوْرَدَهُ مُسْلِم فِي هَذَا الْإِسْنَاد هُوَ الصَّوَاب، وَكَمَا أَوْرَدَهُ رَوَاهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ رَوْح بْن عُبَادَة عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ.
وَقَدْ اِنْتَصَرَ لَهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ رَحِمَهُ اللَّه وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا لَطِيفًا تَبَجَّحَ فيه بِإِجَادَتِهِ وَإِصَابَته مَعَ وَهْمِ غَيْر وَاحِد فيه، فَذَكَرَ أَنَّ حَسَنًا هَذَا هُوَ الْحَسَن بْن مُسْلِم بْن يَنَاق الَّذِي رَوَى عَنْهُ اِبْن جُرَيْحٍ غَيْر هَذَا الْحَدِيث، وَأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَام أَنَّ أَبَا نَضْرَة أَخْبَرَ بِهَذَا الْحَدِيث أَبَا قَزَعَة وَحَسَن بْن مُسْلِم كِلَيْهِمَا ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ أَعَادَ فَقَالَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ أَبَا سَعِيد أَخْبَرَهُ يَعْنِي أَخْبَرَ أَبُو سَعِيد أَبَا نَضْرَة. وَهَذَا كَمَا تَقُول: إِنَّ زَيْدًا جَاءَنِي وَعَمْرًا جَاءَنِي فَقَالَا: كَذَا وَكَذَا. وَهَذَا مِنْ فَصِيح الْكَلَام وَاحْتَجَّ عَلِيّ أَنَّ حَسَنًا فيه هُوَ الْحَسَن بْن مُسْلِم بْن يَنَاق بْن سَلَمَة بْن شَبِيب وَهُوَ ثِقَة رَوَاهُ عَنْ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ اِبْن جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو قَزَعَة أَنَّ أَبَا نَضْرَة أَخْبَرَهُ وَحَسَن بْن مُسْلِم بْن يَنَاق أَخْبَرَهُمَا أَنَّ أَبَا سَعِيد أَخْبَرَهُ الْحَدِيث. وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ الْحَافِظ فِي كِتَابه الْمُخْرِج عَلَى صَحِيح مُسْلِم.
وَقَدْ أَسْقَطَ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ وَغَيْره ذِكْر حَسَن مِنْ الْإِسْنَاد لِأَنَّهُ مَعَ إِشْكَاله لَا مَدْخَل لَهُ فِي الرِّوَايَة. وَذَكَرَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى مَا حَكَاهُ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ وَبَيَّنَ بُطْلَانه وَبُطْلَان رِوَايَة مِنْ غَيْر الضَّمِير فِي قَوْله أَخْبَرَهُمَا وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّغْيِيرَات. وَلَقَدْ أَجَادَ وَأَحْسَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. هَذَا آخِر كَلَام الشَّيْخ أَبِي عَمْرو رَحِمَهُ اللَّه. وَفِي هَذَا الْقَدْر الَّذِي ذَكَرَهُ أَبْلَغ كِفَايَة. وَإِنْ كَانَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى قَدْ أَطْنَبَ فِي بَسْطِهِ وَإِيضَاحه بِأَسَانِيدِهِ وَاسْتِشْهَادَاته وَلَا ضَرُورَة إِلَى زِيَادَةٍ عَلَى هَذَا الْقَدْر. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (أَبُو قَزَعَة) الْمَذْكُور فَاسْمه سُوَيْد بْن حُجَيْر بِحَاءٍ مُهْمَلَة مَضْمُومَة ثُمَّ جِيم مَفْتُوحَة وَآخِره رَاء وَهُوَ بَاهِلِيّ بَصْرِيّ اِنْفَرَدَ مُسْلِم بِالرِّوَايَةِ لَهُ دُون الْبُخَارِيّ. وَقَزَعَة بِفَتْحِ الْقَاف وَبِفَتْحِ الزَّاي وَإِسْكَانهَا وَلَمْ يَذْكُر أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ فِي تَقْيِيد الْمُهْمَل سِوَى الْفَتْح. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض فيه الْفَتْح وَالْإِسْكَان. وَوُجِدَ بِخَطِّ اِبْن الْأَنْبَارِيّ بِالْإِسْكَانِ. وَذَكَرَ اِبْن مَكِّيّ فِي كِتَابه فِيمَا يُلْحَن فيه أَنَّ الْإِسْكَان هُوَ الصَّوَاب وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْلهمْ: (جَعَلَنَا اللَّه فِدَاك) هُوَ بِكَسْرِ الْفَاء وَبِالْمَدِّ مَعْنَاهُ يَقِيك الْمَكَارِه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَيْكُمْ بِالْمُوكَى» هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الْوَاو مَقْصُور غَيْر مَهْمُوز وَمَعْنَاهُ اِنْبِذُوا فِي السِّقَاء الدَّقِيق الَّذِي يُوكَى أَيْ يُرْبَط فُوهُ بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الْخَيْط الَّذِي يُرْبَط بِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
هَذَا مَا يَتَعَلَّق بِأَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيث.
وَأَمَّا أَحْكَامه وَمَعَانِيه فَقَدْ اِنْدَرَجَ جُمَلٌ مِنْهَا فِيمَا ذَكَرْته وَأَنَا أُشِير إِلَيْهَا مُلَخَّصَة مُخْتَصَرَة مُرَتَّبَة. فَفِي هَذَا الْحَدِيث وِفَادَة الرُّؤَسَاء وَالْأَشْرَاف إِلَى الْأَئِمَّة عِنْد الْأُمُور الْمُهِمَّة، وَفيه تَقْدِيم الِاعْتِذَار بَيْن يَدَيْ الْمَسْأَلَة. وَفيه بَيَان مُهِمَّات الْإِسْلَام وَأَرْكَانه مَا سِوَى الْحَجّ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ. وَفيه اِسْتِعَانَة الْعَالِم فِي تَفْهِيم الْحَاضِرِينَ وَالْفَهْم عَنْهُمْ بِبَعْضِ أَصْحَابه كَمَا فَعَلَهُ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
وَقَدْ يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي التَّرْجَمَة فِي الْفَتْوَى وَالْخَبَر قَوْل وَاحِد.
وَفيه اِسْتِحْبَاب قَوْل الرَّجُل لِزُوَّارِهِ وَالْقَادِمِينَ عَلَيْهِ مَرْحَبًا وَنَحْوه وَالثَّنَاء عَلَيْهِمْ إِينَاسًا وَبَسْطًا. وَفيه جَوَاز الثَّنَاء عَلَى الْإِنْسَان فِي وَجْهه إِذَا لَمْ يَخَف عَلَيْهِ فِتْنَة إِعْجَاب وَنَحْوه.
وَأَمَّا اِسْتِحْبَابه فَيَخْتَلِف بِحَسَبِ الْأَحْوَال وَالْأَشْخَاص.
وَأَمَّا النَّهْي عَنْ الْمَدْح فِي الْوَجْه فَهُوَ فِي حَقّ مَنْ يُخَاف عَلَيْهِ الْفِتْنَة بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَدْ مَدَحَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة فِي الْوَجْه فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «لَسْت مِنْهُمْ» وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا بَكْر لَا تَبْكِ إِنْ أَمِنَ النَّاس عَلَيَّ فِي صُحْبَته وَمَاله أَبُو بَكْر، وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْت أَبَا بَكْر خَلِيلًا» وَقَالَ لَهُ: «وَأَرْجُو أَنْ تَكُون مِنْهُمْ» أَيْ مِنْ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة.
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِئْذَنْ لَهُ وَبِشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ».
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُثْبُتْ أُحُد فَإِنَّمَا عَلَيْك نَبِيّ وَصِدِّيق وَشَهِيدَانِ» وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلْت الْجَنَّة وَرَأَيْت قَصْرًا فَقُلْت لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا لِعُمَر بْن الْخَطَّاب، فَأَرَدْت أَنْ أَدْخُلهُ فَذَكَرْت غَيْرَتك» فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُول اللَّه أَعَلَيْك أَغَارَ؟ وَقَالَ لَهُ: «مَا لَقِيَك الشَّيْطَان سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْر فَجّك» وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِفْتَحْ لِعُثْمَان وَبِشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» وَقَالَ لِعَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُون مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُون مِنْ مُوسَى» وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ: «سَمِعْت دَقَّ نَعْلَيْك فِي الْجَنَّة» وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّه بْن سَلَّام: «أَنْتَ عَلَى الْإِسْلَام حَتَّى تَمُوت» وَقَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ: «ضَحِكَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَوْ عَجِبَ مِنْ فِعَالكُمَا» وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: «أَنْتُمْ مِنْ أَحَبّ النَّاس إِلَيَّ» وَنَظَائِر هَذَا كَثِيرَة مِنْ مَدْحه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَجْه.
وَأَمَّا مَدْح الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ الْعُلَمَاء وَالْأَئِمَّة الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَأَكْثَر مِنْ أَنْ يُحْصَر. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَفِي حَدِيث الْبَاب مِنْ الْفَوَائِد أَنَّهُ لَا عَتَبَ عَلَى طَالِب الْعِلْم وَالْمُسْتَفْتِي إِذَا قَالَ لِلْعَالِمِ أَوْضِحْ لِي الْجَوَاب وَنَحْو هَذِهِ الْعِبَارَة. وَفيه أَنَّهُ لَا بَأْس بِقَوْلِ رَمَضَان مِنْ غَيْر ذِكْرِ الشَّهْر. وَفيه جَوَاز مُرَاجَعَة الْعَالِم عَلَى سَبِيل الِاسْتِرْشَاد وَالِاعْتِذَار لِيَتَلَطَّف لَهُ فِي جَوَاب لَا يَشُقّ عَلَيْهِ. وَفيه تَأْكِيد الْكَلَام وَتَفْخِيمه لِيَعْظُم وَقْعُهُ فِي النَّفْس. وَفيه جَوَاز قَوْل الْإِنْسَان لِمُسْلِمٍ جَعَلَنِي اللَّه فِدَاك. فَهَذِهِ أَطْرَاف مِمَّا يَتَعَلَّق بِهَذَا الْحَدِيث وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ طَوِيلَة فَهِيَ مُخْتَصَرَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَالِبِي التَّحْقِيق. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَلَهُ الْحَمْد وَالْمِنَّة. وَبِهِ التَّوْفِيق وَالْعِصْمَة.